الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]
عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو المُسْلِم، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يكْذِبُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَهُنَا -وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَراتٍ- بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ، كُلُّ المُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ (1).
(عن أبي هريرة رضي اللَّه) تعالى (عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا تحاسدوا) أي: لا يحسد بعضكم بعضًا، وأصله بتاءين، حُذفت إحداهما تخفيفًا، وكذا فيما بعده، وهل هي تاء المضارعة أو تاء الكلمة؟ فيه خلاف، وقد أجمع الناس من المشرعين وغيرهم على تحريم الحسد وقُبحه، ونصوص الشرع الواردة بذلك كثيرةٌ في الكتاب والسنة، منها:"إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب -أو قال-: العشب" رواه أبو داوود والحاكم وغيرهما (2).
وأخرج أحمد والترمذي: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، حالقة الدِّين لا حالقة الشَّعر، والذي نفسي بيده، لا تؤمنوا حتى تحابوا. . ." الحديث (3).
(1) صحيح مسلم (2564).
(2)
سنن أبي داوود (4903) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
مسند الإمام أحمد (1/ 164)، وسنن الترمذي (2510) عن سيدنا الزبير بن العوام رضي الله عنه، ورواية الترمذي:(الحسد والبغضاء هي الحالقة) وهي في عدة نسخ.
وهو لغةً وشرعًا: تمني زوال نعمة المحسود وعودها إليك، من:(حسد يحسُد) بضم عين مضارعه وكسرها حَسْدًا وحَسَدًا -بالتحريك- وحسادة، يتعدَّى بنفسه وبـ (على).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في اثنتين. . . " الحديث (1). . فليس إباحةً للحسد فيهما؛ لأنه لا يباح بوجهٍ من الوجوه، وإنما المراد به: الغبطة؛ أي: ليس شيءٌ من الدنيا حقيقًا بالغبطة عليه إلا هاتان الخصلتان: العلم، وإنفاق المال في سبيل اللَّه تعالى (2)، وفارقت الحسد بأن فيه مع تمني مثل ما للغير تمني زواله عنه، وهي ليس فيها إلا تمني الأول فقط.
ووجه ذمه وقبحه: أنه اعتراضٌ على الحق ومعاندة له؛ حيث أنعم على غيره، مع محاولته نقض فعله تعالى وإزالة فضله، ومن ثم قال أبو الطيب:[من الطويل]
وأظلمُ أهلِ الأرضِ مَنْ كان حاسدًا
…
لمن بات في نعمائه يتقلَّبُ (3)
ومن الحكمة: أن الحسود لا يسود.
ولقد أُنشد: [من البسيط]
دعِ الحسودَ وما يلقاهُ من كمدِهْ
…
كفاكَ منهُ لهيبُ النَّارِ في كبدِهْ
إن لُمتَ ذا حسدٍ نفَّستَ كربتَهُ
…
وإن سكتَّ فقد عذبتَهُ بيدِهْ
ومما يوضح ظلمه: أنه يلزمه أن يحبَّ لمحسوده ما يحب لنفسه، وهو لا يحب لها زوال نعمتها، فقد أسقط حقَّ محسوده عليه، وأن في الحسد تعبَ النفس وحزنها
(1) أخرجه البخاري (73)، ومسلم (816) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
فالمراد بالحسد: الغبطة التي هي تمني مثل ما للغير، وليس المراد به حقيقته التي هي تمني زوال النعمة عن الغير؛ سواء تمنَّى انتقالها لنفسه أو لغيره، فإن قلتَ: ما وجه الحصر في هاتين الخصلتين مع أن كل خيرٍ مثله؟. . أجيب بأن الحصر عير مرادٍ، وإنما المراد: قابلة ما في طباع الشخص بالضدِّ؛ فإن طبع الإنسان إذا رأى غيره يجمع المال. . يحسده؛ ليكون مثله، فإذا رأى غيره يعطي أحدًا. . يذمه؛ ليكون مثله، فالطباع تحسد بجمع المال وتذم ببذله؛ أي: إعطائه، فبين الشرع عكس الطبع، فكأنه قال: لا حسد إلا فيما تذمون عليه، ولا مذمة إلا فيما تحسدون عليه. ووجه الجمع للخصلتين اللتين في الحديث: أن المال يزيد بالإنفاق ولا ينقص، قال تعالى:{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"ما نقص مالٌ من صدقة"، والعلم المعبَّر عنه بالحكمة يريد أيضًا بالإنفاق منه؛ أي: بتعليمه. اهـ هامش (غ)
(3)
انظر "شرح ديوانه" للعكبري (1/ 185).
من غير فائدةٍ وبطريق محرمٍ، فهو تصرفٌ رديءٌ:{أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} الآيةَ.
ثم الحسد -وإن ركز في الطبع البشري؛ إذ الإنسان بطبعه يودُّ ألَّا يفوقه أحدٌ من جنسه في شيءٍ من الفضائل- ينقسم أهله إلى أقسام:
فمنهم من يسعى بقوله وفعله في نقل نعمة المحسود إلى نفسه، أو في مطلق نقلها، وهو شرهما وأخبثهما.
