المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

واختُلِف فيمن مات صغيرًا؛ والأصح: أنه في الجنة؛ لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} .

والحاصل: أن الإنسان مفطور على قبول الإسلام والتهيؤ له بالقوة، لكن لا بد من أن يتعلَّمه بالفعل؛ فإنه قبل التعلُّمِ جاهلٌ؛ كما قال تعالى:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فمَنْ هداهُ. . سبَّبَ له مَنْ يُعلمه الهدى، فصار مهديًا بالفعل بعد أن كان مهديًا بالقوة، ومن خذَلَهُ -والعياذ باللَّه-. . قيَّض له مَنْ يعلمه ما يغير فطرته، فأبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه.

‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

أنكر بعض فقهاء العراق الدعاء للعاطس (1) بـ (يهديكم اللَّه) ظنًا منهم أن الدعاء بالهداية للمسلم تحصيلٌ للحاصل، وليس كما زعموا، سيما والسُّنة الصحيحة آمِرةٌ بذلك، وأمر صلى الله عليه وسلم عليًا رضي اللَّه تعالى عنه أن يسأل اللَّه السَّداد والهدى (2)، وعلَّم الحسن أن يقول في القنوت:"اللهم؛ اهدني فيمن هديت"(3)، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه بالليل:"اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ"(4) وليس المراد بالهداية هنا الهداية لِمَا هو متلبسٌ به من الإسلام والإيمان، بل لمعرفة تفاصيل أجزائهما ومتمماتهما، وإعانته على فعل ذلك، وهذا كل مؤمنٍ محتاجٌ إليه ليلًا ونهارًا، ومن ثَمَّ أمر اللَّه تعالى عباده أن يسألوه ذلك في كل ركعةٍ من صلاتهم:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} .

قيل: وفي هذه الجملة دليل لقول أهل الحق: إن الهداية والضلال من خَلْق اللَّه تعالى وإيجاده، لا دخل للعبد في واحدٍ منهما، خلافًا للمعتزلة؛ قال تعالى:

(1) الظاهر: أن (اللام) بمعنى (من) أي: الدعاء من العاطس لمن يقول له: "يرحمك اللَّه" بقوله له: "آمين، يهديكم اللَّه. . . إلخ" اهـ هامش (ج)

(2)

أخرجه مسلم (2725)، وأبو داوود (4225)، والنسائي (8/ 177) عن سيدنا علي رضي الله عنه.

(3)

أخرجه ابن حبان (945)، وأبو داوود (1425)، والترمذي (464) عن سيدنا الحسن رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (770)، وأبو داوود (767)، والترمذي (3420) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

ص: 420

{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} ، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} .

وأصرحُ من ذلك في إبطال مذهبهم الفاسد أنه تعالى أراد هداية الجميع. . قولُه تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فعمَّ الدعوة، وخصَّ الهداية، وقوله تعالى:{قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وإنما أُضيفت السيئة للنفس في: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم في بعض أدعية الافتتاح:"والشر ليس إليك"(1) تعليمًا للأدب أنه لا يضاف إليه تعالى المحقرات، كما لا يقال: يا خالق القردة والخنازير وإن كان خالق كل شيء.

(فاستهدونى) أي: اطلبوا مني الهداية، بمعنى الدلالة على طُرُق الحق، والإيصال إليها معتقدين أنها لا تكون إلا من فضلي وبأمري (أهدكم) أي: أنصِب لكم أدلة ذلك الواضحة، أو أُوصل من شئتُ إيصاله في سابق العلم القديم الأزلي.

وحكمة طلبه تعالى منا سؤاله الهداية: إظهار الافتقار والإذعان، والإعلام بأنه لو هداه قبل أن يسأله. . لربما قال: إنما أُوتيتُه على علمٍ عندي، فيضل بذلك، فإذا سأل ربه. . فقد اعترفا على نفسه بالعبودية، ولمولاه بالربوبية، وهذا مقامٌ شريفٌ، وشهودٌ منيف، لا يتفطَّن له إلا الموفَّقون، ولا يعلم قدر عظمته إلا العارفون.

