المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان] - الفتح المبين بشرح الأربعين

[ابن حجر الهيتمي]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌عناية العلماء بـ "الأربعين النووية

- ‌ترجمة الإمام محيي الدين النووي رضي الله عنه للإمام محمد بن الحسن الواسطي الحسيني الشريف

- ‌اسمه ومولده ونشأته

- ‌شيوخه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته وتصانيفه

- ‌ترجمة الإمام الفقيه أحمد بن محمد ابن حجر الهيتمي المكي رحمه اللَّه تعالى

- ‌اسمه ونسبه

- ‌مولده ونشأته

- ‌طلبه للعلم

- ‌شيوخه

- ‌مُقاساته في الطَّلب وخروجه إلى مكة

- ‌زملاؤه وأقرانه

- ‌تلامذته

- ‌مؤلفاته

- ‌وفاته

- ‌وصف النسخ الخطية

- ‌منهج العمل في الكتاب

- ‌صور المخطوطات المستعان

- ‌[خُطْبَةُ الكِتَابِ]

- ‌[خطبة الأربعين النووية]

- ‌[روايات حديث: "من حفظ على أمتى أربعين حديثًا

- ‌تَنبيهَان

- ‌أحدهما [عدم التفرقة فيمن حفظ أربعين صحيحة وحسنة، وضعيفة في الفضائل]

- ‌ثانيهما [حفظ الأربعين مختصٌّ بالحديث الشريف]

- ‌[ذكر بعض من صنف أربعين حديثًا]

- ‌[بيان سبب تأليف "الأربعين" وشرطه فيها]

- ‌الحديث الأول [الأعمال بالنيات]

- ‌فائدة [تأثير الرياء على ثواب الأعمال]

- ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

- ‌تنبيه [تلازم مفهوم الإيمان والإسلام وتأويل ما ورد من تغايرهما]

- ‌الحديث الثالث [أركان الإسلام]

- ‌تنبيه [ثبوت عموم الحديث ووجوب تكرر الأركان من أدلة أخرى]

- ‌الحديث الرابع [مراحل خلق الإنسان وتقدير رزقه وأجله وعمله]

- ‌تنبيه [تعليق الطلاق على الحمل، ومتى تنفخ الروح]

- ‌الحديث الخامس [إنكار البدع المذمومة]

- ‌الحديث السادس [الابتعاد عن الشُّبهات]

- ‌الحديث السابع [النصيحة عماد الدين]

- ‌الحديث الثامن [حرمة دم المسلم وماله]

- ‌تنبيه [لزوم موافقة المجتهدين لأمر الإمام المجتهد العادل وحكمه]

- ‌الحديث التاسع [النهي عن كثرة السؤال والتنطُّع]

- ‌الحديث العاشر [كسب الحلال سبب لإجابة الدعاء، وأكل الحرام يمنعها]

- ‌تنبيه [علاقة انتفاء القبول بانتفاء الصحة]

- ‌الحديث الحادي عشر [من الورع توقي الشُّبَه]

- ‌الحديث الثاني عشر [ترك ما لا يعني والاشتغال بما يفيد]

- ‌تنبيه [تقسيم الأشياء مما يعني الإنسان وما لا]

- ‌الحديث الثالث عشر [من علامات كمال الإيمان حبُّك الخير للمسلمين]

- ‌الحديث الرابع عشر [حرمة المسلم ومتى تُهدر]

- ‌الحديث الخامس عشر [التكلم بخير وإكرام الجار والضيف من الآداب الإسلامية]

- ‌تنبيه [الصمت مطلقًا منهيٌّ عنه، والفرق بينه وبين السكوت]

- ‌الحديث السادس عشر [النهي عن الغضب]

- ‌تنبيه [الغضب للَّه محمودٌ ولغيره مذموم]

- ‌الحديث السابع عشر [الأمر بالإحسان والرفق بالحيوان]

- ‌الحديث الثامن عشر [حسن الخلق]

- ‌تنبيه [الأعمال الصالحة لا تكفر غير الصغائر، ووجوب التوبة من الصغيرة]

- ‌الحديث التاسع عشر [نصيحةٌ نبويةٌ لترسيخ العقيدة الإسلامية]

- ‌الحديث الموفي عشرين [الحياء من الإيمان]

- ‌الحديث الحادي والعشرون [الاستقامة لبُّ الإسلام]

- ‌الحديث الثاني والعشرون [دخول الجنة بفعل المأمورات وترك المنهيات]

- ‌الحديث الثالث والعشرون [من جوامع الخير]

- ‌الحديث الرابع والعشرون [آلاء اللَّه وفضله على عباده]

- ‌تنبيه [الدعاء بالهداية جائز ولو للمسلم]

- ‌فائدة [في الفرق بين القرآن والأحاديث القدسية، وأقسام كلام اللَّه تعالى]

- ‌الحديث الخامس والعشرون [التنافس في الخير، وفضل الذِّكر]

- ‌الحديث السادس والعشرون [كثرة طُرُق الخير وتعدُّد أنواع الصدقات]

- ‌الحديث السابع والعشرون [تعريف البر والإثم]

- ‌تنبيه [كيفية الاحتجاج بحديثٍ من كتب السنة]

- ‌الحديث الثامن والعشرون [السمع والطاعة والالتزام بالسنة]

- ‌قاعدة [في بيان كيفية أخذ الحكم]

- ‌الحديث التاسع والعشرون [طريق النجاة]

- ‌الحديث الثلاثون [الالتزام بحدود الشرع]

- ‌الحديث الحادي والثلاثون [الزهد في الدنيا وثمرته]

- ‌الحديث الثاني والثلاثون [لا ضرر ولا ضرار]

- ‌تنبيه [في المراد من حديث: "لا يمنع أحدكم جاره أن يضع خشبه في جداره

- ‌فائدة [في بيان مراتب الضرورات]

- ‌الحديث الثالث والثلاثون [أسس القضاء في الإسلام]

- ‌فائدة [فصل الخطاب]

- ‌الحديث الرابع والثلاثون [تغيير المنكر ومراتبه]

- ‌الحديث الخامس والثلاثون [أخوة الإسلام وحقوق المسلم]

- ‌الحديث السادس والثلاثون [قضاء حوائج المسلمين، وفضل طلب العلم]

- ‌الحديث السابع والثلاثون [عظيم لطف اللَّه تعالى بعباده وفضله عليهم]

- ‌تنبيه [في بيان قوله تعالى: {وَهَمَّ بِهَا}]

- ‌الحديث الثامن والثلاثون [محبة اللَّه لأوليائه وبيان طريق الولاية]

- ‌تنبيه [اقتراف المعصية محاربة للَّه عز وجل]

- ‌الحديث التاسع والثلاثون [رفع الحرج في الإسلام]

- ‌فائدة [في بيان سبب نزول آخر "سورة البقرة

- ‌فائدة أخرى [في بيان بطلان مذهب أهل التقية]

- ‌الحديث الأربعون [اغتنام الأوقات قبل الوفاة]

- ‌الحديث الحادى والأربعون [اتباع النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌الحديث الثاني والأربعون [سعة مغفرة اللَّه عز وجل]

- ‌[خَاتمَة الكِتَاب]

- ‌بَابُ الإِشَارَاتِ إِلَى ضَبْطِ الأَلْفَاظِ الْمُشْكِلَاتِ

- ‌في الخطبة

- ‌الحديث الأول

- ‌الحديث الثاني

- ‌الحديث الخامس

- ‌الحديث السادس

- ‌الحديث السابع

- ‌الحديث التاسع

- ‌الحديث العاشر

- ‌الحديث الحادى عشر

- ‌الحديث الثاني عشر

- ‌الحديث الرابع عشر

- ‌الخامس عشر

- ‌السابع عشر

- ‌الثامن عشر

- ‌التاسع عشر

- ‌العشرون

- ‌الحادي والعشرون

- ‌الثالث عشر

- ‌الرابع والعشرون

- ‌الخامس والعشرون

- ‌السادس والعشرون

- ‌السابع والعشرون

- ‌الثامن والعشرون

- ‌التاسع والعشرون

- ‌الثلاثون

- ‌الثاني والثلاثون

- ‌الرابع والثلاثون

- ‌الخامس والثلاثون

- ‌الثامن والثلاثون

- ‌الأربعون

- ‌الثاني والأربعون

- ‌فصل [المراد بالحفظ في قوله صلى الله عليه وسلم: "من حفظ على أمتي أربعين حديثًا

- ‌أَهَمُّ مَصَادِرِ وَمَرَاجْعِ التَّحْقِيقِ

الفصل: ‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

‌الحديث الثاني [مراتب الدين: الإسلام والإيمان والإحسان]

عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ. . إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَي عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:"الإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ؛ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ، قَالَ:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّه "قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ، قَالَ:"أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ. . فَإنَّهُ يَرَاكَ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ، قَالَ:"مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتهَا، قَالَ:"أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ" ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِثَ مَلِيًّا (1)، ثُمَّ قَالَ:" يَا عُمَرُ؛ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟ " قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ:"فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ (2).

(1) وفي رواية (فلبثت)، ولقد بيَّن الشارح رحمه اللَّه تعالى تفضيل ذلك، انظر (ص 184).

(2)

صحيح مسلم (8).

ص: 139

(عن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه [أيضًا] قال: بينما) (1) هي -كـ (بينا) الواقعة في روايةٍ أخرى- (بين) الظرفية التي لا تكون إلا بين اثنين فأكثر، زِيدَ عليها (ما) أو الألف؛ لتكفَّها عن جرِّها لمَا وليها، ومن ثَمَّ رُفع على الابتداء فيهما، لكن وجوبًا في (بينما)، وجوازًا في (بينا) بل الأحسن: جرُّ المصدر بعدها نظرًا إلى أن ألفها ملحقةٌ لإشباع الفتحة، وأنها مضافةٌ إليه، ورفعُه نظرًا إلى أنها زِيدت لمنع الإضافة، وينحصر ما يليها في المصدر والجملة؛ لأنها جوابٌ، فاشترط فيما يليها أن يُعطى معنى الفعل، وشذَّ من قال: إن ألفها للتأنيث.

(نحن) ضمير للمتكلم المعظم نفسه، أو ومعه غيره.

(عند)(2) ظرف مكانٍ غير متمكن (3)، ولا يدخل عليها حرف جرٍّ غير (من)(4) وتعم المملوك الحاضر والغائب، بخلاف (لدى) تختصُّ بالحاضر.

(رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم) تأنيث (ذو) بمعنى صاحب؛ أي: بينما نحن عنده في ساعةٍ ذات مرة من يومٍ، فحذف ذلك لوضوح المراد منه، على حدِّ قوله:(تضوع المسك منها نسيمَ الصبا)(5) أي: تضوعًا مثل تضوُّعِ نسيم الصبا.

