المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبك الخير للمسلمين] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبك الخير للمسلمين]

‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

عَنْ أَبِي حَمْزَةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه خَادِمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ (1).

(عن أبي حمزة) بمهملة [فميم] فزاي، صح أنه صلى الله عليه وسلم كناه بذلك ببقلةٍ كان يجتنيها (2) (أنس بن مالك رضي الله عنه الأنصاري الخزرجي النجاري (خادم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كما صح عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة. . كان عمره عشر سنين (3)، وأن أمه أمَّ سليم أتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي؛ في السنة الأولى من الهجرة، فقالت له: خذه غلامًا يخدمك، فقبله، وقد قالت له يومًا: يا رسول اللَّه؛ ادع اللَّه تعالى له، فقال:"اللهم؛ أكثر ماله وولده، وبارك له فيه، وأدخله الجنة" قال: فلقد رُزقت من صلبي سوى ولد ولدي مئة وخمسة وعشرين -أي ذكورًا، ولم يرزق إلا بنتين على ما قيل- وإنَّ أرضي لَتثمر في السنة مرتين، وأنا أرجو الثالثة (4).

ومن بركة الثانية: أن قهرمانه جاءه (5) فقال له: عطشت أرضنا، فتوضأ وخرج

(1) صحيح البخاري (13)، وصحيح مسلم (45).

(2)

قال الأزهري رحمه اللَّه تعالى: البقلة التي كني بها أنس رضي الله عنه كان في طعمها لذع فسميت (حمزة) بفعلها، يقال: رمانة حامزة؛ أي: فيها حموضة، ومنه حديث عمر: أنه شرب شرابًا فيه حمازة؛ أي: لذعة وحِدّة أو حموضة، وقوله:(كان يجتنيها). وفي نسخ: (كان يحبها) اهـ "مدابغي"

(3)

في بعض النسخ: (كان عمره عشر سنين، أو تسعة، أو ثمانية).

(4)

انظر "الإصابة"(1/ 84).

(5)

القهرمان: هو الوكيل والخازن والمتصرف.

ص: 304

إلى البرية، فصلى ركعتين ثم دعا فالْتَأَمت السحابة، ومطرت حتى ملأت جميع أرضه ولم تعْدُها إلا يسيرًا، وذلك في الصيف.

وخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وإنما لم يُعدَّ في البدريين؛ لأنه لم يكن في سنِّ مَنْ يقاتل، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمان غزوات، واستمر في خدمته صلى الله عليه وسلم إلى أن توفي وهو عنه راضٍ، فاستمر بالمدينة، وشهد الفتوح، ثم قطن بالبصرة، وكان آخر الصحابة بها موتًا سنة تسعين، أو أحدٍ أو ثلاثٍ وتسعين، عن مئة سنة إلا سنة، أو وسنة، أو وسبع سنين، أو وعشرين سنة، وأما آخر الصحابة موتًا مطلقًا. . فهو أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي، توفي سنة مئة.

وأوصى ثابتًا البناني أن يجعل تحت لسانه شعرة كانت عنده من شعر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ففعل.

روى عنه أبو هريرة وغيره، وهو أحد المكثرين، روي له ألفان ومئتا حديثٍ وستةٌ وثمانون، اتفقا منها على مئة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحدٍ وسبعين.

(أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤمن أحدكم) أي: الإيمان الكامل، ومر الكلام على (أحد)(1)(حتى يحب لأخيه) المسلم من الخير، كما في رواية أحمد والنسائي (2)، فاندفع قول بعضهم: هذا عامٌّ مخصوصٌ؛ فإن الإنسان يحب لنفسه وطء حليلته، ولا يجوز أن يحبه لأخيه حالَ كونها في عصمته؛ لأنه محرَّمٌ عليه، وليس له أن يحب لأخيه فعل محرمٍ عليه. اهـ

وقول بعض آخر: لا بد أن يكون المعنى فيما يباح، وإلَّا. . فقد يكون غيره ممنوعًا منه وهو مباحٌ له. اهـ، وذلك كله غفلةٌ عن رواية النسائي.