(يا عبادي؛ كلكم جائعٌ إلا من أطعمته) وذلك لأن الناس كلهم عبيدٌ لا ملك لهم في الحقيقة، وخزائن الرزق بيده تعالى، فمن لا يطعمه بفضله. . بقي جائعًا بعدله؛ إذ ليس عليه إطعام أحدٍ، فقولُه تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} . . التزامٌ منه تفضلًا؛ لا أنه عليه واجبٌ بالأصالة، فهو نظير:{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآيةَ؛ أي: قبولها، واجبٌ منه تفضلًا التزامًا، لا عليه لزومًا.

ولا يمنع نسبة الإطعام إليه تعالى ما يشاهد من ترتب الأرزاق على أسبابها الظاهرة؛ كالحِرَف، والصنائع، وأنواع الاكتساب؛ لأنه تعالى المقدّر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة، فالجاهل محجوبٌ بالظاهر عن الباطن، والعارف

(1) أخرجه مسلم (771)، وأبو داوود (760)، والترمذي (3422) عن سيدنا علي رضي الله عنه.

ص: 421

الكامل لا يحجبه ظاهرٌ عن باطنٍ، ولا باطنٌ عن ظاهرٍ، بل يعطي كل مقامٍ حقه، وكل حالٍ وَفْقَه.

(فاستطعموني) أي: سلوني واطلبوا مني الطعام، ولا يغرَّنَّ ذا الكثرة ما في يده؛ فإنه ليس بحوله وقوته، بل اللَّه تعالى هو المتفضِّل به عليه، فينبغي له مع ذلك ألَّا يغفل عن سؤال اللَّه تعالى إدامةَ نعمته عليه؛ لئلَّا تنفر عنه فلا تعود إليه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم:"ما نفرت النعمة عن قومٍ فعادت إليهم"(1).

(أُطْعمكم) أي: أُيسِّر لكم أسباب تحصيله؛ لأن العالمَ جمادَه وحيوانَه مطيعٌ للَّه تعالى طاعةَ العبد لسيده، فيُسخِّر السحابَ لبعض الأماكن، ويحرك قلب فلانٍ لإعطاء فلان، ويحوج فلانًا لفلانٍ بوجهٍ من الوجوه؛ لينال منه نفعًا، فتصرفاته تعالى في هذا العالم عجيبةٌ لمن تدبرها:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وفيه إشارة إلى تأديب الفقراء، وكأنه قال لهم: لا تطلبوا الطُّعْمة من غيري؛ فإن مَنْ تستطعمونهم أنا الذي أطعمهم، فاستطعموني أطعمكم.

(يا عبادي؛ كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم){وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} ، وفي هذا جميعِه أوفى تنبيهٍ، وأظهر تقريرٍ على افتقار سائر خلقه تعالى إليه، وعجزهم عن جلب منافعهم، ودفع مضارِّهم إلا أن ييسر لهم ما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، فلا حول ولا قوة إلا به، ولا استمساك إلا بسببه.

وممَّا نُقل عن حِكَمِ عيسى صلى اللَّه على نبينا وعليه وسلم: (ابنَ آدم؛ أنت أسوأ بربك ظنًا حين كنت أكمل عقلًا؛ لأنك تركت الحرص حين كنت جنينًا محمولًا، ورضيعًا مكفولًا، ثم ادَّرَعتَهُ عاقلًا قد أصبت رشدك، وبلغت أشدك)(2).

(يا عبادي؛ إنكم تخطئون) ضبط بفتح أوله وثالثه، من (خَطِئَ يَخْطَأ)، إذا

(1) أخرجه ابن ماجه (3353) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

وفي هامش (ج): وأَحْسَنَ مَنْ قال: (من المتقارب)

إذا كنتَ في نعمة فارعَها

فإنَّ المعاصي تزيلُ النِّعَمْ

وداوِمْ عليها بشكر الإلهْ

فإنَّ الإله سريعُ النقمْ

(2)

ذكره العلامة المناوي رحمه اللَّه تعالى في "فيض القدير"(4/ 477). ومعنى ادَّرَعه: لبسه كما يلبس الدرع.