(إذ) ظرف زمانٍ ماضٍ غير متمكن، يضاف للجملتين، وقد تفيد الشرط إذا وليتها (ما) وقد تبدل اشتمالًا من مفعول، نحو:{إِذِ اَنتَبَذَت} وتكون مفعولًا به كما قال الزمخشري وغيره (6)، وتعليلية، وللمفاجأة كما هنا؛ أي: كان طلوعه علينا بين أثناء أزمنة كوننا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وخالف ذلك أبو حيان، فقال في

(1) قال العلامة المدابغي رحمه اللَّه تعالى: (قوله: "أيضًا" أي: كما روى عنه الحديث السابق، وهذه اللفظة ساقطة من نسخ الشارح). وهي موجودة في متن "الأربعين".

(2)

قوله: (عند) هو خبر (نحن). وفي النسخ المطبوعة: (جلوس) وهي في "الجمع بين الصحيحين" للحميدي (82) وقد حشى عليها المدابغي، وليست في نسخ المتن، ولا في "صحيح مسلم"، فتنبه.

(3)

قوله: (غير متمكن) صوابه: إسقاط (غير) لأن (عند) ظرف متمكن، أي: معرب، لأنه منصوب. انتهى "شوبري"، وقال (ع ش): أراد بغير المتمكن ما ليس متصرفًا وليس المراد أنه مبني. اهـ "مدابغي"

(4)

الظروفُ التي لا يدخل عليها من حروف الجر سوى (مِنْ) خمسةٌ؛ وهي: عند، ومع، وقبل، وبعد، ولدى.

(5)

هذه قطعة من بيتٍ لامرئ القيس، وفي النسخ كلها:(منها) والصواب: (منهما)، انظر "ديوانه" (ص 99) وهو بتمامه:(من الطويل)

إذا قامتا تضوع المسك منهما

نسيمَ الصبا جاءت بريح من القُطْرِ

(6)

انظر "الكشاف"(3/ 10).

ص: 140

"بحره": (وهو ملازمٌ للظرفية، إلا أن يضاف إليه زمان، ولا يكون مفعولًا به، ولا حرفًا للتعليل، أو المفاجأة، ولا ظرف مكان، خلافًا لزاعمي ذلك، وزعمُ أبي عبيدة وابن قتيبة زيادتَها ليس بشيءٍ، على أنهما ضعيفانِ في علم النحو، وزعم أنها بمعنى: "قد" ليس بشيءٍ أيضًا)(1).

و (إذا) وإن كانت للمفاجأة كـ (إذ) لكنها تفارقها في أنها لا تكون ظرفًا للماضي، ولا تدخل على الجملة الإسمية (2)، وفيها معنى الشرط غالبًا، وخرج به المؤقتة كـ (آتيك إذا طلع الفجر) والمعاقبة لـ (إذ) نحو:{وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} ، والمقدر ما يليها بالحال نحو:{وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} أي: غاشيًا؛ فإنها حينئذ تتمحَّض للظرفية.

وذكرُ (إذ) هنا مع رواية: (بينما) و (بينا) يردُّ على الحريري زعمه أن (بينا) لا يتلقى بها، ولا بـ (إذا) بخلاف (بينما)(3)، ويرد عليه أيضًا الحديث الصحيح:"بينا أنا نائمٌ إذ جيء بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي"(4).

(طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى) بضم التحتية أوله، أبلغ من (نرى) بالنون (عليه أثر السفر) وفي رواية النسائي عن أبي هريرة وأبي ذرٍّ رضي الله عنهما:(أحسن الناس وجهًا، وأطيب الناس ريحًا، كأن ثيابه لا يمسها دنس)(5).

(1) انظر "البحر المحيط"(1/ 139) فالكلام منقولٌ منه بتصرف واختصار.

(2)

قوله: (ولا تدخل على الجملة الاسمية) انظره مع قول "المغني"(1/ 120، 127): (إذا) على وجهين: أحدهما: أن تكون للمفاجأة، فتختص بالجمل الاسمية، ولا تحتاج لجواب، ولا تقع في الابتداء، ومعناه الحال لا الاستقبال؛ نحو: خرجت فإذا الأسد بالباب، ومنه:{فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} ، {إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا}. . . ثم قال: والثاني من وجهَي (إذا): أن تكون لغير مفاجاة، فالغالب أن تكود ظرفًا للمستقبل مضمنة معنى الشرط، وتختص بالدخول على الجملة الفعلية عكس الفجائية، وقد اجتمعتا في قوله تعالي:{ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} اهـ، ثم رأيت في بعض نسخ الشارح:(ولا تدخل إلا على الجملة الاسمية) فينبغي حمله على الفجائية، وحمل الأول على الجزاية، فليتأمل. اهـ "مدابغي"

(3)

انظر "درة الغواص" للحريري (ص 76) وما بعدها. وقال ابن قتيبة أيضًا في "أدب الكاتب"(ص 327): (ويقولون: بينا نحن كذلك. . إذ جاء فلان، والأجود: جاء فلان، بطرح "إذ").

(4)

أخرجه البخاري (6998)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(7/ 48)، والإمام أحمد (2/ 268) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(5)

سنن النسائي (8/ 101).

ص: 141

ففيه ندب تنظيف الثياب، وتحسين الهيئة بإزالة ما يؤخذ للفطرة، وتطييب الرائحة عند الدخول للمسجد، وعلى نحو العلماء، وندب ذلك للعلماء والمتعلِّمين؛ لأنه معلِّمٌ؛ بدليل:"يعلمكم دينكم"، ومتعلِّمٌ بمقاله وحاله، ومن ثَمَّ استحبَّ عمر رضي الله عنه البياض للقارئ، واستحبه بعض أئمتنا لدخول المسجد.

أقول: ينبغي ندبه لكل اجتماعٍ ما عدا العيد إذا كان عنده أرفع منه؛ لأنه يوم زينةٍ وإظهارٍ للنعمة.

(ولا يعرفه منا أحدٌ)(1) لا ينافي أنه كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية الكلبي رضي اللَّه تعالى عنه؛ لأن ذلك كان غالبًا لا دائمًا، وأيضًا زاد في العماية عليهم؛ إذ هيئته هيئة حضريٍّ ساكنٍ معهم بالمدينة، وهم عارفون بمن فيها، وسؤاله سؤال أعرابيٍّ جاهلٍ بالدين لا إلمامَ له بالمدينة، وإلَّا. . لما جهل ذلك، وهذا صريحٌ في أنهم رأوه (2)، وأما ما وقع عند أحمد عن غير عمر:(ونسمع رجْعَ النبي صلى الله عليه وسلم ولا نرى الذي يكلِّمه ولا نسمع كلامه)(3). . فيرده حديث عمر هذا الأصح منه.

(حتى جلس إلى) قد يشكل التعبير بها هنا؛ لأنها لانتهاء الغاية، وهو إنما يكون في ممتدٍّ كالسفر، دون الجلوس؛ إذ لا امتداد فيه، فلتكن بمعنى (عند) أو (مع).

(النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه) صريحٌ في أنه جلس بين

(1) قوله: (ولا يعرفه منا) أي: معشر الصحابة، وقدمه للاهتمام (أحد) وإنما لم يقل:(ولم يعرف) لئلا يوهم أنه صلى الله عليه وسلم لا يعرفه وليس كذلك، فإن قيل: كيف عرف عمر أنه لم يعرفه منهم أحد؟ فالجواب: يحتمل أنه استند فيه إلى ظنه إلى صريح قول الحاضرين، قال الحافظ أبو الفضل ابن حجر: ويعين الثاني أنه قد جاء كذلك في رواية عثمان بن غياث: فنظر القوم بعضهم إلى بعضٍ وقالوا: ما نعرف هذا. اهـ "مدابغي"

(2)

قوله: (وهذا صريحُ في أنهم رأوه) ذكر الغزالي وآخرون أن رؤية الملائكة ممكنةٌ إلا أنها كرامةٌ يُكْرم اللَّه بها من شاء من أوليائه، ووقع ذلك لجماعةٍ من الصحابة، ولما رأى ابنُ عباسٍ جبريلَ. . قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لن يراه خلقٌ إلا عمي إلا أن يكون نبيًا ولكن يكون ذلك آخر عمرك" رواه الحاكم، وكذا رأته عائشة وزيد بن أرقم وخلق لما جاء فسأل عن الإيمان ولم يعموا؛ لأن الظاهر أن المراد: من رآه منفردًا به كرامة له، كذا في "فتاوى الشارح الحديثية" اهـ "مدابغي"

(3)

مسند الإمام أحمد (4/ 129) عن سيدنا أبي عامر الأشعري.

ص: 142

يديه دون جانبه، وهي جِلْسة المتعلِّم، لكنه بالغ في القُرْب حتى وضع كفَّيه على ما يأتي جريًا على ما بينهما قبلُ من مزيد الودِّ والأُنس حين يلقي عليه الوحي؛ تنبيهًا على أنه ينبغي للسائل قوة النفس، وعدم فعل ما يَمنع عنه كمالَ التلقي من نحو الالتهاء عمَّا هو بصدده (1)، وللمسؤول ألَّا يعاتبه حينئذ وإن لم يسلك الأدب ظاهرًا.

(ووضع كفيه على فخذيه) أي: فخذي النبي صلى الله عليه وسلم كما صرحتْ به روايةُ النسائي، وفيها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه، فلا يعرفه الغريب، فبُنيتْ له مصطبة من طين (2)، فجاءه جبريل وهو عليها فقال: السلام عليكم يا محمد، فردَّ عليه السلام، فقال: أدنو يا محمد؟ قال: "ادنه" فما زال يقول: (أدنو) مرارًا، ويقول له:"ادن" حتى وضع يديه على ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم (3)، ففيه سنة الابتداء بالسلام، وتعميم الحاضرين به، ثم تخصيص رأس القوم.

قلت: يحتمل أنه أراد بـ (عليكم) النبي صلى الله عليه وسلم وحده؛ بدليل: يا محمد، ففيه ندب السلام على الواحد بصيغة الجمع (4)، وبه صرح أصحابنا نظرًا لمن معه من الملائكة، واستئذان الكبير في القرب منه وإن جلس للناس (5)، وتكريره تعظيمًا له واحترامًا، وجوازُ تخصيص المعلم بمحلٍّ من المسجد مرتفع؛ لضرورة التعليم أو غيره.

قلت: وجواز بناء مصطبةٍ في المسجد بهذا القصد، وهو متجهٌ إن لم يحصل بها تضييقٌ.

(1) في أكثر النسخ: (وفعل ما يمنع عنه. . . إلخ) وقال العلامة المدابغي رحمه الله: (هو على تقدير "لا" النافية؛ أي: وفعل ما لا يمنع عنه كمال التلقي. . . إلخ، على حد قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} فإنه على تقدير: لا يطيقونه، كذا قرَّره بعضهم، ولا يناسب البيان بقوله: "من نحو الالتهاء" فالمتعين حمله على أنه أراد بالفعل الترك من تسمية الشيء باسم ضده؛ أي: وترك ما يمنع عنه كمال التلقي. . . إلخ) والمثبت من باقي النسخ.

