الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]
عنْ أَبِي سَعِيدٍ سَعْدِ بنِ مَالِك بنِ سِنَانٍ الخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا ضَرَرَ، وَلَا ضِرَارَ" حَدِيْثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَه، وَالدَّارَقطْنِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مُسْنَدًا، وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي "المُوَطَّأِ" مُرْسَلًا عَنْ عَمْرو بنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيْهِ، عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْقَطَ أَبَا سَعِيْدٍ، وَلَهُ طُرُقٌ يُقَوِّيْ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ (1).
(عن أبي سعيد سعد) وقيل: سنان (بن مالك بن سنان) الأنصاري الخزرجي (الخدري) بالدال المهملة (رضي اللَّه) تعالى (عنه) ينبغي (عنهما) لأن أباه كان صحابيًا أيضًا من شهداء أُحدٍ (2)، وكان أبو سعيد هذا من نجباء الأنصار وفضلائهم، ومن حفَّاظ الصحابة وعلمائهم، حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم سُننًا كثيرة.
روي له ألفٌ ومئةٌ وسبعون حديثًا، اتفقا منها على ستةٍ وأربعين، وانفرد البخاري بستة عشر، ومسلم باثنين وخمسين، روى عنه جماعةٌ من الصحابة والتابعين.
توفي بالمدينة سنة أربع وسبعين، وقيل: ثلاث، وقيل: أربع وتسعين.
(أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: لا ضرر ولا ضرار) بكسر أوله، من (ضره وضاره) بمعنًى (3)، وهو خلاف النفع، كذا قاله الجوهري، فالجمع بينهما
(1) سنن ابن ماجه (2340) و (2341)، وسنن الدارقطني (3/ 77)، والموطأ (2/ 745).
(2)
في النسخ كلها إلا (أ): (ممن شهد أحدًا) وأثبت العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى ما أثبتنا، وأشار إلى بعض النسخ بأن فيها:(ممن شهد أحدًا) ثم قال: (والأُولى أَولى، لنصها على موته بها، بخلاف الثانية؛ فإنها لا تفيده، تأمل).
(3)
قوله: (بمعنى) خبر مبتدأ محذوف، تقديره:(وهما بمعنى) أي: الضرر والضرار معناهما واحد، فقوله: =
للتأكيد، والمشهور: أن بينهما فرقًا، ثم قيل: الأول: إلحاق مفسدةٍ بالغير مطلقًا، والثاني: إلحاق مفسدةٍ بالغير على وجه المقابلة؛ أي: كلٌّ منهما يقصد ضرر صاحبه من غير جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحق.
وقال ابن حبيب: الضرر عند أهل العربية الاسم، والضرار الفعل، فمعنى الأول: لا تُدخل على أخيك ضررًا لم يدخله على نفسه، ومعنى الثاني: لا يضار أحدٌ بأحدٍ، وهذا قريبٌ مما قبله.
وقيل: المعنى: أن الضرر نفسه مُنْتَفٍ في الشرع، وإدخاله بغير حقٍّ كذلك.
وقيل: الضرر: أن يدخل على غيره ضررًا بما ينتفع هو به، والضرار: أن يُدْخِل على غيره ضررًا بما لا منفعة له به، كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع، ورجَّح هذا طائفةٌ منهم ابن عبد البر وابن الصلاح (1).
وقيل: الأول: ما لك فيه منفعةٌ وعلى جارك فيه مضرةٌ، والثاني: ما لا منفعة فيه لك وعلى جارك فيه مضرة، وهو مجرد تحكُّم بلا دليلٍ وإن قال غير واحد: إن هذا وجهٌ حسن المعنى في الحديث.
وفي رواية: "ولا إضرار" من (أضرَّ به إضرارًا) إذا ألحق به ضررًا، قال ابن الصلاح: وهي على ألسنة كثيرٍ من الفقهاء والمحدثين، ولا صحة لها، ولذا أنكرها آخرون، وانتصر لها بعضهم بأنها جاءت في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني وفي بعض نسخ "الموطأ" قال: وقد أثبتها بعضهم وقال: يقال: ضرَّ وأضرَّ بمعنًى (2).
وخبر (لا) محذوف؛ أي: في ديننا، أو شريعتنا.
وظاهر الحديث: تحريم سائر أنواع الضرر إلا لدليل؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم إلا في نحو: لا رجلٌ في الدار، بالرفع؛ لأنك تقول: بل رجلان، ولا تقول ذلك مع الفتح، وإلَّا في سلب الحكم عن العموم، نحو: ما كل عددٍ زوجٌ، أي: ليست الكلية صادقة، فهو سلب النفي عن العموم ردًا على من قال: كل عددٍ زوجٌ،
= (بمعنًى) راجع للمتن بدليل قوله: (فالجمع بينهما للتأكيد) اهـ هامش (ج)
(1)
انظر "التمهيد"(20/ 158).
(2)
انظر تفصيل الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 207 - 211).
لا حكم بالسلب على العموم، وإلَّا. . لم يكن زوج، وهو باطل.
وفيه حذفٌ ثانٍ أيضًا، إذ أصله: لا لحوق أو إلحاق، أو لا فعل ضررٍ أو ضرار بأحدٍ في ديننا؛ أي لا لحوق له شرعًا إلا لموجبٍ خاصٍّ بمخصصٍ (1).
