الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والسنةُ؛ نحو: "لا يبع حاضرٌ لبادٍ"(1)، و"لا تُنكح المرأة على عمتها ولا خالتها، إنكم إذا فعلتم ذلك. . قطعتم أرحامكم"(2).
والإجماعُ -إلا ممن لا يعتد به من الظاهرية- على تعليل الأحكام بالمصالح ودرء المفاسد، وأشدهم في ذلك مالكٌ رضي اللَّه تعالى عنه وعنهم حيث قال بالمصالح المرسلة، وفي الحقيقة لم يختص بها، بل الجميع قائلون بها غير أنه قال بها أكثر منهم.
وجاء في القرآن والسنة النهي عن المضارة في صورٍ خاصةٍ:
منها: الوصية، ومن ثم أخرج الترمذي وغيره:"إن العبد ليعمل بطاعة اللَّه ستين سنة، ثم يحضره الموت فيضار في الوصية فيدخل النار" ثم تلا قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى قوله {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} (3) أي: فالمضارة فيها باطلةٌ وإن لم يقصدها.
ومنها: الرجعة، قال تعالى:{وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} ، ومن ثم ذهب مالك إلى أن من راجع ثم طلَّق قبل الوطء. . استؤنفتِ العدة إلا إذا قصد مضارتها بتطويل العدة فتبني، وقال الأكثرون: تبني مطلقًا.
ومنها: الإيلاء، وأحكامه مبسوطةٌ في الفروع.
ومنها: الرضاع، قال تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} ومسائل الضرر في الأحكام كثيرةٌ جدًا.
تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره
"]
اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خَشَبَهُ في جداره"(4) فأباح جماعةٌ منهم الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه في القديم
(1) أخرجه البخاري (2150)، ومسلم (52/ 1413) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرج نحوه البخاري (5110)، ومسلم (1408)، والترمذي (1126) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
سنن الترمذي (2117) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(4)
أخرجه البخاري (2463)، ومسلم (1609) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. وفي بعض النسخ:(خشبة) وهي رواية الإمام مسلم رحمه اللَّه تعالى.
للجار أن يضع جذوعه على جدار جاره كرهًا عليه، لهذا الحديث، وقال الشافعي في الجديد: ليس له ذلك، لحديث:"لا ضرر ولا ضرار"، مع حديث:"لا يحل مال امرئٍ مسلمٍ إلا عن طيب نفس"(1)، وحديث:"وأموالكم عليكم حرام"(2).
فإن قلت: هذا يشكل على ما قدمته من تخصيص عموم: "لا ضرر" بما مر، فلِمَ لم يخص بخبر:"لا يمنع أحدكم جاره" لأنه خاصٌّ.
قلت: كان القياس ذلك لو سَلِم مما اشتمل عليه من احتمال أن الضمير في "جداره" راجعٌ للجار؛ أي: لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خَشَبَهُ في جدار نفسه، ومع هذا الاحتمال لا يقوى على التخصيص (3)، فأخذنا بعموم:"لا ضرر"، و"لا يحل مال امرئٍ مسلم" وغيرهما؛ لأنها أقوى منه.
وخبر: "لا ضرر ولا ضرار، وللرجل وضع خَشَبه في جدار جاره"(4). . ضعيفٌ، ففيه جابر الجُعفي فقد ذمَّه ابن عيينة، وحكى من سوء مذهبه ما يسقط روايته، وتبعه على ذلك أصحابه ابن معين، وعلي بن المديني وغيرهما، ولم يعتدوا بثناء الثوري وشعبة عليه.
نعم؛ اختلفت أنظار المجتهدين في تصرُّف الإنسان في ملكه بما يضر بجاره، كفتح كوة، وتعلية بناءٍ مشرفٍ وغيرهما، فأباحه الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه إن أضر بالمالك، ومنعه إن أضر بالملك، والفرق: أن الأول يحتمل عادةً ويمكن الاحتراز عنه بجعل ساترٍ لعياله يمنعهم من النظر، بخلاف الثاني.
