الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبِي فَقَالَ: "كُنْ فِي الْدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ، أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ. . فَلَا تَنْتَظِرِ الْصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ. . فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمن حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1).
(عن ابن عمر رضي اللَّه) تعالى (عنهما قال: أخذ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي) هو بفتح الميم وكسر الكاف: مجمع العضد والكتف، ويروى بالإفراد والتثنية، وفيه: مسُّ المعلم أو الواعظ بعضَ أعضاء المتعلم أو الموعوظ عند التعلم أو الوعظ، ونظيره: قول ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: (علمني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم التشهد كفِّي بين كفيه)(2).
وحكمة ذلك: ما فيه من التأنيس والتنبيه والتذكير؛ إذ محالٌ عادةً أن ينسى مَنْ فُعِلَ معه ذلك ما يقال له معه، وهذا لا يفعل غالبًا إلا مع من يميل إليه الفاعل، ففيه دليلٌ على محبته صلى الله عليه وسلم لهما.
(فقال: كلن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)(3) زاد الترمذي: "وعدَّ نفسك
(1) صحيح البخاري (6416).
(2)
أخرجه البخاري (6265)، ومسلم (402/ 59).
(3)
قوله: (كن في الدنيا) على حذف مضافين؛ أي: مدة إقامتك في الدنيا، وقوله:(كأنك غريب) في محل نصب خبر (كن) أي: كن مشبهًا بالغريب، قوله:(أو عابر سبيل) معطوف على (غريب) عطف خاصٍّ على عامٍّ، و (أو) فيه ليست للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن كما قاله الطيبي: أن تكون بمعنى (بل) وفيها معنى الترقي؛ لأن الغريب؛ أي: الذي قد أقام قد يسكن في بلد الغربة، بخلاف عابر السبيل؛ فإنه من شأنه ألَّا =
من أهل القبور" (1)، وأحمد والنسائي أولَهُ: "اعبد اللَّه كأنك تراه، وكن في الدنيا. . . " إلى آخره (2).
ثم هذا الحديث أصلٌ عظيمٌ في قِصَر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذها وطنًا ومسكنًا، بل ينبغي له أن يكون فيها كأنه على جناح سفر؛ يهيئ جهازه للرحيل، وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم عليهم الصلاة والسلام.
وفيه: الابتداءُ بالنصيحة، والإرشادُ لمن لم يطلب ذلك، وحرصُه صلى الله عليه وسلم على أصل الخير لأمته؛ لأن هذا لا يخص ابن عمر، بل يعم جميع الأمة، والحضُّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وألَّا يأخذ منها إلا مقدار الضرورة المعينة على الآخرة؛ إذ الغريب المقيم ببلد الغربة متوحشٌ لا يجد من يستأنس به، ولا مقصد له إلا الخروج عن غربته إلى وطنه من غير أن ينافس أحدًا في مجلسٍ أو غيره، أو يتأثر بنحو لبسه لغير لائقٍ به.
وكذلك عابر السبيل -أي: المار على الطريق، وهو المسافر- إذ لا أرب له إلا فيما يُبَلِّغه إلى وطنه واجتماعه بأهله، فلا يتخذ في بعض المراحل نحو دارٍ ولا بستانٍ؛ لعلمه بقلَّة إقامته، وأنه لو أمكنه الطيران. . فَعَلَه ولا يُعرِّج على غير سبب الوصول، فمن ثَمَّ أوصى صلى الله عليه وسلم ابن عمر أن يكون على أحد هذين الحالين؛ يُنَزِّل نفسه منزلةَ غريبٍ، فلا يعلِّق قلبه ببلد الغربة، بل بوطنه الذي يرجع إليه؛ إذ إقامته إنما هي لبعض مؤنة جهازه إلى الرجوع إلى وطنه، أو منزلةَ مسافر ليله ونهاره إلى مقصده، فلا همة له إلا في تحصيل زاد السفر دون الاستكثار من أمتعة أخرى.
ومن ثم أوصى صلى الله عليه وسلم جماعةً من أصحابه بأن يكون بلاغهم من الدنيا
= يقيم لحظة، ولا يسكن لمحة، وأنشد بعضهم:(من الطويل)
أيا من له في باطن الأرض حفرة
…
أتأنس بالدنيا وأنت غريبُ
وما الدهر إلا كد يومٍ وليلةٍ
…
وما الموت إلا نازلٌ وقريبُ
(1)
سنن الترمذي (2333).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 132)، وسنن النسائي الكبرى (11803).
كزاد الراكب (1)، وذلك لأن الإنسان إنما أُوجد ليمتحن بالطاعة فيثاب، وبالمعصية فيعاقب:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} ، فهو كعبدٍ أرسله سيده في حاجةٍ، فهو إما غريبٌ، أو عابر سبيل، فشأنه أن يبادر بقضائها ثم يرجع لوطنه.
