المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشبهات] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشبهات]

‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنَّ الْحَلَالَ بَيَّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ، لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ. . فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ. . وَقَعَ فِي الْحَرَام، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللَّه مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ. . صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ. . فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (1).

(عن أبي عبد اللَّه النعمان بن بشير) بفتح الموحدة، الأنصاري الخزرجي، وأمه صحابية، أخت عبد اللَّه بن رواحة، وأبوه بشير صحابيٌّ أيضًا (2)، وهو القائل:(يا رسول اللَّه؛ عَلِمْنَا كيف نسلِّم عليك، فكيف نصلِّي عليك إذا نحن صلينا عليك. . .) الحديث (3)، فلذلك قال المصنف:(رضي اللَّه) تعالى (عنهما).

(1) صحيح البخاري (52)، وصحيح مسلم (1599).

(2)

وليس في الصحابة من اسمه النعمان بن بشير غير هذا، وفيهم النعمان جماعات فوق الثلاثين رضي الله عنهم أجمعين. اهـ "مدابغي"

(3)

أخرجه مسلم (405) بنحوه عن سيدنا أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، وقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه اللَّه تعالى في "فتح الباري" (11/ 154) أسماء مَنْ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر وهم:(كعب بن عجرة، وبشير بن سعد والد النعمان، وزيد بن خارجة الأنصاري، وطلحة بن عبيد اللَّه، وأبو هريرة، وعبد الرحمن بن بشير رضي الله عنهم أجمعين) ثم ذكر روايات الحديث.

ص: 231

ولد على رأس أربعة عشر شهرًا من الهجرة على الأصح، وهو أول مولودٍ ولد في الأنصار بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة، كما أن عبد اللَّه بن الزبير رضي اللَّه تعالى عنهما المولودَ معه في عامه أولُ مولودٍ ولد للمهاجرين.

قيل: روي له مئة حديثٍ وأربعة عشر حديثًا.

ولي الكوفة لمعاوية، ثم ولي حمص ودعا لابن الزبير، فطلبه أهلها فقتلوه بقريةٍ من قراها سنة أربع وستين.

ولم ينفرد برواية هذا الحديث، بل رواه أيضًا سبعةٌ من أكابر الصحابة رضي اللَّه تعالى عنهم (1).

(قال: سمعت) في روايةٍ: أنه أهوى إلى أذنيه بإصبعيه (2)، ففيها تأكيد التصريح بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الصحيح، ولا التفات إلى خلافٍ فيه، قاله المصنف (3).

(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: إن الحلال) هو كالحل ضد الحرام لغةً وشرعًا، ويأتي (حِلٌّ) بمعنى مقيم؛ كما في:{وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} .

(بَيِّن) أي: ظاهر، وهو ما نص اللَّه تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه، أو جنسه، ومنه أيضًا: ما لم يُعلَم فيه منعٌ على أشهر القولين كما يأتي.

(وإن الحرام بَيِّن) وهو ما نُصَّ أو أُجمع على تحريمه بعينه أو جنسه، أو على أن فيه حدًا، أو تعزيرًا، أو وعيدًا.

ثم التحريم: إما لمفسدةٍ أو مضرَّةٍ خفيةٍ كالزنا، ومذكَّى المجوس، وإما لمفسدةٍ أو مضرةٍ واضحةٍ كالسم، والخمر.

وبيانه: أن المُنتَفع به إما معدنٌ، أو نباتٌ، أو حيوانٌ، وتوابعه، فالمعادن

(1) وهم كما قاله الشيخ الشبشيري رحمه اللَّه تعالى في "شرحه": (علي بن أبي طالب، وابنه الحسن، وابن مسعود، وجابر بن عبد اللَّه، وابن عمر، وابن عباس، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم اهـ "مدابغي"

(2)

هي رواية مسلم (1599).

(3)

انظر "شرح صحيح مسلم"(11/ 29).

ص: 232

بأسرها حلالٌ إلا الضارَّ، على أنه لا يختص بها، بل لو ضرَّ العسل بعض المحرورين. . حرم عليه أكله، والنبات كذلك، إلا ما زال الحياةَ كالسم، أو العقلَ كالخمر، وسائر المسكرات، والمخدرات؛ كالحشيشة، والأفيون، والبنج، وكذا جوزة الطيب، كما أفتيتُ به، ونقلت فيه نص أرباب المذاهب الثلاثة: الشافعية، والمالكية، والحنابلة، وأن ذلك هو مقتضى كلام الحنفية، فاشدد يديك على هذه الفائدة؛ لئلا تقع فيما وهم فيه كثيرون من أنه لا كلام فيها لأحد (1).

وأما الحيوان: فكل ما ورد النص على أكله. . فهو حلالٌ كالخيل؛ فقد صحَّتِ الأحاديث بأكلها، وبتحريم الحمر الأهلية، وتحريمُها -أعني الخيل- وتحليلُ النبيذ منابذٌ للسنة الصريحة، وكل ما ورد النص على عدم أكله. . فهو حرام، وما لا نص فيه. . يُرجَع إلى ذوي الطباع السليمة من العرب، فما استخبثوه. . حرامٌ، وما لا. . حلالٌ، وأكل النجس حرامٌ كاستعماله إلا لنحو اضطرارٍ أو تداوٍ؛ لجوازه بصِرْف سائر النجاسات إلا الخمر.

وإما لخللٍ في وضع اليد عليه (2)؛ كالمأخوذ بنحو غصبٍ، أو سرقةٍ، أو عقدٍ فاسدٍ، أو نحو ذلك مما حظره الشرع، بخلافه بنحو عقدٍ صحيحٍ، أو إرثٍ، أو أخذٍ من مباحٍ، أو من غير معصوم، أو ممتنع من نحو زكاة، أو وفاء دَينٍ (3)، فهذه كلها حلالٌ بيِّن.

(وبينهما أمور)(4) أي: شؤون وأحوال (مشتبهاتٌ) جمع مشتبهٍ؛ وهو: كل ما ليس بواضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة، وتجاذبته المعاني والأسباب، فبعضها يعضده دليل الحرام، وبعضها يعضده دليل الحلال، ومن ثَمَّ فسر أحمد وإسحاق وغيرهما المشتبه بما اختلف في حل أكله كالخيل، أو شربه كالنبيذ، أو لبسه كجلود السباع، أو كسبه كبيع العِينة (5).

(1) انظر "الفتاوى الكبرى الفقهية"(4/ 229 - 230).

(2)

قوله: (إما لخللٍ) عطف على قوله: (إما لمفسدة) كما عرف.

(3)

قوله: (أو وفاء دين) أي: أو ممتنع من وفاء دين بالنسبة للدائن. وفي عدة نسخ: (أو أداء دين).

(4)

قوله: (أمور) جُعلت متنًا في نسخ الشرح، وليست في نسخ المتن ولا في "الصحيحين"، فليتنبه.

(5)

قوله: (كبيع العِينة) بكسر العين المهملة، وسكون المثناة تحت؛ وهو: أن يبيع متاعًا بثمنٍ، ثم بعد أن يقبضه المشتري يبيعه لبائعه بأقل مما اشتراه به، وهو حلالٌ عندنا، حرامٌ عند الغير؛ لأنه من حيل الربا، فإن باعه لغير بائعه. . حل اتفاقًا. اهـ "مدابغي"

ص: 233

وفسره أحمد مرة باختلاط الحلال والحرام، وحكم هذا أنه يخرج قدر الحرام، ويأكل الباقي عند كثيرين من العلماء، سواء أقل الحرام أم أكثر.

ومن المشتبه معاملة مَنْ في ماله حرام؛ فالورع تركها مطلقًا وإن جازت، وقيل -واعتمده الغزالي-: إن كان أكثر ماله الحرام. . حرمت معاملته (1).