ص: 422

فعل عن قصد، كعلم يعلم، ومنه:{نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} ولا يصح مِن (أخطأ) الرباعي؛ لأنه الفعل عن غير قصد، وهو لا إثم فيه بالنص، والكلام إنما هو فيما فيه إثمٌ، بدليل:"فاستغفروني" انتهى، وفيه نظر، ولا نُسلِّم أن (أخطأ) منحصرٌ في الفعل عن غير قصدٍ، بل يأتي بمعنى الثلاثي أيضًا؛ أي: فعل الخطيئة عمدًا، فصح ما هو المحفوظ في، الحديث من ضم الأول وكسر الثالث، ثم رأيت المصنف صرَّح بما ذكرته فقال:(المشهور: ضم التاء، وروي بفتحها، يقال: خَطِئَ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطئٌ، ومنه: {إنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} ويقال في الإثم أيضًا: أخطأ، فهما صحيحتان) اهـ (1)

(بالليل والنهار)(2) هذا من باب المقابلة؛ لاستحالة وقوع الخطأ من كلٍّ منهم ليلًا ونهارًا، لكن عادة (3)، على أن المعصومين غير داخلين في هذا.

(وأنا أغفر الذنوب جميعًا) ما عدا الشرك وما لا يشاء مغفرته؛ قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، وكذا يخص به قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وفي اعتراض هذه الجملة مع التأكيد فيها بشيئين: (أل) الاستغراقية و (جميعًا) المفيدِ كلٌّ منهما العمومَ غايةُ الرجاء للمذنبين حتى لا يقنط أحدٌ منهم من رحمة اللَّه تعالى لعظيم ذنبه.

(فاستغفروني أغفر لكم) ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "لولا تذنبون وتستغفرون. . لذهب اللَّه بكم وجاء بقومٍ غيركم، فيذنبون فيستغفرون فيغفر لهم"(4)، وأخر لح الترمذي وابن ماجه: "كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين

(1) شرح صحيح مسلم (16/ 133 - 134).

(2)

قوله: (بالليل والنهار) قدَّم اليل لشرفه وأصالته، لأنه وقت العبادة والخلوة، ولأن الظلمة هي الأصل، والنور طارئٌ عليها بسترها؛ ولأن الشهور خيرها الليالي. اهـ "مدابغي"

(3)

قوله: (هذا من باب المقابلة) أي: لا يقال: معنى قوله: (إنكم تخطئون. . . إلخ): أن الخطأ يقع من كلٍّ منكم ليلًا ونهارًا، وهذا مستحيلٌ عادة؛ لأنه من باب المقابلة؛ أي: مقابلة الجمع بالجمع؛ أي: يصدر منكم الخطأ لا دائمًا، بل من بعضكم ليلًا، ومن بعضكم نهارًا؛ إذ الغالب أن العبد لا يستغرق الدهر كلَّه في الخطايا، ووجه كون قوله:(بالليل والنهار) في معنى الجمع: أن معناه في جميع الأوقات والساعات. اهـ "مدابغي"

(4)

أخرجه مسلم (2749) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

ص: 423

التوابون" (1)، والبخاري: "واللَّه؛ إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة" (2)، والنسائي وابن ماجه: "إني لأستغفر اللَّه وأتوب إليه كل يوم مئة مرة" (3)، ومسلم: "يا أيها الناس؛ توبوا إلى ربكم واستغفروه؛ فإني أتوب إلى اللَّه وأستغفره كل يومٍ مئة مرة" (4)، والنسائي: "ما أصبحت غداةً قطُّ إلا أستغفر اللَّه مئة مرة" (5)، وأحمد وأصحاب "السنن الأربعة": إن كنا لنعدُّ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مئة مرة يقول: "رب؛ اغفر لي، وتُبْ عليَّ؛ إنك أنت التواب الرحيم" (6).

وأصل الغفر: الستر، فغَفْرُ الذنب: سَتْرُهُ ومحوُ أثره، وأمنُ عاقبته، وحكمة التوطئة لما بعد (الفاء) بما قبلها (7): بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالبًا عن المعصية، فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنبٍ ولو صغيرًا توبةً، وهي المرادة هنا من الاستغفار؛ إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة، وشتَّان بين ما يمحوه بالكلية وهو التوبة النَّصوح، وبين ما يُخفِّف عقوبته أو يؤخرها إلى أجلٍ وهو مجرد الاستغفار، وفي هذا من التوبيخ ما يستحيي منه كل مؤمن؛ لأنه إذا لمح أنه تعالى خلق الليل ليطاع فيه سرًا ويسلم من الرياء. . استحيى أن ينفق أوقاته إلا في ذلك، وأن يصرف ذرةً منها للمعصية، كما أنه يستحيي بالجِبِلَّة والطبع أن يصرف شيئًا من النهار حيث يراه الناس للمعصية.