ومنعهما غير الشافعي أخذًا بعموم حديث: "لا ضرر"، ويؤيد ما ذهب إليه الشافعي القاعدة الأصولية: أنه يستنبط من النص معنًى يخصصه، ويؤيده أيضًا:
(1) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 100)، والدارقطني في "سننه"(3/ 26) عن سيدنا أبي حرة الرقاشي عن عمه.
(2)
أخرجه البخاري (1741) عن سيدنا أبي بكرة رضي الله عنه.
(3)
لأن الدليل إذا تطرَّق إليه الاحتمال. . كساه ثوب الإجمال، وسقط به الاستدلال، وحينئذٍ لا يختص به عموم:"لا ضرر ولا ضرار" اهـ هامش (غ)
(4)
أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد"(20/ 158) عن سيدنا ابن عباسٍ رضي الله عنهما، وبعد أن تكلم على السند قال:(ولهذا قلت: إن هذا الحديث لا يستند من وجه صحيح، واللَّه أعلم).
اتفاقهم على جواز صورٍ من الضرر (1)؛ كوضع آلات البناء بالشارع زمن العمارة، وكنفض أوعية ترابٍ أو جصٍّ عند الأبواب، فإن هذا مما لا غنى عنه مع قِلَّته.
وظاهرُ حديث: "لا ضرر ولا ضرار" امتناعُ الضرر ولو لمن أضرك، لكن يخص من ذلك الصائل ونحوه ممن يجوز دفعه ولو بقتله، ومن ثم كان حديث:"أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك"(2) محمولًا عند أهل العلم على أن معناه: لا تخن من خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك، إذ من عاقب بمثل ما عُوقب به وأخذ حقه. . ليس بخائن، وإنما الخائن مَنْ أخذ ما ليس له أو أكثر مما له.
ومن ثم أجاز الشافعي، رضي اللَّه تعالى عنه لدائنٍ ظفر بمالِ مدينه أن يأخذ منه قدر حقه بشرطه وإن أدَّى إلى كسر بابٍ أو نقب جدارٍ، ولا نظر إلى ما فيه من الضرر؛ لأن المدين بنحو جحده مُهْدِرٌ لحقه، ويؤيده:(إذنه صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان رضي اللَّه تعالى، عنهما لمَّا شكت إليه صلى الله عليه وسلم أنه ممسكٌ، وأنه لا ينفقها وولدها ما يكفيهما مع يساره. . بأن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف" (3).
والحاصل: أنه ليس لأحدٍ أن يَضر بغيره وإن أضر به قبل إلا إن كان على وجه الانتصار منه بمثل ما اىتدى به عليه على الوجه الشرعي، فإنه حينئذٍ ليس اعتداءً ولا ظلمًا ولا ضررًا.
(حديث حسن رواه ابن ماجه) من حديث ابن عباس، وعبادة بن الصامت رضي اللَّه تعالى عنهم (4)، وفي إسناديهما ضعفٌ وانقطاعٌ.
(والدارقطني) من طريق ضعيفة عن ابن عباس، وأخرى كذلك عن عائشة، وأخرى كذلك عن أبي هريرة، لكن مع شكٍّ فيهما (5).
(1) في بعض النسخ: (على جواز ضرب من الضرر).
(2)
أخرجه أبو داوود (3535)، والترمذي (1264) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (5364)، وابن ماجه (2293) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(4)
سنن ابن ماجه (2340) و (2341).
(5)
سنن الدارقطني (4/ 227) و (4/ 228)، وعنده طريق أخرى عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (3/ 77).