(2)

قوله: (مصطبة) أي: موضع مرتفع في المسجد النبوي. اهـ هامش (غ)

(3)

أخرجه النسائي (8/ 101) عن سيدنا أبي هريرة وسيدنا أبي ذر رضي الله عنهما، واللفظ فيه:"فبنينا له دكانًا من طين"، وأيضًا ليس فيه لفظ:"عليكم" بالجمع، بل هو بالإفراد.

(4)

انظر الحاشية السابقة، وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه تعالى في "الفتح" (1/ 117):(والذي وقفت عليه من الروايات إنما فيه الإفراد).

(5)

قوله: (واستئذان الكبير) أي: ونُدِب استئذان الكبير، وفي بعض النسخ:(واستئذانه) أي: الواحد.

ص: 143

(وقال: يا محمد) قد يستشكل بحرمة ندائه صلى الله عليه وسلم به؛ لقوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} مع أن المقام مقام تعليم، ويجاب بأنا لا نسلم حرمة ذلك على الملائكة، فكان في ندائه بذلك -مع ما سيعلم به الصحابة رضي الله عنهم من أنه جبريل- إعلامٌ لهم بأن الملائكة لا يدخلون في هذا الخطاب، على أنه يحتمل أن حرمة ذلك إنما عرضت بعد، فلا إشكال أصلًا.

ثم رأيت بعضهم أجاب بأنه قصد مزيد التعمية عليهم، فناداه بما كان يناديه به أجلاف الأعراب.

وفيه أيضًا: جواز نداء العالم والكبير باسمه ولو من المتعلم، ومحله: إن لم يعلم كراهته لذلك، ولا كان على سبيل الوضع من قدره؛ لمخالفته ما اعتيد من النداء لأولئك بالألقاب المعظمة.

(أخبرني عن الإسلام) في رواية الترمذي تقديم الإيمان كما في رواية "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه (1)، قيل: وهي أَولى؛ لموافقتها القرآن في نحو: {لَيْسَ الْبِرَّ} الآيةَ، {إِنَّمَا ألمؤْمُنون} الآيتينِ أول (الأنفال) ولعل الأُولى روايةٌ بالمعنى. اهـ (2)

وفي رواية أبي هريرة: (ما الإسلام) هنا، و (ما الإيمان) فيما يأتي، وهي تدل على أنه إنما سأل عن شرح ماهيتهما، لا عن شرح لفظهما لغةً، وإلَّا. . لم يُجِب بما يأتي، ولا عن حكمهما؛ لأن (ما) في أصلها إنما يسأل بها عن الحقائق والماهيات.

ولما كان الإيمان لغة معلومًا عندهما (3). . أعاد لفظه في الجواب ببيان متعلقاته، وقصره عليها توسعًا كما يأتي.

(1) سنن الترمذي (2610)، وانظر "صحيح البخاري"(50)، و"صحيح مسلم"(9).

(2)

والحق كما قال ابن حجر وغيره: أن هذا التقديم والتأخير من الرواة؛ لأن القصة واحدة اختلفت الرواة في تأديتها. اهـ "مدابغي"

(3)

أي: السائل والمسؤول عليهما السلام.

ص: 144

ومن روى أن جبريل إنما سأل عن شرائع الإسلام لا عن الإسلام. . فقد وهِم؛ لأن هذا لم يصح عند أحدٍ من أئمة الحديث.

(فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجيبًا له عن ماهية الإسلام وحقيقته، مبادرًا من غير استفسارٍ عن أن السؤال عن ذلك أو عن شروطه أو أركانه أو غيرهما من لواحقه، إشارةً إلى أن للمسؤول من مفتٍ وغيره أن يجيب على ما فهمه بالقرينة؛ إذ هي كالنَّصِّ، فجاز الاعتماد عليها سؤالًا وجوابًا، ومن ثَمَّ لو قيل لمفتٍ: أيجوز كذا؛ فأشار بما يشار به كـ (نعم). . جاز الاعتماد على أنه أفتى بالجواز (1).

(الإسلام) هو لغة: الطاعة والانقياد، وشرعًا: الانقياد إلى الأعمال الظاهرة؛ كما بيَّن ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن تشهد أن) مخففة من الثقيلة (لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) ظاهره -إن لم يحمل (تشهد) على (تعلم) بدليل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} -: أنه لا بد في الإسلام من لفظ: (أشهد) بأن يقول: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه.

فلو قال: (أعلم) بدل: (أشهد)، أو أسقطهما فقال:(لا إله إلا اللَّه، محمد رسول اللَّه). . لم يكن مسلمًا، وتوافقه رواية:"أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا. . . " الحديث (2)، وهو ما اعتمده بعض المتأخرين منَّا، ويؤيده أن الشارع تعبَّد بلفظ:(أشهد) في أداء الشهادة، فلا يكفي (أعلم) ونحوها وإن رادفت (أشهد) أي: في إفادة مطلق العلم، لا مطلقًا، لأن الشهادة أخصُّ منه، فكل شهادةٍ علمٌ، ولا عكس، واستدل له بكلام "الروضة" في الكفارة (3).

(1) قاعدة: إشارة الناطق لاغيةٌ إلا في الإفتاء؛ كأن يقال له: أيجوز فعل كذا وكذا؟ فيشير: أي نعم، وفي الإجازة؛ كان يقال له: أجزتني في "البخاري" مثلًا فيشير: أي نعم، وفي الأمان مع الكفار؛ كأن يقال له: أقررتنا بداركم على أن نلتزم لكم كذا جزية، فيشير ويريد: أي نعم، وأما إشارة الأخرس المفهمة. . فمعتدٌّ بها إلا في ثلاثة مواضع: في الحنث فيما لو حلف قبل خرسه: أنه لا يكلم زيدًا، ثم خرس وكلَّمه بها؛ فإنه لا يحنث، وفي الصلاة، فلو أشار فيها. . لم تبطل، فلهذا يصح بيعه وهو في الصلاة بالإشارة ولا تبطل صلاته، وفي الشهادة فلا تقبل شهادته بها مطلقًا. اهـ "مدابغي"

(2)

سيأتي تخربجه (ص 259) وهو الحديث الثامن من أحاديث المتن.

(3)

انظر "روضة الطالبين"(8/ 283).

ص: 145

لكن رواية: "حتى يقولوا. . . إلخ"(1) ظاهرةٌ في عدم اشتراط لفظ: (أشهد) وأن المراد به في أحاديثه: (يقول) ولم يعكس (2)؛ لأن حمل (أشهد) على (يقول) عليه قرينةٌ خارجيةٌ هي: أن هذه الكلمة تُسمى كلمة الشهادة وإن أسقط منها (أشهد)، وحمل (يقول) على (أشهد) لا قرينة عليه خارجيةٌ.

وأيضًا فالاحتياطُ في المشهود به المبني على المشاحَّة غالبًا ثَمَّ. . اقتضى تضييقَ طرقه (3)، والاقتصارَ فيه على الوارد، والاحتياط للدخول في الإسلام والعصمة المتشوف إليهما الشارع. . اقتضى توسعةَ طرقه، فعملنا بالاحتياط المذكور في البابينِ (4)، وكلام "الروضة" في الإيمان يقتضي عدم الاشتراط (5).

ويؤيده اكتفاؤهم في حق مَنْ لم يَدِنْ بشيءٍ بـ (آمنت) وكذا (أُومن -إن لم يرد به الوعد- باللَّه)، أو (أسلمت للَّه)، أو (اللَّه خالقي)، أو (ربي)، ثم يأتي بالشهادة الأخرى، فإذا اكتفوا بنحو:(اللَّه خالقي) مع أنه لا شيء فيه من الوارد نظرًا للمعنى دون اللفظ. . فأولى الاكتفاء بـ (لا إله إلا اللَّه) كما هو واضحٌ؛ لأنه وُجد فيه لفظُ الوارد نظرًا لرواية: "يقولوا" ومعناه.

فعلم أنهم لم يتعبدوا هنا بلفظ الوارد، فيكفي بدل (إله):(بارئ) أو (رحمن) أو (رازق)، وبدل (اللَّه):(محيي) أو (مميت) إن لم يكن طبائعيًا (6)، أو أحدُ تلك الثلاثة (7) أو (من في السماء) دون (ساكن السماء) أو (من آمن به المسلمون).

(1) أخرجها البخاري (392) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

(2)

أي: بأن يحمل لفظ (يقول) على (يشهد).

(3)

قوله: (فالاحتياط) مبتدأ، خبره جملة (اقتضي تضييق).

(4)

قوله: (في البابين) أي: باب أداء الشهادة على غيره، وباب الإسلام. اهـ هامش (غ)

(5)

واعتمده الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة"(9/ 98).

(6)

وأصحاب الطبائع: القائلون بقدم العناصر الأربعة: الماء والتراب والنار والهواء. اهـ "الأنوار لأعمال الأبرار" من النكاح (2/ 103)

(7)

قوله: (أو أحدُ تلك الثلاثة) برفع (أحد) عطفًا على (محيي) يعني أنه يكفي أن يقول بدل (اللَّه): (محيى) أو (مميت) بالشرط المذكور، أو (بارئ) أو (رحمن) أو (رازق)، ولا تكرار في كلامه؛ لأنه فيما تقدم يقول أحدها بدل (إله)، وهنا يقول بدل (اللَّه) كما لا يخفى. اهـ "مدابغي"

ص: 146

وبدل (محمد): (أحمد) و (أبو القاسم)، وبدل (إلا):(غير) و (سوى) و (عدا)، وبدل (رسول):(نبي).

ولبعض أئمتنا رأيٌ ثالثٌ؛ وهو اشتراط (أشهد) أو مرادفها كـ (أعلم)، وأنه يشترط ترتيبهما وإن لم تقتضه (الواو)، فلا يصح الإيمان بالنبي قبل الإيمان باللَّه.

نعم؛ لا تشترط الموالاة بينهما، ولا العربية وإن أحسنها، وأنه لا بد من مجموعهما في الإسلام، فلا يكفي أحدهما (1)، خلافًا لما شذَّ به بعض أصحابنا أنه يكفي:(لا إله إلا اللَّه) وحدها، وأنه لا يشترط زيادة عليهما وهي البراءة من كل دينٍ يخالف دين الإسلام، ومحله: إن أنكر أصل رسالة نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فإن خصَّصها بالعرب. . اشترط زيادة إقراره بعمومها (2).

ويزيد حتمًا مَنْ كفر بإنكار معلومٍ من الدين بالضرورة: اعترافَهُ بما كفر بإنكاره، أو التبري من كل ما يخالف الإسلام، والمشركُ: وكفرت بما كنت أشركتُ به، والمُشَبِّهُ: البراءة من التشبيه بما لم يعلم مجيء محمدٍ صلى الله عليه وسلم بنفيه.

