الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]
انتفاء القبول قد يُؤْذن بانتفاء الصحة؛ كما في: "لا يقبل اللَّه صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ"(1) ويفسر القبول حينئذٍ بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء (2)، وقد لا، كما في الآبق، ومَنْ سخط عليها زوجها، وآتي العرَّاف، وشارب الخمر لا تُقبل لهم صلاةٌ أربعين يومًا، ويُفسَّر القبول حينئذٍ بالثواب، ومنه خبر أحمد الآتي:"من صلَّى في ثوبٍ قيمته عشرة دراهم فيه درهم حرام. . لم يقبل اللَّه له صلاة"(3) ويميز بين هذينِ الاستعمالينِ بحسب الأدلة الخارجية (4).
وأما القبول من حيث ذاتُهُ. . فلا يلزم من نفيه نفي الصحة وإن لزم من إثباته إثباتُها.
قيل: (وللقبول معنًى ثالثٌ؛ وهو الرضا بالعمل، ومدح فاعله، والثناء عليه بين الملائكة، والمباهاة به) انتهى، وفيه نظر؛ لأن مرجع ذلك إلى المعنى الثاني وهو الثواب؛ إذ لا فائدة له إلا إعلام الملائكة بمرتبته ليخصُّوه بمزيد دعاءٍ واستغفارٍ، وهذه الجملة توطئةٌ وتأسيسٌ لما هو المقصود بالذات من سياق هذا الحديث، وهو طيب المطعم لحيازة الكمال المستلزم لإجابة الدعاء غالبًا.
واستفيد مما قررته: أن الطيب يأتي بمعنى الطاهر، وبمعنى الحلال -وقد مرَّا- وبمعنى المستلذ طبعًا.
(وإن اللَّه) تعالى (أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين) فسوَّى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال، وفيه أن الأصل: استواؤهم مع أممهم في الأحكام إلا ما قام الدليل على أنه مختصٌّ بهم.
(1) أخرجه البخاري (6954)، ومسلم (225) عن سيدنا أيي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قوله: (ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء) كترتب سقوط الطلب على المكلف المطلوب منه الصلاة على الطهارة مثلًا. اهـ "مدابغي"
(3)
انظر "مسند الإمام أحمد"(2/ 98) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه فيه:"من اشترى ثوبًا" فليتنبه.
(4)
قوله: (هذين الاستعمالين) أي: القبول والثواب.
(فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}) أي: ملكناكم، وقد يأتي في بعض المواضع بمعنى نفعناكم، وهي جمع طيب؛ وهو: الحلال الخالص من الشُّبهة؛ لأن الشرع طيَّبه لآكله وإن لم يستلذه.
وعن الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: أنه المستلذ؛ أي: شرعًا، وإلَّا. . فلذيذ الطعام غير المباح وبالٌ وخسار، فيكون طعامًا ذا غُصَّةٍ وعذابًا، فهو بمعنى ما قبله، خلافًا لمن فهم تغايرًا بينهما (1)، فاعترض الشافعي بأن الخنزير ألذ اللحم على الإطلاق، وهو حرامٌ إجماعًا، ونحو الصَّبِر لا لذة فيه، وهو حلالٌ إجماعًا.
نعم؛ قد يراد بالطيب أخص من الحلال، وهو المستلذ طبعًا، وذلك في نحو قوله تعالى:{كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} على أنه كما يحتمل ذلك يحتمل أن يكون تأكيدًا، لكن التأسيس خيرٌ منه.
وقد تشير هذه الآية إلى أن الحرام رزقٌ، وهو ما عليه أهل السنة، خلافًا للمعتزلة، ودليلنا من الكتاب:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، ومن السُّنة:"إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها"(2) فدل على أن جميع ما أكلته كلُّ نفسٍ رزقُها، حلالًا كان أو حرامًا، وإجماعُ الأمة أن اللَّه تعالى يرزق البهائمَ ما تأكله، والطفلَ ما يشربه من اللبن، وليس بمِلْكٍ لهما، فدلَّ على أن الرزق لا يشترط فيه الملك.
قال أبو هريرة: (ثم) بعد ما سبق ذكره استطرد صلى الله عليه وسلم الكلام حتى (ذكر الرجل يطيل السفر) صفة لـ (الرجل) لأن (أل) فيه جنسية، فيه إشارة إلى أن السفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء، وبه يُصرِّح حديث أبي داوود والترمذي وابن ماجه: "ثلاث دعواتٍ مستجاباتٍ لا شك فيهنَّ: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر،
(1) أي: بين الحلال والمستلَذ.
(2)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 4)، وابن ماجه (2144)، والبيهقي في "الكبرى"(5/ 265) عن سيدنا جابر رضي الله عنه بنحوه.
