الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا. . نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ. . يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا. . سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا. . سَهَلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ، ومَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ. . لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ (1).
(عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نفَّس) أي: أزال وفرَّج، من تنفيس الخناق؛ أي: إرخائه حتى يأخذ له نفسًا (عن مؤمن) أُوثر لمزيد شرفه وحرمته، والثواب فيما يفعل معه من الإحسان، وإلَّا. . فالذمي كذلك هنا وفيما يأتي من حيث أصل الثواب؛ للخبر السابق:"إن اللَّه كتب الإحسان على كل شيءٍ"(2)، وخبر:"في كل كبدٍ حرَّى أجر"(3).
ويلي الذمي المستأمن، ثم الحربي، فالثواب في كلٍّ أضعف مما قبله؛ لأنه تابعٌ لمزيد الشرف والاحترام.
(1) صحيح مسلم (2699).
(2)
تقدم تخريجه (ص 340) وهو الحديث السابع عشر من أحاديث المتن.
(3)
تقدم تخريجه (ص 326).
(كربةً) هي: ما أهمَّ النفس وغمَّ القلب؛ كأنها مشتقةٌ من (كرب) التي للمفاجأة؛ لأن الكربة تقارب أن تزهق النفس، فكأنها لشدة غمِّها عطَّلت محالَّ التنفس منه، وبه يعلم حكمة إيثار (نفَّس) على رديفه من (أزال) أو (فرَّج) وقال بعضهم: التفريج أعظم من التنفيس؛ لأنه إزالتها بالكلية، فجزاء التنفيس التنفيس، وجزاء التفريج التفريج، ومن ثم جمع بينهما في رواية الطبراني (1).
(من كرب الدنيا. . نفس اللَّه عنه كربةً من كرب يوم القيامة)(2) وفي رواية للطبراني: "نفَّس اللَّه عنه كربةً يوم القيامة، ومن ستر على مؤمنٍ عورته. . ستر اللَّه عورته، ومن فرَّج عن مؤمنٍ كربةً. . فرَّج اللَّه عنه كربته"(3)، فعُلم عظيم فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسَّر من علمٍ، أو مالٍ، أو جاهٍ، أو إشارةٍ، أو نصحٍ، أو دلالةٍ على خيرٍ، أو إعانةٍ بنفسه، أو سفارته ووساطته، أو شفاعته، أو دعائه له بظهر الغيب.
ومما يعلمك بعظيم الفضل في هذا وما بعده أن الخلق عيال اللَّه، وتنفيس الكرب إحسانٌ إليهم، والعادة أن السيد والمالك يحب الإحسان لعياله وحاشيته، وفي الأثر:"الخلق عيال اللَّه، وأحبهم إلى اللَّه تعالى أرفقهم بعياله"(4).
وعبَّر هنا بـ (مؤمن) على ما في أكثر النسخ، وفيما يأتي بـ (مسلم) إما للتفنُّن، أو لأن الكربة تتعلق بالباطن كما علم مما مر في تفسيرها، فناسب الإيمان المتعلق به أيضًا، والستر يتعلق بالظاهر غالبًا، فناسب الإسلام المتعلق به.
وخصَّ الجزاء هنا بكُرَبِ القيامة وعمَّمَ في الستر الآتي؛ لأن الدنيا لما كانت محل العورات والمعاصي والعارُ فيهما أكثر منه في الكرب الدنيوية. . احتيج إلى الستر فيها فذُكِرا ثَمَّ.
(1) وهي التي سيذكرها الشارح بعد المتن الآتي.
(2)
التنكير في (كربة) الأُولى للتحقير، وفي الثانية للتعظيم؛ أي: من نفَّس كربةً حقيرةً في الدنيا. . نفس اللَّه عنه كربةً شديدة من كرب الآخرة. اهـ هامش (غ)
(3)
انظر "المعجم الكبير"(19/ 158) عن سيدنا كعب بن عجرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(3315) عن سيدنا أنس رضي الله عنه مرفوعًا.
وأيضًا: فالدنيا وإن كانت محلًّا للكرب أيضًا، لكن لا نسبة لكربها إلى كرب الآخرة حتى تذكر معها، فاقتصر هنا عليها.
نعم؛ من أعظم كرب الدنيا الإعسارُ، بل هو أعظمها؛ فلذلك أُلحق بالستر، فلم يخص جزاؤه بالآخرة، بل عمَّم في الدنيا أيضًا، وأيضًا: فالكرب الشدائد العظيمة، وليس كل أحدٍ يحصل له ذلك في الدنيا، بخلاف الإعسار والعورات المحتاجة للستر؛ فإن أحدًا لا يكاد أن يخلو في الدنيا منها ولو بتعسر بعض الحاجات المهمة.
قيل: ولأن كرب الدنيا بالنسبة إلى كرب الآخرة كلا شيء، فادَّخر اللَّه تعالى جزاء تنفيس الكرب عنده؛ لينفس به كرب الآخرة ولو لم يكن منها إلا دنو الشمس من رؤوس الخلائق وإلجام العرق لهم، ففي "الصحيحين":"يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعًا -أو قال: باعًا- وإنه ليبلغ إلى أفواه الناس وإلى آذانهم"(1).
وروى مسلم أيضًا: "تدنو الشمس من العباد حتى تكون قدر ميلٍ أو ميلين، فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق بقدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه، ومنهم من يأخذه إلى حقويه، ومنهم من يُلْجمه إلجامًا"(2).
