المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُوَنَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ" حَدِيثٌ صَحِيحٌ، رَوَيْنَاهُ في كُتَابِ "الْحُجَّةِ" بِإسْنَادٍ صَحِيحٍ.

(عن أبي محمد) ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو نُصير (عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه) تعالى (عنهما) القرشي السهمي، روي أنه صلى الله عليه وسلم قال فيهما وفي أمه:"نِعمَ البيت عبد اللَّه، وأبو عبد اللَّه، وأم عبد اللَّه"(1)، وكان يفضله على أبيه، وهو أكبر منه باثنتي عشرة سنة، وقيل: بإحدى عشرة سنة.

أسلم قبل أبيه، وكان غزير العلم، مجتهدًا في العبادة، وهو أجلُّ العبادلة؛ إذ هو من عُبَّاد الصحابة وزُهَّادهم وفضلائهم وعلمائهم، ومن اكثرهم رواية، قال أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه:(ما أحدٌ أكثر حديثًا عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم منِّي إلا عبد اللَّه بن عمرو؛ فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب)(2).

روي له سبع مئة حديث، اتفقا على سبعة عشر، وانفرد البخاري بثمانية، ومسلم بعشرين، وروايته أكثر من ذلك كما مر، وإنما توعَّرتِ الطرق في الرواية عنه، فكان ذلك سببًا في قلة ما أُثر وصح عنه، وقد كان استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة عنه في حال الرضا والغضب، فأذن له، فقال: إنه حفظ عنه صلى الله عليه وسلم ألف مَثَلٍ، وكان قد قرأ الكتب (3).

(1) أخرجه الإمام أحمد (1/ 161)، وأبو يعلى (645) عن سيدنا طلحة بن عبيد اللَّه رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري (113)، والترمذي (2668).

(3)

أي: الكتب القديمة؛ كالتوراة والإنجيل والزبور، لكن قبل التبديل. اهـ هامش (ج)

ص: 618

وكان يصوم النهار، ويقوم الليل، ويرغب عن غشيان النساء (1)، لازم أباه حتى توفي بمصر، ثم انتقل إلى الشام حتى مات يزيد، ثم انتقل لمكة ومات بها -وقيل: بالطائف، وقيل: بالشام، وقيل: بمصر- سنةَ خمس أو سبع أو تسع وستين عن اثنين وسبعين أو تسعين سنة، وقد عمي آخر عمره رضي اللَّه تعالى عنه.

(قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لا يؤمن أحدكم) أي: إيمانًا كاملًا (حتى يكون هواه) بالقصر: ما يهواه؛ أي: ما تحبه نفسه وتميل إليه (2)، فحقيقته: شهوات النفوس، وهي ميلها إلى ما يلائمها، وإعراضها عمَّا ينافرها، مع أنه كثيرًا ما يكون عطبها في الملائم، وسلامتها في المنافر.

ثم المعروف في استعمال الهوى عند الإطلاق: أنه الميل إلى خلاف الحق؛ ومنه: {وَلَا تَتَّبعٍ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى الْنَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} .

وقد يطلق بمعنى مطلق الميل والمحبة، فيشمل الميل للحق وغيره.

وبمعنى محبة الحق خاصة والانقياد إليه، ومنه ما في هذا الحديث، وقول عائشة رضي اللَّه تعالى عنها لمَّا نزل قوله تعالى:{تُرْجِى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتَؤِىَ إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما أرى ربك إلا يسارع في هواك)(3)، وقول عمر رضي اللَّه تعالى عنه في قصة المشاورة في أُسارى بدر: (فهَوِيَ رسول اللَّه صلى اللَّه

(1) زوجه أبوه بامرأةٍ من قريش، ثم دخل عليها أبوه فقال لها: كيف وجدتِ بعلك؟ فقالت: خير الرجال، أو خير البرية من رجلٍ، لم يفتش كنفًا، ولم يعرف لنا فراشًا، فأقبل عليه والده يعظه، وقال له: زوجتك امرأةً من قريش فعضلتها، ثم انطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فشكا له، فأرسل له صلى الله عليه وسلم، فأتاه، فقال له:"أتصوم النهار؟ " قال: نعم؛ قال: "وتقوم الليل؟ " قال: نعم؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمسُّ النساء، فمن رغب عن سنتي. . فليس مني" اهـ "الفتوحات" الوهبية" (ص 286)

(2)

قوله: (بالقصر) ويجمع على أهواء، وأما الممدود. . فهو الجرم الذي بين السماء والأرض، وجمعه أهوية، وما أحسن ما قاله بعضهم:(من الكامل)

جُمع الهواء مع الهوى في مهجتي

فتكاملت في أضلعي نارانِ

فقُصِرتُ بالممدود عن نَيْل المنى

ومُدِدتُ بالمقصور في أكفاني

(3)

أخرجه البخاري (4788)، ومسلم (1464).