ومنهم من لم يعمل بمقتضى حسده ولم يسعَ على المحسود بقولٍ ولا فعلٍ، وعن الحسن أن هذا غير آثمٍ، ورُوي مرفوعًا من وجوهٍ ضعيفة (1).
وظاهرٌ أن محله إن عجز عن إزالته من نفسه وجاهدها في تركه ما استطاع، بخلاف من يحدِّث به نفسه اختيارًا مع تمني زوال نعمة المحسود، فهذا لا شك في تأثيمه، بل تفسيقه وإن قال بعضهم: هذا شبيهٌ بالعزم المصمم، وفي العقاب به خلافٌ بين العلماء.
ومنهم من إذا حسد. . لم يتمنَّ زوال نعمة المحسود، بل يسعى في اكتساب مثل فضائله، فإن كانت دنيويةً. . فلا خير فيه، أو دينيةً. . فهو حسنٌ، وقد تمنَّى صلى الله عليه وسلم الشهادة في سبيل اللَّه عز وجل.
(ولا تناجشوا) أي: لا ينجُش بعضكم على بعضٍ بأن يزيد في المبيع لا لرغبةٍ فيه بل ليخدع غيره (2)، من:(نجشت الصيد) إذا أثرتَه، كأن الناجش يثير كثرة الثمن بنجشه، وحرم إجماعًا على العالِمِ بالنهي، سواءٌ أكان بمواطأة البائع أم لا؛ لأنه غشٌّ وخداعٌ، وهما محرمان:"من غشَّنا -وفي رواية: من غش-. . فليس منا"(3) ولأنه ترك النصح الواجب.
(1) انظر كتاب "الزهد" للإمام هناد رحمه اللَّه تعالى (1393 - 1394).
(2)
قوله: (بل ليخدع غيره) هذه علة غاية، وإلَّا. . فلا فرق بين أن يقصد خديعة غيره أو لا، ولا فرق بين أن يقصد نفع البائع أو لا، ولا فرق بين أن تكون السلعة ليتيمٍ أو لا، وحينئذٍ: فالمدار على زيادته في ثمن السلعة لا لرغبةٍ في شرائها. اهـ هامش (ج)
(3)
عند مسلم (101)، (102) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
ثم النهي هنا قيل: للبطلان بناءً على أنه يقتضي الفساد مطلقًا، والأصح عندنا: خلافه؛ لأن الأصح في الأصول: أن النهي إن كان لذات المنهي عنه أو لوصفه اللازم كالركن والشرط. . اقتضى الفساد في العبادة والمعاملة، وإن كان لأمرٍ خارجٍ أو وصفٍ غير لازم. . فلا فيهما (1)، ولا خيار للمشتري عندنا؛ لتقصيره بموافقة الناجش على الزيادة مع عدم الخبرة، فهو كالمغبون (2)، ولا خيار له عندنا أيضًا؛ كمن اشترى زجاجةً يظنها جوهرةً، وفارق خياره في التصرية بأنه لا تقصير يُنسَب إليه بوجهٍ.
ويصح أن يفسَّر النجش هنا بما هو أعم من ذلك؛ لأن النجش لغةً: إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، وحينئذٍ فالمعنى: لا تتخادعوا، ولا يعامل بعضكم بعضًا بالمكر والاحتيال وإيصال الأذى إليه؛ قال تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} .
وفي حديث: "من غشنا. . فليس منا، والمكر والخداع في النار"(3).
وروى الترمذي: "ملعونٌ من ضارَّ مسلمًا أو مكر به"(4)، فعُلِم أنه يدخل في التناجش المنهي عنه هنا جميع أنواع المعاملات بالغش ونحوه؛ كتدليس العيوب وكتمها، وخلط الجيد بالرديء (5).
وما أحسن قول أبي العتاهية: [من الخفيف]
ليس دنيا إلا بدينٍ وليس الد
…
ين إلا مكارم الأخلاق
إنما المكر والخديعة في النا
…
ر هما من خصال أهل النفاق
نعم؛ يجوز المكر بمن يحل أذاه وهو الحربي، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"الحرب خدعة"(6).
(1) في (غ): (فلا فساد فيهما).
(2)
أي: بغير النجش، فلا يرِد أنه مغبون أيضًا. اهـ "مدابغي"
(3)
أخرجه ابن حبان (567) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
سنن الترمذي (1941) عن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه.
(5)
والتدليس: كتمان عيب السلعة عن المشتري، ومنه التدليس في الإسناد؛ وهو أن يُحدِّث عن الشيخ الأكبر ولعله ما رآه وإنما سمعه ممن هو دونه أو ممن سمعه، ونحو ذلك فعله جماعاتٌ من الثقات. اهـ هامش (غ)
(6)
تقدم تخريجه (ص 94) في شرح المقدمة.