فكل هذه الأحوال ينبغي لطالب الآخرة أن يكون متلبسًا بها؛ ليحوز ما أعده اللَّه تعالى له من النعيم المقيم: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيْكٍ مُّقْتَدِرٍ} وفقنا اللَّه تعالى لذلك بمنِّه وكرمه.
(وكان ابن عمر رضي اللَّه) تعالى (عنهما يقول: إذا أمسيت. . فلا تنتظر) بأعمال الليل (الصباح، وإذا أصبحت. . فلا تنتظر) بأعمال الصباح (المساء) لأن لكلٍّ منهما عملًا يخصه، فإذا أُخِّر عنه. . فات ولم يُستدرك كمالُه وإن شُرِع قضاؤه، فطلبت المبادرة بعمل كلٍّ في وقته.
أو المراد: إذا أمسيت. . فلا تحدِّث نفسك بالبقاء إلى الصباح، وإذا أصبحت. . فلا تحدث نفسك بالبقاء إلى المساء، بل انتظر الموت في كل وقتٍ، واجعله نصب عينيك (2).
وعقَّب به المصنف ما قبله؛ لأن ذلك للحضِّ على ترك الدنيا والزهد فيها، وهذا للحض على تقصير الأمل، فذاك متوقفٌ على هذا؛ لأنه المصلح للعمل، والمنجي من آفات التراخي والكسل؛ فإنه من طال أمله. . ساء عمله، فعلم أن هذا سببٌ للزهد في الدنيا.
وقولهم: (إنه هو)(3) أرادوا به أن بينهما تلازمًا صيَّرهما كالشيء الواحد، فهو مجاز، وإلَّا. . فالحقيقة ما قلناه، فمن قصر أمله. . زهد، ومن طال أمله. . طمع
(1) أخرجه الترمذي (1780) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها، والإمام أحمد (5/ 438) عن سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه.
(2)
وكان محمد بن واسع إذا أراد النوم. . قال لأهله: أستودعكم اللَّه؛ فلعلي لا أقوم من نومتي؛ ولهذا جاء في الحديث: "لا يبيت أحدكم إلا ووصيته عند رأسه"، فلعله أن يبيت من أهل الدنيا ويصبح من أهل الآخرة، فكم من مستقبلٍ يومًا أو عملًا لا يستكمله. اهـ هامش (غ).
(3)
أي وقولهم: إن قصر الأمل هو الزهد أرادوا به. . . إلخ.
ورغب، وترك الطاعة، وتكاسل عن التوبة، وقسا قلبه؛ لنسيانه الآخرة ومقدماتها (1) من الموت وما بعده من الأهوال، وإنما رقة القلب وصفاؤه بذكر ذلك؛ قال تعالى:{فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} ، {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .
وجاء عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطًا مربعًا، وخطَّ خطًا في الوسط، وخطَّ خطًا خارجًا، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من حواليه فقال:"هذا الإنسان -يعني الخطَّ الذي في الوسط- وهذا أجله محيطٌ به، وذاك أمله خارج الخط، وقد حالَ الأجل بينه وبين أمله، وهذه المخطوط الصغار الأعراض، فإن أخطأه هذا. . نهشه هذا، وإن أخطأه هذا. . نهشه هذا، وإن أخطأتْهُ كلُّها. . أصابه الهرم"(2).
وهذا صورته:
[صورة]
وقال أنس رضي اللَّه تعالى عنه: خطَّ النبي صلى الله عليه وسلم خطوطًا فقال: "هذا الإنسان، وهذا الأمل، وهذا الأجل، فبينما هو كذلك. . إذ جاءه الخط الأقرب"(3) وهو أجله المحيط به.
وهذا تنبيهٌ منه صلى الله عليه وسلم على تقصير الأمل، واستشعار الأجل خوف بغتته، ومن غُيِّب عنه أجله. . فهو حريٌّ بتوقعه وانتظاره خشية هجومه عليه في حال
(1) في (أ) و (غ): (لنسيانه الآخرة ومقاماتها)، وفي (ز):(ومقاساتها).
(2)
أخرجه البخاري (6417)، والترمذي (2454)، وابن ماجه (4231) عن سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، والجزء الأخير منه أخرجه الترمذي (2456) عن سيدنا عبد اللَّه بن الشخير رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (6418).
غرةٍ وغفلةٍ (1)، فينبغي للعاقل أن يجاهد أمله وهواه؛ فإن ابن آدم مجبولٌ على الأمل، وورد أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال قلب الكبير شابًا في حب الدنيا وطول الأمل"(2).