ص: 619

عليه وسلم ما قال أبو بكرٍ، ولم يَهْوَ ما قلت) (1).

وجمعه أهواء، وجمع الممدود -وهو: ما بين السماء والأرض وكلِّ متجوف- أهويةٌ.

(تبعًا لما جئت به) من هذه الشريعة المطهَّرة الكاملة؛ بأن يميل قلبه وطبعه إليه كميله لمحبوباته الدنيوية التي جُبل على الميل إليها من غير مجاهدةٍ، وتصبُّرٍ، واحتمال مشقة، أو بعض كراهةٍ ما، بل يهواها كما يهوى المحبوبات المشتهيات؛ إذ من أحب شيئًا. . أتبعه هواه، ومال عن غيره إليه، ومن ثم آثر صلى الله عليه وسلم التعبير بذلك على نحو: حتى يأتمر بكل ما جئت به؛ لأن المأمور بالشيء قد يفعله اضطرارًا.

واعلم: أن الهوى يميل بالإنسان بطبعه إلى مقتضاه، ولا يقدر على جعله تبعًا لما جاء به صلى الله عليه وسلم إلا كل ضامرٍ مهزولٍ (2).

(حديث صحيح رويناه في كتاب "الحجة) في اتباع المحجَّة" في عقيدة أهل السنة؛ لتضمنه ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث، وهو كتابٌ جيدٌ نافعٌ، وقدره كـ "التنبيه" مرةً ونصفًا تقريبًا، ومؤلفه هو العلامة أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الحافظ، كذا قاله بعضهم، وخالفه غيره فقال: إنه أبو الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي الفقيه الشافعي الزاهد نزيل دمشق (3).

(بإسناد صحيح) قال بعضهم: هو كما قال، وبيَّن ذلك، ويؤيده: أن الحافظ أبا نعيم أخرجه في "كتاب الأربعين" التي شرط أولها: أن تكون من صحاح الأخبار وجياد الآثار، ومما أجمع الناقلون على عدالة ناقليه.

(1) أخرجه مسلم (1763).

(2)

تشبيهًا له بِجَمَل أهزلَه وأضمره كثرةُ السير والسفر بجامع حصول التعب للعابد كالتعب الحاصل للجمل، وكثرة الصبر عن اللذات والشهوات. اهـ هامش (ج)

(3)

وهذا القول هو الذي اقتصر عليه الإمام النووي رحمه اللَّه تعالى في "تهذيب الأسماء واللغات"(2/ 125 - 126) حيث قال: (وله مصنفات كثيرة في المذهب وغيره، فعندي من مصنفاته كتاب "الحجة على تارك المحجة" سمعته عن ابن الأنباري. . .) وذكر سنده إلى المؤلف. وكذا ذكره الحافظ الذهبي في "سير أعلام النبلاء"(19/ 136).

ص: 620

وأخرجه أئمةٌ آخرون في مسانيدهم كالطبراني وزاد بعد (به): "لا يزيغ عنه" والحافظ أبو بكر بن أبي عاصم الأصبهاني (1)، لكن اعترض بعضهم تصحيحه بقوادح أبداها في سنده، حاصلها: أنه تعارض في اثنين من رجاله توثيقٌ وتجريحٌ، وتعيينٌ وإبهامٌ، ولا شك أن التعيين مقدَّمٌ، وكذا التوثيق من الأعلم الأدرى (2)، ولا يبعد أنه هنا كذلك، كيف والبخاري خرج له ووثقه آخرون غيره؟! فلذا آثر المصنف هؤلاء على المجرِّحين له وإن كثروا وجلُّوا أيضًا.