(ولا تباغضوا) أي: لا يُبْغِض بعضكم بعضًا؛ أي: لا تتعاطوا أسباب البغض؛ لأنه قهريٌّ كالحُبِّ لا قدرة للإنسان على اكتسابه، ولا يملك التصرف فيه؛ كما قال صلى الله عليه وسلم لما كان يقسم بين نسائه ويعدل:"اللهم؛ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك" يعني القلب أو الحب والبغض، رواه أبو داوود والترمذي والنسائي (1)؛ وهو: النفرة من الشيء لمعنًى فيه مستقبح، ويرادفه الكراهة.
ثم هو بين اثنين إما من جانبيهما، أو من جانب أحدهما، وعلى كلٍّ فهو لغير اللَّه تعالى حرامٌ، وهو محمل الحديث، وله واجبٌ أو مندوبٌ (2)، قال تعالى:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"من أحب للَّه وأبغض للَّه وأعطى للَّه. . فقد استكمل الإيمان"(3).
قال بعضهم: ويثاب المتباغضان للَّه على غَيرتهما له وتعظيم حقه وإن كان أحدهما مخطئًا؛ لأن الفرْض أن كلًّا منهما أدَّاه اجتهاده إلى اعتقادٍ أو عملٍ ينافي اجتهادَ الآخر، فيبغضه على ذلك، وهو معذورٌ عند اللَّه تعالى بخروجه عن عهدة التكليف بالاجتهاد، وأرجو أن غالب طوائف الأمة وفِرَقَها من هذا الباب ما لم يتضمن رأيُ بعضها كفرًا أو فسقًا بواحًا؛ إذ أكثر العقائد المختلف فيها بين الأمة اجتهاديٌّ أو ملحقٌ به. اهـ
والذي يتجه: أن من علم أن مخالفة غيره له إنما نشأت عن اجتهادٍ لكونه من أهله. . لا يجوز له بغضه؛ لأنه حينئذ ليس للَّه؛ إذ الذي له هو ما يكون لأجل المعصية ولا معصية هنا؛ لأن المجتهد مأجورٌ وإن أخطأ.
وعلى ما قررته يحمل قول بعضهم: (لمَّا كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم. . كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكلٌّ منهم يظهر أنه يبغض للَّه، وقد
(1) سنن أبي داوود (2134)، وسنن الترمذي (1140)، وسنن النسائي (7/ 63) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.
(2)
أي: البغض لأجل اللَّه تعالى منه ما هو واجب، ومنه ما هو مندوب.
(3)
أخرجه أبو داوود (4681) عن سيدنا أبي أمامة رضي الله عنه.
يعذر في نفس الأمر وقد لا يعذر؛ لاتباعه لهواه وتقصيره في البحث عن معرفة ما يبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض لذلك إنما يقع ممن يظن أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه، وهذا الظن خطأٌ قطعًا، فإن أراد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه. . فهذا الظن قد يخطئ وقد يصيب؛ إذ قد يحمله على الميل إليه مجرد هوًى أو إلفٍ أو عادةٍ، فالواجب عليه أن ينصح نفسه ويتحرَّز غاية التحرز، وما أشكل منه. . فليجتنبه خشية أن يقع فيما نُهي عنه من البغض المحرم.
وهاهنا دسيسةٌ ينبغي التفطُّن لها، وهي أن المجتهد بحقٍّ قد يرى رأيًا مرجوحًا، فهو وإن أُثيب عليه قد لا يكون المنتصر لقوله كذلك، وهو ما إذا قصد بانتصاره له أنه من أقوال متبوعه، ولو كان من أقوال غيره. . لم ينتصر له؛ لأن انتصاره حينئذٍ مشوبٌ بإرادة علوِّ متبوعه وظهور كلمته وألَّا ينسب إلى الخطأ، وهذا كله قادحٌ في قصد الانتصار للحق، فافهم ذلك؛ فإنه مهمٌّ ويخفى على كثيرين) (1).
وفي خبر مسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا"(2).
وقد بيَّن تعالى من يوقع بيننا العداوة والبغضاء، فقال عز قائلًا:{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، وامتنَّ تعالى على عباده إذ ألَّف بين قلوبهم فقال:{وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} ، {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} .
ومن ثم كانت النميمة من أفحش الكبائر؛ لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وجاز الكذب للإصلاح.
(ولا تدابروا) أي: لا يُدْبر بعضكم عن بعض (3)؛ أي: لا يعرض عما يجب له
(1) انظر "جامع العلوم والحكم"(2/ 267 - 268).
(2)
صحيح مسلم (54) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
وأنشد بعضهم: (من المنسرح)
هجرك لي يا سيدي مظلمةْ
…
فاستفتِ فيه ابن أبي خيثمةْ =
عليه من حقوق الإسلام؛ كالإعانة، والنصر، وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذرٍ شرعي؛ كرجاء صلاح أحدهما، ووجه مغايرته لما قبله: أن الشخص قد يبغض صاحبه عادةً ويوفيه حقوقه، وقد يعرض عنه لنحو تهمةٍ أو تأديبٍ وهو يحبه.