ودعوة الوالد لولده" (1) وطوله أقرب إلى الإجابة؛ لأنه مظِنَّة انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحمُّل المشاق، والانكسار من أعظم أسباب الإجابة.
(أشعث) أي: جعد الرأس (أكبر) أي: غيَّر الغبار لونه؛ لطول سفره في الطاعات؛ كحجٍّ، وجهادٍ، وزيارة رحمٍ، وكثرةِ عنائه ومشقته، ومع ذلك لا يُستجاب له؛ لما يأتي، فكيف بمن هو منهمكٌ في الغفلة والمعاصي؟!
وفي هذا أيضًا إشارة إلى أن رثاثة الهيئة من أسباب الإجابة، ومن ثَمَّ قال صلى الله عليه وسلم:"رُبَّ أشعث أغبر، ذي طمرين، مدفوعٍ بالأبواب، لو أقسم على اللَّه. . لأبره"(2)؛ ولأجل هذا نُدِب ذلك في الاستسقاء.
(يمد) صفة رابعة بالاعتبار السابق (يديه) عند الدعاء (إلى السماء) قائلًا: (يا رب) أعطني كذا (يا رب) جنبني كذا، فيه رفع اليدين في الدعاء، وهو سنةٌ في غير الصلاة، وفيها في القنوت؛ اتباعًا له صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث:"إن اللَّه تعالى حيِيٌّ كريمٌ، يستحيي من عبده أن يرفع إليه كفيه ثم يردهما صِفْرًا خائبتين" رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجه (3).
وحكمته: اعتياد العرب رفعَهما عند الخضوع في المسألة والذِّلة بين يدي المسؤول، وعند استعظام الآمر، والداعي جديرٌ بذلك؛ لتوجهه بين يدي أعظم العظماء، ومن ثم ندب الرفع عند تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع منه، والقيام من التشهد الأول؛ إشعارًا للمصلي بأنه ينبغي له أن يستحضر عظمة مَنْ هو بين يديه، حتى يُقْبل بكلِّيَّته وظاهره وباطنه على ما هو فيه.
(1) سنن أبي داوود (1536)، وسنن الترمذي (1905)، وابن ماجه (3862) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه مسلم (2622) والترمذي (3854) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أنس رضي الله عنهما. وقوله: (لو أقسم على اللَّه. . لأبره) أي: لو حلف على وقوع شيء. . أوقعه اللَّه تعالى؛ إكرامًا بإجابة سؤاله وصيانته عن الحنث بيمينه، وهذا لعظم منزلته عند اللَّه وإن كان حقيرًا عند الناس، وقيل: معنى القسم هنا الدعاء، وإبراره إجابته. اهـ "مدابغى"
(3)
مسند الإمام أحمد (5/ 438)، وسنن أبي داوود (1488)، وسنن الترمذي (3556) عن سيدنا سلمان رضي الله عنه. وقوله:(صِفْرًا) بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء وراء مهملة؛ أي: خاليتين خائبتين من عطائه.
وجاء: أنه صلى الله عليه وسلم كان عند الرفع تارةً يجعل بطون يديه إلى السماء، وتارة يجعل ظهورهما إليها، وحملوا الأول على الدعاء بحصول مطلوبٍ أو دفع ما قد يقع به من البلاء، والثاني على الدعاء برفع ما وقع به من البلاء، وروى مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم فعل الثاني في الاستسقاء (1)، وأحمد: أنه صلى الله عليه وسلم فعله وهو واقفٌ بعرفة (2).
وجاء أيضًا: أنه رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها، وجعل بطونهما مما يلي وجهه (3)، وورد عكس هذه في الاستسقاء أيضًا (4).
وحكمة رفعهما إلى السماء: أنها قبلة الدعاء، ومن ثَمَّ كانت أفضل من الأرض على الأصح؛ لأنه لم يُعص اللَّه فيها (5)، وقيل: الأرض أفضل؛ لأنها مدفن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (6).
وفيه أيضًا: الإشارة إلى عظيم جلال اللَّه وكبريائه، وأنه تعالى فوق كل موجودٍ مكانةً واستيلاءً، لا مكانًا وجهةً، تعالى اللَّه عمَّا يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.
وفي تكرير: (يا رب، يا رب) إشارة إلى أن من أسباب الإجابة، بل من أعظمها الإلحاح على اللَّه تعالى بثناءٍ حسن، وذكر فضل كرمه، وعظيم ربوبيته، ومن ثَمَّ خرَّج البزار مرفوعًا:"إذا قال العبد: يا رب، أربعًا. . قال اللَّه سبحانه وتعالى: لبيك عبدي، سل تعطه"(7)، وروى الطبراني وغيره أن قومًا شكوا إليه صلى الله عليه وسلم
(1) أخرج مسلم (896) عن سيدنا أنس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى، فأشار بظهر كفيه إلى السماء).