نعم؛ الظاهر: أن التعبير بـ (الأخ) هنا جَرْيٌ على الغالب؛ لأنه ينبغي لكل مسلمٍ أن يحب للكفار الإسلامَ وما يتفرَّعُ عليه من الكمالات.

(1) انظر ما تقدم في شرح الحديث الرابع (ص 199).

(2)

مسند الإمام أحمد (3/ 206)، وسنن النسائي (8/ 115) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 305

(ما) أي: مثل ما (يحب لنفسه) منه فيكون معه كالنفس الواحدة؛ كما حثَّ صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله في الحديث الصحيح أيضًا: "المؤمنون كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ. . تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(1).

قال ابن الصلاح: (وهذا قد يُعدُّ من الصعب الممتنع، وليس كذلك؛ إذ القيام بذلك يحصل بأن يحب له حصولَ مثل ذلك من جهةٍ لا يزاحمه فيها بحيث لا ينقص على أخيه شيئًا من النعمة عليه، وذلك سهلٌ على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدَّغِل) اهـ (2)

وبه يندفع قول غيره: يشبه أن هذه المحبة إنما هي من جهة العقل؛ أي: يحب له ذلك ويؤثره من هذه الجهة، أما التكليف بذلك من جهة الطبع. . فصعبٌ؛ إذ الإنسان مطبوعٌ على حب الاستئثار على غيره بالمصالح، بل على الغبطة والحسد لإخوانه، فلو كُلِّف أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه بطبعه. . لأفضى إلى ألَّا يكمل إيمان أحدٍ إلا نادرًا. اهـ

ويؤيد ما قاله ابن الصلاح خبرُ الترمذي وابن ماجة: "أحِبَّ للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا"(3)، وخبر أحمد:"أفضل الإيمان أن تحب للناس ما تحب لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك"(4)، وخبره أيضًا:"أتحب الجنة؟ " قلت: نعم، قال:"فأحبَّ لأخيك ما تحب لنفسك"(5)، وخبر مسلم:"يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنين، ولا تتولَّيَنَّ مال يتيم"(6).

أما إذا انتفت تلك المحبة لنحو غشٍّ أوحسدٍ فلم يحب له مثل ما يحب لنفسه. .

(1) أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما بنحوه.

(2)

انظر "صيانة صحيح مسلم"(ص 203). والقلب الدغِل: الفاسد.

(3)

سنن الترمذي (2305)، وسنن ابن ماجة (4217) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظ ابن ماجة:" تكن مؤمنًا".

(4)

مسند الإمام أحمد (5/ 247) عن سيدنا معاذ رضي الله عنه.

(5)

مسند الإمام أحمد (4/ 70) عن سيدنا يزيد بن أسد رضي الله عنهما.

(6)

صحيح مسلم (1826) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.

ص: 306

فهو غير مؤمنٍ الإيمان الكامل، ومن ثَمَّ قيل: أفحش الأحوال أن يرى ضانًا على أخيه بأعمال الخير إن لم يوفق هو لها، كما جرى لابن آدم؛ فإنه قتل أخاه من أجل أن تَقَبَّلَ اللَّه تعالى قربانه دونه.

والمراد بالمثلية هنا: مطلق المشاركة المستلزمة لكفِّ الأذى والمكروه عن الناس، وتحمل الإنسان على أنه كما يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته ينبغي له إذا كانت لأخيه عنده مظلمةٌ أو حقٌّ. . أن يبادر إلى إنصافه من نفسه، ويؤثر الحق وإن كان عليه فيه مشقة.

وفي الحديث: "انظر ما تحب أن يأتيه الناس إليك فأته إليهم"(1)، ومن ثَمَّ قيل للأحنف:(ممن تعلمت الحلم؟ قال: من نفسي، قيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا كرهت شيئًا من غيري. . لم أفعل بأحدٍ مثله)(2).

فلا ينافي كون الإنسان يحب لنفسه أن يكون أفضل الناس، على أن الأكمل خلاف ذلك؛ فقد قال الفضيل بن عياض لسفيان بن عيينة:(إن كنت تودُّ أن يكون الناس مثلك. . فما أديت للَّه الكريم النصيحة، فكيف وأنت تودُّ أنهم دونك؟!)(3).