(ولا يبع) نهي تحريمٍ عندنا وعند جمهور العلماء، وفي اقتضائه البطلان ما مر في النجش كما يأتي.
(بعضكم) أي: معشر المكلفين من المسلمين والذميين، والتقييد بالمسلم في الأخبار جريٌ على الغالب (1)، خلافًا لمن أخذ بمفهومه.
(على بيع بعض) فلا يجوز لأحدٍ بغير إذن البائع -كما في رواية "الصحيحين"(2) - أن يقول لمشتري سلعةٍ في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه، وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض، ومن ثم ورد في نحو ذلك:"إنكم إذا فعلتم ذلك. . قطعتم أرحامكم"(3).
ومثله الشراء على الشراء بغير إذن المشتري بأن يقول آخر للبائع في زمن الخيار: افسخه وأنا اشتريه منك بأغلى، أما بعد انقضاء زمن الخيار. . فلا تحريم، خلافًا لجمعٍ من الحنابلة؛ إذ لا مقتضي له.
وَزَعْمُ أنه قد يلح عليه حتى يُقيله فيؤدي إلى ضرره (4). . يُرَدُّ بأنه متمكنٌ من عدم الرد، فإن اختاره. . كان هو المضر بنفسه، والإلحاح إنما يقتضي تحريم ذاته؛ لأنه إضرارٌ بالملحوح عليه.
= فإنه يرويه عن جدِّهِ
…
وجدُّه يرويه عن عكرمةْ
عن ابن عباسٍ عن المصطفى
…
نبينا المبعوث بالمرحمةْ
إن صدود الخِلِّ عن خِلِّه
…
فوق ثلاثٍ ربُّنا حرَّمهْ
وأنت مذ شهرٍ لنا هاجرٌ
…
فما تخاف اللَّه فينا فمهْ
(1)
في بعض النسخ: (في الأخبار للغالب).
(2)
صحيح البخارى (5142)، وصحيح مسلم (1412/ 50) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه الطبراني في "الكبير"(11/ 266 - 267) عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما، لكنه في النهي عن أن تُزوَّج المرأة على العمة وعلى الخالة، فليتنبه.
(4)
قوله (وزعم أنه) أي: البائع أو المشتري (قد يلح عليه) أي: الآخر بسبب ما قيل له (حتى يُقيله) الآخر بضم أوله من الإقالة (فيؤدي إلى ضرره، يرد. . . إلخ) خبر زعم. اهـ "مدابغي"
وكذلك يحرم السوم على سوم غيره؛ كما في رواية مسلم (1)، والخِطبة على خِطبة الغير؛ كما في رواية "الصحيحين"(2) وكل ما في معنى ذلك مما ينفر القلوب ويورث التباغض إلا أن يرضى من له الحق؛ لأنه حقه فله تركه، ولزوال علة التنافر حينئذ.
والسوم المحرم: هو أن يزيد في الثمن بعد استقراره صريحًا، أو يعرض على المشتري أرخص منه، وتحريمه بعد البيع وقبل لزومه الذي هو البيع على البيع أو الشراء على الشراء كما تقرر. . أشد، وقولُ ابن كج من أصحابنا: يجوز ذلك إن رآه مغبونًا. . ضعيفٌ، والأوجه: الحرمة مطلقًا.
وبيعُ رجلٍ قبل اللزوم من المشتري عينًا مثل المشتراة بأقل. . كالبيع على البيع، وطلبها قبله أيضًا من المشتري بأكثر. . كالشراء على الشراء.
وشرطُ التحريم هنا وفي النجش: علمُ النهي، والبيع والشراء هنا صحيحٌ أيضًا وإن حرم؛ لأن التحريم لمعنًى خارجٍ عن الذات ولازمها نظير ما مر، وتجوز الزيادة في الثمن قبل استقراره.
(وكونوا عباد اللَّه) أي: يا عباد اللَّه (إخوانًا) أي: اكتسبوا ما تصيرون به إخوانًا مما سبق ذكره وغيره من فعل المؤلِّف، وترك المنفِّر بأن تتعاملوا وتتعاشروا معاملة الإخوة ومعاشرتهم في المودة، والرفق، والشفقة، والملاطفة، والتعاون في الخير، مع صفاء القلوب، والنصيحة بكل حال، فعُلم أن هذا كالتعليل لما قبله، وكأنه قال: إذا تركتم التحاسد وما بعده. . كنتم إخوانًا، وإلَّا. . كنتم أعداء.
وفي قوله: (عباد اللَّه) إشارة إلى أنكم عبيده، فحقكم أن تطيعوه بأن تكونوا كالإخوان فيما مر، ووجه طاعة اللَّه تعالى في كونهم إخوانًا: التعاضد على إقامة دينه وإظهار شعائره؛ إذ بدون ائتلاف القلوب لا يتمُّ ذلك؛ كما يفيده قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} الآيةَ.