ثم الحصر في الثلاثة صحيحٌ؛ لأنه إن نُصَّ أو أُجمِع على الفعل. . فالحلال، أو على المنع جازمًا. . فالحرام، أو سُكِت عنه أو تعارض فيه نصَّان ولم يعلم المتأخر منهما. . فالمشتبه، ولكونه أشكل الثلاثة مسَّتِ الحاجة إلى مزيد بيانه وإيضاحه، فنقول:

علم مما مر: أن الحلال المطلق: ما انتفى عن ذاته الصفات المحرِّمة، وعن أسبابه ما يجر إلى خللٍ فيه.

ومنه: صيدٌ احتُمِل أنه صِيدَ وانفلت من صائده (2)، ومُعارٌ احتُمِل موت المعير وانتقاله إلى ورثته (3)، وليس هذا مشتبهًا، فلا ورع في العمل بذلك الاحتمال؛ لأنه هَوَسٌ؛ لعدم اعتضاده بشيء، مع أن الأصل: عدمه، وإنما المشتبه: الذي يتجاذبه سببان متعارضان يؤديان إلى وقوع التردُّد في حلِّه وحرمته كما مر.

وأن الحرام: ما في ذاته صفةٌ محرمةٌ كالإسكار، أو في سببه ما يجر إليه خللًا كالبيع الفاسد.

(1) قال العلامة عبد اللَّه بن سليمان الجرهزي في "المواهب السنية شرح الفوائد البهية"(2/ 62): (وسبقه إلى ذلك القول الشيخ أبو حامد في مواضع من "تعليقه" حيث كان مختلطًا، ومال إليه الأذرعي، وكذا الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيمن يندر الحلال معه، وألحق الغزالي مَنْ عليه دلائل الظَّلمة في المال كزي الجندي، ودونه مَنْ زيّه كالفسقة وغيرهم، وتردد فيه، ذكره أبو قشير، وقال في "التحفة" [9/ 389]: لا يحرم معاملة من أكثر ماله حرامٌ ولا الأكل منها؛ كما صحَّحه في "المجموع" وأنكر قول الغزالي بالحرمة مع أنه تبعه في "شرح مسلم" اهـ، ويظهر اختصاص الحرمة أو الكراهة على غير من في يده مالُهُ، بخلاف المظلوم ممن ظلمه ولم يظلم غيره، ويحتمل أن محله فيما هو من جنس ماله، ويحتمل تخصيصه بما إذا لم يملكه الغاصب حتى تنتقل اليد إلى ذمته).

(2)

صورته: أن يصطاد سمكةً مثلًا، ثم يخيل له أنه يحتمل أن تلك السمكة صادها غيره فملكها بالصيد، ثم انفلتت منه ودخلت في البحر. اهـ "مدابغي"

(3)

صورته: أنه استعار ثوبًا مثلًا للبسه، ثم خُيل له أن يكون ذلك المعير مات، وانتقل ذلك الثوب لورثته، فالملك فيه حينئذٍ لهم، ولم يقع منهم إذنٌ له في الاستعمال. اهـ "مدابغي"

ص: 234

ومنه: ما تحقَّقت حرمته واحتمل حلُّه كمغصوبٍ احتمل إباحة مالكه، فهو حرامٌ صِرف وليس من المشتبه، لما قررناه في نظيره؛ إذِ الذي فيهما احتمالٌ محضٌ لا سبب له في الخارج إلا مجرد التجويز العقلي، وهو لا عبرة به، فليسا من المشكوك فيه.

وأما المشتبه بالمعنى الذي قررناه آنفًا. . فهو أقسامٌ أربعة:

الأول: الشك في المحلل والمحرم، فإن تعادلا. . استصحب السابق، وإن كان أحدهما أقوى لصدوره عن دلالةٍ معتبرةٍ في العين. . فالحكم له، فلو رمى صيدًا فجرحه، فوقع في ماءٍ أو نارٍ، أو على طرف سطحٍ، أو جبلٍ، فسقط منه، أو على شجرةٍ فصدمه غصنها، أو أرسل كلبه وشَرِكه فيه كلبٌ آخر وشكَّ في قاتله منهما. . حرم؛ لأن الأصل: التحريم، فلا يزال بالشك في المبيح.

ولو جرح طير الماء وهو على وجهه ومات، أو جرحه وهو خارج الماء فوقع فيه، أو وهو في مائه والرامي في سفينةٍ في الماء. . حلَّ (1)، أو في البَرِّ. . فلا إن لم ينتهِ بالجرح إلى حركة مذبوح.

الثاني: الشك في طروِّ محرِّمٍ على الحل المتيقَّن، فالأصل: الحل، فلو قال: إن كان ذا الطائر غرابًا. . فامرأتي طالق، وقال آخر: إن لم يكن هو. . فامرأتي طالق، والتبس أمره. . لم يُقضَ بالتحريم على واحدٍ منهما على الأصح؛ لأن كلًّا منهما على يقين الحل بالنظر إلى نفسه؛ إذ لم يعارضه بالنظر إليه وحده شيءٌ، وإنما عارضه يقين التحريم بالنظر إلى ضم غيره إليه، ولا مسوغ لهذا الضم؛ لأن المكلف إنما يكلف بما يخصه هو على انفراده، ومن ثَمَّ لو قالهما واحدٌ في زوجتيه؛ كأن علَّق طلاق إحداهما بكونه غرابًا، وأخرى بكونه غيره. . لزمه اجتنابهما؛ لأن إحداهما طلقت منه يقينًا، وأصل الحلِّ فيهما عارضه يقينُ التحريم في إحداهما بالنظر إليه وحده، فارتفع به ذلك الأصل.

الثالث: أن يكون الأصل التحريم، ثم يطرأ ما يقتضي الحل بظنٍّ غالبٍ، فإن

(1) قال في "شرح المنهاج"(9/ 328) بحرمة ما جرح خارج الماء من طيره ثم وقع فيه، وهنا بحلِّه؛ إشارة إلى أنهما وجهان محكيان بلا ترجيح كما قال به في "شرح الروض"(1/ 555)، واللَّه أعلم. (الحاج إبراهيم) اهـ هامش (غ)

ص: 235

اعتبر سبب الظن شرعًا. . حلَّ وأُلغي النظر لذلك الأصل، وإلَّا. . فلا، فلو أرسل كلبًا على صيدٍ ثم غاب عنه بعد جرحه. . حلَّ إن كان الجرح مذففًا (1)، سواء أكان فيه أثر غيره أم لا، وكذا إن كان الجرح غير مذففٍ ولم يكن فيه أثر غيره، بخلاف ما لو غاب عنه قبل جرحه، ثم وجده مجروحًا ميتًا؛ فإنه يحرم وإن تضمَّخ الكلب بدمه.

ولو وُجدت شاةٌ مذبوحة ولم يُدْرَ مَنْ ذبحها، فإن كان أهل البلد مسلمين فقط، أو كانوا أغلب. . حلَّتْ، وإن كان نحو المجوس أكثر، أو استويا. . حرمت؛ لأن أصل التحريم حينئذٍ لم يعارضه أقوى منه.

الرابع: أن يعلم الحل ويغلب على الظن طروُّ محرِّمٍ، فإن لم تستند غَلَبَتُه لعلامةٍ تتعلَّق بعينه. . لم يعتبر، ومن ثَمَّ حكمنا بطهارة ثياب الخمَّارين، والجزارين، والكفرة المتدينين باستعمال النجاسة، وإن استندت لعلامةٍ تتعلَّق بعينه. . اعتُبرتْ وأُلغي أصل الحل؛ لأنها أقوى منه، فلو رأى ظبيةً تبول في ماءٍ كثيرٍ، فوجده عقب البول متغيرًا، أو شك هل تغيره به، أو بمكثٍ مثلًا، وأمكن تغيره به. . فهو نجسٌ؛ بخلاف ما لو وجده متغيرًا بعد مدة، أو وجده عقبه غير متغير، ثم ظهر التغير، أو لم يمكن التغير به لقلته؛ فإنه طاهرٌ عملًا بالأصل الذي لم يعارضه حينئذٍ ما هو أقوى منه.