(يا عبادي؛ إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني) لما أنه قد قام الإجماع والبرهان على أنه تعالى منزةٌ مقدسٌ غنيٌّ بذاته، لا يمكن أن يلحقه ضررٌ ولا نفعٌ، فهو تعالى كان أحسن إلى عباده بغاية وجوه الإحسان التي ذكرها من

(1) سنن الترمذي (2499)، وسنن ابن ماجه (4251) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(2)

صحيح البخاري (6307) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(3)

سنن النسائي الكبرى (10195)، وسنن ابن ماجه (3815) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

صحيح مسلم (2702/ 42) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

السنن الكبرى (10202) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(6)

مسند الإمام أحمد (2/ 21)، وسنن أبي داوود (1516)، وسنن الترمذي (3434)، وسنن النسائي الكبرى (10219)، وسنن ابن ماجه (3814) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(7)

ما بعد الفاء هو قوله: (استغفِروني أغفر لكم)، وما قبلها قوله:(يا عبادي إنكم تخطئون. . .).

ص: 424

إجابة دعائهم، وهدايته لهم، وإطعامهم، وكسوتهم، وغفر ذنوبهم. . غيرُ محتاجٍ إلى مكافأتهم بجله ب نفعٍ أو دفع ضرٍّ، ومن ثم قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} ، {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} ، {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي: أن اللَّه تعالى يحب من عباده أن يطيعوه؛ ويكره منهم أن يعصوه؛ ولهذا يفرح بتوبة عبده فرحًا عظيمًا مع غناه المطلق عن طاعات عباده، وأن نفعها إنما يعود إليهم، ولكن هذا من كمال رأفته بهم، ومحبته لنفعهم ودفع ضررهم.

وما اقتضاه ظاهر الحديث أن لضره ونفعه غاية لكن لا تبلغها العباد. . متروكٌ بما دلَّ عليه الإجماع والبرهان من غناه المطلق، أو من باب:(على لاحِبٍ -أي: طريق- لا يهتدي لمناره)(1) أي: لا منار له فيهتدي به.

فالمعنى هنا: لا يتعلق بي ضرٌّ ولا نفعٌ فتضروني أو تنفعوني؛ لأنه تعالى غنيٌّ مطلق، والعبد فقيرٌ مطلق:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} والفقير المطلق لا يملك ضرًا ولا نفعًا، خصوصًا للغنيِّ المطلق.

(يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم. . ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ) منكم (. . ما نقص ذلك من ملكي شيئًا) لأنه مرتبطٌ بقدرته وإرادته، وهما دائمان لا انقطاع لهما، فكذا ما ارتبط بهما، وإنما غاية التقوى والفجور عود نفع أو ضرٍّ على أهلهما، وفي ذلك كلَّه إشارةٌ إلى أن ملكه تعالى على غاية الكمال، لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفة البِرِّ والتقوى، ولا ينقص بمعصيتهم؛ لأنه تعالى الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، فملكه كاملٌ لا نقدس فيه بوجهٍ، بل لا يتصور وجود أكملَ منه على ما أشار إليه حجة

(1) صدر بيت لامرئ القيس؛ وهو: (سن الطويل)

على لاحِب لايهتدي لمناره

إذاسافَهُ العَوْد النباطيُّ جَرْجَرا

وسافه: شمه، والعَوْد: الجمل المسن، والنباطي: الضخم، وجرجر: رغا. انظر "الديوان"(ص 95).

ص: 425

الإسلام الغزالي قدس اللَّه روحه بقوله: (ليس في الإمكان أبدع مما كان)(1) أي: تمَّ وتعلَّقتِ القدرة الباهرة بإيجاده على أكمل الأحوال وأتقنها وأكملها، وما فيه من الشر. . فهو إضافيٌّ بالنسبة لبعض الأشياء، وليس شرًا مطلقًا بحيث يكون عدمه خيرًا من وجوده، بل وجوده مع ذلك خيرٌ من عدمه، ويصح أن يراد هذا من خبر (2):"والشر ليس إليك" أي: الشر المحض الذي عدمه خيرٌ من وجوده ليس موجودًا في ملكك.