(1) صحيح مسلم (1408/ 38) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح البخاري (2140)، وصحيح مسلم (1408/ 38).
وعُلم أيضًا أن هذا فيه أمرٌ باكتساب ما يصير به المسلمون إخوانًا على الإطلاق من أداء حقوق المسلم على المسلم؛ كردِّ السلام وابتدائه، وتشميتِ العاطس، وعيادةِ المريض، وتشييعِ الجنائز، وإجابةِ الدعوى، والنصحِ (1).
وروى الترمذي: "تهادوا؛ فإن الهدية تُذْهب وَحَر الصدر"(2)، وفي رواية:"تهادوا تحابوا"(3)، والبزار:"تهادوا؛ فإن الهدية تسلُّ السخيمة"(4)، وروي:"تصافحوا؛ فإنه يذهب الشحناء وتهادوا"(5).
ويدل على أن هذا الذي تقرر هو المراد من ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم عقبه على جهة التأكيد والبيان له والاستعطاف المفهوم منه: (المسلم أخو المسلم) أي: لأنه يجمعهما دينٌ واحدٌ، ومن ثَمَّ قال تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فهو كالأُخُوَّةِ الحقيقية؛ وهي أن تجمع الشخصين ولادةٌ من صلبٍ أو رحمٍ أو منهما، بل الأخوة الدينية أعظم من الأخوة الحقيقية؛ لأن ثمرة هذه دنيوية، وثمرة تلك أخروية، وفي "الصحيحين":"مثل المؤمنين في توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ. . تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"(6).
وروى أبو داوود: "المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه"(7).
والترمذي: "إن أحدكم مرآة أخيه، فإن رأى به أذًى. . فليمطه عنه"(8).
(لا يظلمه) أي: لا يُدخِل عليه ضررًا في نحو نفسه، أو دينه، أو عرضه، أو
(1) قال العلامة الشبرخيتي رحمه اللَّه تعالى في "الفتوحات الوهبية"(ص 264): (وقد قيل لخالد بن صفوان: أي الإخوان أحب إليك؟ قال: الذي يغفر زللي، ويسد خللي، ويَقبل عِلَلي).
(2)
سنن الترمذي (2130) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه. والوَحَر: الحقد والغيظ.
(3)
أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 169) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه الطبراني (1526). والسخيمة: الحقد.
(5)
أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق"(53/ 44) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.
(6)
صحيح البخاري (6011)، ومسلم (2586) عن سيدنا النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(7)
سنن أبي داوود (4918) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(8)
سنن الترمذي (1929) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
ماله بغير إذنٍ شرعيٍّ؛ لأن ذلك قطيعةٌ محرمةٌ تنافي أخوة الإسلام، بل الظلم حرامٌ حتى للذمي، فالمسلم أَولى (1).
(ولا يخذُله) أي: لا يترك نصرته المشروعة، سيما مع الاحتياج أو الاضطرار إليها، لأن من حقوق أخوة الإسلام التناصر؛ قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} ، وقال صلى الله عليه وسلم:"انصر أخاك ظالمًا -أي: بأن تكفَّه عن ظلمه؛ كما في رواية البخاري- أو مظلومًا"(2) أي: بأن تدفع عنه من يظلمه، فالخذلان محرمٌ شديد التحريم، دنيويًا كان مثل أن يقدر على دفع عدوٍّ يريد أن يبطش به فلا يدفعه، أو دينيًا مثل أن يقدر على نصحه عن غيِّه بنحو وعظٍ فيترك.
وروى أبو داوود: "ما من امرئٍ مسلمٍ يخذل امرأً مسلمًا في موضعٍ تُنتهك فيه حرمته، ويُنتقَص فيه من عرضه إلا خذله اللَّه في موضعٍ يحب فيه نصرته"(3).
وأحمد: "من أُذِلَّ عنده مؤمنٌ فلم ينصره وهو يقدر على أن ينصره. . أذلَّه اللَّه على رؤوس الخلائق يوم القيامة"(4).
والبزار: "من نصر أخاه بالغيب وهو يستطيع نصره. . نصره اللَّه في الدنيا والآخرة"(5).
(ولا يكذبه) بضم أوله وإسكان ثانيه؛ كما ضبطه المصنف (6)؛ أي: لا يخبره بأمرٍ على خلاف الواقع لغير مصلحة تألُّفِ وصيانةِ نحوِ نفسٍ أو مالٍ؛ لأنه لغير ما ذُكِر
(1) قال بعضهم: (من البسيط)
لا تظلمنَّ إذا ما كنتَ مقتدرًا
…
فالظلم آخره يأتيك بالنَّدمِ
نامت عيونك والمظلوم منتبهٌ
…
يدعو عليك وعين اللَّه لم تنمِ
(2)
صحيح البخاري (2444) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.
(3)
سنن أبي داوود (4884) عن سيدنا جابر وسيدنا أبي طلحة رضي الله عنهما.
(4)
مسند الإمام أحمد (3/ 487) عن سيدنا سهل بن حنيف رضي الله عنه.
(5)
مسند البزار (3544) عن سيدنا عمران بن الحصين رضي الله عنهما.
(6)
إنما ضبطه المصنف في (باب الإشارات إلى ضبط الألفاظ المشكلات) من آخر "الأربعين": بفتح الياء وسكون الكاف، انظر (ص 646) آخر هذا الكتاب، وهذا الضبط هو الذي اقتصر عليه الحافظ العراقي في "شرح الترمذي"، ولعل ما وقع للشارح وللعلامة الشبرخيتي والمدابغي رحمهم اللَّه تعالى سبق قلم.
غشٌّ وخيانةٌ، ومن ثم كان أشدَّ الأشياء ضررًا، والصدق أشدَّها نفعًا؛ ولهذا علَتْ مرتبته على مرتبة الإيمان؛ لأنه إيمانٌ وزيادة؛ قال اللَّه تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ؛ ولأنه يرادف التقوى بدليل: {الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهي أخص من الإيمان، فكذا رديفها.
وبالجملة: فقُبْحُ الكذب مشهورٌ معلومٌ لكل ذي لبٍّ مستقيم؛ إذ ترك الفواحش كلها بتركه، وفعلها بفعله، فموضعه من القبح كموضع الصدق من الحسن؛ ولذا أجمعوا على تحريمه إلا لضرورةٍ أو مصلحةٍ (1).
(ولا يحقره) بفتح أوله وبالمهملة والقاف؛ أي: لا يستصغر شأنه ويضع من قدره؛ لأن اللَّه تعالى لمَّا خلقه. . لم يحقره، بل رفعه وخاطبه وكلَّفه، فاحتقاره تجاوزٌ لحدِّ الربوبية في الكبرياء، وهو ذنبٌ عظيم، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"بحسب امرئٍ من الشر. . . إلخ".
ورُوي بضم أوله وبالمعجمة والفاء (2)؛ أي: لا يغدر عهده، ولا ينقض أمانته، قال عياض:(والصواب المعروف هو الأول، وهو الموجود في غير "كتاب مسلم")(3) ويؤيده رواية: "ولا يحتقره".
ومعنى هذه الجمل: أن من حقِّ الإسلام وأُخُوَّتِه ألَّا يَظلم المسلم أخاه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره، وللإسلام حقوقٌ أُخر ذُكرتْ في غير هذا الحديث، وقد جمعت في قوله صلى الله عليه وسلم:"حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه".
(1) قال التادلي: الكذب خمسة: واجبٌ: لإنقاذ مال مسلم أو نفسه، وحرامٌ: وهو الكذب لغير منفعة شرعية، ومندوبٌ: وهو الكذب للكفار أن المسلمين أخذوا في أهبة الحرب إذا قصد بذلك إرهابهم، ومكروهٌ: وهو الكذب للزوجة تطييبًا لنفسها، ومباحٌ: وهو الكذب للإصلاح بين الناس، وتعقَّبَ ابن ناجي القسم الرابع بأن السُّنة جوزت الكذب فيه. اهـ، وقال قومٌ: الكذب كله قبيح؛ فقد سئل مالك رضي الله عنه: عن الرجل يكذب لزوجته وابنه تطييبًا؟ فقال: لا خير في الكذب. ولقد أحسن القائل: [من الرجز]
الصدق في أقوالنا أقوى لنا
…
والكِذْب في أفعالنا أفعى لنا
فهمْ يقولون: همُ أشياخُنا
…
فما لهم قد يفعلوا أشياخنا؟!
اهـ "شبرخيتي"(ص 265)
(2)
أي: (ولا يُخفره).
(3)
انظر "إكمال المعلم"(8/ 31).
فالاحتقار ناشئٌ عن الكِبر، لخبر مسلم:"الكبر بطر الحق وغمص الناس"(1) بمعجمة ثم مهملة، وفي روايةٍ لأحمد:"الكبر سفه الحق وازدراء الناس"(2)، وفي روايةٍ:"لا يعد الناس، فلا يراهم شيئًا" أي: لأن المتكبر ينظر لنفسه بعين الكمال، ولغيره بعين النقص، فيحتقرهم ويزدريهم، ولا يراهم أهلًا لأن يقوم بحقوقهم.
وتخصيص ذلك بالمسلم لمزيد حرمته، لا للاختصاص به من كل وجه؛ لأن الذمي يشاركه في حرمة ظلمه وخذلانه بنحو ترك دفع عدوه عنه، والكذب عليه، واحتقاره.
نعم؛ احتقاره من حيث الكفرُ القائم به جائزٌ؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} .