والحاصل: أنه إذا تعارض أصلان، أو أصلٌ وظاهرٌ. . فقال جماعةٌ من متأخري الخراسانيين: إن في كل مسألةٍ من ذلك قولين، لكن قال المصنف رحمه اللَّه تعالى في "شرح المهذب":(هذا الإطلاق ليس على ظاهره؛ فإن لنا مسائل يعمل فيها بالظاهر بلا خلاف (2)، كشهادة عدلين؛ فإنها تفيد الظنَّ ويعمل بها بالإجماع، ولا نظر إلى أصل براءة الذمة، ومسألة بول الظبية وأشباهها (3)، ومسائل يعمل فيها بالأصل بلا خلاف، كمن ظن حدثًا، أو طلاقًا، أو عتقًا، أو أصَلَّى ثلاثًا أم أربعًا (4)؛ فإنه يعمل بالأصل بلا خلاف).

(1) أي: مزهقًا للروح ومسرِّعًا للموت.

(2)

في "المجموع": (. . . بالظن بلا خلاف).

(3)

في "المجموع": (بول الحيوان وأشباهها).

(4)

في "المجموع": (أربعًا لا ثلاثًا).

ص: 236

قال: (والصواب في الضابط: ما حرَّره ابن الصلاح فقال: إذا تعارض أصلان، أو أصلٌ وظاهرٌ. . وجب النظر في الترجيح، كما في تعارض الدليلين، فإن تردَّد في الراجح. . فهي مسائل القولين، وإن ترجَّح دليل الظاهر. . حكم به بلا خلاف، وإن ترجح دليل الأصل. . حكم به بلا خلاف) اهـ (1)

فالأقسام حينئذ أربعة:

أولها: ما ترجح فيه الأصل جزمًا، وضابطه: أن يعارضه احتمالٌ مجرد كما مر (2).

ثانيها: ما ترجح فيه الظاهر جزمًا، وضابطه: أن يستند إلى سببٍ نصبه الشارع، كشهادة العدلين، واليد في الدعوى، ورواية الثقة، وإخباره بدخول وقت، أو برؤية ماءٍ، وإخبارها بحيضها في العدة.

أو عُرِف عادةً (3)، كأرضٍ بشط نهرٍ الظاهرُ أنها تغرق وتنهار في الماء، فلا يجوز استئجارها، ومثَّل الزركشي له باستعمال السرجين في أواني الفخار، فيحكم بنجاستها قطعًا، ونقله عن الماوردي، وبالماء الهارب من الحمام؛ لاطراد العادة بالبول فيه، وفيه نظر كما بينته في شرحي "الإرشاد" و"العباب" وعلي تسليمه فيُعفى عن تلك الأواني؛ كما نصَّ عليه الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه، فإنه لمَّا دخل مصر. . سُئِل عنها فقال: إذا ضاق الأمر. . اتسع.

أو ضم إليه ما يعضده (4)، كما مر في بول الظبية.

ثالثها: ما ترجح فيه الأصل على الأصح، وضابطه: أن يستند الاحتمال فيه إلى سببٍ ضعيف، وأمثلته لا تكاد تنحصر، ومنها ما مر في نحو ثياب الخمارين، وما لو أدخل كلبٌ رأسه في إناءٍ وأخرجه وفمه رَطْبٌ ولم يعلم ولوغه. . فهو طاهر.

(1) انظر "المجموع"(1/ 260).

(2)

أي: في مسألتي الصيد والمعار.

(3)

معطوف على قوله: (نصبه الشارع) أي: أو أن يستند إلى سببٍ عُرِف عادةً.

(4)

أي: ويستند إلى سبب ضُمَّ إليه ما يعضده.

ص: 237

وما لو تنحنح إمامه فظهر منه حرفان، فلا يفارقه؛ لأن الأصل: بقاء صلاته، ولعله معذور.

وما لو امتشط مُحرِمٌ فرأى شعرًا، وشك هل نتفه أو انتتف. . فلا فدية عليه؛ لأن النتف لم يتحقق، والأصل: براءة الذمة.

رابعها: ما ترجح فيه الظاهر على الأصح، وضابطه: أن يكون سببًا قويًا منضبطًا، فلو شك بعد الصلاة في ترك ركني غير النيَّة والتحرُّم، أو شرطٍ كأن تيقَّن الطهارة وشك في ناقضها. . لم تلزمه الإعادة؛ لأن الظاهر: مضي عبادته على الصحة، أو شك بعد فراغ (الفاتحة)، أو الاستنجاء، أو غسل الثوب: في بعض كلماتها، أو هل استجمر بحجرين أو ثلاث، أو هل استوعب الثوب (1). . لم يؤثر لذلك، ولو اختلفا في صحةِ عقدٍ صُدِّق مدعيها؛ لأن الظاهر: جريان العقود بين المسلمين على قانون الشرع، وفي تعارض الأصلين تارةً يجزم بأحدهما، وتارةً يجري خلافٌ ويرجح ما عضده ظاهرٌ أو غيره.

قال ابن الرفعة: ولو كان في جهةٍ أصلٌ، وفي أخرى أصلان. . قُدِّما جزمًا.

قال الإمام: وليس المراد بتعارضهما تقابلَهما على جهةٍ واحدةٍ في الترجيح؛ فإن هذا كلامٌ متناقض، بل المراد: التعارض بحيث يَتَخَيَّل الناظرُ في ابتداء نظره [تساويهما](2)، فإذا حقَّق فكره. . رجَّح.

(لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس) أي: من حيث الحلُّ والحرمة لخفاء النص فيه؛ لكونه لم ينقله إلا القليل، أو لتعارض نصَّينِ فيه من غير معرفة المتأخر، أو لعدم نصٍّ

(1) فيه لفٌّ ونشرٌ مرتَّبٌ؛ فقوله: (في بعض كلماتها) عائدٌ على (الفاتحة)، و (أو هل استجمر. .) عائدٌ على الاستنجاء، و (أو هل استوعب. .) عائدٌ على غسل الثوب.

(2)

ليست في النسخ، ولا بد منها لتتضح العبارة، وهي مثبتةٌ من "المواهب السنية شرح منظومة الفوائد البهية في القواعد الفقهية"(1/ 227) للعلامة عبد اللَّه بن سليمان الجرهزي رحمه اللَّه تعالى، حيث نقل فيه كلام الإمام هذا بنصه، قال العلامة ياسين الفاداني رحمه اللَّه تعالى في حاشيته على "المواهب السنية" المسماة:"الفوائد الجنية"(1/ 227): (قوله: "تساويهما" أي: يظهر في خيال المجتهد عند بادئ أمره أن الأصلين متساويان) وهذا أولى من قول العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى في "حاشيته" عليها: (قوله: "بحيث يتخيل الناظر" أي: التعارض) حيث لم تكن الزيادة في نسخته، واللَّه أعلم.

ص: 238

صريحٍ فيه، وإنما يؤخذ من عمومٍ أو مفهومٍ أو قياسٍ، وهذا يكثر اختلافُ أفهامِ العلماء فيه، أو لاحتمال الأمر فيه للوجوب والندب (1)، والنهي للكراهة والحرمة، أو لنحو ذلك.

ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يوافق الحقَّ قولُه، فيكون هو العالم بهذا الحكم، وغيره يكون الأمر مشتبهًا عليه كما يأتي.

وخرج بالحيثية التي ذكرتُها علمهُنَّ من حيث إشكالهنَّ؛ لترددهنَّ بين أمورٍ محتملة؛ لأن علم كونهنَّ مشتبهات يستلزم علمهنَّ من هذه الحيثية.

أما النادر من الناس وهم الراسخون في العلم. . فلا يشتبه عليهم ذلك؛ لعلمهم من أيِّ القسمين هو بنصٍّ، أو إجماعٍ، أو قياسٍ، أو استصحابٍ، أو غير ذلك.

فإذا تردَّد شيءٌ بين الحل والحرمة، ولم يكن فيه نصٌّ ولا إجماعٌ. . اجتهد فيه المجتهد، وأخذ بأحدهما بالدليل الشرعي، فيصير مثله (2).

وقد يكون دليله غير خالٍ عن الاحتمال، فيكون الورع تركه، كما يرشد إليه قوله:"فمن اتقى الشبهات. . . إلخ"، وما لم يظهر للمجتهد فيه شيءٌ فهو باقٍ على اشتباهه بالنسبة للعلماء وغيرهم، ومثله ما لم يتنازعه شيءٌ مما مر، لكن لم يتيقَّن سبب حله ولا حرمته؛ كشيءٍ وجده ببيته ولم يدر هل هو له أو لغيره، وتقوى الشبهة بأن يكون هناك محظورٌ من جنسه ويشك هل هو منه أو من غيره؟ وحينئذٍ اختلفوا فيما يؤخذ به، فقيل: بحله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم الآتي: "كالراعي. . . إلخ" فتكره مواقعته، والورع تركها؛ لأنه -أعني الورع- عند ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما ومن تبعه: تركُ قطعة من الحلال خوف الوقوع في الحرام.

وقيل: بحرمته؛ لأنه يوقع في الحرام، ولقوله صلى الله عليه وسلم الآتي:"فمن اتقى الشبهات. . . إلخ".

وقيل: لا يقال فيه واحدٌ منهما؛ لأنه صلى الله عليه وسلم جعله قسيمًا لهما.

(1) قوله: (فيه) أي: في النص.

(2)

أي: مثل أحدهما بمعنى أنه يصير حلالًا إن أدَّاه اجتهاده إلى الحل، وحرامًا إن أداه إلى الحرمة. اهـ هامش (ج)

ص: 239

قال القرطبي: (والصواب: الأول)(1)، وقال المصنف:(الظاهر: أن هذا الخلاف مخرجٌ على الخلاف المعروف في الأشياء قبل ورود الشرع، وفيه أربعة مذاهب، والأصح: أنها لا يحكم فيها بحلٍّ ولا حرمةٍ، ولا إباحةٍ ولا غيرها؛ لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع) اهـ (2)، واعترضه جماعةٌ من المتأخرين كما بيَّنتُه مع الجواب عنه في "شرح العباب" في (باب النجاسة).

قال القرطبي: (ودليل الحل: أن الشرع أخرجها من قسم الحرام، وأشار إلى أن الورع تركها بقوله صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك")(3).

ومن عبَّر بـ (أنها حلال يتورع عنها). . أراد بـ (الحلال) مطلق الجائز الشامل للمكروه، بدليل قوله:(يتورع عنها) لا المباح المستوي الطرفين؛ لأنه لا يتصور فيه ورعٌ ما داما مستويين، بخلاف ما إذا ترجَّح أحدهما؛ فإنه إن كان الراجح الترك. . كُره، أو الفعل. . نُدب.

لا يقال: هو صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه زهدوا في التنعُّم في المأكل وغيره مع إباحته؛ لأنا نمنع إباحته بأنهم إنما زهدوا في مُترجِّح الترك شرعًا، وهذه حقيقة المكروه، لكنه تارةً يكرهه الشرع لذاته؛ كأكل متروك التّسمية عندنا، وتارةً يكرهه لخوف مفسدةٍ تترتَّب عليه؛ كالقُبْلة لصائمٍ لم تحرِّك شهوته (4)، وتركهم التنعم من هذا؛ لأنه يترتب عليه مفاسد حالية كالركون للدنيا، ومآلية كالحساب عليه في الآخرة، وعدم القيام بشكره، وغير ذلك.

والدليلُ على أن ترك الشبهات ورعٌ: قولُه صلى الله عليه وسلم لمن تزوج امرأةً -فقالت له سوداء: قد أرضعتكما-: "أليس وقد قيل؟! دعها عنكَ"(5).

(1) انظر "المفهم"(4/ 488).

(2)

انظر "شرح صحيح مسلم"(11/ 28).

(3)

انظر "المفهم"(4/ 488).

(4)

المعتمد: أن القُبْلة للصائم إن حركت شهوته: بأن خاف الإنزال أو الجماع. . حرمت، وإن لم تحرك شهوته. . كانت خلاف الأَولى، وعبارة "المنهج": وحَرُم نحو لمسٍ إن حرك شهوة، وإلَّا. . فتركه أولى. اهـ "مدابغى"

(5)

أخرجه البخاري (2660)، والترمذي (1151)، والنسائي (6/ 109) عن سيدنا عقبة بن الحارث رضي الله عنه.

ص: 240

وقوله لزوجته سودة رضي اللَّه تعالى عنها لمَّا اختصم أخوها عبد وسعد بن أبي وقاص في ابنِ وليدةِ أبيها زمعة (1)، فألحقه صلى الله عليه وسلم بأبيها بحكم الفراش، ولكنه رأى فيه شبهًا بيِّنًا بعتبة أخي سعد:"احتجبي منه يا سودة"(2).

قال جمهور العلماء: الإفتاء الأول تحرزٌ عن الشبهة، وحثٌّ على الأحوط؛ خوفًا من الوقوع في فرجٍ محرمٍ بتقدير صدق المرضعة، لا تحريمٌ صِرْفٌ؛ للإجماع على أن شهادة امرأةٍ واحدةٍ غيرُ كافيةٍ في مثل ذلك، والثاني كذلك؛ لأنه حكم بأنه أخوها، فأَمْرُها بالاحتجاب منه مجردُ احتياط؛ نظرًا إلى ما فيه من الشَّبَهِ البيِّنِ بعتبة، المقتضي كونَهُ أجنبيًا عنها، وهذا مُؤْذِنٌ بأنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم باطن الأمر، وإلَّا. . لما أمرها بذلك، ودالٌّ على أنه ينبغي للمفتي أن يجيب بالاحتياط في النوازل المحتملة للتحريم والتحليل؛ لاشتباه أسبابها عليه وإن علم حكمها يقينًا باعتبار ظاهر الشرع، وممَّن صرَّح بما مر تصويبه (3) ابنُ المنذر، حيث قال: ما تيقن حرمته وشك في بقاء سبب تحريمه باقٍ على أصل تحريمه، وعكسه في الحلال؛ لخبر:"فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا"(4).

وما احتملهما ولا مرجح لأحدهما. . الأحسن: التنزه عنه، كما تنزه صلى الله عليه وسلم عن تمرةٍ ساقطةٍ في بيته وقال:"لولا أخشى أن تكون من الصدقة. . لأكلتها"(5).

وإذا تقرر أن المشتبه مترددٌ بين الحرام والحلال؛ لتعارض سببهما، وتنازع دليلهما، وأن الأَوْلى والأحوط: التنزه عنه خوفًا من الوقوع في الحرام على أحد التقديرين، وعلم أن المشتبهات على قسمين بالنسبة لمن هي مشتبهة عليه (6)، وعلي

(1) أي: جارية أبيها.

