الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ سُلَامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ تَعْدِلُ بَيْنَ الاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا، أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَبِكُلِّ خَطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَتُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ" رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ (1).
(عن أبي هريرة) جرُّه هو الأصل، وصوَّبه جماعةٌ؛ لأنه جزءُ علمٍ، واختار آخرون منع صرفه، كما هو الشائع على ألسنة العلماء من المحدثين وغيرهم؛ لأن الكل صار كالكلمة الواحدة، واعترض بأنه يلزم عليه رعاية الأصل والحال معًا في كلمةٍ، بل في لفظة (هريرة) إذا وقعت فاعلًا مثلًا؛ فإنها تعرب إعراب المضاف إليه نظرًا للأصل، وتمنع من الصرف نظرًا للحال، ونظيره خفيٌّ. اهـ
ويجاب بأن الممتنع رعايتهما من جهةٍ واحدةٍ، لا من جهتين كما هنا، وكأن الحامل عليه الخفَّة واشتهار هذه الكنية حتى نسي الاسم الأصلي بحيث اختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا كما مر (2).
(رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: كل سلامى) هي -بضم السين وتخفيف اللام وفتح الميم: مفرد سلامَيَات بفتح الميم وتخفيف
(1) صحيح البخاري (2989)، وصحيح مسلم (1009). وفي نسخ المتن:(يعدل، ويعين. . . إلخ) بالياء لا بالتاء وهي موافقة للبخاري، وما هنا موافق لرواية الحميدي في "الجمع ين الصحيحين"(2443).
(2)
تقدم هذا الكلام على لفظة (هريرة) بحروفه في أول الحديث التاسع؛ ولذلك حذف من بعض النسخ هنا، وذكر هناك الاختلاف في اسم سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه، انظر (ص 271).
الياء، وقيل: جمع (1) - عظام الكف والأصابع والأرجل، وأُريد بها هنا جميع عظام الجسد ومفاصله بقرينة خبر مسلم الآتي وغيره:"خلق الإنسان على ستين وثلاث مئة مَفْصِل" ففي كل مَفصِلٍ صدقةٌ.
(من الناس عليه) ذكَّره وإن كان السلامى مؤنثة باعتبار العضو أو المَفصِل، لا لرجوعه لكلٍّ كما قيل به؛ لأنها بحسب ما تضاف إليه، وهي هنا أُضيفت لمؤنث، فلو رجع إليها. . لأُنِّث.
(صدقة (2)، كلَّ يوم تطلُع فيه الشمس) في مقابلة ما أنعم اللَّه تعالى به على الإنسان في خلق تلك السلاميات من باهر النَّعم ودوامها، الذي هو نعمةٌ أخرى أشير إليها بقوله:"كل يوم. . . إلخ".
ومما يزيد العبد تيقظًا لنعمة الدوام عليه: استحضاره أنه تعالى قادرٌ على سلب نعمة الأعضاء عن عبده في كل يوم، وهو في ذلك عادلٌ في حكمه، فعفوه عن ذلك وإدامة العافية عليه صدقة توجب الشكر دائمًا بدوامها (3).
ومما يزيده تيقظًا أيضا لتلك النِّعم حتى يبالغ في أداء شكرها: أنه ينظر في خَلْق نفسه وما انطوى عليه من العجائب؛ فإنه حينئذٍ يظهر له أنه لو فقد عظمًا واحدًا منها. . اختلَّت عليه حياته كما لو زاد، وأنه لا صنع له في شيءٍ من ذلك، وأنها ما بين طويلٍ وقصيرٍ، ودقيقٍ وغليظٍ، وأنه لو غُيِّرَ واحدٌ منها عمَّا هو عليه. . لاختلَّ نفعه، فإذا أصبح وقد أعطي لين الحركة؛ لما أتقن فيه من تركيب العظام، وجعلها جسمًا صلبًا لا يضعف منه أنبوب ساقيه عن حمل بدن نفسه وبقية جملة البدن، ولا عظم زنده عن إقلال ما يرفعه بيده (4)، ولا عظام أضلاعه عن وقاية حشاه، ولا عظم يافوخه عن
(1) قوله: (وقبل: جمعٌ) بالتنوين، أي: إن سلامى مفردٌ، وجمعه سلاميات، وقيل: سلامى جمعٌ؛ أي: ومفرد، فهو مما استوى واحده وجمعه. اهـ "مدابغي"
(2)
قال العلماء: المراد: صدقة ندبٍ وترغيب، لا إيجاب والتزام. اهـ هامش (غ)
(3)
قال بعض السلف: النِّعم وحشية فقيدوها بالشكر، وفي الخبر:(ما عظمت نعمة اللَّه على عبدٍ إلا كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم. . عرَّض نلك النعمة للزوال) اهـ هامش (غ)
(4)
الزند: مفصل طرف الذراع كان الكف، وهما زندان: الكوع والكرسوع. اهـ هامش (غ)
صيانة دماغه (1). . تعيَّن أن يشكر بالتصدُّق بما يأتي وغيره مَنْ أنعمَ عليه بذلك مقابلةً لتلك النِّعم.