(وغيرهما) كالحاكم في "المستدرك" وقال: صحيحٌ على شرط مسلم (1)، والبيهقي من حديث أبي سعيد (2)، والطبراني مرسلًا، وابن عبد البر من طريق كثير بن عبد اللَّه، وكثيرٌ هذا يُصَحِّح حديثَه الترمذيُّ، ويقول البخاري في بعض أحاديثه: هو أصح حديثٍ في الباب، وحسَّن حديثه الحِزامي وقال: هو خير من مراسيل ابن المسيب، وكذلك حسَّنه ابن أبي عاصم.
(مسندًا) وهو: المتصل الذي لم يحذف من إسناده أحد.
(ورواه) الإمام الأعظم أبو عبد اللَّه (مالك) بن أنس الأصبحي، وقد أفردت ترجمته بالتأليف، ولد سنة ثلاث وتسعين، ومات في ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومئة.
(في "الموطأ" مرسلًا عن عمرو بن يحيى عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فأسقط أبا سعيد) الخدري، قال ابن عبد البر: لم يختلف عن مالك في إرساله، ولا يسند من وجهٍ صحيحٍ؛ أي: عنه، لا مطلقًا، لما مر عن الحاكم، ولما يأتي.
فعلم أن المرسل: ما حُذف من إسناده الصحابي، وهذا عند المحدثين، وأما عند الأصوليين. . فهو ما حذف منه أيُّ راوٍ كان.
(وله طرق) ضعيفة، لكنه (يَقوَى بعضُها ببعضٍ) (3) كما صرح به ابن الصلاح حيث قال:(أسنده الدارقطني من وجوه متصلًا وقال: حديثٌ حسنٌ، وقال مرة: أسنده من وجوهٍ ومجموعها يقويه ويحسنه، وقد نقله جماهير أهل العلم واحتجوا به؛ فقد قال أبو داوود: الفقه يدور على خمسة أحاديث، وعدَّ هذا منها، فهو عنده غير ضعيف) انتهى ملخصًا (4).
وممن استدل به أحمد وقال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر
(1) المستدرك (2/ 57).
(2)
السنن الكبرى (6/ 69).
(3)
في نسخ عديدة: (يقوِّي بعضُها بعضًا) وهي في بعض نسخ المتن.
(4)
انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 210).
ولا ضرار" (1)، وقال البيهقي في بعض أحاديث كثيرٍ السابقِ:(إذا انضمت إلى غيرها من التي فيها ضعفٌ. . قويت)(2).
وبذلك عُلم أنه حسنٌ لغيره؛ لأن ما في بعض طرقه من اللين يُجبرَ بغيره ويقوَى، فهو مرجحٌ وعاضدٌ؛ إذ الحديث اللين أو الضعيف من جهة الضبط قد يقْوَى بالشواهد المنفصلة حتى يبلغ درجة ما يجب العمل به، كالمجهول إذا وجد مزكيًا. . صار عدلًا تقبل شهادته وروايته.
ثم ذلك الشاهد قد يكون قرآنًا، كأن يضعف الحديث فيوافقه ظاهر آية أو عموم فيقوى بها، ويتعاضدان على صيرورتهما دليلًا، وقد يكون سنةً عن راوي ذلك الحديث أو غيره، ومن الأمثال: ضعيفان يغلبان قويًا، فكذلك الأسانيد اللينة؛ إذا اجتمعت. . حصل منها إسنادٌ قويٌّ (3)، كما قال الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه في قُلَّتينِ نجستين: إذا انضمت إحداهما إلى الأخرى. . صارتا طاهرتين، ولذلك نظائر.
وأما تضعيف ابن حزم له وقوله فيه: (إنه واهٍ). . فمردودٌ عليه؛ لما علمت من مخالفته لاصطلاح أئمة الحديث، واحتجاج العلماء به.