(رواه البخاري ومسلم) لكن رواية مسلم فيها شك؛ إذ قال: "لأخيه أو جاره" بخلاف رواية البخاري، فإنه لا شك فيها، ولفظ مسلم:"والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لأخيه، أو قال: لجاره ما يحبه لنفسه".

ولفظ أحمد: "لا يبلغ عبدٌ حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير"(4) وهو مبيِّنٌ لمعنى حديث "الصحيحين"، وأن المراد بنفي الإيمان: نفيُ بلوغ حقيقته ونهايته؛ فإنه كثيرًا ما يُنفى لانتفاء بعض أركانه وواجباته، كنفيه عن الزاني والسارق وشارب الخمر في الحديث المشهور (5).

(1) أخرج الطبراني في "الكبير"(19/ 440 - 441) عن سيدنا معن بن يزيد رضي الله عنه نحوه.

(2)

انظر "فيض القدير"(1/ 65).

(3)

أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان"(7909)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(48/ 418).

(4)

مسند الإمام أحمد (3/ 206).

(5)

أخرجه البخاري (2475)، ومسلم (57) عن سيدنا أبي هربرة رضي الله عنه.

ص: 307

وذهب جمعٌ من السلف إلى أن مرتكب الكبيرة يُسمَّى مؤمنًا ناقص الإيمان، وآخرون إلى أنه يقال له: مسلم لا مؤمن، قيل: وهو المختار.

ومقصود هذا الحديث -كما علم مما قررناه في معناه-: ائتلاف قلوب الناس، وانتظام أحوالهم، وهذا هو قاعدة الإسلام الكبرى التي أوصى اللَّه تعالى بها بقوله تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} .

وإيضاحه: أن كل أحدٍ من الناس إذا أحب لباقيهم أن يكونوا مثله في الخير. . أحسن إليهم، وأمسك أذاه عنهم، فيحبونه، فتسري بذلك المحبة بين الناس، فيسري الخير بينهم، ويرتفع الشر، فتنتظم أمور معاشهم ومعادهم، وتكون أحوالهم على غاية السداد، ونهاية الاستقامة، وهذا هو غاية المقصود من التكاليف الشرعية، والأعمال البدنية والقلبية.

وهذا كله إنما يتولد من كمال سلامة الصدر من الغل والغش والحسد؛ فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحدٌ في خيرٍ أو يساويه فيه؛ لأنه يحب أن يمتاز على الناس بفضائله، والإيمان يقتضي أن يشاركوه كلهم فيما أُعطي من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء.

نعم؛ ورد أنه لا حرج على من كره الامتياز بالجمال؛ فروى أحمد والحاكم في "صحيحه": أن مالك بن مرارة قال: يا رسول اللَّه؛ قد قسم لي من الجمال ما ترى، فما أُحبُّ أحدًا من الناس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي؟ فقال:"لا، ليس ذلك من البغي، ولكن البغي من بطر، أو قال: سَفِهَ الحقَّ"(1).

ومن كمال الإيمان تمني مثل الفضائل الأخروية التي فاقه فيها غيره (2)؛ كما دلت عليه الأحاديث الشهيرة، وأما قوله تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . . فهو نهي عن الحسد؛ وهو: تمني انتقال نعمة الغير إليه.

وما مر عن الفضيل مما يقتضي أن الأكمل محبةُ أن يكون الناس فوقه إنما هو من

(1) مسند الإمام أحمد (1/ 385)، والمستدرك (4/ 182).

(2)

في بعض النسخ: (مثل فضائله الأخروية التي فاته فيها غيره).

ص: 308

جهة أن هذا هو أكمل درجات النصيحة (1)، وإلَّا. . فالمأمور به شرعًا إنما هو محبة أن يكونوا مثله، ومع هذا: فماذا فاقه أحدٌ في فضيلةٍ دينيةٍ. . اجتهد في لحاقه، وحزن على تقصيره، لا حسدًا بل منافسةً وغبطةً؛ ليزداد بذلك الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها، والنظر لنفسه بعين النقص، وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيرًا منه؛ فإنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله.

* * *

(1) تقدم قول الفضيل رحمه اللَّه تعالى وتخريجه قريبًا (ص 307).

ص: 309