الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]
ثُمَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ جَمَعَ الأَرْبَعِين في أُصُولِ الدِّينِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْفُرُوعِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْجِهَادِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الزُّهْدِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الآدَابِ، وَبَعْضُهُمْ فِي الْخُطَبِ، وَكُلُّهَا مَقَاصِدُ صَالِحَةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ قَاصِدِيهَا.
وَقَدْ رَأَيْتُ جَمْعَ أَرْبَعِينَ أَهَمَّ مِنْ هَذَا كُلِّهِ؛ وَهِيَ أَرْبَعُونَ حَدِيثًا مُشْتَمِلَةً عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكُلُّ حَدِيثٍ مِنْهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْعُلَمَاءُ بأَنَّ مَدَارَ الإِسْلَامِ عَلَيْهِ أَوْ هُوَ نِصْفُ الإِسْلَامِ أَوْ ثُلُثُهُ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
ثُمَّ أَلْتَزِمُ فِي هَذَهِ الأَرْبَعِينَ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً وَمُعْظَمُهَا فِي "صَحِيحَي الْبُخَارِي وَمُسْلِمٍ"، وَأَذْكُرُهَا مَحْذُوفَةَ الأَسَانِيدِ؛ لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا وَيَعُمَّ الانْتِفَاعُ بِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ أتبِعُهَا بِبَابٍ فِي ضَبْطِ خَفِيِّ أَلْفَاظِهَا.
وَيَنْبَغِي لِكُلِّ رَاغِبٍ فِي الآخِرَةِ أَنْ يَعْرِفَ هَذِهِ الأَحَادِيثَ؛ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْمُهِمَّاتِ، وَاحْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنَ التَّنْبِيهِ عَلَى جَمِيعِ الطَّاعَاتِ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ لِمَنْ تَدَبَّرَهُ.
وَعَلَى اللَّهِ اعْتِمَادِي، وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي وَاسْتِنَادِي، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ وَالْعِصْمَةُ.
(ثم من العلماء من جمع الأربعين في أصول الدين، وبعضهم) جمعها (في الفروع) أي: المسائل الفقهية (وبعضهم في الجهاد، وبعضهم في الزهد، وبعضهم في الآداب)(1) وبعضهم في فضائل سورٍ أو عملٍ أو قبيلةٍ أو نحوها.
(1) في بعض النسخ: (وبعضهم في الأدب) وهي في بعض النسخ المتن.
(وبعضهم) جمعها (في الخطب) جمع خطبة من الخَطْب؛ لأن العرب كانوا إذا ألمَّ بهم الخطب -وهو الأمر المهم-. . خطبوا له، فيجتمع بعضهم إلى بعض، ويحتالون في دفعه.
(وكلها مقاصد صالحة) لشمول الأحاديث السابقة لجميعها (رضي اللَّه) تعالى (عن قاصديها، وقد رأيتُ) من الرأي (جمع أربعين أهم من هذا كلِّه، وهي أربعون حديثًا مشتملة على جميع ذلك)(1) لاشتمالها على جميع أصول الشريعة وفروعها، وآدابها وأخلاقها، ووسائلها ومقاصدها؛ لأن منها ما يرجع إلى تصحيح النية والتقوى في السر والعلن، والزهد في الدنيا وقصر الأمل، وترك ما لا يعني من الفضول، والاشتغال بالذكر، والاستعداد للِّقاء، والتواضع للخلق، وحسن التخلُّق معهم بالآداب الشرعية، والانقباض عنهم فيما لا يعني، وإرادة الخير لهم باطنًا، ومساعدتهم ظاهرًا حسب الإمكان، وغير ذلك من المصالح الدينية والدنيوية؛ إذ الشريعة منحصرةٌ في بيان مصالحهما.