وأيضًا: فالصدقة تدفع البلاء، فبوجودها عن أعضائه يرجى اندفاع البلاء عنها.
ثم من مزيد لطف اللَّه تعالى بعبده وتفضُّله عليه: تسمية ذلك صدقة إجراءً له مجرى ما يتطوع به.
وظاهر قوله: "عليه صدقة كل يوم" وجوب الشكر بهذه الصدقة كل يوم، لكن في حديث "الصحيحين":"فإن لم يفعل. . فليمسك عن الشر؛ فإنه له صدقة"(2) وهو يدل على أنه يكفيه ألَّا يفعل شيئًا من الشر، ويلزم من ذلك القيام بجميع الواجبات، وترك جميع المحرمات، وهذا هو الشكر الواجب وهو كافٍ في شكر هذه النعم وغيرها (3).
وأما الشكر المستحبُّ. . فهو أن يزيد على ذلك بنوافل الطاعات القاصرة كالأذكار، والمتعدية كالعدل والإعانة، وهذا هو المراد من هذا الحديث وأمثاله السابقة والآتية، مع أنه ذكر فيه بعض الواجبات.
وإذ قد تقرر أن للَّه سبحانه وتعالى على الإنسان في كل عضو ومفصلٍ نعمةً، وأن كلًّا من تلك النعم يستدعي مزيد الشكر عليه، وأن ذلك الشكر حقٌّ للَّه تعالى على عباده، وأنه تفضل عليهم فسماه صدقةً. . زاد في ذلك التفضُّل عليهم فوهب ذلك الشكر لهم صدقةً عليهم، فكأنه قال: اجعل شكر نعمتي في أعضائك أن تعين بها عبادي وتتصدَّق عليهم بذلك؛ كما أشار صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بتعقيبه طلبَ الشكر على تلك النِّعم المسمى صدقةً زيادةً في التلطُّف والإنعام بقوله مشيرًا إلى أن
(1) اليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس وعظم مؤخره، وهو المكان الذي يكون لينًا في رأس الطفل، والمراد بها: عظام الرأس كلها.
(2)
صحيح البخاري (1445)، ومسلم (1008) عن سيدنا عبد اللَّه بن قيس رضي الله عنه.
(3)
دخل سفيان الثوري على أبي عبد اللَّه جعفر بن محمد الصادق رضي اللَّه تعالى عنهما فقال: علمني يا بن رسول اللَّه مما علمك اللَّه، فقال: إذا تظاهرت الذنوب. . فعليك بالاستغفار، وإذا تظاهرت النِّعم. . فعيك بالشكر، وإذا تظاهرت الغموم. . فقل: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، فخرج سفيان وهو يقول. ثلاثٌ وأيُّ ثلاثٍ. اهـ هامش (غ)
الصدقة لا تنحصر في المال: (تعدل) أي: أن تعدل؛ أي: تصلح؛ لأنه في محل مبتدأ مخبَرٍ عنه بـ (صدقة) أو أوقع فيه الفعل موقع المصدر؛ أي: مع قطع النظر عن (أن) ونظيره: تسمع بالمُعَيْدي خيرٌ من أن تراه (1)؛ أي: أن تسمع، أو سماعك.
(بين الاثنين) المتهاجرينِ أو المتخاصمينِ أو المتحاكمينِ، بأن تحملهما لكونك حاكمًا أو مُحَكَّمًا أو مُصلِحًا بالعدل والإنصاف والإحسان بالقول أو الفعل على الصلح الجائز، وفسَّره صلى الله عليه وسلم بأنه الذي لا يحل حرامًا، ولا يحرم حلالًا (2).