(2)
مسند الإمام أحمد (3/ 13) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3)
أخرج البخاري (1031)، ومسلم (895) ذلك عن سيدنا أنسٍ رضي اللَّه عه.
(4)
أخرجه أبو داوود في "سننه"(1171) عن سيدنا أنس رضي عنه.
(5)
أي: لم تستمر معصية فيها، فلا ينافي أن إبليس عصى فيها. اهـ هامش (ج)
(6)
انظر تفصيل السيد السمهودي رحمه اللَّه تعالى في "وفاء الوفا"(1/ 29). وقال البرهان اللقاني رحمه اللَّه تعالى: والخلاف في غير البقعة التي ضمت أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم، أما هي. . فأفضل حتى من الجنة والعرش والكرسي. اهـ "مدابغي"
(7)
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 162) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها، وعزاه للبزار.
قحوط المطر، فقال:"اجثوا على الرُّكَب وقولوا: يا رب، يا رب" ففعلوا فسُقُوا (1)؛ ولأجل ذلك كان غالب أدعية القرآن مفتتحًا بذكر الرب.
(ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي) بضم أوله المعجم، وكسر ثانيه المعجم المخفف (بالحرام) أحوال؛ أي: أنه يطيل السفر في القُرَب، ويمد يديه إلى ربه يسأل منه، والحال أنه ملابسٌ للحرام أكلًا وغيره (فأنَّى يُستجاب لذلك) أي: فكيف، ومن أين يستجاب لمن هذه صفته، فهو استبعادٌ لإجابة دعائه، مع قبيح ماهو متلبِّسٌ به؛ لأنه ليس أهلًا لها حينئذ لاتصافه بقبيح المخالفات، وليس إحالة لها؛ لإمكانها مع ذلك تفضُّلًا وإنعامًا، فعُلم أن اجتناب الحرام في جميع ذلك شرطٌ لإجابة الدعاء، وأن تناوله مانعٌ لها غالبًا (2).
وسرُّه: أن مبدأ إرادة الدعاء القلبُ، ثم تفيض تلك الإرادة على اللسان، فينطق به، وتناوُلُ الحرام مفسدٌ للقلب كما هو مُدرَكٌ بالوجدان، فيحرم الرِّقةَ والإخلاص، وتصير أعماله صورًا لا روح فيها، وبفساده يفسد البدن كلُّه كما مر، فيكون الدعاء فاسدًا؛ لأنه نتيجة فاسد.
وأخرج الطبراني بإسنادٍ فيه نظرٌ عن ابن عباسٍ رضي اللَّه تعالى عنهما قال: تُلِيَتْ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآيةُ: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا} فقام سعد بن أبي وقاصٍ وقال: يا رسول اللَّه؛ ادع اللَّه أن يجعلني مستجاب الدعوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"يا سعد؛ أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة، والذي نفس محمد بيده؛ إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يومًا، وأيما عبد نبت لحمه من سحتٍ. . فالنار أَولى به"(3).
ومن ثَمَّ قيل له: لِمَ تستجابُ دعوتُك من دون الصحابة؟ فقال: (ما رفعت إلى
(1) المعجم الأوسط (5978) عن سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه.
(2)
قال بعض السلف: لا تسبطئ الإجابة وقد سددتَ طرقها بالمعاصي، وأخذ بعض الشعراء هذا المعنى فقال:(من الخفيف)
نحن ندعو الإلهَ في كلِّ كربٍ
…
ثم ننساه عند كشفِ الكروبِ
كيف نرجو إجابةَ لدعاءٍ
…
قد سددنا طريقها بالذنوبِ
(3)
المعجم الأوسط (6491).
فمي لقمةً إلا وأنا عالمٌ من أين مجيئها، ومن أين خرجت) (1).
وروى أحمد بإسنادٍ فيه نظر أيضًا: "من اشترى ثوبًا بعشرة دراهم في ثمنه درهم حرام. . لم يقبل اللَّه له صلاةً ما كان عليه"(2).
وفي حديثٍ فيه ضعيفٌ: "وإذا خرج -أي: الحاج- بالنفقة الخبيثة، فوضع رِجْله في الغرز -أي: الرِّكاب- فقال: لبيك. . ناداه ملكٌ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرامٌ، وراحلتك حرامٌ، وسعيك حرامٌ، وحجك غير مبرور"(3).