وجاء في بعض طرقه المسندة من طريق عمرو بن يحيى بعد: "لا ضرر ولا ضرار": "من ضارَّ. . ضارَّ اللَّه به، ومن شاقَّ. . شاقَّ اللَّه عليه"، وفي رواية "من ضارَّ. . ضرَّه اللَّه، ومن شاقَّ. . شقَّ اللَّه عليه"(4)، وفي رواية: أنه صلى الله عليه وسلم (لعن من ضارَّ مسلمًا أو ماكره)، وفي أخرى عن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه وكرم وجهه:"ملعونٌ من ضارَّ مؤمنًا أو مكر به"(5) قال ابن عبد البر: (وسندها وإن ضعف لكنه يخاف عقوبة ما جاء فيه، فإنه موافقٌ للقواعد)(6).
(1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 313) عن سيدنا ابن عباسٍ رضي الله عنهما.
(2)
انظر "السنن الكبرى"(6/ 65).
(3)
قال بعضهم: (من الخفيف)
لا تخاصم بواحدٍ أهل بيتٍ
…
فضعيفان يغلبان قويا
(4)
عند البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 69)، والدارقطني في "سننه"(3/ 77).
(5)
عند البزار في "مسنده"(43)، وأبي يعلى في "مسنده"(96) بنحوه مرفوعًا.
(6)
انظر "التمهيد"(20/ 162) ففيه الكلام، وتخريج الحديث بسنده.
وبعد أن تقرر هذا الحديث والكلام عليه فلنتكلم على ما أخذه أئمتنا منه، وهو القاعدة المشهورة: أن الضرر يزال، وينبني عليها كثيرٌ من أبواب الفقه، كالرد بالعيب، وجميع أنواع الخيار من إخلاف الوصف المشروط، والتغرير (1)، وإفلاس المشتري، وغير ذلك، والحجر بأنواعه، والشفعة؛ لأنها شُرِعت لدفع ضرر القسمة، والقصاص، والحدود، والكفارات، وضمان المتلف، ونصب الأئمة والقضاة، ودفع الصائل، وقتال المشركين والبغاة، وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسار والقسمة.
ومما يندرج في سلكها قول الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه: إذا ضاق الأمر. . اتسع، وقد أجاب بها فيما إذا فقدت المرأة وليها في السفر فولَّت أمرها رجلًا يزوجها، وفي أنه هل يجوز الوضوء من أواني الخزف المعمولة بالسرجين؟ وفيما إذا جلس الذباب على غائطٍ ثم وقع على الثوب.
ولهم عكسها وهو: إذا اتسع الأمر. . ضاق؛ ككثير العمل في الصلاة؛ فإنه لما لم يُحْتَجْ إليه. . لم يسامح به، بخلاف قليله، فإنه لما اضطر إليه. . سومح به.
ويتعلق بقاعدة: أن الضرر يزال قواعدُ:
- الأولى: الضرورات تبيح المحظورات، بشرط عدم نقصها عنها، ومن ثم جاز أكل الميتة للمضطر، وإساغة اللقمة بالخمر، وغصب خيطٍ لخياطة جرحِ محترم، والتلفظ بكلمة الكفر، وإتلاف المال للإكراه، ودفع الصائل وإن أدَّى إلى قتله، ولو عمَّ الحرام قطرًا بحيث لم يوجد فيه حلالٌ إلا نادرًا. . جاز استعمال ما يحتاج له وإن زاد على قدر الضرورة، ولا يرتقي إلى التبسط وأكل الملاذ، قال ابن عبد السلام:(ومحله: حيث توقع معرفة صاحب المال، وإلَّا. . كان فيئًا للمصالح؛ لأن من جملة أموال بيت المال ما جُهِل مالكُه)(2).
(1) أي: الذي لا يمكن الوقوف عليه، بخلاف ما إذا أمكن كلطخ ثياب الرقيق بمدادٍ تخييلًا لكتابته فإنه لا يثبت الخيار؛ لإمكان الوقوف على معرفة كتابته بالامتحان. اهـ هامش (ج)
(2)
انظر "القواعد الكبرى"(1/ 116 - 117).