(وتقيمَ الصلاة) معطوف على (تشهد) خلافًا لمن زعم رفع هذا وما بعده استئنافًا، وكأنه نظر إلى أنه يكفي في إجراء أحكام الإسلام الشهادتان وحدهما.

وجوابه: أن الانقياد له أقلُّ وهو هذا، وأكملُ وهو ما ذكر في الحديث، فكان عطف ما بعد:(أن تشهد) عليه ليفيد هذا الأكمل. . أَولى؛ أي: يأتي بها محافظًا على أركانها وشروطها، أو على مكملاتها، أو يداوم عليها، فـ (تقيم) من التقويم والتعديل، أو من الإقامة؛ أي: الملازمة والاستمرار، أو التشمير والنهوض.

(1) قال بعضهم: (من الرجز)

شروط الاسلام بلا اشتباهِ

عقل بلوغ عدم الإكراهِ

والنطق بالشهادتين والوِلا

والسادس الترتيب فاعلم واعملا

(2)

قال الشارح رحمه الله تعالي في "المنهج القويم"(ص 161) في فصل الأذان: (فلا يصحان -أي: الأذان والإقامة- من كافرٍ؛ لعدم أهليته للصلاة، ويحكم بإسلامه؛ لنطقه بالشهادتين إلا إذا كان عيسويًا؛ لأنهم يعتقدون أن نبيا صلى الله عليه وسلم مرسل إلى العرب خاصة). والعيسوية: فرقةٌ من اليهود تُنسب إلي أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني، كان في خلافة المنصور.

ص: 147

وحملُه على (تقوم إليها)، أو (تقيم لها)، من (الإقامة) أخت الأذان. . بعيدٌ لغةً ومعنًى.

وهي لغةً: الدعاء، وقيل: الدعاء بخيرٍ، وشرعًا: أقوالٌ وأفعالٌ غالبًا مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، فدخلت صلاة الأخرس، ومن لم يلزمه إلا إجراؤها على قلبه؛ إذ لا تسقط ما دام العقل موجودًا.

ووجوبُ تركها أو قطعها لنحو إنقاذ غريقٍ، أو تجهيز ميتٍ خِيفَ انفجاره. . عذرٌ في الإخراج عن الوقت إذا توقَّف ذلك عليه، لا في مطلق الترك.

وأصلها: فَعَلَة بفتحات، ولامها واو (1). واختار بعض المحققين: أنها مأخوذةٌ من الصَّلى: عرق متصل بالظَّهْر يفترق من عند عجب الذنَب، ويمتدُّ منه عرقان، في كل وَرِكٍ عِرقٌ، يقال لهما: الصلوان، فإذا ركع المصلي. . انحنى صَلاه وتحرك، ومنه سُمِّي ثاني خيل السباق مُصَلِّيًا؛ لأنه يأتي مع صَلَوي السابق.

وعلم مما مر: أنها بمعنى الدعاء حقيقة لغوية، مجاز عرفي علاقته تشبيه الداعي في تخشعه ورغبته بالمصلي.

(وتؤتي الزكاة) من الأنواع الواجبة فيها إجماعًا؛ وهي: الأنعام، والتمر، والعنب، والحبوب المقتاتة اختيارًا، والنقدان، وزكاة الفطر، وخلاف ابن اللبان من أصحابنا فيها لغوٌ؛ لأنه غير مجتهدٍ في غير علم الفرائض، أو على خلاف (2)، كزكاة التجارة وبقية الفواكه ونحوها بالنسبة لمن اعتقد وجوبها لاجتهاد أو تقليد.

وهي لغةً: النماء والتطهير، وشرعًا: اسم للمُخْرَج من المال؛ لأنه إنما يؤخذ من نامٍ ببلوغه النصابَ، أو لأنه يُنَمِّي الأموالَ بالبركة، وحسناتِ مؤديها بالتكثير، أو لأنه يطهرها من الخبائث الحسية والمعنوية، ونفسَ المزكي من رذيلة البخل وغيره، أو لأنه يزكيه ويشهد بصحة إيمانه.

وإنكار وجوبها في المُجمَعِ عليه كفرٌ؛ لأنها من المعلوم من الدين بالضرورة.

(1) أصلها: صَلَوَة بوزن فَعَلَة، تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقُلبت ألفًا، وفي الجمع تُرَدُّ الألف إلي أصلها، فتجمع على (صَلَوَات).

(2)

معطوف على قوله: (إجماعًا) السابق.

ص: 148

(وتصوم) من الصوم؛ وهو لغة: الإمساك، وشرعًا: إمساكٌ مخصوصٌ.

(رمضان) صريح في عدم كراهة إطلاق ذلك مطلقًا، وهو الأصح، وقيل: يكره مطلقًا، وقيل: إن لم تدل قرينةٌ على أن المراد غير اللَّه تعالى؛ لأنه من أسمائه، ويرده الأخبار الصحيحة:"إذا جاء رمضان. . فتحت أبواب الجنة"(1)، وزعمُ أنه من أسمائه تعالى غيرُ صحيحٍ، كيف ولم يرد فيه إلا أثر ضعيف؟!

وأسماء اللَّه تعالى توقيفيةٌ لا تطلق إلا بخبر صحيح، بل لو صح فيه الخبر. . لم تلزمه الكراهة؛ لتوقفها على النهي الصحيح. ذكره المصنف (2)، ونازعه بعض الشُّرَّاح من المالكية بما لا ينفع دليلًا؛ إذ حاصله: أن أئمتهم لا يقولون شيئًا إلا بدليل وإن لم يعلم.

وسمي شهر الصوم به؛ لأنهم لما أرادوا وضع أسماء الشهور. . وافق اشتداد حرِّ الرمضاء فيه، وهو مبنيٌّ على أن اللغات غير توقيفية، والأصح: خلافه.

(وتحج البيت) أي: تقصده بنسك حج وعمرة؛ إذ هي واجبةٌ أيضًا عندنا للخبر الصحيح: هل على النساء جهاد يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم، جهادٌ لا قتال فيه؛ الحج والعمرة"(3)، فهو صريح في وجوبهما، وما عارضه محتملٌ فقُدِّم هذا عليه، ثم رأيت ابن حبان زاد في روايته:"وتعتمر وتغتسل من الجنابة، وأن تتم الوضوء" وقال: تفرد بهذا سليمان التيمي (4).

(إن استطعت إليه سبيلًا) أي: طريقًا؛ بأن تجد زادًا وراحلةً بشروطهما المقررة في محلها، وصح عند الحاكم وغيره: أنه صلى الله عليه وسلم فسر بهما السبيل في الآية (5)، لكن ضعفه آخرون، فلا يجب على عاجزٍ عن مؤنته أو مؤنةِ مَنْ تلزمه مؤنته، ولا على عاجزٍ عن الراحلة إن كان بينه وبين مكة مرحلتان وإن قدر على

(1) أخرجه البخاري (1898)، ومسلم (1/ 1079) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(2)

انظر "شرح صحيح مسلم"(7/ 187 - 188).

(3)

أخرجه ابن ماجه (2901)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(4/ 350)، والدارقطني في "سننه"(2/ 284) عن أم المؤمنين سيدتنا عائشة رضي الله عنها.

(4)

صحيح ابن حبان (173) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

(5)

المستدرك (1/ 441 - 442) عن سيدنا أنس رضي الله عنه.

ص: 149

المشي؛ إذ لا يسمى مستطيعًا حينئذ؛ لكثرة المشقة عليه، لكن يندب للقادر؛ خروجًا من خلاف مَنْ أوجبه عليه.

وإنما قيد بالاستطاعة في الحج مع أن ما مر مقيدٌ بها أيضًا؛ اتباعًا للنظم القرآني؛ فإنه لم يقيد بهذا اللفظ غيره، أو إشارةً إلى أن فيه من المشاقِّ ما ليس في غيره.

أقول: وأيضًا فعدمها في نحو الصلاة والصوم لا يسقط فرضهما بالكلية، وإنما يسقط وجوب أدائه، بخلافها في الحج؛ فإن عدمها يسقط وجوبه بالكلية.

(قال) أي: جبريل: (صدقت، قال) عمر: (فعجبنا له) أي: منه، أو لأجله (يسأله ويصدقه) إذ سؤاله يقتضي عدم علمه، وتصديقه يقتضي علمه، أو أن كلامه دالٌّ على خبرته بالمسؤول عنه، مع أنه لم يكن إذ ذاك مَنْ يعرف هذا غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فساغ التعجب منه، ثم زال بإعلامهم أنه جبريل؛ لأنه بان به أنه عالمٌ في صورة متعلمٍ ليعلمهم.

فإن قلت: تفسير الإسلام هنا بالأعمال ينافي ما يأتي مبسوطًا أنه الاستسلام والانقياد.

قلنا: لا شك أنه يطلق عليها شرعًا كما أنه يطلق على الاستسلام والانقياد لغةً وشرعًا، وما يأتي من أن بين الإسلام والإيمان تلازمًا أو ترادفًا. . إنما هو بناءً على معناه الثاني، وأما على معناه الأول -أعني أنه الأعمال الظاهرة-. . فالإيمان ينفك عنه؛ إذ قد يوجد التصديق مع الاستسلام الباطن بدون الأعمال، أما الإسلام بمعنى الأعمال المشروعة. . فلا يمكن أن ينفك عن الإيمان؛ لاشتراطه لصحتها، وهي لا تشترط لصحته، خلافًا للمعتزلة (1).

(قال: فأخبرني عن الإيمان) هو لغةً: مطلق التصديق، من (آمن) بوزن أفعل، لا فاعل، وإلَّا. . لجاء مصدره فعالًا، وهمزته للتعدية، كأن المصدِّق جعل

(1) قوله: (وهي لا تشترط لصحته خلافًا للمعتزلة) والحاصل: أن الإسلام بمعنى الأعمال الشرعية لا ينفرد عن الإيمان؛ لاشراط الإيمان لصحتها، بخلاف الإيمان فإنه ينفرد عنه بهذا المعنى، فبينهما عمومٌ وخصوصٌ مطلق، يجتمعان في مصدقٍ بقلبه آتٍ بالأعمال الشرعية، وينفرد الإيمان في مصدقٍ بقلبه غير آتٍ بالأعمال الشرعية، فكل مسلمٍ بهذا المعنى مؤمن ولا عكس. اهـ "مدابغي"

ص: 150

الغير آمنًا من تكذيبه، أو للصيرورة كأنه صار ذا أمنٍ من أن يكذبه غيره، ويضمن معنى (اعترفَ) و (أقرَّ) فيُعدَّى بالباء كما يأتي، و (أذعنَ) و (قَبِل) فيُعدَّى باللام؛ نحو:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} .