(يا عبادي؛ لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد) أي: أرضٍ واحدةٍ ومقامٍ واحدٍ (3)(فسألوني، فأعطيت كل واحدٍ مسألته (4). . ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط) هو بكسرٍ فسكونٍ ففتحٍ: الإبرة (إذا أُدخل البحر) أي: وهو في رأي العين لا ينقص من البحر شيئًا، فكذلك الإعطاء من الخزائن الإلهية لا يَنقُصها شيئًا ألبتة؛ إذ لأنهاية لها، والنقص مما لا يتناهى محال، بخلافه مما يتناهى كالبحر وإن جلَّ وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض، بل قد يوجد العطاء الكثير من المتناهي ولا يَنْقُصه؛ كالنار والعِلْم؛ يُقتبَس منهما ما شاء اللَّه تعالى ولا ينقص منهما شيء، بل قد يزيد العلم على الإعطاء.

فعلم أن قوله هنا: "إلا كما. . . إلخ" وقول الخضر لموسى صلى اللَّه على نبينا وعليهما وسلم: (ما نقص علمي وعلمك من علم اللَّه إلا كما نقص هذا العصفور -أي: الذي رأياه يشرب- من هذا البحر)(5)، وزَعْمُ بعضهم فرقًا بين هذينِ، وأن العصفور ينقص منه، بخلاف المخيط إذا دخل فيه. . ممنوعٌ؛ إذ الإبرة إذا دخلت في

(1) أي: ليس في الوجود أبدع مما تم. . . إلخ، فأبدعيةُ غيرِه مستحليةٌ كما قال الشارح فيما، بل لا يتصور وجود أكمل منه؛ لعدم تعلق القدرة به، ولا يستلزم العجز؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالممكن، والفرض أن هذا مستحيل فلا تتعلق به القدرة، قاله شيخنا. اهـ "مدابغي"

(2)

قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته": (في صحاح النسخ: "خبر" بالخاء المعجمة والباء الموحدة، والمعنى: أن هذا التقدير الذي ذكره الشارح من أن ما فيه من الشر إضافي. . . إلخ. . مأخوذ من هذا الخبر، والتفسير بذلك فتأمل تجده صحيحًا، دون ما في بعض النسخ من ضبطه بالحاء المهملة والمثناة التحتية والزاي).

(3)

قال القاضي: (قيد السؤال بالاجتماع في مقامٍ واحدِ؛ لأن تزاحم السُّؤَّال مما يذهل المسؤول ويبهته، ويعسر عليه إنجاح مآربهم، والاسعاف بمطالبهم) اهـ هامش (غ)

(4)

كذا في نسخ الشرح، وفي نسخ القن:(كل إنسان مسألته) وكذا في "صحيح مسلم"، فليتنبه.

(5)

أخرجه البخاري (122)، مسلم (2380) عن سيدنا أُبي رضي الله عنه.

ص: 426

الماء يتعلَّق بها منه شيءٌ وإن لطف، وإنكار ذلك غباوةٌ ظاهرةٌ. . ليس المراد بهما حقيقتهما (1)، وإنما بها كلٌّ منهما مَثَلٌ تقريبيٌّ للإفهام (2)؛ ليعلم منه أنه لا نقص في تلك الخزائن ولافي علم اللَّه ألبتة، لا لعدم نقص ماء البحر من غرز المخيط ونقرة العصفور.

فالجامع بين إدخال المخيط في البحر والإعطاء من تلك الخزائن عدمُ النقص من حيث المشاهدةُ الصورية فيهما كان افترقا في أنَّا إذا نظرنا إليهما بعين الحقيقة. . وجدنا البحر ينقص بهذا الشيء القليل المأخوذ منه الذي لا يكاد يُدرك، وتلك الخزائن لا تنقص شيئًا مما أفاضه اللَّه تعالى منها من حين خلق السماوات والأرض إلى انقضاء هذا العالم، ثم من حين بعثه إلى ما لا نهاية له؛ لما تقرر من استحالة نقص ما لا يتناهى.