وقيدنا النفي بالشرع؛ لأنه بحكم القدر الإلهي لا ينتفي (2)، واستثناء ما ذكر؛ لأن الحدود والعقوبات ضررٌ وهو مشروعٌ إجماعًا، وإنما انتفى الضرر فيما عدا ما استثني، لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ، {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح:"بعثت بالحنيفية السمحة السهلة"(3) ونحو ذلك من النصوص المُصرِّحة بوضع الدين على تحصيل النفع والمصلحة، فلو لم يكن الضرر والإضرار منفيًا شرعًا. . لزم وقوع الخلف في الأخبار الشرعية المذكورة، وهو محالٌ.
وأيضًا فقد صحح: "حرَّم اللَّه من المؤمن دمَه ومالَه وعرضَه، وألَّا يظن به إلا خيرًا"(4)، وقد صحح أيضًا:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم"(5) أي: بعضكم على بعض.
وكل ما جاء في تحريم الظلم من الآيات والأحاديث دليلٌ على تحريم الضرر؛ لأنه نوعٌ من الظلم، فعلم أن معنى الحديث: ما مر من نفي سائر أنواع الضرر والمفاسد شرعًا إلا ما خصَّه الدليل، وأن المصالح تُراعى إثباتًا، والمفاسد تُراعى نفيًا؛ لأن الضرر هو المفسدة، فإذا نفاها الشرع. . لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة؛ لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما.
وهذا مبنيٌّ على قاعدة أصوليةٍ، وهي: أن أفعال اللَّه تعالى هل تعلل؟ فقيل:
(1) أي: سبب خاص كالزنا والسرقة وشرب الخمر بالنسبة للحدود؛ فإنها أسباب خرجت من عموم: (لا ضرر ولا ضرار) اهـ هامش (غ)
(2)
أي إن قوله: (لا ضرر) معناه: أي لا وجود ضرر شرعًا، فلا ينافي وقوع الضرر بالفعل؛ لأنه بحكم القَدَر الإلهي، فلا يلزم الخلف في خبر الصادق المصدوق، تأمل. اهـ "مدابغي"
(3)
تقدم تخريجه (ص 96).
(4)
أخرجه ابن ماجه (3932) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما بنحوه. وقوله: (وألا يظن) لعل معناه: وأوجب ألا يظن به إلا خيرًا، أو أن (لا) زائدة، كما في قوله تعالى:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} .
(5)
أخرجه البخاري (67)، ومسلم (1679) عن سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه.
نعم؛ لأن فعلًا لا علة له عبثٌ، واللَّه تعالى منزهٌ عنه، ولأن القرآن مملوءٌ من تعليل أنعاله تعالى، نحو:{لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} . وقيل: لا؛ لأن كل مَنْ فعل فعلًا لعلةٍ كان مستكملًا بها ما لم يكن له قبلها، فيكون ناقصًا بذاته، كاملًا بغيره، والنقص على اللَّه تعالى محالٌ، ورُدَّ بمنع الكلية، وأن ذلك لا يلزم إلا في حق المخلوقين.
والتحقيق: أن أفعاله تعالى معللةٌ بحكم غايتها، تعود لنفع المكلفين وكمالهم، لا لنفع اللَّه تعالى وكماله، لاستغنائه بذاته عما سواه، فتلك العِلل حكم موضحةٌ لأفعاله، لا أغراض باعثة عليها؛ لأنه تعالى منزهٌ عن أن يبعثه شيءٌ على شيءٍ.
وعلم أيضًا: أنه لو ورد دليلٌ خاصٌّ بضررٍ خاصٍّ. . خصص به هذا العموم على القاعدة الأصولية من تقديم الخاص على العام، ولا نظر حينئذٍ إلى رعاية المصالح؛ لأن الشارع أدرى بذلك من غيره في العبادات والعادات والمعاملات.
ولبعض الشُّرَّاح هنا تفصيلٌ في ذلك بكلامٍ طويلٍ مُمِلٍّ خارجٍ عن المقصود؛ فلذا أعرضتُ عنه وإن كان فيه أنظار شتى ينبغي التفطُّن لها.
ثم رعاية المصالح إنما هي تفضُّلٌ منه تعالى على خلقه من غير وجوبٍ عليه، خلافًا للمعتزلة؛ لأنه متصرفٌ فيهم بالملك، فلم يجب لهم عليه شيءٌ، واحتجاجهم -أعني: المعتزلة- بأنه تعالى كلَّفهم فوجب رعاية مصالحهم؛ وإلَّا. . كان من التكليف بما لا يطاق. . مبنيٌّ على مذهبهم الباطل أيضًا من اعتبار تحسين العقل وتقبيحه.
ووقع ترددٌ في أن الشرع حيث راعى مصالح الخلق هل راعى مطلقها في جميع محالها، أو أوسطها في ذلك، أو مطلقها في بعضٍ، وأكملها في بعضٍ، وأوسطها في بعضٍ، نظرًا في كل محلٍّ لما يصلحهم وينتظم به حالهم؟ قيل: والأقسام كلها ممكنةٌ، وأشبهها الأخير.
ودليل رعايتها الكتابُ؛ نحو: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} ، {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وذلك كثير، بل ما من آيةٍ إلا وهي مشتملةٌ على مصلحةٍ أو مصالح.