وهو على وجازته واختصاره يجمع ما في هذه الأربعين وغيرها من دواوين السنة، وبيانه: أنه صلى الله عليه وسلم إنما جاء بالحق وصدق المرسلين، وهذا الحق إن فسر بالدين. . شمل الإيمان، والإسلام، والنصح للَّه، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم، والاستقامة، وهذه أمورٌ جامعةٌ لا يبقى بعدها إلا تفاصيلها، أو بالتقوى (3). . فهي مشتملةٌ على ما ذكرناه أيضًا، فإذا كان كذلك. . كان هوى الإنسان تبعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الدين والتقوى.

وعلم من الحديث: أن مَنْ كان هواه تابعًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. . كان مؤمنًا كاملًا، وضده؛ وهو مَنْ أعرض عن جميع ما جاء به -ومنه الإيمان-. . فهو الكافر، وأما مَنِ اتبع البعض؛ فإن كان ما اتبعه أصلَ الدين -وهو الإيمان- وترك ما سواه. . فهو الفاسق، وعكسه المنافق، واستمداده من قوله تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، الآية؛ إذ فيها غاية التعظيم لحقه صلى الله عليه وسلم، والتأدُّب معه، ووجوب محبته واتباعه فيما يأمر به من غير توقفٍ ولا تلعثمٍ، ومن ثم لم يكتف بالتحكيم، بل عقَّبه بـ:{ثمَّ لَا يَجِدُوْا فِىَ أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ} ، ولم يكتف بهذا أيضًا، بل زاد التأكيد بقوله:

(1) كتاب السنة (15).

(2)

أي: بحال الراوي، وإنما قال الشارح ذلك؛ لأن القاعدة: أن مَنْ جرح مقدَّمٌ على من وثَّق، لكن لا مطلقًا، بل محله: إذا لم يكن الموثَّق أعلم من الجارح؛ أي: فحينئذ يقدم الموثَّق. اهـ هامش (ج)

(3)

معطوف على قوله: (إن فسر بالدين) أي: وإن فسر بالتقوى. . فهي مشتملة. . . إلخ.

ص: 621

{وَيُسَلِمُّوْا} ، ولم يكتف به أيضًا، بل زاد فيه فأتى بالمصدر الرافع لاحتمال التَّجَوُّز فقال:{تَسلِيمًا} ، وبهذا التسليم تكون النفس مطمئنةً لحكمه، منشرحةً به، لا تَوَقُّف عندها فيه بوجه.

وسبب نزولها مَنْ تقدَّم ذكره ممَّن أراد التحاكم إلى الطاغوت كما يقتضيه السياق، أو قتل عمر مَنْ لم يرضَ بحكم النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يرده إلى عمر، فعتب النبي صلى الله عليه وسلم في قتله مؤمنًا، فنزلت تبرئةً له رضي اللَّه تعالى عنه (1).

أو تخاصم الزبير رضي اللَّه تعالى عنه وأنصاري -وزعمُ أن حاطب بن أبي بلتعة البدري هو خصمه وَهَمٌ- في ماءٍ فامر صلى الله عليه وسلم الزبير بسقي أرضه ثم تسريحه إلى أرض خصمه؛ لكونه -أعني الزبيرَ- أعلى وأقرب إلى مجتمع السيل، ومن كان كذلك. . يستحق الشرب وحبس الماء إلى أن يبلغ الكعبين ثم يسرحه لمن تحته، وهكذا، فقال الأنصاري: يا رسول اللَّه؛ أن كان ابن عمتك؟! فتلوَّن وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الزبير بأن يحبس الماء حتى يبلغ الجُدْر -بضم فسكون، وفي رواية:(حتى يبلغ الكعبين)(2)، والروايتان متقاربتان- ثم بإرساله لخصمه، فاستوفى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لما أغضبه ذلك الرجل بذلك الذي نسبه إلى الجور للزبير حقَّه بعد أن كان أولًا أمره بالمسامحة بترك بعض حقه، فنزلت تلك الآية ردًا على ذلك الرجل وأمثاله (3)؛ فإنه إما منافقٌ؛ إذ لا يصدر مثل ذلك من مسلمٍ، أو مسلمٌ لكن صدر منه ذلك بادرةَ نفس وزلةَ شيطان كما اتفق لأصحاب الإفك كحسان ومسطح، ولم يقتله صلى الله عليه وسلم؛ لعظيم حلمه وصفحه، وخشيةً من تنفير غيره.