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يمين اللَّه -أي: إعطاؤه وإفاضته على عباده من تلك الخزائن- سحَّاءُ الليلَ والنهارَ -أي: دائمة فيهما لا يَغيضها ولا ينقصها شيء- أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض، لم يَغِضْ ما في يمينه؟! "(3) أي: لم ينقص شيئًا مما في خزائن قدرته؛ لأن عطاءه تعالى بين (الكاف) و (النون): {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ، وحديث ابن ماجه الآتي قريبًا مصرِّحٌ بهذه العِلَّة، وليس المراد أن هناك قولًا يتوقف عليه الإيجاد، وإنما هو كنايةٌ عن وجوده في أسرع وقت عقب تعلق الإرادة به، فعبَّر عن تلك السرعة بزمن (كن) إذ لا يمكن أقل منه في العقول (4)، فقدرته تعالى صالحةٌ للإيجاد دائمًا، لا يعتريها عجزٌ ولا قصورٌ، ولا ملَلٌ ولا فتورٌ.

وحكمة ضرب المثل هنا بما ذكر: أنه غاية ما يضرب به المثل في القلة؛ إذ البحر من أعظم ما يعاين، والإبرة من أصغره، مع أنها صقيلةٌ لا يتعلَّق بها ماءٌ إلا ما لا يمكن إدراكه كما، وفي هذا تنبيهٌ أيُّ تنبيهٍ للخلق على إدامتهم لسؤاله تعالى مع

(1) قوله: (ليس المراد بهما) خبر (أن) في قوله قبل قليل: (فعلم أن قوله هنا. . .).

(2)

فهو تشبيهٌ على طريقةٍ أريد به نفي النقص أصلًا؛ لعدم الاعتداد بما يتعلق بالمخيط لقلَّته جدًا. اهـ هامش (غ)

(3)

أخرجه البخاري (7411)، ومسلم (993) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.

(4)

في بعض النسخ: (أقل منه في القول).

ص: 427

إعظام الرغبة وتوسيع المسألة، فلا يختصر سائلٌ، ولا يقتصر طالبٌ؛ لما تقرر أن خزائن الرحمة سحَّاء الليل والنهار، لا يَغيضها الإعطاء وإن جلَّ وعظم.

وقيل: إن ذلك إشارة للنعمة المخلوقة، وهي يُتصوَّر فيها النقص كالبحر (1).

و (نقص) يستعمل لازمًا كنقص المال، ومتعديًا كما هنا؛ إذ مفعول الماضي والمضارع محذوفٌ بدليل السياق.

(يا عبادي؛ إنما هي أعمالكم أُحصيها) أي: أضبطها (لكم) بعلمي وملائكتي الحفظة، واحتيج لهم معه لا لنقصه عن الإحصاء، بل ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه، وقد ينضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل:{كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .

لا يقال: قضية (إنما) انحصارُ فائدة الناس في معادهم في ثواب أعمالهم ونفيُ المزيد مع ثبوت النص والإجماع به في نحو: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} لأنَّا نقول: الحصر إنما هو بالنسبة لجزاء الأعمال (2)؛ أي: لا جزاء ينقسم إلى خيرٍ وغيره إلا عن عملٍ يكون سببًا له، وأما الزيادة على ذلك. . فلم يتعرَّض لها بنفيٍ ولا إثباتٍ، وقد صحَّت فيها نصوصٌ أُخرى لا معارض لها، فوجب الأخذ بها.

(ثم أُوفِّيكم إياها) أي: جزاءها في الآخرة، على حدِّ:{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فلما حذف المضاف. . انقلب المجرور منصوبًا منفصلًا، أو في الدنيا أيضًا؛ لما روي: أنه صلى الله عليه وسلم فسَّر ذلك بأن المؤمنين يُجازَون بسيئاتهم في الدنيا، ويدخلون الجنة بحسناتهم، والكافر يُجازَى بحسناته في الدنيا، ويدخل النار بسيئاته.