وبقي للدعاء شروطٌ وآداب ذكرتها مستوعبةً في "شرح العباب" وغيره في أذكار الصلاة، فانظره فإنه مهمٌّ؛ لاشتماله على بيان انقسامه إلى ما هو كفرٌ وحرامٌ ومندوبٌ وعلى غير ذلك من النفائس التي لا يُستغنى عنها، ومن تلك الشروط: ألَّا يدعوَ بحرامٍ ولا بمُحالٍ ولو عادةً؛ لأن الدعاء بها (4) يشبه التحكم على القدرة القاضية بدوامها، وذلك سوء أدبٍ على اللَّه تعالى، قيل:(إلا بالاسم الأعظم، فيجوز؛ تأسيًا بالذي عنده علمٌ من الكتاب؛ إذ دعا بحضور عرش بلقيس فأُجيب) انتهى، وهو مبنيٌّ على أن شرع من قبلنا شرعٌ لنا، والأصح: خلافه.
وأن يكون حاضر القلب موقنًا بالإجابة؛ لخبر: "ادعوا اللَّه وأنتم موقنون بالإجابة؛ فإن اللَّه تعالى لا يسمع دعاءً من قلبٍ غافلٍ لاهٍ"(5) وألَّا يستبطئَ الإجابة (6)؛
(1) ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم"(1/ 275).
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 98) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الطبراني في "الأوسط"(5224) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
قوله: (لأن الدعاء بها) صوابه: (به) أي: بالمحال عادة، تأمل. اهـ "مدابغي"
(5)
أخرجه الحاكم (1/ 493)، والترمذي (3479) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
واعلم: أن الإجابة تتنوع؛ فتارةً يقع المطلوب بعينه على الفور، وتارةً يقع المطلوب بعينه ولكن يتأخر لحكمةٍ فيه، وتارة تقع الإجابة بغير المطلوب حيث لا يكون في المطلوب مصلحة ناجزة، أو يكون في المطلوب مصلحة وفي ذلك الغير أصلح منها، على أن الإجابة مقيدة بالمشيئة كما يدل عليه قوله تعالى:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} فهو مقيدٌ لإطلاق الآيتين السابقتين، فالمعنى: ادعوني أستجب لكم إن شئت، وأجيب دعوة الداع إن شئت. اهـ "تحفة المريد على جوهرة الوحيد"(ص 255)
لخبر: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل"(1)؛ ولأنه استحثاثٌ للقدرة، وهو سوء أدب.
وقد تأتي (أنى) لتعميم الأحوال والمكان والزمان، ومنه:{فَأْتُوا حَرْثَكُمْ} أي: محل الولد المشبه بمحل الحرث {أَنَّى شِئْتُمْ} أي: كيف ومتى وحيث شئتم، لا يحظر عليكم في حالةٍ إلا ما استُثني شرعًا؛ كحيض أو وطء شبهة (2)، ولا في جهة، بل لكم إتيانهنَّ من أيِّ جهةٍ حيث كان محل الولد هو المأتيَّ.
(رواه مسلم) من رواية فضيل بن مرزوق، وهو ثقةٌ وسطٌ وإن لم يخرج له البخاري، ولا يقدح فيه قول الترمذي: حسن غريب (3).
وهو من الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام، ومباني الأحكام، وعليه العمدة في تناول الحلال وتجنُّب الحرام، وما أعم نفعه وأعظمه!
وممَّا تضمنه: بيان حكم الدعاء، وشرطه الأهم، ومانعه؛ و"الدعاء -كما ورد- مخ العبادة"(4)؛ لأن الداعي إنما يدعو اللَّه عند انقطاع أمله مما سواه، وذلك حقيقة التوحيد والإخلاص، ولا عبادة فوقهما، فكان مخ العبادة من هذه الحيثية.
واستفيد من الحديث الحث على الإنفاق من الحلال، والنهي عن الإنفاق من غيره، وأن المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ينبغي أن يكون حلالًا محضًا، وأن مريد الدعاء أَولى بالاعتناء بذلك مَنْ غيره، وأن مَنْ أراد الدعاء أو عبادةً غيره. . لزمه أن يعتني بالحلال في جميع ذلك حتى يُقبَل دعاؤه وعبادته، وأن المؤمن إنما يقبل منه إنفاقُ الطيِّب، فيزكو وينمو، ويبارك فيه.
* * *
(1) أخرجه البخاري (6340)، ومسلم (2735) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
قوله: (أو وطء شبهة) أي: فيما إذا وطئت زوجته بشبهةٍ، فيتجنبها إلى انقضاء عدتها، بل قال الرملي: يحرم عليه أن ينظر إليها أيضًا. اهـ "مدابغي"
(3)
سنن الترمذي (2989).
(4)
أخرجه الترمذي (3371) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.