وشرعًا: التصديق بالقلب فقط؛ أي: قبوله وإذعانه لما علم بالضرورة أنه من دين محمد صلى الله عليه وسلم كما سيأتي بسطه، ثم ما لوحظ إجمالًا كالملائكة والكتب والرسل. . كفى الإيمان به إجمالًا، وما لوحظ تفصيلًا كجبريل وموسى والإنجيل. . اشترط الإيمان به تفصيلًا؛ حتى إن من لم يصدق بمعينٍ من ذلك. . فهو كافر.

وهذا الذي قررته هو معنى قول بعض الشراح: (يجب الإيمان بجميع الملائكة والكتب والرسل إيمانًا كليًا، فمَنْ ثبت بعينه وباسمه كجبريل. . وجب الإيمان به عينًا، ومَنْ لم يعرف اسمه. . آمنَّا به إجمالًا، وكذلك الكتب والأنبياء والرسل؛ مَنْ علم اسمه. . وجب الإيمان بعينه، ومَنْ لا. . آمنا به إجمالًا) اهـ

ولا يكفي لوجوب الإيمان بشيءٍ معينٍ حتى يكون إنكاره كفرًا ثبوتُهُ، بل لا بد من تواتر وجوده حتى يقطع به (1).

وحد الإيمان بما ذكرناه هو مختار جمهور الأشاعرة، وعليه الماتريدية (2)، وقيل: يشترط أن ينضم لذلك إقرار اللسان وعمل سائر الجوارح، فيكفر من أخلَّ بواحدٍ من هذه الثلاثة، وهو مذهب الخوارج، فلا صغيرة عندهم، وقيل: يعتبر ضمهما إليه على وجه التكميل لا الركنية، وهو مذهب المحدثين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فسَّره في حديث وفد عبد القيس، وحديث:"الإيمان بضع وسبعون شعبة" الآتيينِ بما فيهما (3).

وما يروى: أن الإيمان إقرار باللسان، وعمل بالأركان، واعتقادٌ بالجَنَان إنما هو من كلام بعض السلف، وقيل: هو التلفُّظ بالشهادتين، ثم إن طابقه تصديق القلب. .

(1) في هامش (غ): (كالإيمان بالنبي خالد بن سنان الذي بُعث بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ فإنه ثابتٌ لكن لا بالتواتر، فليس قطعيًا، فراجعه). فلا يكفر بإنكار الظنيات، وإنما يكفر بإنكار القطعي.

(2)

قوله: (وعليه الماتريدية) أي: أكثرهم، فلا ينافي قوله الآتي:(ونقُل عن أبي حنيفة واشتهر عن أصحابه) اهـ "مدابغي"

(3)

انظر ما سيأتي (ص 167 - 168).

ص: 151

فمنجٍ (1)، وإلَّا. . فمخلِّدٌ في النار، وهو مذهب الكرامية، وفي المعنى ليس لهم كبير خلاف، لأنا نوافقهم على ما بعد (ثُمَّ)(2).

وقيل: تصديقٌ بالجَنَان، وإقرارٌ باللسان، ونُقِل عن أبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه، واشتهر عن أصحابه وبعض محققي الأشاعرة؛ لأن التصديق لمَّا اعتبر بكلٍّ منهما. . كان كلٌّ منهما جزءًا من مفهوم الإيمان، لكن تصديق القلب ركنٌ لا يحتمل السقوط، وتصديق اللسان يسقط لنحو خرسٍ أو إكراهٍ.

واستدلَّ لركنيته عند القدرة بخبر: "حتى يقولوا" أو: "يشهدوا" السابق، ويُردُّ: بأنه لا يدل لخصوص ركنية القول التي النزاعُ فيها، بل كما يحتملها يحتمل ما قلناه: إنه شرطٌ لإجراء أحكام الإسلام، ويدل له أنه فيه رَتَّب على القول الكفَّ عن الدم والمال دون النجاة في الآخرة الذي هو محل النزاع.

وأما ما وقع في "شرح مسلم" للمصنف من نقله اتفاق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن مَنْ آمن بقلبه، ولم ينطق بلسانه مع قدرته كان مخلدًا في النار (3). . فمعترضٌ بأنه لا إجماع على ذلك (4)، وبأن لكلٍّ من الأئمة الأربعة قولًا: إنه مؤمن عاصٍ بترك التلفظ، بل الذي عليه جمهور الأشاعرة وبعض محققي الحنفية -كما قاله المحقق الكمال ابن الهمام وغيره- أن الإقرار باللسان إنما هو شرطٌ لإجراء أحكام الدنيا فحسب (5).

قيل: لو أُجريت عليه لنطقه بلسانه وهو كافر باطنًا؛ كنكاح مسلمة، وأخذِ ميراثِ

(1) وفي بعض النسخ: (فهو آمن ناج)، وفي أخرى:(فهو مؤمن ناجٍ).

(2)

قوله: (لأنا نوافقهم على ما بعد "ثم") وهو أن التلفظ بالشهادتين إن طابقه التصديق القلبي. . فهو مُنجٍ، وإلا. . فهو مخلِّد في النار، وأما ما قبل "ثم". . فنخالفهم فيه؛ إذ التلفظ بالشهادتين عندنا إنما هو الإسلام لا الإيمان. اهـ "مدابغي"

(3)

انظر "شرح صحيح مسلم"(1/ 149).

(4)

قوله: (فمعترض. . . إلخ) يمكن حمل كلام النووي على ما إذا طلب منه ذلك وهو قادرٌ عليه فامتغ منه، فلا اعتراض. اهـ "مدابغي"

(5)

انظر "كتاب المسايرة" للإمام الكمال ابن الهمام مع شرحه "المسامرة" للكمال بن أبي شريف رحمهما اللَّه تعالى (2/ 302 - 303).

ص: 152

قريب مسلم، ثم زال كفره القلبي. . احتمل حلُّ الوطءِ والأخذِ؛ لقيام التلفظ به المقتضي لإجراء الأحكام عليه.

والأظهر -أي: بل الصواب-: عدم حل الوطء إلا بعد تجديد النكاح، وعدم حل الأخذ من تركة قريبه المسلم؛ لأنا إنما لم نؤاخذه بما في باطنه أولًا؛ لعدم ظهوره لغيره، وأما بالنسبة له. . فهو كظاهره، ونظيره: الحكم بشاهدَيْ زورٍ في النكاح (1)؛ فإنه لا يحل لمن علم بالزور العمل بقضية ذلك الحكم على الصحيح عند أكثر العلماء، بل الصواب الموافق للكتاب والسنة (2).

وعلى القول بتوقف الإيمان عليه: يكفي أن يُسمِع به نفسه، واتفق القائلون بأن الإقرار لا يعتبر على اشتراط ترك العناد بأن يعتقد أنه متى طُولب به. . أتى به، فإن طولب به فامتنع عنادًا. . كفر، كما لو سجد لصنمٍ، أو استخفَّ بنبيٍّ، أو بالكعبة، ونحو ذلك من المكفرات.

واستشكل الحكم بكفره بأحد هذه المذكورات مع كونه مصدقًا بقلبه (3)؛ لما يلزم عليه أن تعريف الإيمان بالتصديق غير مانع لصدقه على هذا، مع انتفاء الإيمان عنه.

وجوابه: يعلم من تقرير مهماتٍ يتعيَّن التفطُّن لها؛ وهي أنهم اختلفوا في التصديق بالقلب الذي هو تمام مفهوم الإيمان عند الأشاعرة، أو جزء مفهومه عند غيرهم، فقيل: هو من باب العلوم والمعارف.

ورُدَّ: بأنا نقطع بكفر كثيرٍ من أهل الكتاب مع علمهم بحقيَّة رسالته صلى الله عليه وسلم وما جاء به (4)؛ قال اللَّه تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ، {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآيةَ، وبأن الإيمان مكلفٌ به، والتكليف إنما يتعلَّق

(1) قوله: (ونظيره الحكم بشاهدي زور في النكاح) صورته: أن يدَّعي رجل أن هذه زوجته، وهي في الواقع ليست ويقيم شاهدي زورٍ على دعواه؛ فإنه لا يحل له وطؤها وغيره من ثمرات النكاح. اهـ "مدابغي"

(2)

قوله: (بل الصواب) أي: بل على الصواب. اهـ "مدابغي"

(3)

وحاصل الجواب الذي لهذا الإشكال: أن الاستسلام والمعرفة شرط التصديق، فإذا انتفى الشرط فيمن وجد فيه التصديق فهو كافر؛ مثلًا: إذا سجد لصنمٍ مَن فيه التصديق القلبي. . يكفر بالسجود؛ لعدم الاستسلام والانقياد للأوامر والنواهي باطنًا، واللَّه أعلم. اهـ هامش (غ)

(4)

في بعض النسخ (مع علمهم بحقيقة رسالته).

ص: 153

بالأفعال الاختيارية، والعلمُ بصدق مدعي النبوة عند وجود سببه وهو مشاهدة المعجزة. . حاصلٌ قهرًا عليه.

وقيل: هو من باب الكلام النفسي، وعليه إمام الحرمين وغيره (1)، وظاهر كلام الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه كلامٌ للنفس، وأن المعرفة شرطٌ فيه؛ إذ المرادُ بكلام النفسِ: الاستسلامُ الباطن والانقياد لقبول الأوامر والنواهي، وبالمعرفةِ: إدراكُ مطابقة دعوى النبي صلى الله عليه وسلم للواقع؛ أي: لتجليها للقلب وانكشافها له، وذلك الاستسلام إنما يحصل بعد حصول هذه المعرفة.

ويحتمل أن كلًّا من هذينِ المذكورينِ ركنٌ (2)، فلا بد من المعرفة -إن جعلناها شرطًا أو ركنًا- ومن ضم الاستسلام لها؛ لما مرَّ من ثبوتها مع الكفر، وقهرًا على النفس، وتعلقُ التكليف بها مع ثبوتها قهرًا في قوله تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أريد به تحصيل أسبابها من القصد إلى النظر في آثار القدرة الدالة على وجوده تعالى ووحدانيته، وتوجيه الحواس إليها، وترتيب المقدمات المأخوذة من ذلك على الوجه المؤدي إلى المقصود.

وظاهر كلام "شرح المقاصد": أنه لا يكتفى بذلك العلم القهري، بل لا بد من تحصيله بَعْدُ بطريق الاستدلال، ورُدَّ: بأن حصول الاستسلام الباطني بعد حصول العلم القهري حصولٌ للمقصود مغنٍ عن استحصاله بتعاطي أسبابه، فالوجه: الاكتفاء بحصول القهري المنضم إليه الاستسلام، والتكليفُ بتعاطي الأسباب إنما هو لمن لم يحصل له ذلك العلم القهري.

وأخذ بعضهم من أنه لا بد من ضمِّ الاستسلام إلى المعرفة أن مفهوم الإسلام لغةً -الذي هو هذا الاستسلام- جزءٌ من مفهوم الإيمان، وأطلق بعضهم اسم المرادف عليهما (3).

(1) انظر "كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد"(ص 397).