(1) قوله: (وقيل. . . إلخ) هذا مقابل ما تقدَّم من جعل الحديث من باب ضرب المثل؛ يعني إما أن يجعل الحديث من باب ضرب المثل، وليس المراد به حقيقته كقول الخضر السابق، أو يبقى الحديث على ظاهره، ويحمل على حقيقته، ويكون مفروضًا في النعمة المخلوقة، وهي يتصور فيها النقص لتناهيها، تأمل. اهـ "مدابغي"

(2)

قوله: (الحصر إنما هو بالنسبة لجزاء الأعمال) أي: لا مسبب للجزاء إلا العمل، فالمراد: حصر سببية الجزاء في الأعمال، وليس في الحديث أنه لا يحصل للإنسان في المعاد إلا الثواب بقدر العمل دون الزيادة، وحينئذٍ فالزيادة مسكوتٌ عنها في هذا الحديث، لم يتعرض لها بنفى ولا إثباتٍ، وإنما الدليل عليها نصوص أخرى من الكتاب والسنة. اهـ "مدابغي"

ص: 428

(فمن وجد خيرًا) أي: ثوابًا ونعيمًا، بأن وُفِّق لأسبابهما، أو حياةً طيبةً هنيئةً مريئةً؛ كما قال اللَّه تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

(فليحمد اللَّه) تعالى على توفيقه للطاعات التي ترتب عليها ذلك الخير والثواب فضلًا منه تعالى ورحمة، وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظيم المبرَّات؛ إذ لا يجب عليه شيءٌ لأحدٍ من خلقه (1)، فعلم أنه إن أُريد بذلك الآخرة فقط. . كان الأمر بذلك بمعنى الإخبار بأن من وجد خيرًا فيها. . حمد اللَّه تعالى عليه، ومن وجد غيره. . لام نفسه حين لا ينفعها اللوم.

وجاء في آياتٍ الإخبارُ عن أهل الجنة بأنهم يحمدون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} ، {لْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} ، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} الآيات.

وعن أهل النار بأنهم يلومون أنفسهم: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآيتينِ.

وأخرج الترمذي: "ما من ميتٍ يموت إلا ندم، فإن كان محسنًا. . ندم ألَّا يكون ازداد، وإن كان مسيئًا. . ندم ألَّا يكون استعتب"(2).

(ومن وجد غير ذلك) أي: شرًا، ولم يذكره بلفظه؛ تعليمًا لنا كيفيةَ الأدب في النطق بالكناية عمَّا يؤذي، ومثله ما يُستقبح أو يُستحيى من ذكره، أو إشارةً إلى أنه إذا اجتنب لفظه. . فَكيف بالوقوع فيه؟! أو إلى أنه سبحانه وتعالى حييٌّ كريمٌ يحب الستر ويغفر الذنب، فلا يعاجل بالعقوبة، ولا يهتك الستر.

ثم رأيت بعضهم أجاب بجوابٍ آخر (3)، فقال: ولم يقل: شرًا؛ إشارة إلى أنه إذا اجتنب لفظه. . فكيف الوقوع فيه؟!

(1) سقطت هذه الجملة من بعض النسخ وجُعلت بعد حديث الترمذي الآتي وقبل المتن.

(2)

سنن الترمذي بنحوه (2403) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وفي هامش (ج): (أي: عتب على نفسه ولامها).

(3)

قوله: (ثم رأيت بعضهم أجاب بجوابٍ آخر) لعل نسخة الشارح ليس فيها: (أنه إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع =

ص: 429

(فلا يلومنَّ إلا نفسه) فإنها آثرت شهواتها ومستلذاتها على رضا خالقها ورازقها، فكفرت بأنعُمِ اللَّه، ولم تُذْعن لأحكامه وحكمه، فاستحقَّتْ أن يعاملها بمظهر عدله، وأن يحرمها مزايا جوده وفضله، نسأل اللَّه تعالى العافية من ذلك، وأن يمنَّ علينا بالسلامة من خوض غمرة هذه المهالك، إلى أن نلقاه مُبشَّرين بقربه ورضاه، آمين.

واحتيج هنا للتأكيد بالنون؛ تحذيرًا أَن يخطر في قلب عاملٍ أن مستحق اللوم غيرُ نفسه، وليس كذلك؛ لأن اللَّه تعالى أوضح وأعذر حتى لم يُبقِ حجةً لأحدٍ، وفيه إيماء إلى ذم ابن آدم وقلة إنصافه؛ فإنه يحسب طاعته من عمله لنفسه ولا يسندها إلى التوفيق، ويتبرأ من معاصيه ويسندها إلى الأقدار؛ فإن كان لا تصرُّفَ له كما يزعم. . فهلَّا كان ذلك في الأمرين؟! كان كان له تصرُّف. . فلِمَ ينفيه عن أحدهما؟!