(ومن يسَّر على معسر) بإبراءٍ، أو هبةٍ، أو صدقةٍ، أو نَظِرَةٍ إلى ميسرةٍ بنفسه، أو وساطته، ويصح شموله لإفتاء العامي في ضائقةٍ وقع فيها بما يخلصه منها؛ لأنه معسرٌ بالنسبة للعالم.
(يسَّر اللَّه) تعالى (عليه) أموره ومطالبه (في الدنيا والآخرة) فيه عظيم فضل التيسير على معسر، والأحاديث فيه كثيرة؛ منها: خبر مسلم: "من سرَّه أن ينجيه اللَّه من كرب يوم القيامة. . فلينفس عن معسرٍ أو يضع عنه"(3).
(1) صحيح البخاري (6532)، وصحيح مسلم (2863) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم (2864) عن سيدنا المقداد بن الأسود رضي الله عنه.
(3)
صحيح مسلم (1563) عن سيدنا أبي قتادة رضي الله عنه.
وخبره أيضًا: "من انظر معسرًا أو وضع عنه. . أظلَّه اللَّه في ظله يوم لا ظل إلا ظله"(1).
وخبر أحمد: "من أراد أن تُستجاب دعوته، وتنكشف كربته. . فليفرج عن معسر"(2).
(ومن ستر مسلمًا) من ذوي الهيئات ونحوهم (3) ممن لم يعرف بأذًى أو فسادٍ بأن علم منه وقوع معصيةٍ فيما مضى فلم يخبر بها حاكمًا ولا غيره، وهذا للندب؛ إذ لو لم يستره بأن رفعه لحاكمٍ. . لم يأثم إجماعًا، بل ارتكب خلاف الأولى أو مكروهًا.
وخرج برفعه لحاكمٍ كشفُها وهتكُها بالتحدُّث بها، وهذا غيبةٌ محرمةٌ شديدةُ الإثم والوزر؛ قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} ، ومن ثَمَّ يندب لمن جاءه تائبٌ نادمٌ وأقر بحدٍّ ولم يفسِّره ألَّا يستفسره، بل يأمره بستر نفسه كما أمر صلى الله عليه وسلم ماعزًا والغامدية، وكما لم يستفسر من قال له: أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ، وكذا يندب لمن ظهرت له جريمةٌ ولم تبلغ الإمام أن يشفع له حتى لا تصل إليه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" خرجه أبو داوود والنسائي (4).
ومن ثم قال أصحابنا: لا يُعزَّر ذو الهيئة على هفوةٍ أو زلةٍ صدرت منه.
أو المراد بستر المسلم: ستر عورته الحسية أو المعنوية بإعانته على ستر دينه؛ كأن يكون محتاجًا لنكاحٍ فيتوصل له في التزوج، أو لكسب فيتوصل له إلى بضاعةٍ يتَّجر فيها، أو بنحو ذلك.
وفي رواية للطبراني: "ومن ستر على مؤمنٍ عورته. . ستر اللَّه عورته"(5).
(1) صحيح مسلم (3006) عن سيدنا أبي اليَسَر كعب بن عمرو رضي الله عنه.
(2)
مسند الإمام أحمد (2/ 23) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
قوله: (ونحوهم) كالعلماء، والحاصل: أنه يسن ستر الزَّلة بشروط أربعة: أحدها: أن تكون حقًا للَّه تعالى، الثاني: أن تكون مضت، الثالث: أن تكون من نحو ذوي الهيئات، الرابع: ألا يكون شاهدًا أو راويًا، أو أمينًا على نحو يتيم. اهـ "مدابغي"
(4)
سنن أبي داوود (4375)، وسنن النسائي الكبرى (7253) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(5)
تقدم تخريجه قريبًا (ص 567). تنبيه: إظهار السِّر كإظهار العورة، فكما يحرم كشفها. . يحرم إفشاؤه، =
(ستره اللَّه في الدنيا) بالمعنيين المذكورين (1)(والآخرة) بألَّا يعاقبه على ما فرط منه؛ لما مر (2)، ولأن اللَّه حيٌّ كريمٌ سِتِّيرٌ، وستر العورة من الحياء والكرم، ففيه تخلُّقٌ بخلق اللَّه تعالى، واللَّه تعالى يحب التخلق بأخلاقه.
وأخرج ابن ماجه: "من ستر عورة أخيه المسلم. . ستر اللَّه عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم. . كشف اللَّه عورته حتى يَفْضَحه بها في بيته"(3).
وأخرج أحمد وأبو داوود والترمذي: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه؛ لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عوراتهم. . تتبع اللَّه عورته، ومن تتبع اللَّه عورته. . يفضحه في بيته"(4).
وخرج على المعنى الأول بنحو ذوي الهيئات المعروفُ بالأذى والفساد (5)، فيندب، بل قد يجب ألَّا يستر عليه، بل يظهر حاله للناس حتى يتوقَّوه، أو يرفعه لولي الأمر حتى يقيم عليه واجبه من حدٍّ أو تعزيرٍ ما لم يخش مفسدةً؛ لأن الستر عليه يطمعه في مزيد الأذى والفساد.