(2)

أخرجه البخاري (2053)، ومسلم (1457) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

(3)

أي: عن الإمام القرطبي رحمه اللَّه تعالى.

(4)

أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361) عن سيدنا عبد اللَّه بن زيد رضي الله عنه.

(5)

أخرجه البخاري (2055)، ومسلم (1071) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(6)

المتقي منها للاشتباه، والواقع فيها مع الاشتباه. (عردي) اهـ هامش (غ)

ص: 241

ثلاثة أقسام لا بالنسبة لذلك (1): مُتَّقِيها (2)، والواقعِ فيها مع اشتباهها عليه، والواقعِ فيها لا مع اشتباه، بأن يعلم حكمها. . اقتصر صلى الله عليه وسلم على القسمين الأولين، وحذف هذا الثالث؛ لظهور حكمه فقال:(فمن اتقى) من التقوى، وهي لغة: جعل النفس في وقايةٍ مما يخاف، وشرعًا: حفظ النفس عن الآثام وما يجرُّ إليها، وهي في عرف الصوفية -قدس اللَّه تعالى أرواحهم-: التبري مما سوى اللَّه سبحانه وتعالى بالمعنى المعروف المقرر عندهم.

وعدل إلى (اتقى) عن (ترك) المرادف له هنا؛ ليفيد أن تركها إنما يعتد به في استبراء الدين والعرض إن خلا عن رياء ونحوه وإن صحبه قصد براءة أحدهما فقط.

(الشبهات) فيه إيقاع الظاهر موقع المضمر؛ تفخيمًا لشأن اجتناب الشبهات؛ إذ هي المشتبهات بعينها، والشبهة: ما يُخيَّل للناظر أنه حجةٌ وليس كذلك، وأُريد بها هنا ما مر في تعريف المشتبه.

(فقد استبرأ) بالهمز، وقد يُخفَّف؛ أي: طلب البراءة (لدينه) من الذم الشرعي وحصَّلَها له، كاستبرأ من البول: حصَّل البراءة منه.

(وعرضه) بصونه عن كلام الناس فيه بما يَشينه ويَعيبه، فهو هنا الحسب؛ وهو: ما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه، وصونه عن الشين والعيب من آكد ما يعتني به ذوو المروءات والهمم.

وقيل: النفس؛ لأنها التي يتوجَّه إليها الذم والمدح من الإنسان، وفسَّره بعضهم بما يعمهما، فقال: هو موضع الذم والمدح من الإنسان، وذلك إما في نفسه، أو سلفه، أو أهله، وحينئذٍ يسلم من العذاب والذم والعيب على كل تقدير، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء اللَّه تعالى وثوابه، وثناء رسله وخلقه، وروى الترمذي:"لا يكفي أحدًا أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به بأس"(3).

(1) في نسخة المحقق محمد الهجوي: (على قسمين لا بالنسبة لمن هي مشتبهة عليه، وعلي ثلاثة أقسام بالنسبة لذلك: متقيها. . .) وهو الظاهر فيما نظن، واللَّه تعالى أعلم. اهـ هامش (غ)

(2)

قوله: (متقيها) بدل من (ثلاثة) في قوله: (وعلي ثلاثة أقسام). وفي أكثر النسخ: (تيقنها).

(3)

سنن الترمذي (2451) عن سيدنا عطية السعدي رضي الله عنه.

ص: 242

وجاء في الأثر: (من وقف موقف تهمةٍ -وفي رواية: من عرض نفسه للتهم- فلا يأمن من إساءة الظن به)(1).

وقد قال صلى الله عليه وسلم لمن رأياه مع امرأةٍ فَهَرْوَلَا: "على رِسْلكما؛ إنها صفية" خوفًا عليهما لمن يظنا به شيئًا فيهلكا، ولم ينظر إلى أن وقوع ذلك منهما بعيدٌ جدًا، ومن ثَمَّ لما أشارا لذلك. . قال لهما:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"(2).

وفي عطف العِرض على الدين دليلٌ على أنَّ طلبَ براءتِهِ مطلوب ممدوحٌ كطلب براءة الدين، ومن ثَمَّ ورد:"ما وقي به العرض. . فهو صدقة"(3)، وعلي طلب نزاهته (4) مما يظنه الناس شبهة ولو ممن علم عدمها في نفس الأمر.

ومن ثَمَّ لما خرج أنس رضي اللَّه تعالى عنه لصلاة الجمعة، فرأى الناس راجعين منها. . دخل محلًّا لا يرونه وقال:(من لا يستحيي من الناس لا يستحيي من اللَّه)(5)، ورفْعُ الطبراني له غير صحيحٍ (6).

ولو أمره أحد أبويه بأخذ أو بأكل شبهة. . فقال الإمام أحمد: لا يطيعهما، وقال بعض السلف: يطيعهما، وتوقَّف آخرون (7).

(1) أخرج نحوه ابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(44/ 359)، وابن أبي الدنيا في "الصمت"(747)، وعزاه الإمام السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 566) إلى الزبير بن بكار في "الموفقيات" كلهم أخرجوه من كلام سيدنا عمر رضي الله عنه، ولفظه في "تاريخ دمشق":(من كتم سره. . كانت الخيرة في يده، ومن عرض نفسه للتهمة. . فلا يلومنَّ من أساء به الظن، ولا تظننَّ بكلمةٍ خرجت من أخيك سوءًا تجد لها في الخير مدخلًا، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تكثر الحلف فيهينك اللَّه، وما كافأت من عصى اللَّه فيك بمثلِ أن تطيع اللَّه فيه، وعليك بإخوان الصدق: اكتسبهم؛ فإنهم زينٌ في الرخاء، عُدةٌ عند البلاء).

(2)

أخرجه البخاري (3281)، ومسلم (2175) عن أم المؤمنين سيدتنا صفية بنت حيي رضي الله عنها.

(3)

أخرجه الحاكم (2/ 50)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 242)، والدارقطني في "سننه"(3/ 28) عن سيدنا جابر رضي الله عنه بنحوه.

(4)

أي: ودليل على طلب نزاهته.

(5)

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5435)، وابن عساكر في "تاريخ مدينة دمشق"(19/ 332) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(6)

انظر "المعجم الأوسط"(7155) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(7)

قوله: (ولو أمره أحد أبويه بأخذ أو بأكل شبهة. . . إلخ) قال في "المشكاة": والذي يتجه: أن الشبهة إن خفَّت ولم يكن على الولد في ذلك ضررٌ بوجهٍ، وكان إن لم يفعل ذلك تأذَّى الوالد أذًى ليس بالهيِّن. . جاز، وإلَّا. . فلا. اهـ "مدابغي"

ص: 243

ولاستحالة اتقاء ما لا يعرف كان اتقاء الشبهات يستدعي تفاصيلها بذكر جُملٍ منها، وهي أن الشيء إذا لم يتنازعه دليلان. . فهو حلالٌ بيِّن، أو حرامٌ بيِّن، وإن تنازعه سبباهما؛ فإن كان سبب التحريم مجرد توهمٍ وتقدير، لا مستند له، كترك النكاح من نساء بلدٍ كبير خشية أن له فيها محرمًا بنسبٍ، أو رضاعٍ، أو مصاهرةٍ، واستعمال ماء بمجرد احتمال وقوع نجاسة فيه. . أُلغي ولم يلتفت إليه بكل حال (1)؛ لأن ذلك التجويز هَوَسٌ، فالورع فيه وسوسةٌ شيطانية؛ إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيءٌ، وليس منه تركه صلى الله عليه وسلم لأكل التمرة السابق ذكرها آنفًا؛ لأن احتمال كونها من الصدقة غير بعيد؛ لكثرة إتيانهم بصدقاتِهم التمرِ للمسجد، وحجرته ملتصقةٌ به، فخشي انتثار تمرةٍ منه إلى حجرته، أو أن نحو صبيٍّ دخل بها، فهو احتمالٌ قريبٌ، فتورَّع نظرًا له.