وقال ابن عمر: رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأنا أصلح خُصًّا، فقال:"ما هذا؟ " قلت: خُصٌّ لنا نصلحه، فقال:"ما أرى الأمر إلا أقرب من ذلك"(3).
فعلم أن قصر الأمل أصل كل خير، وطوله أصل كل شر؛ فان من لا يقدِّر في نفسه أنه يعيش غدًا. . لا يسعى لكفايته ولا يهتم بها، فيصير حرًا من رق الحرص والطمع والذل لأبناء الدنيا، ومن يقدِّر أنه يعيش عشر سنين مثلًا. . يصير عبدًا لهذه الأوصاف الذميمة، ولا يكفيه شيءٌ من الدنيا، ولا يملأ عينه وبطنه إلا التراب؛ كما جاء في الحديث (4).
(وخذ من صحتك لمرضك)(5) أي: اغتنم العمل حال الصحة؛ فإنه ربما عرض مرضٌ مانعٌ منه، فتقدَم المعاد بغير زاد.
(ومن حياتك لموتك) أي: اغتنم ما تلقى نفعه بعد موتك ما دمت حيًا؛ فإن من مات. . انقطع عمله، وفات أمله، وحق ندمه، وتوالى حزنه وهمه، فاستسلفْ منك لك، واعلم: أنه سيأتي عليك زمانٌ طويلٌ وأنت تحت الأرض، لا يمكنك أن تذكر اللَّه عز وجل، فبادر في زمن قوَّتك وحياتك، واغتنم فرصة الإمكان لعل أن تسلم من العذاب والهوان (6).
(1) قال بعضهم: (من الطويل)
خليليَّ ولَّى العمر منَّا ولم نتب
…
وننوي فعال الصالحين ولكنَّا
فحتى متى نبني قصورًا مَشِيدةً
…
وأعمارنا منا تُهدُّ وما تُبنى
(2)
أخرجه البخاري (6420)، ومسلم (1046) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه بن حبان (2996)، وأبو داوود (5236)، والبخاري في "الأدب المفرد"(456)، والحديث عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما، فلعل ما هنا وما في "سنن ابن ماجه"(4160) سهو أو سبق قلم، فليتنبه. والخص: بيت يصنع من خشب وقصب.
(4)
أخرجه البخاري (6439)، ومسلم (1048) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(5)
قوله: (وخذ من صحتك لمرضك) معناه: اعمل أعمالًا صالحةً في حال صحتك؛ ليكتب ذلك إذا عجزت في حال مرضك، ويكون قوله:(إذا مرض العبد أو سافر) نتيجة هذا، غايته أن هذا فيه زيادة قوله:(ومن حياتك لموتك. . . إلخ) فتأمل. اهـ هامش (ج)
(6)
قال بعضهم: (من الوافر)
إذا هبت رياحُك فاغتنمها
…
فعقبى كل خافقةٍ سكونُ =
وما ذكره ابن عمر مقتضبٌ من معنى الحديث؛ لأن الغريب إذا أمسى في بلد غربته. . لا ينتظر الصباح، وإذا أصبح. . لا ينتظر المساء، فكذلك الإنسان في الدنيا المشبه للغريب في حاله، وإمكانِ حدوث ترحاله.
وقد ورد معنى هذه الوصية عنه صلى الله عليه وسلم من عدة طرقٍ؛ منها خبر الحاكم: أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجلٍ وهو يعظه: "اغتنم خمسًا قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"(1).
وفي الحديث أيضًا: "بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم"(2) أي: لما صح: "ثلاثٌ إذا خرجن. . لم ينفع نفسًا إيمانُها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانُها خيرًا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض"(3).
وروى الترمذي: "ما من ميتٍ يموت إلا ندم" قالوا: وما ندامته؟ قال: "إن كان محسنًا. . ألَّا يكون زاد، وإن كان مسيئًا. . ألَّا يكون استعتب"(4) أي: تاب وأصلح شأنه؛ فلذا يتعيَّن اغتنام ما بقي من العمر؛ إذ هو لا قيمة له، قال ابن جبير:(كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة)(5).
(رواه البخاري) وهو حديثٌ شريفٌ، عظيم القدر، جليل الفوائد، جامعٌ لأنواع الخير وجوامع المواعظ، فانظر إلى ألفاظه ما أحسنها، وأشرفها، وأعظمها بركة، وأجمعها لخصال الخير، والحث على الأعمال الصالحة أيام الصحة والحياة!
* * *
= ولا تغفل عن الإحسان فيها
…
فما تدري السكونَ متى يكونُ
وإن تظفر بذاك فلا تقصِّر
…
فإن الدهر عادته يخونُ
(1)
المستدرك (4/ 306) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (118)، والترمذي (2195) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (158)، والترمذي (3072) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
سنن الترمذي (2403) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(4/ 276).