(التقوى) وهي: اجتناب عذاب اللَّه تعالى بفعل المأمور وترك المحظور (ههنا، ويشيرُ) بيديه (إلى صدره ثلاث مرات) أي: محل مادَّتها من الخوف الحامل عليها القلبُ الذي هو عند الصدر؛ قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} فلا عبرة بظواهر الصور، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"(3) أي: أن الأعمال الظاهرة لا تحصل بها التقوى، وإنما تحصل بما يقع في القلب من عظمة اللَّه تعالى وخشيته ومراقبته، فمن ثم كان نظر اللَّه تعالى بمعنى مجازاته ومحاسبته على ما في القلب من خيرٍ وشرٍّ دون الصور الظاهرة؛ إذ الاعتبار في هذا كلِّه بالقلب؛ كما أفاده قوله صلى الله عليه وسلم:"أَلَا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت. . صلح الجسد كله، وإذا فسدت. . فسد الجسد كله، أَلَا وهي القلب"(4).
وفي الحديث دليلٌ على أن العقل في القلب دون الرأس، ومرَّ ما في ذلك مستوفًى، ووجه مناسبة هذا لما قبله: الإعلامُ بأن كرم الخلق عند اللَّه تعالى إنما هو
(1) صحيح مسلم (91) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(2)
مسند الإمام أحمد (1/ 399) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
صحيح مسلم (2564/ 33) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
تقدم تخريجه (ص 231) وهو الحديث السادس من أحاديث المتن.
بالتقوى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، فَرُبَّ حقيرٍ أعظم قدرًا عند اللَّه عز وجل من كثيرين من عظماء الدنيا، وسئل صلى الله عليه وسلم: من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم للَّه عز وجل"(1)، وفي حديث آخر:"الكرم التقوى"(2).
وفي "الصحيحين": "أَلَا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيفٍ متضعِّفٍ لو أقسم على اللَّه. . لأبره، أَلَا أخبركم بأهل النار؟ كل عُتُلٍّ جوَّاظ مستكبر"(3).
وروى أحمد: "أما أهل الجنة. . فكل ضعيفٍ مستضعفٍ أشعث ذي طمرين لو أقسم على اللَّه. . لأبره. . . " الحديث (4).
وفي "الصحيحين": "تحاجَّتِ الجنة والنار، فقالت النار: أنا أُوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسَقَطهم، فقال تعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أُعذِّب بك من أشاء من عبادي"(5).
وروى أحمد: "افتخرتِ الجنةُ والنار، فقالت النار: يا رب؛ يدخلني الجبابرة والمتكبرون والملوك والأشراف، وقالت الجنة: يا رب؛ يدخلني الفقراء والضعفاء والمساكين. . . " وذكر الحديث (6).
وروى البخاري: مرَّ رجلٌ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال لرجلٍ عنده جالسٍ: "ما رأيك في هذا؟ " فقال: رجلٌ من أشراف الناس، هذا واللَّه؛ حريٌّ إن خطب. . أن ينكح، وإن شفع. . أن يشفَّع، فسكت صلى الله عليه وسلم، ثم مرَّ رجلٌ آخر، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا؟ " قال: يا رسول اللَّه؛ هذا رجلٌ من فقراء المسلمين، هذا حريٌّ إن خطب. . ألَّا ينكح،
(1) أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2378) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الترمذي (3271)، وابن ماجه (4219) عن سيدنا سمرة بن جندب رضي الله عنه.
(3)
صحيح البخاري (4918)، وصحيح مسلم (2853) عن سيدنا حارثة بن وهب رضي الله عنه. والعُتُلُّ الغليظ الجافي، والجواظ: الفظُّ المختال في مشيته.
(4)
مسند الإمام أحمد (3/ 145).
(5)
صحيح البخاري (4850)، وصحيح مسلم (2846) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
مسند الإمام أحمد (3/ 13) عن سيدنا أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وإن شفع. . ألَّا يشفَّع، وإن قال. . ألَّا يسمع لقوله، فقال صلى الله عليه وسلم:"هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذاك"(1).
(بحَسْب) بإسكان السين (امرئٍ من الشر) أي: يكفيه منه في أخلاقه ومعاشه ومعاده (أن يحقر أخاه المسلمَ)(2) كرره لتأكيد حرمة المسلم، ففيه تحذيرٌ أيُّ تحذيرٍ من احتقاره؛ لما مر أن اللَّه تعالى لم يحتقره؛ إذ أحسن تقويم خلقه، وسخَّر ما في السماوات والأرض كلَّه لأجله.
ومشاركة غيره له فيه إنما هي بطريق التبع، وسماه مسلمًا ومؤمنًا وعبدًا، وجعل الأنبياء الذين هم أفضل المخلوقات من جنسه، فكان احتقاره احتقارًا لما عظَّمه اللَّه تعالى وشرَّفه، وهو من أعظم الذنوب والجرائم، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم:"لا يدخل الجنة مَنْ في قلبه مثقال ذرةٍ من كِبْرٍ" رواه مسلم (3).
