الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]
عَنْ أَبِي عَمْرٍو، وَقِيلَ: أَبِي عَمْرَةَ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قُلْ لِي فِي الإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا غَيْرَكَ، قَالَ:"قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
(عن أبي عمرو) بالواو (وقيل: أبي عمرة) بالهاء (سفيان) بتثليث أوله (ابن عبد اللَّه الثقفي رضي اللَّه) تعالى (عنه) معدودٌ من أهل الطائف، وكان عاملًا لعمر رضي اللَّه تعالى عنه عليه حين عزل عنه عثمان بن أبي العاص.
روى له مسلم هذا الحديث والترمذي والنسائي وابن ماجه (2).
(قال: قلت: يا رسول اللَّه؛ قل لي في الإسلام) أي: في دينه وشريعته (قولًا) جامعًا لمعاني الدين، واضحًا في نفسه بحيث لا يحتاج إلى تفسير غيرك أعمل عليه وأكتفي به بحيث (لا أسأل) أي: لا يُحوِجني؛ لما اشتمل عليه من بديع الإحاطة والشمول، ونهاية الإيضاح والظهور إلى أن أسأل (عنه أحدًا غيرك، قال: قل: آمنت باللَّه) أي: جدِّد إيمانك متذكرًا بقلبك، ذاكرًا بلسانك؛ لتستحضر تفاصيل معاني الإيمان الشرعي التي مرت في حديث جبريل.
(ثم استقم) على عمل الطاعات، والانتهاء عن جميع المخالفات؛ إذ لا تتأتى الاستقامة مع شيءٍ من الاعوجاج؛ فإنها ضده، وهاتان الجملتان منتزعتان من قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآيةَ؛ أي: آمنوا به ووحَّدوه مع
(1) صحيح مسلم (38).
(2)
سنن الترمذي (2410)، وسنن النسائي الكبرى (11425)، وسنن ابن ماجه (3972).
شهود ألوهيته وتربيته لهم، ثم استقاموا واعتدلوا على ذلك وعلى طاعته عقدًا وقولًا وفعلًا، وداموا على ذلك إلى أن يتوفَّاهم عليه.
ويؤيد ذلك قول عمر رضي الله عنه: (استقاموا واللَّه على طاعته ولم يروغوا روغان الثعالب)(1)، وقول أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه:(لم يشركوا باللَّه شيئًا (2)، ولم يلتفتوا إلى إلهٍ غيره) (3)، أو: استقاموا على أن اللَّه ربهم.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: (استقاموا على شهادة أن لا إله إلا اللَّه)(4) وكذا قاله جماعة آخرون.
والمراد بذلك كله (5): الاستقامة على التوحيد الكامل، وهو مستلزمٌ للتحقق بجميع ما قلناه أولًا، ويؤيده: أنه جاء عن أبي بكر رضي اللَّه تعالى عنه أنه فسَّرها أيضًا: بأنهم لم يلتفتوا إلى غير اللَّه تعالى، وهذا هو غاية الاستقامة ونهايتها.
وجاء في حديثٍ آخر: "أيها الناس؛ إنكم لن تعملوا ولن تطيقوا كل ما أمرتكم به، ولكن سددوا وأبشروا"(6) والسداد: هو الإصابة في الأقوال والأعمال والمقاصد، والإصابة في جميعها هي الاستقامة، فلو فعلوا ذلك. . لكانوا فعلوا ما أُمروا به كله، فالاستقامة هي الدرجة القصوى التي بها كمال المعارف والأحوال، وصفاء القلوب في الأعمال، وتنزيه العقائد عن سفاسف البدع والضلال (7).
ومن ثَمَّ قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: (من لم يكن مستقيمًا في حاله. . ضاع سعيه، وخاب جده)(8). ونقل: (أنه لا يطيقها إلا الأكابر؛ لأنها الخروج عن المألوفات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي اللَّه سبحانه وتعالى على
(1) أخرجه الإمام أحمد في "الزهد"(601)، وابن المبارك في "الزهد"(325).
(2)
أخرجه ابن المبارك في "الزهد"(326).
(3)
أخرجه الحاكم (2/ 440).
(4)
ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(7/ 322) وعزاه لعبد بن حميد.
(5)
في بعض النسخ: (وكذا قال جماعةٌ آخرون: المراد بذلك).
(6)
أخرجه أبو داوود (1096)، والإمام أحمد (4/ 212)، وأبو يعلى (6826) عن سيدنا الحكم بن حزن رضي الله عنه.
(7)
قوله: (سفاسف البدع) قال الجوهري: والسفساف: الرديء من كل شيء، والأمر الحقير. اهـ "مدابغي"
(8)
الرسالة القشيرية (ص 160).
حقيقة الصدق) (1)؛ ولعزتها أخبر صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوها، فقد أخرج أحمد:"استقيموا ولن تطيقوا"(2).
(رواه مسلم) وهو من بدائع جوامع الكلم التي اختصَّه اللَّه تعالى بها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جمع لهذا السائل في هاتين الكلمتين جميع معاني الإيمان والإسلام اعتقادًا وقولًا وعملًا، كما أشرنا إلى ذلك كله في تقريرهما.
وحاصله: أن الإسلام توحيدٌ وطاعةٌ، فالتوحيد حاصلٌ بالجملة الأولى، والطاعة بجميع أنواعها في ضمن الجملة الثانية؛ إذ الاستقامة: امتثال كل مأمورٍ، واجتناب كل منهيٍّ، ومن ثَمَّ قال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما في قوله سبحانه وتعالى:{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} : (ما نزل على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آيةٌ كانت أشدَّ ولا أشقَّ عليه من هذه الآية)(3) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه جمن قالوا له: قد أسرع إليك الشيب: "شيبتني هود وأخواتها"(4)، وأخرج ابن أبي حاتم: لما نزلت هذه الآية. . (شمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فما رُئي ضاحكًا)(5).
وزاد الترمذي في هذا الحديث زيادةً مهمةً وقال: حسن صحيح، وهي: قلت: يا رسول اللَّه؛ ما أخوف ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسان نفسه وقال: "هذا"(6) أي: تنبيهًا على أنَّ أعظمَ ما يُراعى استقامته بعد القلب من الجوارح اللسانُ؛ فإنه ترجمان القلب، والمعبر به، ومن ثم أخرج أحمد:"لا يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه"(7).
* * *
(1) الرسالة القشيرية (ص 161).
(2)
مسند الإمام أحمد (5/ 276) عن سيدنا ثوبان رضي الله عنه.
(3)
انظر "شرح الإمام النووي على مسلم"(2/ 9).
(4)
أخرجه أبو يعلى (880)، والطبراني في "الكبير"(17/ 286) عن سيدنا أبي جحفة رضي الله عنه.
(5)
ذكره الحافظ السيوطي رحمه اللَّه تعالى في "الدر المنثور"(4/ 480) وعزاه لابن أبي حاتم.
(6)
سنن الترمذي (2410) عن سيدنا سفيان بن عبد اللَّه الثقفي رضي الله عنه.
(7)
مسند الإمام أحمد (3/ 198) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.