(2)

قوله: (من هذين المذكورينِ) أي: الاستسلام والمعرفة. اهـ "مدابغي"

(3)

قوله: (وأخذ بعضهم. . . إلخ) حاصله: أن الإيمان والإسلام في اللغة متباينان؛ إذ مدلول الإسلام لغةً: الخضوع والانقياد، ومدلول الإيمان لغةً: التصديق، ولا يلزم من تصديق شخصٍ مثلًا لآخر خضوعه والانقياد له وبالعكس، وفي الشرع: متلازما المفهوم، متحدا الماصدق. اهـ "مدابغي"

ص: 154

والأظهر -كما قال بعض المحققين-: أنهما متلازما المفهوم، فلا يعتبر شرعًا في الخارج إيمانٌ بلا إسلامٍ (1)، ولا عكسه، وأن التصديق قولٌ للنفس مغايرٌ للمعرفة وإن نشأ عنها؛ إذ هو لغة: نسبة الصِّدق بالقلب أو اللسان إلى القائل، وهو فعلٌ، وهي ليست فعلًا، بل من قبيل الكيف (2)، فكلٌّ منها ومن الاستسلام خارجٌ عن مفهوم التصديق لغةً وإن اعتُبِرا شرعًا في الإيمان.

ثم اعتبارهما فيه شرعًا إما على أنهما جزآن لمفهومه شرعًا، أو شرطان لاعتباره لإجراء أحكامه شرعًا، والثاني هو الراجح؛ لأن الأول يلزمه نقل الإيمان عن معناه اللغوي إلى معنًى آخر شرعي، والنقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه بغير دليل، بل الدليل على خلافه؛ لأنه كثر في الكتاب والسنة طلبه من العرب، ولم يستفسر مَنْ أجاب إليه عن معناه اللغوي.

ووقوعُ استفساره عن بعضهم إنما هو عن متعلقه؛ بدليل أن جبريل لما سأل عنه. . أجابه صلى الله عليه وسلم بذكر المتعلق حيث (قال: أن تؤمن. . . إلى آخره) ففسَّره بمتعلقاته، ولم يفسر لفظه، بل أعاده بقوله:"أن تؤمن" لأنه كان معروفًا عندهم، لا نزاع في أنه لغةً: لمطلق التصديق، وشرعًا: تصديقٌ بأمورٍ خاصةٍ، وهي المعلومة من الدين بالضرورة كما مر.

فهو تصديقٌ بها بالمعنى اللغوي، وانتفاؤه بانتفاء المعرفة، والاستسلام لا يستلزم جزئيتهما؛ لمفهومه شرعًا؛ لجواز كونهما شرطين له شرعًا، فظهر أنه يمكن ثبوت التصديق لغةً بدونهما (3)، وأن هذا الثبوت يمكن مجامعة الكفر له (4)؛ إذ لا مانع عقلًا أن يصدق جبارٌ نبيا ويقتله لنحو حمقٍ أو غلبة هوًى، فقتله لا يدل على انتفاء

(1) فقبول الأحكام الظاهرة إسلامٌ عند الناس مطلقًا، وعند اللَّه تعالى بشرط التصديق، والتصديق مع المعرفة إيمان، لكن إجراء أحكام الشرع موقوف على التلفظ بالشهادتين فلا دور، واللَّه أعلم. (قدقي) اهـ هامش (غ)

(2)

في بعض النسخ: (من قبيل الكف).

(3)

أي: المعرفة والاستسلام.

(4)

قوله: (وأن هذا الثبوت) أي: ثبوت التصديق المجرد عن المعرفة والاستسلام يمكن مجامعة الكفر له، فبهذا اندفع الاستشكال المذكور.

ص: 155

التصديق به من أصله كما ظنه بعض الأئمة، بل على أن ما عنده من التصديق غير منجٍ له شرعًا من الخلود في النار.

فالحاصل: أن اللَّه سبحانه وتعالى رتب على التلبس بالإيمان لازمًا لا يتخلَّف عنه، هو سعادة الأبد، وعلى ضده شقاوته، وهي لازم الكفر شرعًا، وأنه اعتُبِرَ في ترتُّب لازم الإيمان وجودُ أمورٍ بعدمها يترتب لازم الكفر.

فمنها: تعظيمه سبحانه وتعالى، وتعظيم نحو أنبيائه، وترك السجود لنحو صنم، والاستسلام باطنًا لقبول أوامره ونواهيه، الذي هو معنى الإسلام لغة.

ومن ثَمَّ اتفق أهل الحق -وهم فريقا الأشاعرة والحنفية- على أنه لا عبرة بإيمانٍ بلا إسلامٍ وعكسه؛ إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر، فعُلم أنه باختلال واحدٍ من تلك الأمور ينتفي لازم الإيمان، لكن الحنفية أشد مبالغةً في رعاية ذلك التعظيم.

ومن ثَمَّ كفَّروا بألفاظٍ وأفعالٍ كثيرة؛ نظرًا منهم إلى أنها تدلُّ على الاستخفاف بالدين؛ كتعمد صلاةٍ بلا وضوء، ودوام ترك سنةٍ استخفافًا بها واستقباحها؛ كإحفاء الشارب (1)، وتحنيك العمامة؛ أي: جعل طرفها تحت حلقه، وغير ذلك مما ذكرنه في كتابي الآتي (2).

وإذا ظهر لك بيان حقيقة الإيمان وما يتعلق بها. . فلا بد لك من معرفة متعلقه الذي يجب الإيمان به، وهو -كما عرف من حده السابق-: ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب التصديق بكل ما جاء به من اعتقاديٍّ؛ وهو ما قصد منه اعتقاده، أو عمليٍّ؛ وهو ما قصد منه العمل.

ومعنى التصديق به: اعتقاد أنه حقٌّ وصدقٌ كما أخبر به صلى الله عليه وسلم، وتفاصيل هذينِ كثيرةٌ جدًّا؛ إذ هي حاصل ما في الكتب الكلامية ودواوين السنة،

(1) قوله: (واستقباحها) بالنصب عطفًا على (استخفافًا)، وبالجر عطفًا على (تعمُّدِ) أي: وكاستقباح السُّنَّة، وفي نسخة:(واستتقباحًا) أي: لها، ثم رأيت في "المسايرة" و"شرحها":(واستقباحها بالجر عطفًا على المواظبة) اهـ، أي: التي أبدلها الشارح بالدوام. وقوله: (كإحفاء الشارب) مثال للسنة، قال شيخنا: يقال عليه: إن مذهبنا -معاشرَ الشافعية أيضًا- أن مَنِ استخفَّ بسنَّةٍ أو استقبحها من حيث كونها سُنَّة. . كفر، فلا خلاف بيننا وبين الحنفية في هذا، فليراجع. اهـ "مدابغي"

(2)

وهو كتابًا "الاعلام بما يقطع الإسلام".

ص: 156

فاكتُفِيَ بالإجمال، وهو أن يقرَّ بـ (لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه) إقرارًا مطابقًا لقلبه واستسلامه.

وأما التفاصيل: فما لاحظه منها ببصيرته؛ بأن جذبه جاذبٌ إلى متعلقه. . وجب الإيمان به، فإن جحده. . فتارةً ينفي جحده الاستسلام، أو يوجب تكذيبه صلى الله عليه وسلم، فيكون جحده كفرًا، وتارةً لا ينفي جحده الأول، ولا يوجب الثاني، فيكون جحده فسقًا، فالذي ينفي الاستسلام سائر الأقوال والأفعال المكفِّرة (1).

وقد ألفتُ فيها كتابًا حافلًا لا يُستغنى عنه، سميته:"الإعلام بما يقطع الإسلام" وبينتُ فيه أكثر الأحكام على المذاهب الأربعة، فعليك بتحصيله إن أردت الاعتناء بأمر دينك.

والذي يوجب التكذيب هو إنكار ما عُلم من دين محمد صلى الله عليه وسلم بالضرورة، بأن يعلمه بالبديهة حتى العامة الذين يخالطون المسلمين؛ كالوحدانية، والنبوة، والبعث، والجزاء، ووجوب نحو الصلاة، وحرمة نحو الخمر، ووطء الحائض، وحل نحو البيع، والنكاح، ونَدْبِ نحو الرواتب، وغير ذلك مما استوعبتُ أكثره في بعض الفتاوى.

وجعل في "الروضة" حرمة نكاح المعتدة من غيره ممَّا لم يعلم بالضرورة (2)، وهو مشكلٌ جدًّا، وأي فرقٍ بينه وبين حرمة وطء الحائض؟! بل حرمة ذلك أظهر للعامة من حرمة هذا كما هو جليٌّ لمن سبر أحوالهم، وكأن العذرَ فيه جهلُ أكثرهم بتفاصيل العدة وما تنقضي به، وهو مفضٍ إلى جهل تحريم نكاحها في كثيرٍ من الصور (3).

(1) يعني أنه لما اعتبر الشارع في الإيمان المعرفةَ والتصديقَ والاستسلامَ، واعتبر في ترتب لازمه عليه وجود تعظيم نحو أنبيائه، وترك أمارات التكذيب مثلًا. . كان ما في المذكورات مناقضًا للإيمان، فليتأهل. (قدقي) اهـ هامش (غ)

(2)

انظر "روضة الطالبين"(2/ 146).

(3)

عبارة الشارح رحمه اللَّه تعالى في "التحفة"(9/ 87 - 89): (أما ما لا يعرفه إلا الخواص؛ كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وكحرمة نكاح المعتدة للغير، وما لمنكره أو مثبته تأويلٌ غيرُ قطعيِّ البطلانِ كما مر في النكاح، أو بَعُدَ عن العلماء بحيث يخفى عليه ذلك. . فلا يكفر بجحده؛ لأنه ليس فيه تكذيب، ونوزع في نكاح المعتدة بشهرته، ويجاب بمنع ضروريته؛ إذ المراد بالضروري: ما يشترك في معرفته الخاص والعام، ونكاح المعتدة ليس كذلك إلا في بعض أقسامه، وذلك لا يؤثر).

ص: 157

وتحريمُ مُجمَعٍ على حِلِّه وعكسُه. . مكفرٌ أيضًا.

فإن قلت: لا فائدة للتقييد بالعلم مع اشتراط المخالطة السابقة؛ لأنه متى علم فأنكر. . كفر وإن لم يخالط، ومتى لم يعلم. . لم يكفر وإن خالط.

قلت: هو كذلك، لكن المخالط لا يُصدَّق ظاهرًا في دعوى الجهل، بخلاف غيره، وقد يكون الشيء متواترًا معلوما بالضرورة عند قومٍ دون غيرهم، فيكفر من تواتر عنده دون غيره.

أما المجمع عليه غير المعلوم بالضرورة؛ كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب. . فلا كفر بإنكاره عندنا، وكفَّره الحنفية إن علم ثبوته قطعًا، أو ذكر له أهل العلم أنه قطعيٌّ فاستمر على جحده عنادًا (1).

فمن تلك المتعلقات التي يجب الإيمان بها وعُلمت من الدِّين بالضرورة: الإيمان (باللَّه) أي: بأنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته وأفعاله، لا شريك له في الألوهية -وهي استحقاق العبادة- منفردٌ بخلق الذوات بصفاتها وأفعالها، وبقِدَم ذاته وصفاته الذاتية، قال الحنفية: وأفعاله ككونه خالقا ورازقًا (2)؛ فإن هذا الوصف ثابتٌ له في الأزل، والأشعرية يردون ذلك إلى صفات القدرة.

وبأن ذاته لها صفات: حياةٌ منزهة عن الروح (3)، وعلمٌ بلا ارتسامٍ لصورةٍ في قلبٍ ولا دماغ، وإنما هو صفة تتميز بها الأشياء، وتتعلق بكل جزءٍ كان أو هو كائنٌ قبل وجوده بعلمٍ واحدٍ؛ إذ كلٌّ من صفاته لا تكثُّرَ فيه، وإنما التكثُّر في التعلُّقات

(1) في بعض النسخ هنا زيادة هي: (عنادًا لوجود التكذيب حينئذٍ).

(2)

قوله: (قال الحنفية: وأفعاله. . . إلخ) أي: إن الحنفية يقولون: إن صفات الأفعال ككونه خالقًا رازقًا صفاتٌ حقيقيةٌ؛ كالعلم والقدرة أزليةٌ قائمةٌ بذاته تعالى، والأشاعرة يقولون: إنها من الإضافات والاعتبارات العقلية، والحاصل في الأزل هو مبدؤها، ولا دليل على كونها صفة أخرى سوى القدرة والإرادة. اهـ

قال الجلال المحلي في "شرح جمع الجوامع"(2/ 460): (أما صفات الأفعال كالخلق والرزق والإحياء والإماتة. . فليست أزليةً خلافًا للحنفية، بل هي حادثةٌ متجددة؛ لأنها إضافات تعرض للقدرة وهي تعلقاتها بوجود المقدورات لأوقات وجدانها، ولا محذور في اتصاف الباري سبحانه بالإضافة ككونه قبل العالم وبعده) اهـ هامش (غ)

(3)

قوله: (حياةٌ) مع ما عُطف عليه بدلٌ من قوله: (صفات) بدل مفصل من مجمل.

ص: 158

والمتعلقات، لم يتجدَّد له علم بحسب تجدد المعلوم، وقدرة على الممكنات، وإرادة لجميع الكائنات لم تتجدد له إرادة بتجدد المرادات.

وبأن الطاعات بإرادته ومحبته ورضاه وأمره، والمعاصي بإرادته دون محبته ورضاه وأمره، والكل بقضائه وقدره.

وسمعٌ بلا صماخ لكل خفيٍّ، وبصرٌ بلا حدقةٍ -تعالى اللَّه عنهما- لكل موجود، وكلامٌ قائمٌ بذاته منزهٌ عما يعتري كلامنا النفسي من الخرس الباطني، وهو عدم الاقتدار على إرادة الكلام النفسي، ليس بصوتٍ ولا حرفٍ.

وبأنه تعالى منزهٌ عن قيام حادثٍ به؛ كحركةٍ أو سكونٍ أو تحيزٍ، فصفاته ليست أعراضًا، ولا عين ذاته ولا غيرها، بناء على أن الغيرين ما ينفك أحدهما عن الآخر.

وبأنه أحدث العالم باختياره من غير أن يحصل له به كمالٌ لم يكن قبله، ولم يتجدد له بإيجاده اسمٌ ولا صفةٌ، بل لم يزل بأسمائه وصفات ذاته، لا شبيه له في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله.

وبأنه منزهٌ عن الجهة والجسمية وصفاتهما ولوازمهما، وكل سمة نقصٍ، أو لا كمال فيها.

وبأنه لا يكون في ملكه إلا ما يشاء من خيرٍ وشرٍّ، ونفعٍ وضرٍّ، بل لا تقع لمحة ناظرٍ، ولا فلتة خاطرٍ إلا بإرادته تعالى.

وبأنه الغَنِيُّ المطلق، فكل موجودٍ مفتقرٌ إليه تعالى في وجوده وبقائه، وسائر ما يمده به.

ويجمع ذلك كله: أنه تعالى متصفٌ بكل كمال، منزَّهٌ عن كل وصفٍ لا كمال فيه، واجب الوجود لذاته، منفردٌ باستحقاق العبودية على العالم، إذ هو مالكهم حقيقة؛ لأنه الذي أوجدهم من العدم، وبالألوهية والقدم والبقاء وبالخلق والقدرة؛ لثبوت إسناد جميع الحوادث إليه تعالى، مع مشاهدة كمال الإحسان في خلقها وترتيبها.

وبالإرادة؛ لأن تخصيص بعض الممكنات بالوقت الذي أوجده فيه دون ما قبله أو ما بعده ليس إلا لمعنًى هو الإرادةُ.

ص: 159

(وملائكته)(1) جمع مَلَكٍ على غير قياس، أو جمع مَلْأَك على مَفْعَل؛ إذ هو من الألوكة، وهي الرسالة، ثم خُفف بنقل الحركة والحذف، فصار ملكًا، وقيل فيه غير ذلك، وتاؤه لتأنيث الجمع، وقيل: للمبالغة، غلبت في الأجسام النورانية المبرأة من الكدورات الجسمانية، القادرة على التشكل بالأشكال المختلفة؛ أي: بأنهم عبادٌ له -لا كما زعم المشركون: من تألُّهِهِمْ- مكرمون، لا كما زعم اليهود من تنقيصهم {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} .

وبأنهم سفراء اللَّه تعالى بينه وبين خلقه، متصرفون فيهم كما أذن، صادقون فيما أخبروا به عنه، وأنهم بالغون من الكثرة ما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} ، "أطَّتِ السماء، وحُقَّ لها أن تئط؛ ما من موضع قدمٍ إلا وفيه ملَكٌ ساجدٌ أو راكع"(2).

(وكتبه) أي: بأنها كلام اللَّه تعالى الأزلي القديم، القائم بذاته، المنزه عن الحرف والصوت، وبأنه تعالى أنزلها على بعض رسله بألفاظٍ حادثةٍ في ألواح، أو على لسان الملك، وبأن كل ما تضمنته حقٌّ وصدقٌ، وبأن بعض أحكامها نُسخ وبعضها لم ينسخ.

قال الزمخشري وغيره: (وهي مئة كتاب وأربعة كتب، أُنزل منها خمسون على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرةٌ على آدم، وعشرةٌ على إبراهيم، والتوراة، والزبور، والإنجيل، والفرقان)(3).

(ورسله) أي: بأنه أرسلهم إلى الخلق؛ لهدايتهم وتكميل معاشهم ومعادهم،

(1) قدَّم الملائكة على الرسل اتباعًا لترتيب الوجود؛ فإن الملائكة مقدمةٌ للخلق، أو لترتيب الواقع في تحقيق معنى الرسالة؛ فإنه يقال: أرسل المَلَك إلى الرسول، لا تفضيلًا للملائكة على الرسل كما زعم المعتزلة. اهـ هامش (أ)

(2)

أخرجه الحاكم (2/ 510)، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190) عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه.

وقوله: (أطَّتِ السماء) وهو بفتح الهمزة وتشديد الطاء، قال الطيبي: الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها؛ أي: إن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطَّت؛ وهو مثل، وإيذانٌ بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثمة أطيط، وإنما هو كلام تقريبٍ أُريد به تقرير عظمة اللَّه تعالى وقدرته. اهـ "مدابغي"

(3)

انظر "الكشاف"(4/ 742 - 743) فقد ذكره الإمام الزمخشري رحمه الله عن سيدنا أبي ذر رضي الله عنه مرفوعًا، وهو جزءٌ من حديثٍ طويلٍ عند ابن حيان (361).

ص: 160

وأيدهم بالمعجزات الدالة على صدقهم، فبلَّغوا عنه رسالاته، وبيَّنوا للمكلفين ما أمروا ببيانه، وأنه يجب احترام جميعهم، ولا نفرق بين أحدٍ منهم كما في الإيمان به (1)، وأنه تعالى نزَّههم عن كل وصمةٍ ونقصٍ (2)، فهم معصومون من الصغائر والكبائر قبل النبوة وبعدها على المختار، بل هو الصواب، وما وقع في قصصٍ يذكرها المفسرون، وفي كتب قصص الأنبياء مما يخالف ذلك. . لا يعتمد عليه، ولا يلتفت إليه وإن جلَّ ناقلوه كالبغوي والواحدي، وما جاء في القرآن من إثبات العصيان لآدم، ومن معاتبة جماعة منهم على أمورٍ فعلوها. . فإنما هو من باب أن للسيد أن يخاطب عبده بما شاء، وأن يعاتبه على خلاف الأولى معاتبةَ غيره على المعصية.

وقد قدمنا أنهم أفضل من سائر الملائكة بدليله، فإذا فضلوا المعصومين. . لزم كونهم معصومين بالأولى.

(واليوم الآخر) وهو من الموت إلى آخر ما يقع يوم القيامة، وصف بذلك؛ لأنه لا ليلَ بعده، ولا يقال: يومٌ إلا لما يعقبه ليلٌ؛ أي: بوجوده، وما اشتمل عليه من سؤال الملكين، ونعيم القبر وعذابه، والجزاء، والبعث، والحساب، والميزان، والصراط، والجنة، والنار، وغير ذلك مما بيَّنه الأصوليون بأدلته والرد على المخالفين فيه.

وفي رواية: "والبعث الآخر"(3)، ووصفُه بالآخر إما تأكيدٌ كأمس الدابر، أو احترازٌ عن غير الآخر؛ لأنه إحياءٌ بعد إماتةٍ، وقد كنَّا ميتين قبل نفخ الروح فأُحيينا بنفخها، ثم متنا، ثم أُحيينا لسؤال الملكين، ثم متنا، ثم أُحيينا للحشر، فهذا هو الآخر.

(وتؤمن بالقدر خيره وشره) حلوه ومره، وفي رواية لمسلم:"وبالقدر كله"(4)

(1) أي: لا نفرق بين أحدٍ منهم في الاحترام كما لا نفرق بين أحدٍ منهم في الإيمان. اهـ هامش (غ)

(2)

الوصم: الصدع والشق، ويستعمل بمعنى العجب، وهو هنا كذلك.

(3)

أخرجها البخاري (4777)، ومسلم (9) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

(4)

صحيح مسلم (10) عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 161

أي: بأن ما قدره اللَّه في أزله لابد من وقوعه، وما لم يقدره يستحيل وقوعه، وبأنه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق، وأن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته؛ لقوله تعالى:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} بنصب (كل) كما أجمع عليه السبعة، وحينئذٍ فقد نص على عموم الخلق؛ إذ تقديره: إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، وبرفعها يزول هذا المعنى (1)؛ إذ تقديره حينئذ: إنا كلُّ شيءٍ مخلوقٌ لنا بقدر، فتأمله.