ومنه ألَّا يبدأه بالسلام احتقارًا له، أو لا يرده عليه، وليس من ذلك تقديم العالم على الجاهل، والعدل على الفاسق؛ لأنه ليس لذات المسلم، بل لوصفه المذموم، حتى لو زال عنه. . عاد إليه التعظيم والإجلال والاعتناء به والاحتفال.
(كل) مبتدأ (المسلم) فيه ردٌّ على من زعم أن (كلًّا) لا تضاف إلا إلى نكرة (على المسلم حرامٌ) خبره، ويبدل منه (دمه وماله وعرضه) أي: حسبه، وهو مفاخره ومفاخر آبائه، وقد يراد به النفس؛ كأكرمت عنه عرضي؛ أي: صُنتُ عنه نفسي، وفلانٌ نقي العرض؛ أي: بريءٌ من أن يُشتَم أو يُعاب، وحمله هنا على المعنى الثاني يلزمه تكرار؛ إذ هو حينئذٍ مرادفٌ للدم الذي هو عبارة عن النفس.
وأدلة تحريم هذه الثلاثة مشهورةٌ في الكتاب والسنة وإجماع الأمة فلا نطيل بها، وجعلُها كلَّ المسلم وحقيقتَه؛ لشدة اضطراره إليها، أما الدم. . فلأن به حياته ومادته، والمال. . فهو مادة الحياة، والعرض به قيام صورته المعنوية.
(1) صحيح البخاري (6447) عن سيدنا سهل بن سعد رضي الله عنه.
(2)
قوله: (بحسب امرئٍ) مبتدأ والباء فيه زائدة، وقوله:(أن يحقر. . . إلخ) خبره، و (المسلم) بالنصب صفة لـ (أخاه) اهـ هامش (غ)
(3)
صحيح مسلم (91) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
واقتصر عليها؛ لأن ما سواها فرعٌ عليها، وراجعٌ إليها؛ لأنه إذا قامت الصورة البدنية والمعنوية. . فلا حاجة إلى غير ذلك، وقيامهما بتلك الثلاثة لا غير، ولكون حرمتها هي الأصل والغالب لم يحتج إلى تقييدها بما إذا لم يعرض ما يبيحها شرعًا كالقتل قودًا، وأخذ مال المرتد فيئًا، وتوبيخ المسلم تعزيرًا، ونحو ذلك.
وقوله في رواية: "إلا بحقها" لمزيد الإيضاح والبيان، وأخذ بعضُ الصحابةِ حبلَ آخرٍ، ففزع، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا يحل لمسلمٍ أن يروع مسلمًا" رواه أبو داوود (1).
وروى أحمد وأبو داوود والترمذي: "لا يأخذ أحدكم عصا أخيه لاعبًا جادًا"(2) أي: لا يأخذ متاعه ليغيظه؛ لأنه حينئذٍ وإن كان لاعبًا في مذهب السرقة هو جادٌّ في إدخال الأذى والروع عليه.
وفي "الصحيحين" وغيرهما: "لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فإنه يحزنه"(3) وفي رواية: "فإن ذلك يؤذي المؤمن واللَّه يكره أذى المؤمن"(4).
وروى أحمد: "لا تؤذوا عباد اللَّه، ولا تعيروهم، ولا تطلبوا عوراتهم؛ فإن من طلب عورة أخيه المسلم. . طلب اللَّه عز وجل عورته حتى يفضحه في بيته"(5).
(رواه مسلم) وهو حديثٌ كثير الفوائد، عظيم العوائد، مشيرٌ إلى جُلِّ المبادئ والمقاصد، بل هو عند تأمل معناه وفهم مغزاه حاوٍ لجميع أحكام الإسلام منطوقًا ومفهومًا، ومشتملٌ على جميع الآداب أيضًا إيماءً وتحقيقًا.
وقول ابن المديني: في بعض رواته مجهولٌ. . غيرُ مسلَّمٍ له، أو أراد أنه مجهول الاسم؛ فإنه لا يعرف إلا بكنيته، ومن ثم وهم فيه الثوري.
(1) سنن أبي داوود (5004) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله، عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
(2)
مسند الإمام أحمد (4/ 221)، وسنن أبي داوود (5003)، وسنن الترمذي (2160) عن سيدنا يزيد بن السائب رضي الله عنه.
(3)
صحيح البخاري (6290)، وصحيح مسلم (2184) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(4)
عند الترمذي (2825) عن سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه.
(5)
مسند الإمام أحمد (5/ 279) عن سيدنا ثوبان رضي الله عنه.
ورواه الترمذي بلفظ: "المسلم أخو المسلم، لا يخونه، ولا يكذبه، ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام: عرضه، وماله، ودمه، التقوى هاهنا، بحسب امرئٍ من الشر أن يحتقر أخاه المسلم"(1).
وخرجاه في "الصحيحين" بلفظ: "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد اللَّه إخوانًا"(2) وله طرقٌ أخرى عظيمة كثيرة.
* * *
(1) سنن الترمذي (1927) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
صحيح البخاري (6066) ، وصحيح مسلم (2563) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.