وإن كان سببه له نوعَ قوةٍ. . فالورع مراعاته؛ كما مر في قضية المرضعة وسودة، ومن ثَمَّ سن مراعاة الخلاف الذي لم يعارض سنةً صحيحةً، ولا ضعُف مدركه جدًا؛ لاحتمال أنه الحق؛ إذ المصيب في الفروع واحدٌ لا بعينه، فإن لم يكن له نوع قوة. . لم يتوقف لأجله؛ لأنه ملحقٌ بالقسم الأول.

وإن تكافأ السببان. . تأكد الورع فيه، ولم يجب التوقف فيه إلى الترجيح، خلافًا لبعضهم؛ لأن الأصل: الحل، فاندفع قوله: الإقدامُ على أحد الأمرين من غير رجحانٍ حكمٌ بغير دليلٍ فيحرم؛ إذ لا دليل مع التعارض، ولعل من حرَّم مواقعة الشبهة. . أراد هذا النوع، ومن كرهها. . أراد الذي قبله. اهـ

(ومن وقع في الشبهات. . وقع في الحرام)(2) أي: كان بصدد الوقوع فيه؛ لأن من أكثر تعاطيها. . ربما صادف الحرام المحض وإن لم يتعمَّده، وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير، ولأن التجرؤ عليها مع اعتياد مواقعتها يوجب تساهلًا وجراءةً

(1) قوله: (واستعمال ماء. . . إلخ) أي: وترك استعمال. . . إلخ.

(2)

قوله: (وقع في الحرام) يحتمل ثلاثة معان: أحدها: مَن أكثر من تعاطي الشبهات. . كان بصدد الوقوع في الحرام؛ فتارة يقع فيه وتارة لا، والثاني: أنه يصادف الحرام وهو لا يشعر به، والثالث: أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهة أغلظ منها، وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا. اهـ "مدابغي"

ص: 244

يحملانه عادةً على الحرام المحض (1)، ومن ثَمَّ قيل: الصغيرة تجرُّ للكبيرة، وهي تجر للكفر، وهو معنى قول السلف -وقيل: إنه حديث-: (المعاصي بريد الكفر)(2)، المؤيد بقوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .

وبرواية "الصحيحين" في هذا الحديث: "ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم. . أوشَكَ أن يواقع ما استبان"(3) أي: الحرام الذي ظهر.

وبرواية غيرهما: "ومن يخالط الريبة. . يوشك أن يجسر على الحرام المحض"(4) والجَسور: المقدام الذي لا يهاب شيئًا، ولا يراقب أحدًا.

وفي بعض المراسيل: "من يرعى بجانب الحرام. . يوشك أن يخالطه، ومن تهاون بالمحقرات. . يوشك أن تخالطه الكبائر"(5).

ثم ضرب صلى الله عليه وسلم مثلًا لمحارم اللَّه فيه أحسن التنبيه، وآكد التحذير، وأصله: أن ملوك العرب كانوا يحمون مراعيَ لمواشيهم، ويتوعَّدون من دخلها بالعقوبة، فيَبْعُد الناس عنها؛ خوفًا من تلك العقوبة، فقال:(كالراعي) أصله: الحافظ لغيره، ومنه قيل للوالي: راعي، وللعامة: رعية، وللزوجة والقِنِّ: راعيان في مال الزوج والسيد، ونحو ذلك، ثم خُصَّ عرفًا بحافظ الحيوان كما هنا.

(يرعى حول الحمى) أي: المحمي؛ وهو: المحظور على غير مالكه (6).

(يوشِك) بكسر الشين مضارع أوشك بفتحها، وهو من أفعال المقاربة، ومعناها

(1) في بعض النسخ: (يوجب تساهلًا وجرأة يحملانه عادة على الجرأة على الحرام).

(2)

أخرجه البيهقي في "الشعب"(6831)، وأبو نعيم في "الحلية"(10/ 229) عن أبي حفص النيسابوري رحمه الله من كلامه.

(3)

صحيح البخاري (2051) والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 264) وعزاه للبخاري ومسلم، وقال:(وأخرجه مسلم من وجه آخر عن أبي فروة) وهو رواية ذكر مسلم السند فيها فقط بحد الحديث (1599)، كلهم أخرجه عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما.

(4)

أخرجه أبو داوود (3329)، والنسائي (7/ 241)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 334) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما بنحوه.

(5)

عزاه الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(1/ 205) إلى "مراسيل أبي المتوكل الناجي".

(6)

قوله: (على غير مالكه) بأن يمنع الإمام أو نائبه من رَعْيِ مكانٍ لأجل مواشي الصدقة أو خيل المجاهدين. اهـ هامش (غ)

ص: 245

هنا: يسرع (أن يرتع) بفتح التاء فيه وفي ماضيه.

"فيه" أي: تأكل ماشيته منه فيعاقب، وأصله: الإقامة والتبسُّط في الأكل والشرب، ومنه قول إخوة يوسف:{نرتع ونلعب} (1)، فكما أن الراعي الخائف من عقوبة السلطان يبعد؛ لأنه يلزم من القرب غلبة الوقوع وإن أكثر الحذر، فيعاقب. . كذلك حمى اللَّه سبحانه وتعالى، أي: محارمه التي حظرها، لا ينبغي قرب حماها، فضلًا عنها؛ لغلبة الوقوع فيها حينئذ، فيستحق العقوبة، وإنما الذي ينبغي تحري البعد عنها وعما يجر إليها من الشبهات ما أمكن، حتى يسلم من ورطتها، ومن ثَمَّ قال تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} نهى عن المقاربة حذرًا من المواقعة، وقد حُرِّمت أشياء كثيرة مع أنه لا مفسدة فيها؛ لأنها تجر إليها؛ كقليل المسكر، وقُبْلة الصائم ممن خاف، والخلوة بالأجنبية.

قال شارح مالكي: (فيه دليل لسد الذرائع) اهـ، وفي إطلاقه نظر؛ لأنه إن أُريد مطلق سدها. . فواضح؛ إذ المذاهب الأربعة لا تخلو من ذلك، وإن أُريد خصوصه عند مالك. . فلا دليل فيه لهذا الخصوص.

(أَلَا) حرف استفتاح كـ (أَمَا) لكن الأُولى يتعيَّن كسر (إن) بعدها، والثانية يجوز فيها الكسر والفتح، كالواقعة بعد (إذا)، والقصد به (2) إعلام السامع بأن ما بعده مما ينبغي أن يصغي إليه، ويفهمه، ويعمل به لعظم موقعه.

(وإن لكل ملِك) من ملوك العرب (حمى) يحميه عن الناس، ويتوعَّد من دخل إليه، أو قرب منه بالعقوبة الشديدة، وقد حمى صلى الله عليه وسلم حرم المدينة عن أن يُقطَع شجرُه، أو يصاد صيده (3)، وحمى عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة أرضًا ترعى فيها (4).

(1) هكذا في النسخ، وهي قراءة الإمام ابن كثير رحمه اللَّه تعالى قرأها بفتح النون فيهما وكسر العين في (نرتع)، وقرأ الإمامان أبو عمرو وابن عامر رحمهما اللَّه تعالى (نرتَعْ ونلعبْ) بالنون فيهما وتسكين الباء والعين. انظر "الحجة للقراء السبعة"(4/ 402) للإمام أبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي رحمه اللَّه تعالى.

(2)

أي: بحرف الاستفتاح.

(3)

أخرجه مسلم (1362)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(5/ 198)، وأبو يعلى في "مسنده"(2151) عن سيدنا جابر رضي الله عنه.

(4)

أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 146)، ومعمر بن راشد في "الجامع"(19751) عن سيدنا عمر رضي الله عنه.

ص: 246

(ألا وإن حمى اللَّه محارمه)(1) أي: المعاصي التي حرمها، وهي الجناية على النفس والعرض والمال وغيرها؛ كالقتل، والزنا، والسرقة، والقذف، والخمر، والكذب، والغيبة، والنميمة، وأكل المال بالباطل، وأشباه ذلك.

وتُطلَق المحارم على المنهيات مطابقة، وعلي ترك المأمورات استلزامًا، والإطلاق الأول أشهر، وعلي كل تقديرٍ فكل هذه حمى اللَّه تعالى، مَنْ دخله بارتكابه شيئًا من المعاصي. . استحق العقوبة، ومن قاربه. . يوشك أن يقع فيه، فمن احتاط لنفسه. . لم يقاربه، ولا يتعلق بشيءٍ يقربه من المعصية، ولا يدخل في شيءٍ من الشبهات.

وفي هذا السياق منه صلى الله عليه وسلم إقامة برهانٍ عظيمٍ على اجتناب الشبهات؛ إذ حاصله: أن اللَّه عز وجل مَلِك، وكل ملكٍ له حمًى يخشى من قربانه؛ لإيقاعه في أليم عذابه ممن قرب منه، فاللَّه سبحانه وتعالى له حمًى يُخشى منه كذلك، وهذا قطعي المقدمتين والنتيجة، فلا مساغ للتشكيك فيه.

وفي ذلك أيضًا: ضرب المثل بالمحسوس؛ ليكون أشد تصورًا للنفس، فيحملها على أن تتأدَّب مع اللَّه سبحانه وتعالى، كما تتأدب الرعايا مع ملوكهم.

ثم حضَّ صلى الله عليه وسلم وحثَّ وأكَّد على السعي في صلاح القلب وحمايته من الفساد، وبين أنه مع صغر حجمه سائر البدن تابع له صلاحًا وفسادًا فقال:(ألا وإن في الجسد) أي: البدن (مضغةً) هي: قدر ما يمضغ، كما مر، لكنها وإن صغرت في الحجم هي عظيمة في القدر، ومن ثَمَّ كانت (إذا صلحت) بفتح لامه وضمها، والفتح أشهر، كذا أطلقه كثيرون، وظاهره: أنه لا فرق بين أن يصير سجيةً وأن لا (2)، لكن قيَّد جمعٌ الضمَّ بما إذا صار سجية، وكذا يقال في (فَسَد).

وصلاحها بصلاح المعنى القائم بها، الذي هو مَلْحَظُ التكليف، ومن ثَمَّ كان الذي عليه الجمهور: أن العقل في القلب، كما يصرح به ترتب صلاح البدن -ومن جملته

(1) كرر حرف الاستفتاح؛ للدلالة على فخامة شأن مدخولها وعِظم موقعه.

(2)

في بعض النسخ: (أن يكون) بدل: (أن يصير).

ص: 247

الدماغ- وفسادِه على صلاح القلب وفساده في قوله صلى الله عليه وسلم: (صلح الجسد كله، وإذا فسدت. . فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) وذلك لأنه مبدأ الحركات البدنية، والإرادات النفسانية؛ فإن صدرت عنه إرادةٌ صالحة. . تحرك البدن حركةً صالحة، وإن صدرت عنه إرادةٌ فاسدة. . تحرك البدن حركةً فاسدة، فهو كملك والأعضاء كالرعية، ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح الملك، وتفسد بفساده، أو كعينٍ والبدن كمزرعة، فإن عذب ماؤها. . عذب الزرع، وإن مَلُح. . مَلُح، أو كأرضٍ والأعضاء كنباتٍ:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} .

وشاهد ذلك: أنه صلى الله عليه وسلم شُقَّ قلبه الكريم أربع مرات، عند انتقاله في الأطوار التي كل طورٍ منها يحتاج لتطهير، كما بيَّنتُه في "شرح شمائل الترمذي"(1) فشق عند طفوليته، ثم قرب بلوغه، ثم عند بلوغه أشدَّه أول ما أُوحي إليه، ثم عند الإسراء به، وأخرج منه علقة سوداء، وقيل له: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل بماء زمزم (2)، الذي هو أشرف المياه (3)، ومن هذا أخذ البلقيني أنه أفضل من ماء الكوثر، ونُوزع فيه بما رددته في "شرح العباب"، فلمَّا طهر قلبه صلى الله عليه وسلم؛ وبُولغ في تطهيره بما لم يبالغ به في غيره. . كان أفضل العالمين، ونبي الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم.

والحاصل: أن القلب محل الاعتقادات والعلوم والأفعال الاختيارية، فلكونه محلًّا لهذه الخصوصية الإلهية التي تدرك بها الكليات والجزئيات، ويفرق بها بين الواجب والجائز والمستحيل. . امتاز به الإنسان عن بقية أنواع الحيوان؛ لأنه وإن وجد لها شكله، وقام بها ما تدرك به مصالحها ومنافعها، وتميز به بين مفاسدها ومضارها إلا أن هذا إدراكٌ جزئي طبيعي، وشتان ما بينه وبين الإدراك الكلي العلمي

(1) انظر "أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل"(ص 57 - 58).

(2)

أخرج مسلم (162/ 261)، وابن حبان (6334)، والحاكم (2/ 528) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(3)

قال بعضهم مرتبًا أشرف المياه: (من الرجز)

وأفضل المياه ماءٌ قد نبَعْ

بين أصابع النبيِّ المتبعْ

يليه ماء زمزمٍ فالكوثرِ

فنيل مصر ثم باقي الأنهرِ

ص: 248

الاختياري؛ ولهذا المعنى امتاز أيضًا عن بقية الأعضاء بكونه أشرفها، ومن ثَمَّ كانت مسخَّرةً ومطيعةً له، فما استقر فيه. . ظهر عليها، وعملت بمقتضاه، إن خيرًا. . فخيرٌ، وإن شرًا. . فشرٌّ، فكان صلاحها بصلاحه، وفسادها بفساده.

وبهذا ظهر أن الحواس معه كالحُجَّاب مع الملِك؛ لأنها تدرك المعلومات أولًا، ثم تؤديها إليه ليحكم عليها، ويتصرف فيها، فهي آلاتٌ وخَدَمٌ له، وهي كما مر معه كملكٍ مع رعيته، إن صلح. . صلحوا، وإن فسد. . فسدوا، ثم يعود صلاحهم وفسادهم إليه بزيادة المصالح أو المضار الراجعة منها إليه، ومن ثَمَّ لم يكن بين تبعيتها له وتأثره بأعمالها تنافٍ؛ لما بينهما من تمام الملازمة وشدة الارتباط.

وقيل: بل هي معه كملك بنيت له خمس طاقات، يشاهد من كلٍّ منها مالا يشاهده من الأخرى؛ بدليل أن النائم لو فتحت عينه. . لم يدرك شيئًا حتى يستيقظ، فحينئذٍ يدرك، فلا إدراك للحواس بذاتها، وإنما المدرِك هو من ورائها.

ورُدَّ: بأن البهائم لا قلب لها بالمعنى الذي قررناه، وتدرك بالحواس، وكذلك المجنون، فدل على أنها مستقلةٌ بالإدراك، وعدم إدراك النائم يحتمل أنه لمعنًى قائم بنفس تلك الحواس، لا لعدم إدراك القلب.

وقد يسمى العقل قلبًا مبالغة؛ كما في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} أي: عقل، فلقيامه به وعدم انفكاكه عنه صار كأنه هو، ومن ثَمَّ أضاف تعالى إليه العقل، كما أضاف الإسماع إلى الأذن، والإبصار إلى العين، فقال:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .

وبهذه أيضًا يرد على مَنْ قال: إنه في الدماغ، ونسب لأبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، وعليه الأطباء، واحتجاجُهم بأنه إذا فسد. . فسد العقل غيرُ مفيد؛ لأن اللَّه سبحانه وتعالى أجرى العادة بفساده عند فساد الدماغ مع أنه ليس فيه، ولا امتناع من ذلك، قال الماوردي: لا سيما على أصولهم في الاشتراك الذي يذكرونه بين الدماغ والقلب، وهم يجعلون بين رأس المعدة والدماغ اشتراكًا، وفيه بسطٌ بينته في "شرح العباب" أوائلَ الخطبة.

ص: 249

وإذا بان أن صلاح القلب أعظم المصالح، وفساده أشد المفاسد. . فلا بد من معرفة ما به صلاحه ليطلب، وما به فساده ليجتنب، فالذي به صلاحه: علوم؛ وهي: العلم باللَّه تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاؤوا به مع العلم بأحكامه ومراده منها، والعلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها ومذمومها.

وأعمال؛ وهي: تحلِّيه بمحمودِ تلك الأوصاف، وتخلِّيه عن مذمومها، ومنازلته للمقامات، وترقِّيه عن مفضول المنازلات.

وأحوال؛ وهي: مراقبة اللَّه تعالى أو شهوده بحسب تهيئه واستعداده، كما مر في شرح قوله صلى الله عليه وسلم:"أن تعبد اللَّه كأنك تراه"(1)، وتفصيل ذلك في كتب العارفين كـ"الإحياء" و"قوت القلوب" فاطلبه؛ فإنه مهمٌّ.

قيل: وممَّا يصلحه تدبُّر القرآن، وخلو الجوف، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين (2)، ورأسُ ذلك الأعظمُ: تحرِّي أكل الحلال، واجتناب الشبهات؛ فإنها تورثه قسوةً وظُلمةً، وتجره إلى الحرام كما مر، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيمن غُذِي بالحرام:"يقول: يا رب، يا رب، فأنَّى يُستجاب لذلك؟! "(3).

وقال: "كل لحمٍ نبت من سُحتٍ. . فالنار أَولى به"(4).

وروى الترمذي عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الرجل لَيُصيب الذنب فيسودّ قلبه، فإن هو تاب. . صقل قلبه" قال: "وهو الران الذي ذكره اللَّه تعالى في كتابه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} "(5).

(1) انظر ما تقدم (ص 175) من شرح الحديث الثاني من أحاديث المتن.

(2)

ونظمها بعضهم -كما في "المدابغي"- فقال: (من البسيط)

دواءُ قلبك خمسٌ عند قسوتِهِ

فدُمْ عليها تفز بالخير والظفرِ

خلاء بطنٍ وقرآن تدبّرهُ

كذا تضرُّعُ باكٍ ساعة السحرِ

كذا قيامك جنح الليل أوسطه

وأن تجالسَ أهلَ الخيرِ والخبرِ

(3)

أخرجه مسلم (1015)، والترمذي (2989)، والإمام أحمد (2/ 328) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(19/ 135) عن عاصم العدوي رحمه اللَّه تعالى مرسلًا.

(5)

الترمذي (3334).

ص: 250

وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة. . . إلخ" بعد قوله: "الحلال بيِّن. . . إلخ" إشعارًا بأن أكل الحلال يُنوِّره ويُصلحه، وأكل الشبهة والحرام يُصْدئه ويقسيه ويظلمه، وقد وجد ذلك أهلُ الورع، حتى قال بعض أكابرهم: شربت من ركوة جنديٍّ شربةً، فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحًا.

ثم القلب لغةً: مشتركٌ بين كوكبٍ معروف، والخالص، واللب، ومنه قلب النخلة، بتثليث أوله، ومصدر قلبت الشيءَ: رددته على بدئه، والإناءَ: قلبته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه: صرفته عنه، ثم نُقل وسُمي به تلك المضغة السابقة؛ لسرعة الخواطر فيه، وترددها عليه، كما قيل:[من الطويل]

وما سُمِّيَ الإنسان إلا لنسيهِ

ولا القلب إلا أنه يتقلَّبُ

وفي الحديث: "إن القلب كريشةٍ بأرض فلاةٍ تقلبها الرياح"(1) لكنهم التزموا فتح (قافه) فرقًا بينه وبين أصله، ومن ثَمَّ قيل: ينبغي للعاقل أن يحذر من سرعة انقلاب قلبه؛ فإنه ليس بين القلْب والقلَب إلا التفخيم (2).

(رواه البخاري ومسلم) وقد أجمع العلماء على عظيم موقع هذا الحديث وكثرة فوائده؛ إذ منها: الحث على فعل الحلال، واجتناب الحرام، والإمساك عن الشبهات، والاحتياط للدين والعرض، وعدم تعاطي ما يسيء الظن أو يوقع في محذور، والأخذ بالورع، وأنه لا ورع في ترك المباح، وسد الذرائع وأكثرت منه المالكية، وتعظيم القلب، والسعي فيما يصلحه ويفسده، وأنه محل العقل، وأن العقوبة من جنس الجناية، وضرب الأمثال للمعاني الشرعية العملية، وأن الأعمال القلبية أفضل من البدنية، وأنها لا تصلح إلا به، وغير ذلك.

(1) أخرجه ابن ماجه (88)، والإمام أحمد (4/ 419)، والبيهقي في "الشعب"(738) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

(2)

قوله: (فإنه ليس بين) لفظ (القلب) بمعنى الفؤاد (وبين القلب) بمعنى الانقلاب (إلا التفخيم) أي: إلا تحريك وسط هذا، وسكون وسط دلك، فكما يصير القلْب الذي بالسكون إذا حرك وسطه بمعنى الانقلاب. . يسرع انقلاب الفؤاد من حال إلى حال. (محمد طاهر) اهـ هامش (غ)

ص: 251

وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نبَّه فيه على صلاح المطعم والمشرب والملبس وغيرها، وعلى أنه ينبغي أن يحافظ على صلاح ذلك وخلوصه من الشُّبَهِ؛ ليحمي دينه وعرضه، وحذَّر من مواقعة الشُّبَه، وأوضح ذلك بضرب ذلك المثل العظيم، ثم بيَّن أهم الأمور، وهو مراعاة القلب، الذي بصلاحه تنصلح سائر أموره الظاهرة والباطنة، وبفساده تفسد جميعها.

ومن ثم قيل: جَعْلُ طائفةٍ هذا الحديثَ ثلثَ الإسلام أو ربعَهُ استرواحٌ (1)، وإلَّا. . فلو أمعنوا النظر فيه من أوله إلى آخره. . لوجدوه متضمنًا لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها؛ لأنه بُيِّنَ فيه الحلالُ وقسيماه مع ما يتعلَّق بها مما أشرنا إليه في شرحها، وصلاح القلب وفساده، وأعمال الجوارح التابعة له، والورع الذي هو أساس الخيرات، ومنبع سائر الكمالات.

ومن ثم قال الحسن: (أدركنا قومًا كانوا يتركون سبعين بابًا من الحلال خشية الوقوع في بابٍ من الحرام)(2).

وهذه الجملة التي اشتمل عليها مستلزمةٌ لمعرفة تفاصيل الشريعة كلها أصولها وفروعها.

* * *

(1) أي: تساهل وراحة.

(2)

ذكره في "إحياء علوم الدين"(3/ 268) وقال: (بلغني أن بعض الصحابة قال. . .)، وذكره الإمام القشيري رحمه اللَّه تعالى في "الرسالة"(ص 90) من قول سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

ص: 252