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ، ولإجماع السلف والخلف على صحة قول القائل: ما شاء اللَّه. . كان، وما لم يشأ. . لم يكن، ولخبر:"كل شيءٍ بقدر حتى العجز والكيس"(2).

والقضاء عند الأشعرية: إرادته الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه فيما لا يزال، والقدر: إيجاده إياها على قدرٍ مخصوصٍ وتقديرٍ معينٍ في ذواتها وأفعالها؛ أو القضاء: علمه أزلًا بالأشياء على ما هي عليه، والقدر: إيجاده إياها على ما يطابق العلم.

وأنه يرحم من يشاء من خلقه فضلًا، ويعذب من يشاء منهم عدلًا، كل نعمةٍ منه فضلٌ، وكل نقمةٍ منه عدلٌ:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} .

وأنه أعلم بطبائع خلقه منهم: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} فما فعل فيهم. . فهو غير ملوم، ولا يطلعون على علمه (3)، ولا على عدله.

وأن له تكليفهم بما شاء من الأفعال مع تقدير أسباب منعهم منها، وهو المسمى:

(1) وقرأ به أبو السمال كما ذكر ابن عطية رحمه اللَّه تعالى في "المحرر الوجيز"(5/ 221).

(2)

أخرجه مسلم (2655)، وابن حبان (6149)، والإمام أحمد (2/ 110) عن سيدنا عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما. وقوله:(حتى العَجْز والكيس) العجز: التقصير عما يجب فعله، والكَيْس -بفتح الكاف-: النشاط والحِذق وكمال العقل وشدة معرفة الأمور، وهما مجروران بـ (حتى) أو بعطفهما على (شيء)، أو مرفوعان عطفًا على (كل) أو على الابتداء، والخبر محذوف؛ أي: كائنان بقدر اللَّه. اهـ "مدابغي"

(3)

قوله: (ولا يطلعون على علمه) عطف على قوله: (أعلم بطباع خلقه منهم) أو عطف على قوله: (فما فعل. . فهو غير ملوم). وفي بعض النسخ: (ولا مطعونٍ على عمله) بالجر عطفًا على (ملوم).

ص: 162

بتكليف ما لا يطاق (1)، ومن ثم قال بعض العلماء: يجب السكوت عن (كيف) في صفاته، وعن (لِمَ) في أفعاله.

واعلم: أن الإيمان بالقدر على قسمين:

أحدهما: الإيمان بأنه تعالى سبق في علمه ما يفعله العباد من خيرٍ وشرٍّ، وما يُجازَون عليه، وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه، وأن أعمال العباد تجري على ما سبق في علمه وكتابه.

ثانيهما: أنه تعالى خلق أفعال عباده كلَّها من خيرٍ وشرٍّ وكفرٍّ وإيمانٍ، وهذا القسم تنكره القدرية كلهم، والأول لا ينكره إلا غلاتهم، وكفَّرهم بإنكاره كثيرون، ومحل الخلاف حيث لم ينكروا العلم القديم، وإلَّا. . كفروا كما نصَّ عليه الشافعي وأحمد وغيرهما.

(قال: صدقت) قيل: ويؤخذ من الحديث تكفير القدرية بإنكار القدر؛ لأنه جعل الإيمان به من جملة أركان الدين التي يكفر منكر واحدٍ كل منها، ويشهد له تبرئة ابن عمر منهم، وخبر:"القدرية مجوس هذه الأمة"(2)، والأشبه: عدم كفرهم؛ لتعارض شُبَهٍ عندهم، فلهم نوع عذر. اهـ

والحاصل: أن أهل السنة: اختلفوا في تكفير المخالف في العقائد بعد الاتفاق على أن ما كان من ضروريات الدين يكفر مخالفه، كالقول بقدم العالم، ونفي حشر الأجساد، ونفي علمه تعالى بالجزئيات، وإثبات أنه تعالى موجبٌ بالذات لا بالاختيار، تعالى اللَّه عما يقول الظالمون والجاحدون علوًا كبيرًا، بخلاف ما ليس

(1) قوله: (وهو المسمى بتكليف ما لا يطاق) هذه المسألة مبسوطة في "العقائد النسفية" و"شرحها" للسعد التفتازاني، و"جمع الجوامع" الأصولي و"شرحه" للجلال المحلي، وحاصلها: أن الصحيح جواز التكليف بالممتنع مطلقًا، سواء كان ممتنعًا لذاته كالجمع بين الضدين أم لغيره؛ كالمشي من الزَّمِن، والطيران من الإنسان، وإيمان مَنْ علم اللَّه أنه لا يؤمن، وأما وقوع التكليف بالممتنع. . فالجمهور على عدم وقوعه؛ لقوله تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} ، لا في الممتنع؛ لتعلق علم اللَّه بعدم وقوعه؛ كإيمان الكافر، وطاعة العاصي، فإن التكليف به جائزٌ وواقعٌ اتفاقًا، قال السعد (ص 149): لكونه مقدور المكلف بالنظر إلى نفسه. وقال الجلال المحلي (1/ 273): لكونه في وسع المكلفين ظاهرًا. اهـ "مدابغي"

(2)

أخرجه الحاكم (1/ 85)، وأبو داوود (4691)، والبيهقي في "السنن الكبرى"(10/ 203) عن سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 163

من ضرورياته؛ كنفي المعتزلة مبادئ الصفات من نحو العلم والقدرة، مع إثباتهم لها بقولهم: عالم قادر ونحوهما، وكقولهم: إن الشر غير مرادٍ له تعالى، وإن القرآن مخلوق، فقيل بكفرهم؛ لأن نفي مبادئ الصفات وعموم الإرادة جهلٌ باللَّه تعالى، ولخبر:(من قال: القرآن مخلوق. . فهو كافر)(1).

والمختار الذي عليه جمهور المتكلمين والفقهاء: أنه لا يكفر أحدٌ من المخالفين في غير الضروري.

والجهل به تعالى من بعض الوجوه غير مكفر، وليس أحدٌ من أهل القبلة يجهله تعالى إلا كذلك؛ فإنهم على اختلاف مذاهبهم اعترفوا بأنه تعالى قديمٌ أزليٌّ، عالمٌ قادر، موجدٌ لهذا العالَم، والخبر المذكور غير ثابت، أو المراد بالمخلوق فيه المختلَق؛ أي: المفترى، ومدعي ذلك كافرٌ إجماعًا.

نعم؛ يُبدَّعون ويُفسَّقون؛ لوجوب إصابة الحق عينًا في مسائل الخلاف في أصول الدين.

ووجه تشبيه القدرية بالمجوس: أن المعتزلة الذين هم القدرية أنكروا إيجاد الباري تعالى فعلَ العبد، فجعله بعضهم -كالجبائية- غيرَ قادر على عينه، وجعله بعضهم -كالبلخي وأتباعه- غيرَ قادرٍ على مثله، وجعلوا العبد قادرًا على فعله، فهو إثباتٌ للشريك كقول المجوس، فالإيمان والكفر عندهم من فعل العبد، لا من الرب سبحانه وتعالى.

ويقوي القولَ بتكفيرهم بذلك -وإن كان المختارُ خلافَه- أنهم خرقوا ببدعتهم هذه إجماعَ متقدمي الأمة على الابتهال إليه تعالى أن يرزقهم الإيمان، ويجنبهم الكفر.

هذا، واعلم: أن وجوب الإيمان باللَّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يشترط فيه أن يكون عن نظيرٍ واستدلالٍ، بل يكفي اعتقاد جازمٌ بذلك، إذ المختار الذي عليه السلف، وأئمة الفتوى من الخلف، وعامة الفقهاء: صحةُ إيمان المقلد،

(1) نُقل هذا الكلام عن غير واحد من السلف. انظر "خلق أفعال العباد" للإمام البخاري رحمه الله (ص 29) وما بعدها، وانظر "سنن البيهقي الكبرى"(10/ 206 - 207).

ص: 164

ونقلُ المنعِ عن إمام السنة الشيخ أبي الحسن الأشعري. . كذبٌ، عليه؛ كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري.

على أنه يقِلُّ أن يُرى مقلدٌ في الإيمان باللَّه تعالى؛ لأنا نجد كلام العوام محشوًا بالاستدلال بوجود هذا العالم على وجوده تعالى وصفاته من نحو العلم والإرادة والقدرة، وليس هذا تقليدًا؛ إذ هو أن يسمع مَنْ نشأ بقُلة جبلٍ الناسَ يقولون: للخلقِ ربٌّ خلقهم وخلَقَ كلَّ شيءٍ من غير شريكٍ له، ويستحقُّ العبادة عليهم، فيجزم بذلك؛ إجلالًا لهم عن الخطأ، وتحسينًا للظن بهم، فإذا تمَّ جزمه بأن لم يُجوِّز نقيضَ ما أخبروا به. . فقد حصل واجب الإيمان وإن فاته الاستدلال؛ لأنه غير مقصودٍ لذاته، بل للتوصل به للجزم وقد حصل.

وقضية هذا التعليل: أنه لا يعصي بتركه الاستدلالَ؛ لما تقرر من حصول المقصود بالذات بدونه، لكن نقل بعضهم الإجماع على تأثيمه بتركه.

ووجهه: أن جزمه حينئذٍ لا ثقة به؛ إذ لو عرضت له شبهةٌ. . فات وبقي متردِّدًا، بخلاف الجزم الناشئ عن الاستدلال لا يفوت بذلك.

ومما يَرِد أيضًا على زاعم بطلان إيمان المقلد: أن الصحابة رضوان اللَّه عليهم فتحوا أكثر بلاد العجم، وقَبِلوا إيمان عوامِّهم كأجلاف العرب، وإن كان تحت السيف، أو تبعًا لكبيرٍ منهم أَسْلَمَ، ولم يأمروا أحدًا منهم أسلم بترديد نظرٍ، ولا سألوه عن دليل تصديقه، ولا أرجؤوا أمره حتى ينظر، والعقل في نحو هذا يجزم بعدم وقوع الاستدلال منهم؛ لاستحالته حينئذ، فكان ما أطبقوا عليه ليلًا أيَّ دليلٍ على صحة إيمان المقلد.

وخلاف الباقلاني والإسفراييني وأبي المعالي في أول قوليه تبعوا فيه ما ابتدعه المعتزلة، وأحدثوا القول به بعد انقضاء أئمة السلف، ومن المحال -قيل: والهذيان- أن يُشترط لصحة الإيمان ما لم يعرفوه وهُمْ مَنْ هُمْ فهمًا عن اللَّه عز وجل، وأخذًا عن رسوله، وتبليغًا لشريعته، واتباعًا لسنته وطريقته.

وأما البراهين التي حررها المتكلمون، ورتبها الجدليون. . فإنما أحدثها

ص: 165