ولا يَرِدُ على قوله: (وهي أربعون حديثًا) زيادتُهُ حديثينِ: إما لأن العدد لا مفهوم له كما قال به جمعٌ من الأصوليين، بل هو الصحيح، أو أن ذكر القليل لا ينفي الكثير (2)؛ كما قيل به في رواية:"صلاة الجماعة تعدل صلاة الواحد بخمسةٍ وعشرين"(3) مع رواية: "سبعة وعشرين"(4)، أو أنه هنا كان عزمُهُ الاقتصارَ على الأربعين، فعند فراغها عنَّ له زيادة الحديثين الأخيرين؛ لحكمةٍ هي: أن أحدهما من باب الوعظ بمخالفة الهوى ومتابعة الشرع، ففيه حثٌّ على العمل بجميع الأحاديث السابقة، فكان في تعقيبها به تمام المناسبة، وثانيهما من باب الرجاء والدعاء والاستغفار والإطماع في الرحمة، ففيه تأنيس النفس وعدم نفرتها من التشديدات
(1) سقطت كلمة (جميع) من النسخ إلا من (غ) وهي موجودة في نسخ "المتن".
(2)
قوله: (أو أن ذكر القليل لا ينفي الكثير) هذا في معنى ما قبله؛ لأنه ينشأ عن كون العدد لا مفهوم له: أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، فلا يظهر عطفه بـ (أو) عليه، فليتأمل. اهـ "مدابغي"
(3)
أخرجها مسلم (649/ 247)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 60) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (645)، ومسلم (650) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما، ولفظه:"صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذِّ بسبعٍ وعشرين درجة".
الواقعة في خلال تلك الأحاديث السابقة، بل والحث على الإقبال عليها؛ رجاء أن يكون ذلك مكفِّرًا لما فرط منه، ففي التعقيب به تمام المناسبة أيضًا.
(وكل حديثٍ منها قاعدةٌ عظيمةٌ من قواعد الدين) القاعدة: أمرٌ كليٌّ يُتَعرف منه أحكام جزئياتِ موضوعِه، كـ: الأمر للوجوب، فإن جزئيات موضوعها وهو الأمر يعرف أحكامها منها بضم الدليل التفصيلي إليها هكذا، نحو:{وَأَقِيمُواْ ألصَّلَوةَ} أمر، والأمر للوجوب، فـ (أقيموا) للوجوب، وبهذا يُعلم أن القاعدة بهذا المعنى ليست مرادةً للمصنف؛ لأن تلك الأحاديث كلها من باب الأحكام التفصيلية دون القواعد الإجمالية، وإنما أراد بالقاعدة الأصلَ الذي يرجع إليه غالب الأحكام أو كثيرٌ منها.
(وقد وصفه العلماء بأن مدار) غالب أحكام (الإسلام عليه) لاستنباطها منه ابتداء، أو بواسطة مقدماتٍ كما يأتي بسطه في شرحها.
(أو هو نصف الإسلام أو ثلثه أو نحو ذلك) كالربع، فكل واحدٍ من هذه الأربعين وُصف بأحد هذه الأوصاف الأربعة، كما ذكره ابن الصلاح في أكثرها؛ فإنه ذكر أقوال الأئمة في تعيينها واختلافهم في أعيانها، فبلغ ما قيل فيه ذلك سبعةً وعشرين، كلها مندرجة في هذه الأربعين، منها عشرون صحيحة، وسبعة حسنة، وبلَّغها المصنف في "أذكاره" إلى ثلاثين، وزاد عليها هنا اثني عشر وذكر في السابع والعشرين حديثين؛ لاجتماعهما على معنًى واحد (1).
وسيتلى عليك في شرح كل منها -إن شاء اللَّه تعالى- ما يظهر به وجه كونه قاعدةً عظيمةً من قواعد الدين.
ومما ينتظم في سلكها: الحديث المتفق عليه: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي. . فلأولى رجل ذكر"(2)؛ لأنه جامعٌ لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم.
"يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"(3).
(1) في بعض النسخ: (على أمر واحد).
(2)
صحيح البخاري (6737)، وصحيح مسلم (1615) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
(3)
أخرجه البخاري (2645)، ومسلم (1447) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
"إن اللَّه إذا حرَّم شيئًا. . حرم ثمنه"(1)، "كل مسكرٍ حرام"(2)، "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًا من بطنه"(3)، "أربع من كنَّ فيه. . كان منافقًا. . . " الحديث (4)، "لو أنكم توكلون على اللَّه حقَّ توكله. . لرزقكم كما يرزق الطير"(5)، "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر اللَّه"(6).
(ثم) بعد جمع هذه الأربعين (ألتزم في) أسانيد (هذه الأربعين أن تكون صحيحةً) بالمعنى الأعم الشامل للحسن؛ إذ يطلق عليه أنه صحيحٌ حقيقةً عند بعضهم، ومجازًا عند الباقين؛ لمشابهته له في وجوب العمل به.
(ومعظمها) أي: غالبها (في "صحيحي البخاري ومسلم") اللذينِ هما أصح الكتب كما يأتي.
(وأذكرها محذوفة الأسانيد) لأنه ليس لها بالنسبة لأكثر الناس فائدةٌ بعد أن عُلمت صحتُها (7)، و (ليسهل حفظها) لقلة ألفاظها وحينئذٍ يكثر حفاظها (ويعم الانتفاع بها) كما هو مشاهَدٌ؛ لخلوص نية جامعها، وحقيقة التجائه إلى اللَّه تعالى.
(إن شاء اللَّه تعالى) أتى بها؛ للتبرك امتثالًا لأمره تعالى حيث أمر أشرف خلقه
(1) أخرجه ابن حبان (4938)، والدارقطني في "سننه"(3/ 7)، والإمام أحمد (1/ 293)، والطبراني في "الكبير"(12/ 155) عن سيدنا عبد اللَّه بن عباس رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه البخاري (4343)، ومسلم (1733) عن سيدنا أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3)
أخرجه ابن حبان (5236)، والترمذي (2380)، وابن ماجه (3349) عن سيدنا المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه.
(4)
أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما. وفي هامش (غ):(ثم هذه الخصال قد توجد في مسلمِ، فتسميةُ مرتكبها منافقًا تشبيهٌ له، أو المراد بالمنافق: من غلبت هذه الخصال عليه واستخفَّ بها؛ إذ من كان كذلك. . كان فاسد الاعتقاد غالبًا). "فتح الباري"(1/ 90 - 91) بتصرف.
(5)
أخرجه ابن حبان (730)، والحاكم (4/ 318)، والترمذي (2344) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(6)
أخرجه ابن حبان (814)، والحاكم (1/ 495)، والترمذي (3375) عن سيدنا عبد اللَّه بن بُسر رضي الله عنه، وهذه الأحاديث الثمانية التي ذكرها الشارح رحمه اللَّه تعالى هي التي ألحقها الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه اللَّه تعالى بهذه "الأربعين"، ثم شرحها في كتابه "جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثًا من جوامع الكلم".
(7)
وإنما تثبت صحة الحديث بالإسناد، وقد تعذَّر الإسناد في هذا الزمان باعتبار الرواية، بل الطريق في معرفة الإسناد: نقلُ الحديث من كتابٍ معتبرٍ، مقابَلٍ على يد ثقةٍ، على كتابٍ معتبرٍ أيضًا. اهـ هامش (غ).
بالإتيان بها لذلك بقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ومن ثم سُنَّت في الأمور المستقبلة دون الماضية، كما استُفيد من الآية، فلا يقال: فعلت كذا أمس إن شاء اللَّه تعالى.
(ثم أُتبعها ببابٍ في ضبط خفيِّ ألفاظها) جميعه، وبعض الواضح منها كما ذكره أول هذا الباب، وسأنقل منه ما يُحتاج إليه إلى مواضعه من هذا الشرح إن شاء اللَّه تعالى (1).
(وينبغي لكل راغبٍ في) عمل أو ثواب (الآخرة أن يعرف هذه الأحاديث) ويبحث عن أحكامها، ومعانيها، وما نصَّتْ عليه، وأشارت إليه (لما اشتملت عليه من المهمات، واحتوت عليه من التنبيه على جميع الطاعات، وذلك ظاهرٌ لمن تدبَّره) مستحضرًا ما قدمناه آنفًا في شرح قوله: (مشتملة على جميع ذلك) ونزيد هنا إيضاحًا: أن الشريعة إنما وردت لبيان مصالح الناس، وانتظام أحوالهم في معاشهم ومعادهم، وانتظام حال الأول إنما يتم بوضع قانون المعاملات على وفق العدل والإنصاف، وانتظام حال الثاني إنما يوجد بالتوحيد، ويتم بالطاعات القلبية؛ كالإخلاص والنية، والعلمية والعملية، وهذه الأحاديث منها ما هو ناصٌّ على الأول بأقسامه، ومنها -وهو أكثرها- ما هو ناصٌّ على الثاني بأقسامه، كما سيتضح لك بأزيد من ذلك عند تقرير كلٍّ منها.
(وعلى اللَّه) لا على غيره، كما أفاده تقديم المعمول (اعتمادي) في هذا الجمع وغيره (وإليه) لا إلى غيره (تفويضي واستنادي، وله) دون غيره (الحمد) ملكًا واستحقاقًا واختصاصًا (والنعمة) إيجادًا وإيصالًا إلى خلقه بسائر أنواعها كما مر، وغيرُهُ وإن وُجد له حمدٌ أو مِنهُ نعمةٌ فإنما هو باعتبار الصورة دون الحقيقة؛ كما مر بيانه واضحًا سوطًا (2).
(وبه) أي: بسبب تفضُّله ومِنَّته على من يشاء من خلقه (التوفيق) وهو: خلق
(1) وقد أتبع الإمام النووي رحمه الله تعالي "الأربعين" ببابٍ سماه: (باب الإشارات إلي ضبط الألفاظ المشكلات) وضبط فيه الألفاظ الواردة كما يفعل رحمه الله تعالي في كتبه دائمًا، وكثير ممن اعتنى بـ"الأربعين" فاته أن يلحق بها هذا الباب المفيد، وقد جعلناه آخر الكتاب؛ لتمام الفائدة.
(2)
انظر ما تقدم (ص 81).
قدرة الطاعة في العبد، ويرادفه باعتبار المآل اللُّطف؛ وهو: صلاح ما به العبد عند خاتمة عمره، فمآلهما واحدٌ وإن اختلف مفهومهما كما تقرر.
(والعصمة) أي: الحفظ عن الوقوع في المخالفات، ويؤخذ من كلامه: أنه يجوز لنا الدعاء بالعصمة، وهو ظاهر إن أُريد بها الحفظ من الذنب مع جواز وقوع خلافه، وهذا هو الثابت لغير الأنبياء، وأما الثابت للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. . فهو الحفظ مع استحالة وقوع خلافه، وأما مَنْ منع الدعاء بها مطلقًا، واعترَضَ على الشيخ الأستاذ أبي الحسن الشاذلي في الدعاء بها في "حزبه". . فلم يصب؛ إذ لا دليل يعضده، ولا قياس يساعده (1).
* * *
(1) حيث قال الإمام أبو الحسن الشاذلي رحمه اللَّه تعالى في حزبه المسمى "حزب البحر": (بسم اللَّه الرحمن الرحيم، اللهم؛ يا علي يا عظيم، يا حليم يا كريم، أنت ربي، وعلمك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء وأنت العزيز الرحيم، نسألك العصمة في الحركات والسكنات، والكلمات والإرادات والخطرات؛ من الشكوك والظنون، والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب. . .).