ولزوال هذين بوفاته صلى الله عليه وسلم وجب قتل مَنْ صدر منه نحو ذلك ما لم يتب عندنا، ومطلقًا عند مالك وجماعة.

(1) ذكره السيوطي في "الدر المنثور"(2/ 585) وعزاه لابن أبي حاتم وابن مردويه.

(2)

أخرجها البخاري (2362).

(3)

أخرجه البخاري (2360)، ومسلم (2357) عن سيدنا عبد اللَّه بن الزبير رضي الله عنهما.

ص: 622

ونظيره: قول آخر في قسمةٍ قسمها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لقسمةٌ ما أُريد بها وجه اللَّه، فبلغه صلى الله عليه وسلم ذلك فغضب، ثم قال:"يرحم اللَّه أخي موسى؛ لقد أُوذي بأكثر من هذا فصبر"(1).

وفيه فضيلة الصبر، وفضائله كثيرة؛ منها: أنه تعالى جعل في مطلق الأعمال الحسنة بعشر، والصدقة بسبع مئة مع المضاعفة عليها لمن يشاء تعالى، وجعل جزاء الصابرين بغير حساب، ومر ذلك قريبًا.

وسبب تميزه بذلك: ما فيه من مجاهدة النفس وقمعها عن شهواتها مع كونها جُبلت على الانتقام ممن آذاها، ومن ثم شقَّ عليه صلى الله عليه وسلم ما نسبه إليه هذان، لكن سكَّن ذلك منه علمُهُ بعظيم جزاء الصبر، وورد:(أنه نصفُ الإيمان)(2)، وأنه: لا عطاءَ خيرٌ ولا أوسع منه.

ويوافق حديث الباب أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده؛ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه، وولده، وأهله، والناس أجمعين" رواه الشيخان (3).

واستفيد منه توقف الإيمان على تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على محبة جميع الخلائق، ومحبته تابعةٌ لمحبة مُرسِلِه، والمحبة الصحيحة تقتضي المتابعة والموافقة في محبة ما يحب وكراهة ما يكره، وكلا هذين من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، أما الأول. . فلما مر في شرحه، وأما الثاني. . فلأنه جمع فيه أقسام المحبة الثلاثة: محبة الإجلال كمحبة الوالد، والشفقة كمحبة الولد، والاستحسان والمشاكلة كمحبة سائر الناس.

فمعنى الحديث: أَن مَنِ استكمل الإيمان. . علم أن حقه صلى الله عليه وسلم آكد من حق أبيه وأمه والناس؛ لأنه استنقذنا من النار، وهدانا من الضلال، بل ومن حق نفسه، ومن ثم وجب بذلها دونه.

(1) تقدم تخريجه (ص 338) في شرح الحديث السادس عشر.

(2)

أخرجه الحاكم (2/ 446) من قول سيدنا عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

(3)

صحيح البخاري (15)، وصحيح مسلم (44) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 623

ولما قال له عمر: يا رسول اللَّه؛ أنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال:"حتى من نفسك" فسكت ساعةً، ثم قال: حتى من نفسي، فقال:"الآن يا عمر"(1).

ولما صدقت محبة الصحابة رضوان اللَّه تعالى عليهم له صلى الله عليه وسلم، وكان هواهم تبعًا لما جاء به. . قاتلوا معه آباءهم وأبناءهم، حتى قتل أبو عبيدة أباه؛ لإيذائه لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وتعرَّض أبو بكر لولده عبد الرحمن رضي اللَّه تعالى عنهما يوم بدرٍ ليقتله.

فالواجب على كل مؤمنٍ أن يحب ما أحبه اللَّه تعالى محبةً توجب له الإتيان بما وجب عليه منه، فإن زادت محبته حتى أتى بمندوبه أيضًا. . كان أكمل، وأن يكره ما كرهه اللَّه تعالى كراهةً توجب كفه عما حُرِّم عليه منه، فإن زادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيهًا. . كان أفضل، وجميع المعاصي إنما تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة اللَّه ورسوله:{فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} ، وكذلك البدع؛ إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع؛ ولهذا يسمى منتحلوها أهل الهوى (2).

* * *

(1) أخرجه البخاري (6632) عن سيدنا عبد اللَّه بن هشام رضي الله عنه.

(2)

في نسخ عدة: (أهل الأهواء).

ص: 624