ووجهُ ختم هذا الحديث بهذه الجملة: التنبيهُ على أن عدم الاستقلال بنحو الإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارةً وبالترك أخرى؛ لأنَّا وإن علمنا أنَّا لا نستقل، لكننا نحسُّ بوجدان الفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش، والاختيارية كحركة السليم، وهذه التفرقة راجعةٌ إلى تمكُّن محسوس مشاهد، وأمرٍ معتاد، يوجد مع الاختيار دون الاضطرار، وهذا هو مورد التكليف المعبَّر عنه بالكسب، فلا تناقض ولا تعسُّف.

والحاصل: أن المعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كانت بقدرة اللَّه تعالى وخذلانه. . فهي بكسب العبد، فلْيَلُمْ نفسَه؛ لتفريطه بالكسب القبيح، وأن قول القدرية: هذا حجةٌ لنا؛ لأن لوم العبد نفسَه على سوء العاقبة يقتضي أنه الخالق لأفعاله، وأن قوله:"فلا يلومن إلا نفسه" تنصُّلٌ من المعصية، وأنه ليس له فيها تأثير بخلق فعل ولا تقديره. . باطلٌ بنص قوله تعالى (1):{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ، والآيات في نحو هذا المعنى كثيرة، وقد قدمت منها جملةً في شرح قوله:"كلكم ضال إلا من هديته".

= فيه؟!) فيكون من زيادة النساخ؛ وإلا. . كان هذا أحد الأجوبة التي ذكرها لا جوابًا آخر، وقوله:(ثم رأيت بعضهم) غير به إلى السراج ابن الملقن. اهـ "مدابغي"

(1)

قوله: (باطل) هذا خبر (أن) في قوله: (وأن قول القدرية. . . إلخ) اهـ هامش (ج)

ص: 430

ثم يلزمهم أن مَنْ وجد خيرًا لا يحمد اللَّه تعالى؛ لأنه لا أثر له على ما زعموه، بل يحمد الإنسان نفسه؛ لأنه الخالق لطاعته، الموجد لسلامته، وهذا مراغمةٌ للنص المذكور وغيره، وقد أخبر اللَّه تعالى عن أهل الجنة بأنهم يقولون فيها:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} .

(رواه مسلم) وهو حديثٌ عظيمٌ ربانيٌّ، مشتملٌ على قواعد عظيمةٍ في أصول الدين، وفروعه، وآدابه، ولطائف القلوب، وغيرها، وقد ساقه المصنف رحمه اللَّه تعالى في "أذكاره" بإسناده وختم به، وفيه:(عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن اللَّه سبحانه تعالى) ثم نقل أن أبا إدريس راويَهُ عن أبي ذرٍّ كان إذا حدَّث به. . جثا على ركبتيه تعظيمًا له وإجلالًا.

ورجال إسناده دمشقيون، قال أحمد:(ليس لأهل الشام حديثٌ أشرف منه)(1).

وأخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه بزيادة: "يا عبادي؛ كلكم مذنبٌ إلا من عافيت، فاسألوني المغفرة أغفر لكم، ومن علم منكم أني ذو قدرةٍ على المغفرة فاستغفرني بقدرتي،. . غفرت له ولا أبالي، وكلكم فقير إلا من أغنيت، فاسألوني أرزقكم، فلو أن حيَّكم وميتكم، وأولكم وآخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فسألوني فكانوا على قلب أتقى عبدٍ من عبادي. . لم يزد في ملكي جناح بعوضة، ولو اجتمعوا فكانوا على قلب أشقى عبدٍ من عبادي. . لم ينقص من ملكي جناح بعوضة، ولو أن حيكم وميتكم، وأولكم واخركم، ورطبكم ويابسكم، اجتمعوا فسأل كل سائلٍ منهم ما بلغت أمنيته. . ما نقص من ملكي إلا كما لو كان أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرةً ثم نزعها، ذلك بأني جوادٌ ماجدٌ، أفعل ما أُريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له: كن، فيكون"(2).

(1) انظر "الأذكار"(ص 660 - 662).

(2)

مسند الإمام أحمد (5/ 154)، وسنن الترمذي (2495)، وسنن ابن ماجه (4257) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 431