(صدقة) عليهما؛ لوقايتهما مما يترتمب على الخصام من قبيح الأقوال والأفعال، ومن ثم عظم فضل الصلح، كما أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله عزَّ قائلًا:{أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} ، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} ، {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} أي: بالعدل {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} وجاز الكذب فيه مبالغة في وقوع الألفة بين الناس.
(وتعين) فيه وما بعده ما في "تعدل"(الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة) عليه (والكلمة الطيبة صدقة) وهي كل ذكر، ودعاء للنفس والغير، وسلام عليه، ورده، وثناء عليه بحق، ونحو ذلك مما فيه سرور السامع، واجتماع القلوب وتألفها، وكذا سائر ما فيه معاملة الناس بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:"ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ"(3).
(وبكل خطوة)(4) هي بفتح الخاء: المرة الواحدة، وبضمها: ما بين القدمين (تمشيها إلى الصلاة صدقة) فيه مزيد الحث والتأكيد على حضور الجماعات والمشي إليها، وعمارة المساجد بها؛ إذ لو صلى في بيته. . فاته ذلك.
(1) انظر "مجمع الأمثال"(1/ 342).
(2)
أخرجه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353) عن سيدنا عمرو بن عوف رضي الله عنه.
(3)
أخرجه مسلم (2626)، والترمذي (1833) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.
(4)
قوله: (وبكل خطوة) مبتدأ والباء زائدة؛ أي: وكل خطوة تمشيها، وفي رواية:"تخطوها إلى الصلاة" أي: إلى المسجد لاعتكافٍ وكذا لنحو طوافٍ وغير ذلك من وجوه القُرَب التي تفعل به مما هو معروفٌ صدقة، "مناوي". اهـ هامش (غ)
(وتميط) بضم أوله (1)؛ أي: تنحي (الأذى) أي: ما يؤذي المارَّة من نحو حَجَرٍ أو شوكٍ أو نجسٍ (عن الطريق) يؤنث ويذكر (صدقة) على المسلمين، وأخرت هذه؛ لأنها أدون مما قبلها، كما يشير إليه خبر:"الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق" قيل: وتسن كلمة التوحيد عند إماطته؛ ليجمع بين أعلى الإيمان وأدناه.
وحملُ الأذى على أذى المظالم ونحوها، والطريقِ على طريقه تعالى وهو شرعه وأحكامه. . تكلفٌ بعيدٌ، بل رواية:"وأدناها" المذكورة صريحةٌ في ردِّه؛ لأن الإماطة بهذا المعنى من أفضل الشعب لا من أدناها.
ثم شرطُ الثواب على هذه الأعمال خلوصُ النية فيها وفعلها للَّه تعالى وحده كما دلَّ عليه حديث "صحيح ابن حبان" فإنه صلى الله عليه وسلم ذكر فيه خصالًا؛ كالتصدقِ، وقولِ المعروف، وإعانةِ الضعيف، وتركِ الأذى، ثم قال:"والذي نفسي بيده؛ ما من عبدٍ يعمل بخصلةٍ منها يريد بها ما عند اللَّه إلا أخذت بيده يوم القيامة حتى يدخل الجنة"(2) وهو مستمدٌ من قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .
وبهذا يرد ما روي عن الحسن وابن سيرين: (أن فعل المعروف يؤجر عليه وإن لم تكن فيه نية)، بل روى حميد بن زنجويه عن الحسن:(أن من أعطى آخرَ شيئًا حياءً منه له فيه أجر)(3)، وأبو نعيم في "الحلية" عن ابن سيرين:(أن من تبع جنازةً حياءً من أهلها له أجر؛ لصلته الحي)(4).
(رواه البخاري ومسلم) وفي بعض طرق مسلم: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك
(1) قوله: (وتميط بضم أوله) أي: وفتحه؛ أي: تنحي وتزيل، يقال: ماط الشيء وأماطه بمعنى: أزاله حقيقة أو حكمًا؛ بأن يترك إلقاءه في الطريق. اهـ هامش (غ)
(2)
صحيح ابن حبان (373) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.
(3)
ذكر الخبرين الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى في "جامع العلوم والحكم"(2/ 89).
(4)
حلية الأولياء (2/ 264).