وبوقوعها فيما مضى معصيةٌ رآه عليها وهو بعد متلبسٌ بها، فتلزمه المبادرة بمنعه منها بنفسه إن قدر، وإلَّا. . فيرفعه للحاكم؛ كما مر ما لم يترتب عليه مفسدة، والكلام في غير نحو الرواة والشهود والأمناء على نحو صدقةٍ أو وقفٍ أو يتيمٍ؛ فيجب بالإجماع جرحهم على من علم قادحًا فيهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من
= وكتمان الأسرار قد تطابقت على الأمر به المللُ، وقد قالوا: صدور الأحرار قبور الأسرار، وقيل: قلب الأحمق في فيه، ولسان العاقل في قلبه، وقيل لبعضهم: كيف أنت في كتم السر؟ فقال: أستره وأستر أني أستره. اهـ هامش (غ)
(1)
وهما ستر زلته، وستر عورته الحسية أو المعنوية.
(2)
قوله (لما مر) أي: من أن الخلق عيال اللَّه وأحبهم إليه أرفقهم بعياله.
(3)
سنن ابن ماجه (2546) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما.
(4)
مسند الأمام أحمد (4/ 420)، وسنن أبي داوود (4880) عن سيدنا أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، والترمذي (2032) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(5)
قوله: (وخرج على المعنى الأول) أي: للستر، وهو أن يعلم من ذوي الهئية وقوع معصية، فيندب أن يستره فلا يخبر بها حاكمًا ولا غيره، لا الستر بالمعنى الثاني، وهو قوله:(أو المراد بستر المسلم ستر عورته الحسية أو المعنوية. . .) فإن هذا لا يتوقف على ذي الهئية ولا غيره، بل يندب في حق كل أحد. اهـ "مدابغي"
النصيحة الواجبة، وكذا لا تحرم غيبة المتجاهر بفسقه، وهو المعلن به الذي لا يبالي بما ارتكب من أنواعه ولا بما يقال له، وهذا لا ينبغي أن يشفع له، بل يترك حتى يحد؛ كما نصَّ عليه مالكٌ رضي اللَّه تعالى عنه، وإنما كره أحمد رضي اللَّه تعالى عنه رفع الفُسَّاق إلى السلطان بكل حال؛ لأنهم غالبًا لا يقيمون الحد، وإن أقاموه. . تجاوزوا فيه، ولهذا قال: إن علمت أنه يقيم الحد. . فارفعه، ثم ذكر أنهم ضربوا رجلًا فمات، يعني لم يكن قتله جائزًا.
(واللَّه) تعالى (في عون العبد ما كان العبد) أي: مدة دوام كونه (في عون أخيه) بقلبه أو بدنه أو ماله أو غيرها (1)، قيل: وهذا إجمالٌ لا يسع بيانه الطروس (2)؛ فإنه مطلقٌ في سائر الأحوال والأزمان، ومنه أن العبد إذا عزم على معاونة أخيه. . فينبغي له ألَّا يجبن عن إنفاذ قوله وصدءعه بالحق إيمانًا بأن اللَّه تعالى في عونه، وتأمل دوام هذه الإعانة؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقيدها بحالةٍ خاصةٍ، بل أخبر بأنها دائمةٌ بدوام كون العبد في عون أخيه، وروى أحمد:"ومن كان في حاجة أخيه. . كان اللَّه تعالى في حاجته"(3).
والطبراني: "أفضل الأعمال إدخال السرور على المؤمن، فكسوتَ عورته، أو أشبعتَ جوعته، أو قضيتَ له حاجته"(4).
وورد: "من سعى في حاجة أخيه المسلم قُضيتْ له أو لم تُقضَ. . غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، وكتب له براءتان براءة من النار، وبراءة من النفاق"(5).
وأمر الحسن ثابتًا البُناني بالمشي في حاجةٍ، فقال: أنا معتكفٌ، فقال له:(يا أعمش؛ أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خيرٌ لك من حجةٍ بعد حجةٍ؟!)(6).
(1) قوله: (أو غيرها) كجاهه، وما أحسن قول بعضهم:(من الكامل)
فرضت عليَّ زكاة ما ملكت يدي
…
وزكاة جاهي أن أعين وأشفعا
(2)
أي: الأوراق.
(3)
مسند الإمام أحمد (2/ 91) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
ذكره في "مجمع الزوائد"(3/ 133) وعزاه للطبراني في "الأوسط" عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(5)
سقطت من النسخة (غ) كلمة: (براءتان).
(6)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج"(103).
وروى أحمد: أن خبَّاب بن الأرتِّ خرج في سرية (فكان صلى الله عليه وسلم يحلب عنزًا لعياله فتملأ الجفنة حتى تفيض زيادة على حِلابها، فلما قدم وحلبها. . عاد إلى ما كان)(1).
وكان أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه يحلب للحي أغنامهم، فلما استخلف. . قيل: الآن لا يحلبها، فقال:(بلى، وإني لأرجو ألَّا يغيرني ما دخلت فيه عن شيءٍ كنت أفعله)(2)؛ وذلك لأن العرب كانوا يستقبحون حلب النساء، بل روي خبر:"لا تسقوني حلب امرأة"(3).
وكان عمر رضي اللَّه تعالى عنه يتعاهد الأرامل فيستقي لهنَّ الماء بالليل، ورآه طلحة داخلًا بيت امرأة ليلًا، فدخل لها نهارًا فإذا هي عجوزٌ عمياء مقعدة، فقال لها:(ما يصنع هذا الرجل عندك؟) فقالت له: منذ كذا يتعاهدني بما يقوم بي من البِرِّ وما يصلح لي شأني، ويخرج عني الأذى، ويُقمُّ لي بيتي، فقال طلحة لنفسه:(ثكلتك أمك يا طلحة، أعثراتِ عمرَ تتبع)(4).
(ومن سلك طريقًا) فعيلًا من الطَّرْق؛ لأن الأرجل ونحوها تطرقه وتطلبه وتسعى فيه، ويصح أن يراد به هنا ما يشمل طرقه المعنوية؛ كحفظه، ومذاكرته، ومطالعته، وتفهمه، وكل ما يتوصل به إليه.
(يلتمس) أي: يطلب (فيه) أي: في غايته أو بسببه أو فيه حقيقة، لكنه نادرٌ جدًا، فلا يحمل الحديث عليه.
(علمًا) شرعيًا أو آلةً له قاصدًا به وجه اللَّه تعالى، قيل: وهذا وإن اشترط في كل عبادة، لكن عادة العلماء تقييد هذه المسألة به؛ لأن بعض الناس قد يتساهل فيه أو يغفل عنه. اهـ
(1) مسند الإمام أحمد (5/ 111).
(2)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(3/ 186)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(30/ 323) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها، وعبيد السعدي رحمه اللَّه تعالى.
(3)
ذكره الديلمي في "الفردوس"(8217) عن سيدنا أبي شيخ أُبَيْ بن ثابت الأنصاري شقيق سيدنا حسان رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(1/ 47 - 48).
وكأنه يريد: إنَّ تطرُّقَ الرياء للعلم أكثرُ من تطرقه لسائر العبادات، فاحتيج للتنبيه فيه على الإخلاص اعتناءً بشأنه.
ومن آلات الشرعي من تفسيرٍ وحديثٍ وفقهٍ المنطقُ الذي بأيدي الناس اليوم؛ فإنه علمٌ مفيدٌ لا محذور فيه بوجهٍ، وإنما المحذور فيما كان يُخلط به قبل من الفلسفيات المنابذة للشرائع، ولأنه نحو المعاني، كما أن النحو منطق الألفاظ، ولأنه كالعربية في أنه من مواد أصول الفقه، ولأن الحكم الشرعي لا بد من تصورِه والتصديقِ به إثباتًا أو نفيًا، والمنطق هو المرصد لبيان أحكام التصور والتصديق، فوجب كونه علمًا شرعيًا؛ إذ هو: ما صدر عن الشرع أو يتوقف عليه العلم الصادر عن الشرع توقف وجوب؛ كعلم الكلام، أو توقف كمال؛ كعلم العربية والمنطق، وهذا هو موجب مدح الغزالي له وقوله:(لا ثقة بفقه من لم يتمنطق) أي: من لا تكون قواعد المنطق مركوزةً بالطبع في ذهنه كالمجتهدين في العصر الأول، أو بالتعلم.
وممن أثنى عليه أيضًا الفخر الرازي، والسيف الآمدي، وابن الحاجب، وشُرَّاح كتابه، وغيرهم من الأئمة.
وقول ابن الصلاح وغيره بتحريمه محمولٌ على ما كان في زمنهما من المخلوط بالفلسفة وفروعها من الإلهي والطبيعي والرياضي، على أن الحليمي وغيره صرحوا بجواز تعلُّم هذه؛ ليردَّ على أهلها، ويدفع شرهم عن الشريعة، فيكون من باب إعداد العدة.
(سهل اللَّه له [به] طريقًا إلى الجنة) أي: أن طلبه وتحصيله يرشد إلى طلب الهداية والطاعة الموصلة إلى الجنة (1)، وذلك ليس إلا بتسهيله تعالى، وإلَّا. . فبدون لطفه وتوفيقه لا ينفع علم ولا غيره، أو أنه يُجازى على طلبه وتحصيله بتسهيل دخول الجنة بألَّا يرى من مشاقِّ الموقف ما يراه غيره، وهذا أقرب لظاهر الحديث.
واستفيد منه مع ما قبله ومع قوله تعالى: {جَزَآءً وِفَاقًا} أن الجزاء يكون من جنس
(1) فيكون قد استعار اسم الطريق للهداية بجامع أن كلًّا منهما -أي: الهداية والطريق الحسي- موصلٌ، وذلك على طريق الاستعارة التحقيقية. "شبشيري"، وكان ينبغي للشارح ألَّا يقحم لفظ (طلب) في قوله:(يرشد إلى طلب. . . إلخ) فتأمل. اهـ "مدابغي"
العمل ثوابًا وعقابًا؛ كالتنفيس بالتنفيس، والتيسير بالتيسير، والستر بالستر، والعون بالعون، والطريق بالطريق، ونظائر ذلك كثيرةٌ في أحكام الدنيا والآخرة، وكان قياس ذلك قطع فرج الزاني؛ إذ هو محل الجناية، لكن لما كان آلةً للتناسل الحافظ للنوع الإنساني. . كانت مراعاة بقائه أصلح.
وهذا مؤذنٌ بعظيم فضل السعي في طلب العلم، ويلزم منه عظيم فضل الاشتغال به، ودلائله أكثر من أن تحصر، وأظهر من أن تشهر.
ثم المراد بتسهيل تلك الطريق: تسهيل العلم الذي طلبه وتيسيره عليه؛ لأن العلم طريقٌ موصلٌ إلى الجنة، أو تسهيل الانتفاع به، والعمل بمقتضاه، فيكون سببًا لهدايته ودخول الجنة، أو تسهيل علومٍ أُخر توصله للجنة، ومنه:"مَنْ عمل بما علم. . أورثه اللَّه علم ما لم يعلم"(1).
أو تسهيل طريق الجنة الحسِّي يوم القيامة وهو الصراط وما قبله وما بعده من الأهوال؛ فإن العلم يدل على اللَّه تعالى من أقرب الطرق إليه، فمن سلك طريقه ولم يعرج عنه. . وصل إلى اللَّه تعالى وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة في الدنيا والآخرة؛ إذ لا طريق إلى معرفته ورضاه إلا بالعلم النافع، وهو العلم باللَّه تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله المقتضي لخشيته وإجلاله ومحبته ورجائه.
وهذا أول علم يرفع كما قاله عبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنه (2)، وبعده يبقى علم اللسان حجة، فيتهاون الناس به حتى حملته، ثم يذهب هذا أيضًا، لكن
(1) ذكره في "الدر المنثور"(2/ 123) وعزاه لأبي نعيم في "الحلية" عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرج الحاكم (1/ 99)، والترمذي (2653) عن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه قال: كنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فشخص ببصره إلى السماء، ثم قال:"هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء" قال: فقال زياد بن لبيد الأنصاري: يا رسول اللَّه؛ وكيف يختلس منا وقد قرأنا القرآن فواللَّه؛ لنقرأنه ولنُقرئنه نساءنا وأبناءنا؟! فقال: "ثكلتك أمك يا زياد؛ إني كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذا التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا يغني عنهم؟! "قال جبير -أحد رواة الحديث-: فلقيت عبادة بن الصامت، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ وأخبرته بالذي قال، قال: صدق أبو الدرداء، إن شئت لأحدثك بأول علم يرفع من الناس: الخشوعُ، يوشك أن تدخل مسجد الجماعة فلا ترى فيه رجلًا خاشعًا.
بذهاب حملته؛ كما في حديث "الصحيحين"(1)، ولا يبقى إلا القرآن في المصاحف لا يعرف الناس منه شيئًا، ثم يرفع، ثم تقوم الساعة على شرار الناس، وليس منهم من يقول: اللَّه، اللَّه؛ كما في الحديث (2).
(وما اجتمع قوم) هم الرجال فقط، أو مع النساء على ما مر فيه من الخلاف، وعلى كلا القولين فالظاهر: أن المراد هنا الثاني؛ لِمَا استقر من اشتراك الفريقين في التكليف، فيحصل لهنَّ الجزاء الآتي باجتماعهن لا بحضرة أجانب لذكرٍ أو تلاوةٍ، ويصح أن يراد الأول؛ لأن هذا الاجتماع بالهيئة الآتية في المسجد -بناء على أن ذكره في الحديث للتقييد، لكن التحقيق خلافه- لا يشرع للنساء.
وحكمة التنكير هنا: إفادة حصول الثواب لكل قومٍ اجتمعوا كذلك من غير اشتراط وصفٍ خاصٍّ فيهم؛ كزهدٍ، أو صلاحٍ، أو علمٍ.
(في بيت من بيوت اللَّه)(3) أي: مسجد، وألحق به نحو رباطٍ ومدرسةٍ؛ لإطلاق الاجتماع في حديث آخر، فيتناول سائر المواضع، وحينئذٍ فالتقييد بالمسجد للغالب سيما في ذلك الزمان، فلا يعمل بمفهومه.
(يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه بينهم)(4) فيه فضيلة الاجتماع على تلاوة القرآن والذكر في المسجد (5)، وهو مذهب الجمهور، ويدل له خبر "الصحيحين":
(1) انظر "صحيح البخاري"(100)، و"مسلم"(2673) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه مسلم (148) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
في بعض النسخ زيادة فى المتن كلمة: (تعالى).
(4)
أي: حق تلاوته: بألَّا يشتمل على لحنٍ، ولا على ترك بعض أحكامه التجويدية، وبشرط ألَّا يشمل مجلسهم على نحو غيبةٍ؛ كنميمةٍ وسبٍّ ونحو ذلك، وألَّا يشتمل على ذكر الدنيا، ولا فرق بين من كان يفهم المعنى أو لا، بخلاف سائر الأذكار فإنه لا بد في حصول الثواب فيها من فهم المعنى، وسيأتي ذلك في الحديث الآتي. اهـ هامش (ج)
(5)
سئل ابن حجر رحمه الله عن حلق الذكر في المسجد هل هو مكروه أم لا؟ فأجاب: بأنه لا كراهة فيه، ثم إن بعض الأحاديث دالٌّ على أن الجهر بالذكر أفضل من السر، وبعضها بالعكس، وجمع بينهما كما جمع النووي بين أحاديث الجهر والسر في القراءة بأنه إن خاف نحو رياءٍ أو تأذَّى به نحو مصلٍّ أو نائمٍ. . فالسر أفضل، وإلَّا. . فالجهر أفضل؛ لأنه يوقظ قلبه، ويجمع همه، ويصرف سمعه إليه، ويطرد نومه، ويزيد نشاطه، وينتفع به السامعون، وقوله تعالى:{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} أجيب عنه بأن الآية مكية، وتفسير الاعتداء في: =
"إن للَّه تعالى ملائكةً يطوفون في الطُّرق يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قومًا يذكرون اللَّه. . تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. . . " الحديث بطوله، وفي آخره:"فيقول اللَّه تعالى لملائكته: أشهدكم أنِّي قد غفرتُ لهم، فيقول مَلَكٌ من الملائكة: فيهم فلانٌ ليس منهم، إنما جاء لحاجةٍ، فيقال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم"(1).
وخبر مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم خرج على حلقةٍ من أصحابه فقال: "ما يجلسكم؟ " قالوا: جلسنا نذكر اللَّه عز وجل ونحمده لما هدانا للإسلام ومنَّ علينا به، فقال:"آللَّه؛ ما أجلسكم إلا ذلك؟ " قالوا: واللَّه؛ ما أجلسنا إلا ذلك، قال:"أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم؛ إني أتاني جبريل عليه السلام فأخبرني أن اللَّه عز وجل يباهي بكم الملائكة"(2).
وخبر الحاكم: عن سلمان أنه كان في عصابةٍ يذكرون اللَّه تعالى، فمرَّ بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال:"ما كنتم تقولون؛ فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأردت أن أشارككم فيها؟ "(3).
وخبر البزار: "إن للَّه سيارة من الملائكة يطلبون حلق الذكر، فإذا أتوا عليهم. . حفوا بهم. . . " الحديث، وفيه:"فيقولون: ربنا؛ أتينا على عبادٍ من عبادك يعظمون آلاءك، ويتلون كتابك، ويُصلُّون على نبيك، ويسألونك لآخرتهم ودنياهم، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي، فيقولون: رب؛ إن فيهم فلانًا الخطَّاء، فيقول تبارك وتعالى: غشوهم برحمتي"(4).
وخبر: "ما من قومٍ صلوا صلاة الغداة ثم قعدوا في مصلاهم يتلون كتاب اللَّه ويتدارسونه إلا وكَّل اللَّه تعالى بهم ملائكته يستغفرون لهم حتى يخوضوا في حديثٍ
= {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} بالجهر بالدعاء مردودٌ بأن الراجح في تفسيره المجاوزة عن المأمور به كأن سأل رتبة الأنبياء. اهـ "فتاوى ابن حجر"(1/ 176)
(1)
صحيح البخاري (6408)، وصحيح مسلم (2689) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح مسلم (2701) عن سيدنا معاوية رضي الله عنه.
(3)
المستدرك (1/ 122).
(4)
ذكره الهيثمي في "المجمع"(10/ 80) عن سيدنا أنس رضي الله عنه، وعزاه للبزار.
غيره" (1) وهو وإن كان في سنده ضعفٌ يُعمَل به في الفضائل.
وذكر حرب الكرماني أنه رأى أهل دمشق وحمص ومكة والبصرة يجتمعون فيقرأ أحدهم عشر آياتٍ والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشرًا حتى يفرغوا، وقول مالك بكراهته تأوله بعض أصحابه بما إذا كانوا يقرؤونه جماعة دون ما (2) إذا كان كلٌّ يقرأ أو يذكر لنفسه على انفراده، وحمل الحديث عليه، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا اجتماع حينئذٍ؛ ففي حمل الحديث عليه استنباط معنًى من النص يعود عليه بالبطلان وهو ممتنعٌ.
وفي روايةٍ: "ما جلس قومٌ يذكرون اللَّه"(3) وهي تعم كل ذكرٍ، خلافًا لمن زعم أن المراد هنا: ما ينصرف إلى الحمد والثناء (4).
ويصح على بُعْدٍ حمل الحديث على تعلُّم القرآن وتعليمه، ولا خلاف في ندبه، وأخرج البخاري:"خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه"(5)، وقد كان صلى الله عليه وسلم أحيانًا يأمر من يقرأ القرآن في المسجد ليسمع قراءته، وكان عمر يأمر من يقرؤه عليه وعلى أصحابه وهم يسمعون.
(إلا نزلت عليهم السكينة) فعيلةٌ من السكون للمبالغة، والمراد بها هنا: الوقار والطمأنينة: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أي: تسكن وترضى بجميع أقضية الحق كما يأتي، لا ضد الحركة، وفي حديثٍ مرسلٍ: أنه صلى الله عليه وسلم كان في مجلسٍ فرفع بصره إلى السماء ثم طأطأ بصره، ثم رفعه فسُئل عن ذلك فقال: "إن هؤلاء القوم كانوا يذكرون اللَّه تعالى -يعني: أهل مجلسٍ أمامه- فنزلت عليهم
(1) ذكره الديلمي في "الفردوس"(6117) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
قوله: (كانوا يقرؤونه جماعة دون ما) زيادة من النسخة (غ)، وقال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى:(هكذا في نسخة صحيحة).
(3)
عند ابن حبان (855) عن سيدنا أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4)
قال الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "التبيان"(ص 45): (واعلم: أن المذهب المختار الذي عليه من يعتمد من العلماء أن قراءة القرآن أفضل من التسبيح والتهليل وغيرهما من الأذكار، وقد تظاهرت الأدلة على ذلك، واللَّه أعلم). وقال أيضًا في "المجموع"(8/ 48): (فقراءة القرآن أفضل من الذكر إلا الذكر المأثور في مواضعه وأوقاته؛ فإن فِعْلَ المنصوص عليه حينئذٍ أفضل؛ ولهذا أمر بالذكر في الركوع والسجود، ونهي عن القراءة فيهما).
(5)
صحيح البخاري (5027) عن سيدنا عثمان رضي الله عنه.
السكينة تحملها الملائكة كالقُبَّة، فلما دنت منهم. . تكلَّم رجلٌ منهم بباطلٍ فرُفعت عنهم" (1).
ويصح إرادة هذا بالسكينة هنا، وهي في قوله تعالى:{فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} إما ريحٌ لها وجه إنسان، أو رأسان، أو رأس هرة وجناحان وذَنَب، أو طست من ذهب، أو رَوْح من اللَّه تعالى تبين لهم ما يختلفون فيه (2).
واختيار القاضي عياض أنها هنا الرحمة. . مردودٌ (3)؛ لعطفها عليها المقتضي للمغايرة في قوله: (وغشيتهم الرحمة) أي: شملتهم من كل جهةٍ لاستيعابها ذنوبهم؛ إذ الغشيان لغةً: إنما يستعمل فيما يشمل المغشي من جميع أجزائه وجوانبه، فتجوَّز به عما ذُكر مبالغةً فيه (4)، ومر تفسيرها بأنها إرادة التفضل والإنعام، أو الإنعام نفسه.
والمراد هنا: الأثر المترتب عليه؛ إذ هو الذي يوصف بالغشيان، فهي إحسانٌ نشأ عن إحسان الذاكر بذكره، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وهذا الغشيان في حالة الذكر سببٌ لتنزل تلك السكينة من اللَّه تعالى على الذاكرين، فلا ينزعجون لطارقٍ من طوارق الدنيا؛ لعلمهم بإحاطة قدرة مذكورهم له، فسكنوا واطمأنت قلوبهم بموعود الأجر؛ لقوة رجائهم بحصوله لما وُفِّقوا إلى الاشتغال باللَّه تعالى عن كل ما سواه.
(وحفَّتهم الملائكة) أي: أحاطت بهم ملائكة الرحمة والبركة إلى السماء الدنيا كما في رواية "الصحيحين"(5)، وفي روايةٍ لأحمد:"علا بعضهم على بعضٍ حتى يبلغوا العرش"(6)، كل ذلك لاستماع الذكر تعظيمًا للمذكور، وإعظامًا للذاكرين على غايةٍ من القرب والملاصقة بهم بحيث لم يدَعوا للشيطان فرجةً يتوصل منها للذاكرين.
(1) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(20/ 401).
(2)
انظر تفصيل هذه الأقوال في "الدر المنثور"(1/ 757) وما بعدها.
(3)
انظر "إكمال المعلم"(8/ 195).
(4)
قوله: (فتجوَّز به) أي: الغشيان (عمَّا ذُكر) أي: عن استيعاب الذنوب، فيكون شبه استيعاب الرحمة لذنوبهم بالغشيان بجامع مطلق الإخفاء والستر، وأطلق الغشيان على الاستيعاب، واشتق من الغشيان (غشي) فيكون استعارة مصرحة تبعية. اهـ "مدابغي"
(5)
تقدم تخريجه قريبًا (ص 576).
(6)
مسند الإمام أحمد (2/ 358) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
وأخرج الخلَّال: "إن للَّه ملائكةً يسيحون بين السماء والأرض يلتمسون الذكر، فإذا سمعوا قومًا يذكرون اللَّه عز وجل. . قالوا: رويدًا، زادكم اللَّه (1)، فينشرون أجنحتهم حولهم حتى يصعد كلامهم إلى العرش"(2).
(وذكرهم اللَّه) أي: أثنى عليهم أو أثبتهم؛ كـ (اذكرني في كتابك)، والأول هو المتبادر؛ قال تعالى:{فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} .
(فيمن عنده) من الأنبياء وكرام الملائكة؛ لقوله تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسه. . ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ. . ذكرته في ملأ خيرٍ منهم"(3) فالعِندِيَّة هنا عنديةُ شرفٍ ومكانةٍ، لا عندية مكان؛ لاستحالتها عليه تعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا.
ونظيرُ هذا الخبرِ في إفادة أن للذاكرين هذه الأربعة خبرُ مسلمٍ أيضًا: "إن لأهل ذكر اللَّه تعالى أربعًا: تنزل عليهم السكينة، وتغشاهم الرحمة، وتحفُّ بهم الملائكة، ويذكرهم الرب فيمن عنده"(4).
(ومن بطَّأ) من البطء نقيض السرعة؛ أي: من قصَّر (به عمله) حتى أخَّره عن رتب الكمال؛ لفقد بعض شروط الصحة أو الكمال منه (لم يسرع به نسبه) أي: لم يلحقه برتب أصحاب الأعمال الكاملة؛ لأن المسارعة إلى السعادة إنما هي بالأعمال لا بالأجساد، وما أحسن قول القائل (5):[من الطويل]
وما الفخر بالعظم الرميمِ وإنَّما
…
فخار الذي يبغي الفخار بنفسه
وقال ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: (يأمر اللَّه تعالى بالصراط فيضرب على
(1) في بعض النسخ: (زيدوا زادكم اللَّه).
(2)
ذكره الحافظ ابن رجب رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 306) وعزاه للخلال في كتاب "السنة" مرسلًا عن خالد بن معدان رحمه اللَّه تعالى.
(3)
أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
الحديث بهذا اللفظ أخرجه ابن أبي الدنيا كما عزاه إليه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور"(1/ 363 - 364) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أبي سعيد رضي الله عنهما، وأما رواية مسلم عنهما (2700). . فهي:"لا يقعد قوم يذكرون اللَّه عز وجل إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكنية، وذكرهم اللَّه فيمن عنده".
(5)
قوله: (وما أحسن قول القائل) زيادة من (غ).
جهنم، فيمر الناس على قدر أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثم كمر الريح، ثم كمر الطير، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، وحتى يمر آخرهم يتلبط على بطنه (1)، فيقول: يا رب؛ لِمَ بطَّأْتَ بي؟ فيقول: إني لم أُبْطئ بك، إنما أبطأ بك عملك) (2).
وفي "الصحيحين": لمَّا نزل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} . . قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر قريش، يا بني عبد المطلب، يا عباس، يا صفية عمة رسول اللَّه، يا فاطمة بنت محمد؛ اشتروا أنفسكم من اللَّه، لا أغني عنكم من اللَّه شيئًا"(3) وفي روايةٍ: "إن أوليائي منكم المتقون، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتوني بالدنيا تحملونها على رقابكم"(4).
وأخرج ابن أبي الدنيا: "إن أوليائي المتقون يوم القيامة وإن كان نسبٌ أقربَ من نسبٍ، يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم تقولون: يا محمد، يا محمد، فأقول هكذا وهكذا" وأعرض عن عطفيه (5)، وأخرجه البزار والحاكم وأحمد ولفظه:"إن أولى الناس بي المتقون من كانوا"(6)، زاد الطبراني:"إن أهل بيتي هؤلاء يرون أنهم أولى الناس بي، وليس كذلك؛ إن أوليائي منكم المتقون من كانوا وحيث كانوا"(7).
ويشهد لذلك كلِّه خبرُ "الصحيحين": "إن آل أبي فلانٍ ليسوا لي بأولياء، وإنما وليي اللَّه وصالح المؤمنين"(8).
(1) أي: يضطجع ويتمرغ على بطنه. اهـ هامش (غ)
(2)
أخرجه هنَّاد في "الزهد"(322).
(3)
أخرج البخاري (2753)، ومسلم نحوه (206) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، وقد ذكره الشارح رحمه اللَّه تعالى هنا مختصرًا.
(4)
أخرج نحوه أبو يعلى (1579)، وعزاه الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور"(2/ 238) لابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء رحمه اللَّه تعالى مرسلًا.
(5)
أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(897) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وقوله: (وأعرض عن عطفيه) كناية عن إعراضه عنهم لقلة أعمالهم، إلا أن الرواية:(وأعرض في كلا عطفيه).
(6)
انظر "مسند الإمام أحمد"(5/ 235) عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه.
(7)
المعجم الكبير (2/ 120) عن سيدنا معاذ رضي الله عنه.
(8)
صحيح البخاري (5990)، وصحيح مسلم (215) عن سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه.
فليحذر كل عاقلٍ غاية الحذر من أن يتَّكِل على شرف نسبه وفضيلة آبائه ويقصِّر في العمل؛ فإن ذلك يورثه غاية النقص والانحطاط عن معاليهم، ونهاية الحسرة والندامة على التخلف عن كمالهم، ومن ثم كان التفاخر بالآباء من أخلاق الجاهلية؛ قال تعالى:{فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه قد أذهب عنكم عُبِّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء، الناس رجلان: برٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللَّه عز وجل، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللَّه عز وجل، كلهم بنو آدم وخلق اللَّه آدم من تراب"(1)، وقال:"ائتوني بأعمالكم لا تأتوني بأنسابكم".
وقال لمن تعلَّم الأنساب: "علمٌ لا ينفع، وجهالةٌ لا تضر"(2)، وقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه:(تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم)(3).
على أن في التفاخر بالآباء غاية العداوة؛ إذ كلٌّ يظهر مثالب الآخر فيؤدي إلى الهرج والفساد.
(رواه مسلم بهذا اللفظ) واعتُرض عليه في سنده بما هو مردودٌ غير مقبول.
وهو حديثٌ عظيمٌ جليلٌ جامعٌ لأنواع من العلوم والقواعد، والآداب والفضائل، والأحكام والفوائد، وفيه إشارات إلى أن الجزاء من جنس العمل، والنصوص في ذلك كثيرة؛ نحو:"إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء"(4).
وأخرج الترمذي: "أيما مؤمن أطعم مؤمنًا على جوع. . أطعمه اللَّه يوم القيامة من ثمار الجنة، وأيما مؤمن سقى مؤمنًا على ظمأ. . سقاه اللَّه يوم القيامة من الرحيق المختوم، وأيما مؤمن كسا مؤمنًا على عري. . كساه اللَّه من خضْر الجنة"(5).
* * *
(1) أخرجه الترمذي (3270) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما. وعُبِّيَّة الجاهلية: تكبرها وفخرها.
(2)
ذكره الديلمي في "الفردوس"(6968) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه بنحوه.
(3)
أخرجه الطبراني في "مسند الشاميين"(3202)، والبخاري في "الأدب المفرد"(72)، وانظر ما قاله الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "فتح الباري"(6/ 527).
(4)
أخرجه البخاري (1284)، ومسلم (923) عن سيدنا أسامة بن زيد رضي الله عنهما.
(5)
سنن الترمذي (2449) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.