ركعتان يركعهما من الضحى" (1) أي: يكفي من هذه الصدقات كلها عن هذه الأعضاء ركعتان من الضحى؛ لأن الصلاة عملٌ بجميع الأعضاء، فإذا صلَّى العبد. . فقد قام كل عضوٍ منه بوظيفته، وأدَّى شكر نعمته.
وقد قال سهل بن عبد اللَّه التستري رضي اللَّه تعالى عنه: في الإنسان ثلاث مئة وستون عرقًا، مئة وثمانون ساكنة، ومئة وثمانون متحركة، فلو تحرك ساكنٌ، أو سكن متحركٌ. . لمنعه النوم. نسأل اللَّه تعالى أن يرزقنا شكر ما أنعم به علينا.
وذكر علماء الطب: أن جميع عظام البدن مئتان وثمانية وأربعون عظمًا سوى السمسمانيات، وبعضهم يقول: ثلاث مئة وستون عظمًا، يظهر منها للحِسِّ مئتان وخمسة وستون عظمًا، والبقية صغارٌ لا تظهر تسمى السمسمانيات.
ويؤيد هذا القول أحاديث كثيرة، وأخرج البزار: أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الإنسان ثلاث مئةٍ وستون عظمًا وستة وثلاثون سلامى، عليه في كل يومٍ صدقة" قالوا: فمن لم يجد؟ قال: "يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: "يرفع عظمًا عن الطريق" قالوا: فمن لم يستطع؟ قال: "فليعن ضعيفًا" قالوا: فمن لم يستطع ذلك؟ قال: "فليدع الناس من شره"، وورد معنى هذا الأخير في "الصحيحين" وغيرهما (2)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"وستة وثلاثون سلامى" لعله عبَّر بها عن تلك العظام الصغار؛ إذ السلامى في الأصل: اسمٌ لأصغر ما في البعير من العظام، ثم عبَّر بها عن مطلق العظم من الآدمي وغيره.
وأخرج مسلم: "خُلِق ابن آدم على ستين وثلاث مئة مفصل، فمن كبَّر اللَّه، وحمد اللَّه، وهلَّل اللَّه، وسبَّح اللَّه، وعزل حجرًا عن طريق المسلمين، أو عزل شوكةً، أو عزل عظمًا، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاث
(1) صحيح مسلم (720). وقوله: (وبجزئ) ضُبط (يَجزِي) بفتح أوله بغير همزٍ في آخره، وبضم أوله بهمز في آخره، فالفتح من (جزى يَجزي) أي: كفى، والضم من الإجزاء. اهـ هامش (غ)
(2)
ذكره الحافظ أبو بكر الهيثمي في "مجمع الزوائد"(3/ 107 - 108) وقال: (هو في الصحيح باختصار، رواه كله البزار ورجاله رجال الصحيح). وأخرجه البيهقي في "الشعب"(10649) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
مئة السلامى. . أمسى من يومه وقد زحزح نفسه عن النار" (1).
وأخرج أحمد وأبو داوود: "في الإنسان ثلاث مئة وستون مفصلًا، فعليه أن يتصدق عن كل مفصلٍ منه بصدقةٍ" قالوا: ومن يطيق ذلك يا نبي اللَّه؟! قال: "النخاعة في المسجد يدفنها، والشيء يُنَحِّيه عن الطريق، فإن لم يجد. . فركعتا الضحى تجزئه"(2)، وروايةُ:"في ابن آدم ست مئة وستون عظمًا" مردودةٌ؛ فإنها غلطٌ.
وكأن وجه تخصيص الضحى بذلك من بين ركعتي الفجر وغيرهما من الرواتب مع أنها أفضل من ركعتي الضحى. . تمحُّضُها للشكر؛ لأنها لم تشرع جابرةً لنقص غيرها، بخلاف سائر الرواتب؛ فإنها شرعت جابرةً لنقص متبوعها، فلم يتمحَّض فيها القيام بشكر تلك النِّعم الباهرة، والضحى لمَّا لم يكن فيها ذلك. . تمحَّضت للقيام بذلك، على أنها مناسبةٌ لما أُشير إليه بقوله:"تطلع فيه الشمس" من أن اليوم قد يعبَّر به عن المدة الطويلة المشتملة على الأيام الكثيرة؛ كما يقال: يوم صفين، وكان مدة أيام، وعن مطلق الوقت؛ كما في:{أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} فلو لم يقيد بـ: (تطلع فيه الشمس) لتوهم أن المراد به أحد هذين، وأنه لا يطلب منه شكر تلك النعم كل يوم، فقيد بذلك ليفيد تكرر الطلب ودوامه بتكرر طلوع الشمس ودوامها، فإذا تأمل الإنسان ذلك. . أوجد له عند شهود طلوعها تيقظًا للشكر، وأفضل العبادات حينئذٍ صلاة الضحى (3)، فناسب تخصيصها بذلك دون غيرها.
وأخرج البزار وابن حبان في "صحيحه" وغيرهما: "على كل مِيسَمٍ من ابن آدم صدقة كل يوم" فقال رجلٌ: ومن يطيق هذا؟! قال: "أمر بمعروف صدقة. . . " الحديث (4)، قال بعضهم: أراد بالميسم كل عضوٍ على حدةٍ، من الوسم، وهو
(1) صحيح مسلم (1007) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(2)
مسند الإمام أحمد (5/ 354)، وسنن أبي داوود (5242) عن سيدنا بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(3)
قوله: (وأفضل العبادات حينئذٍ) أي: بعد طلوع الشمس (صلاة الضحى) قال المناوي: والوجه -كما قاله الحافظ العراقي-: أن الاختصاص بالضحى لخصوصيةٍ فيها وسرٍّ لا يعلمه إلا اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ هامش (غ)
(4)
صحيح ابن حبان (299) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما، وعزاه الحافظ السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 84) إلى البزار وغيره.
العلامة؛ إذ ما من عِرْقٍ ولا عظمٍ ولا عصبٍ إلا وهو علامة على عظيم صنعه تعالى ومنَّته، حيث خلقه سويًا صحيحًا.
ومن ثم كان معنى هذه الأحاديث: أن تركيب هذه العظام وسلامتها من أعظم نِعَم اللَّه تعالى على عبده، فيحتاج كل عظبم منها إلى تصدُّقٍ عنه بخصوصه؛ ليتم شكر نعمته، قال تعالى:{يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} الآيةَ.
ومن ثَمَّ قال أبو الدرداء: (الصحة غنى الجسد)(1)، وقال وهب:(مكتوبٌ في حكمة آل داوود: العافية الملك الخفي)(2) أي: فهي النعيم المسؤول عنه يوم القيامة، كما قال ابن مسعود:(النعيم الأمن والصحة)(3).
وأخرج الترمذي وابن حبان: "إن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة فيقول اللَّه له: ألم نصحَّ لك جسمك، ونرويك من الماء البارد؟! "(4).
وقال ابن عباس في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال: (النعيم: صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يسأل اللَّه العباد فيم استعملوها وهو أعلم بذلك منهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا})(5).
وأخرج الطبراني بسندٍ فيه ضعف: "من قال: سبحان اللَّه وبحمده. . كتب له مئة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل: كيف يهلك بعد هذا يا رسول اللَّه؛! قال: "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بما لو وضع على جبلٍ. . لا يُقِلُّه، فتقوم النعمة من نِعَم اللَّه، فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول اللَّه تعالى برحمته"(6).
وابن أبي الدنيا بسندٍ فيه ضعف أيضًا: "يؤتى بالنِّعم يوم القيامة وبالحسنات
(1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر"(102).
(2)
أخرجه ابن أبي الدنيا في "الشكر"(122).
(3)
أخرجه الديلمي في "مسند الفردوس"(2547)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور"(8/ 612) وعزاه لهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في "الشعب".
(4)
سنن الترمذي (3358)، وصحيح ابن حبان (7364) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. قوله:(ونرويك) كأن الظاهر: (ونروك) بحذف الياء؛ لعطفه على (نصح) المجزوم بـ (ألم) ولعله جاء على لغية، فراجعه. اهـ "مدابغي"
(5)
أخرجه البيهقي في "الشعب"(4293).
(6)
المعجم الكبير (12/ 333) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما.
والسيئات، فيقول اللَّه تعالى لنعمةٍ من نعمه: خذي حقك من حسناته، فما تترك له حسنة إلا ذهبت بها" (1).
وأخرج أبو داوود والنسائي: "من قال حين يصبح: اللهم؛ ما أصبح بي من نعمةٍ، أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد، ولك الشكر. . فقد أدَّى شكر ذلك اليوم، ومن قال حين يمسي. . فقد أدَّى شكر ليلته"(2).
وأخرج الحاكم: "ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً فعلم أنها من عنده إلا كتب اللَّه له شكرها قبل أن يشكر. . . " الحديث (3).
وابن ماجه: "ما أنعم اللَّه على عبدٍ نعمةً فقال: الحمد للَّه إلا كان الذي أعطى أفضلَ مما أخذ"(4)، وأخذ منه بعض العلماء أن الحمد أفضل من النعم، ونقل ابن أبي الدنيا أن بعض العلماء صوَّب ذلك، وعن ابن عيينة أنه خطَّا قائله، وقال:(لا يكون فعل العبد أفضل من فعل الرب)(5).
وأُجيب: بأن التصويب في محله؛ إذ المراد بالنعمِ: الدنيويةُ؛ كالعافية، والرزق، والحمدُ من النعم الدينية، وكلاهما نعمةٌ من اللَّه تعالى، لكن نعمة اللَّه تعالى على عبده بهدايته لشكر نعمه بالحمد عليها أفضل من نعمه الدنيوية على عبده؛ فإن هذه إن لم يقترن بها شكرٌ. . كانت بليةً، فإذا وفَّقَ اللَّه تعالى عبده للشكر عليها بالحمد أو غيره. . كانت نعمة الشكر أتم وأكمل.
وعلم مما قررناه (6): أنه ليس المراد من الحديث حصر أنواع الصدقة بالمعنى الأعم فيما ذكر فيه، بل التنبيه به على ما بقي منها، ويجمعها: كل ما فيه نفع للنفس أو الغير؛ لخبر: "في كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ"(7)، وخبر: "إن اللَّه تعالى كتب الإحسان
(1) كتاب الشكر (24) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2)
سنن أبي داوود (5073)، وسنن النسائي الكبرى (9750) عن سيدنا عبد اللَّه بن غنام البياضي رضي الله عنه.
(3)
المستدرك (1/ 514) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(4)
سنن ابن ماجه (3805) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5)
انظر كتاب "الشكر"(111).
(6)
أي: من أن المطلوب شكر تلك النعم؛ أي: بأي أنواع الشكر كصلاة الضحى. اهـ هامش (غ)
(7)
تقدم تخريجه (ص 342).
على كل شيء" وقد مر (1)، وخبر: "الخلق عيال اللَّه، وأحب الناس إلى اللَّه أشفقهم على عياله" (2).
وبتصدقِ كلٍّ عن أعضائه بنحو ما مر يحصل مقصود ما مر من خبر: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، وخبر:"من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر. . فليكرم جاره. . . " الحديث، ومرَّ فيهما أن المقصود منهما: جمع القلوب وائتلافها، وإقامة كلمة الحق، وقوة شوكة الإسلام، وفي ذلك من النفع العائد على المتصدق والإسلام والمسلمين ما لا يخفى عظيم موقعه، فعلم عظم موقع هذا الحديث وما جمعه وما أشار إليه من الأحكام والحكم العامة والخاصة (3).
ومن ثم كان المقصود منه يرجع إلى قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان؛ يشد بعضه بعضًا"(4)، وقوله:"المؤمن كثير بأخيه"(5)، وقوله:"المؤمن مرآة المؤمن"(6) أي: يبصِّره من نفسه ما لا يراه بدونه، وقوله:"انصر أخاك ظالمًا -أي: بالأخذ على يده وكفه عن ظلمه- أو مظلومًا"(7) أي: بإعانته على ظالمه وتخليصه منه، وقوله:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد. . . " الحديث (8)، ونحو ذلك كثيرٌ في القرآن والسنة.
* * *
(1) انظر تخريجه فيما تقدم (ص 340) وهو الحديث السابع عشر من أحاديث المتن.
(2)
أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(3315)، والبيهقي في "الشعب"(7045) بنحوه عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3)
انظر ما تقدم (ص 326 - 327) من شرح الحديث الخامس عشر.
(4)
أخرجه البخاري (481)، ومسلم (2585) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(5)
أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب"(186) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن أبي الدنيا في "الإخوان"(24) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه.
(6)
أخرجه أبو داوود (4918)، وهو عند الترمذي (1929) بنحوه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(7)
أخرجه البخاري (2443)، والترمذي (2255) عن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه.
(8)
أخرجه البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما.