الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ: مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ
ــ
[الفواكه الدواني]
[بَاب مَا تَنْطِق بِهِ الْأَلْسِنَة وَتَعْتَقِدهُ الْأَفْئِدَة مِنْ وَاجِب أُمُور الديانات]
(بَابٌ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا بَابٌ، وَهَذَا أَوْلَى مَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ التَّرَاجِمِ مِنْ نَحْوِ: كِتَابٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ تَنْبِيهٌ أَوْ فَرْعٌ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ إلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ كَبَابِ الدَّارِ مَجَازٌ فِي الْمَعَانِي كَبَابِ الطَّهَارَةِ، وَلَا يَصِحُّ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ، وَيُسَمُّونَ أَنْوَاعَهُ فُصُولًا، وَيُسَمُّونَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ مَسَائِلَ جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَطْلُوبٌ خَبَرِيٌّ يُبَرْهِنُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ إلَّا كَسْبِيَّةً أَيْ مُكْتَسَبَةً مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِذَلِكَ لَا تُعَدُّ ضَرُورِيَّاتُ الْعُلُومِ مِنْ مَسَائِلِهِ نَحْوُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسِ فَرْضٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَالصَّوْمُ فَرْضٌ عَلَى الْبَالِغِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ ضَرُورِيٌّ لَيْسَ مَأْخُوذًا بِاجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، وَيَجُوزُ فِي نَحْوِ: بَابُ الْجِهَادِ فَرِيضَةٌ التَّنْوِينُ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْهُ بَدَلَ مُطَابِقٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْبَابَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ لَفْظِ بَابٍ، وَيَجُوزُ تَرْكُ التَّنْوِينِ لِإِضَافَتِهِ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ إضَافَةِ الدَّالِّ إلَى مَدْلُولِهِ أَوْ الِاسْمِ إلَى الْمُسَمَّى، وَأَمَّا فِي نَحْوِ: هَذَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلِ لَفْظَ بَابٍ جُمْلَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِضَافَةُ إلَى لَفْظِ مَا بَعْدَهُ.
وَفِي الْحَقِيقَةِ إلَى مَحْذُوفٍ مُضَافٍ إلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَالتَّقْدِيرُ بَابُ بَيَانِ الَّذِي وَصِلَتِهِ (تَنْطِقُ) أَيْ تُصَوِّتُ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ وَالْمَنْطِقَ مَا يُصَوِّتُ بِهِ مِنْ مُفْرَدٍ وَمُؤَلَّفٍ مُفِيدًا وَغَيْرَهُ وَيَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَتْ الْعَرَبُ: نَطَقَتْ الْحَمَامَةُ، وَقَالَ تَعَالَى:{عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكَلَامِ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) رَاجِعٌ إلَى مَا الْمَوْصُولَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَفَاعِلُ تَنْطِقُ (الْأَلْسِنَةُ) جَمْعُ لِسَانٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ النُّطْقِ فَذَكَرَهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُ هُوَ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَكَذَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ.
(وَ) بَابُ بَيَانِ الَّذِي (تَعْتَقِدُهُ) الْمُرَادُ تَعْلَمُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَإِنَّهُ قَالَ: الِاعْتِقَادُ هُوَ الذِّكْرُ النَّفْسِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ، فَالْمُرَادُ بِالِاعْتِقَادِ الْعِلْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا حَقِيقَتُهُ وَهُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ الْقَابِلِ لِلتَّغْيِيرِ، وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ أَيْضًا: وَجَازِمُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ عِلْمٌ، وَقَابَلَهُ اعْتِقَادٌ صَحِيحٌ إنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ كَاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ سُنِّيَّةَ الضُّحَى، وَفَاسِدٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ كَاعْتِقَادِ الْفَلْسَفِيِّ قَدِمَ الْعَالَمِ، وَفَاعِلُ تَعْتَقِدُهُ (الْأَفْئِدَةُ) جَمْعُ فُؤَادٍ وَهُوَ مُرَادِفٌ، لِلْقَلْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وَقِيلَ: الْفُؤَادُ دَاخِلُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْفُؤَادُ الْغِشَاءُ الَّذِي عَلَى الْقَلْبِ، فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْقَلْبُ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ هِيَ الْمُخَاطَبَةُ وَهِيَ الَّتِي تُثَابُ وَتَعَاقُبُ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ الصَّنَوْبَرِيِّ الشَّكْلِ تَعَلُّقُ الْعَرَضِ بِالْجَوْهَرِ، وَيُسَمَّى رُوحًا وَنَفْسًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهُ مَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ وَمِنْهُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ وَذَلِكَ سَائِرُ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ عُمُومَ مَا يَقُولُهُ (مِنْ وَاجِبِ أُمُورٍ) أَيْ أَحْوَالٍ وَشُؤُون (الدِّيَانَاتِ) جَمْعُ دِينٍ وَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَجُمِعَ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَوْلُهُ: وَاجِبُ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ إنْ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ فَمِنْ لِبَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نُطْقًا فَقَطْ أَوْ اعْتِقَادًا فَقَطْ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا الْبَابُ عَقَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَقَدَّمَهُ عَلَى فَنِّ الْفِقْهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَى أَزِيدَ مِنْ مِائَةِ عَقِيدَةٍ وَمَرْجِعُهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: مَا يَجِبُ لِلَّهِ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ، فَأَشَارَ إلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: الْعَالِمُ الْخَبِيرُ إلَى قَوْلِهِ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ، وَأَشَارَ إلَى الْمُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ غَيْرَهُ إلَى قَوْلِهِ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ
مِنْ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا إلَهَ غَيْرُهُ.
وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا
ــ
[الفواكه الدواني]
بِإِخْرَاجِ الْغَايَةِ، وَأَشَارَ إلَى الْجَائِزِ بِقَوْلِ: الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَخْ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا لَهُ تَعَالَى. (مُقَدِّمَةٌ) : مِنْ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ وَلَوْ بِرَسْمِهِ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ لِيَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْرِفَ غَايَتَهُ لِئَلَّا يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِهِ عَبَثًا، وَأَنْ يَعْرِفَ اسْتِمْدَادَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَحُكْمَهُ وَوَاضِعَهُ. فَحَدُّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: عِلْمٌ يُقْتَدَرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلْزَامِهَا إيَّاهُ بِإِيرَادِ الْحُجَجِ وَرَدِّ الشُّبَهِ، وَقَالَ السَّعْدُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ أَوْ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْمُكْتَسِبِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِيَّةِ الْمَنْسُوبَةُ إلَى دِينِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام، وَاعْتُبِرَ فِي أَدِلَّتِهَا الْيَقِينُ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بَلْ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَخَرَجَ عَنْ التَّعْرِيفِ الْعِلْمُ بِغَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ وَبِالشَّرْعِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةِ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُلْكِ وَعِلْمُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَكَذَا اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ فِيمَنْ يُسَمِّيه عِلْمًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا لَيْسَتْ عَنْ أَدِلَّةٍ، وَدَخَلَ فِي التَّعْرِيفِ عِلْمُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ فَإِنَّهَا كَلَامٌ وَأُصُولٌ وَعَقَائِدُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُسَمُّونَهُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ فِي زَمَنِهِمْ. وَمَوْضُوعُهُ الْمَعْلُومُ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْبَاتُ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، إذْ مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يُبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِ الصَّانِعِ مِنْ الْقَدَمِ وَالْوَحْدَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ عَقِيدَةٌ إسْلَامِيَّةٌ لِيَعْتَقِدَ ثُبُوتَهَا لَهُ، وَعَنْ أَحْوَالِ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ مِنْ الْحُدُوثِ وَالِافْتِقَارِ وَالتَّرْكِيبِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَقَبُولِ الْفَنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى عَقِيدَةٍ إسْلَامِيَّةٍ، فَإِنَّ تَرْكِيبَ الْجِسْمِ وَقَبُولَهُ لِلْفَنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إلَى الْمُوجِدِ لَهُ، وَكُلُّ هَذَا بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْمَعْلُومِ لِإِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَهُوَ كَالْمَوْجُودِ، إلَّا أَنَّهُ أَوْثَرُ عَلَى الْمَوْجُودِ لِيَصِحَّ عَلَى رَأْيِ، مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ وَلَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ بِحُصُولِ الصُّورَةِ فِي الْعَقْلِ وَيَرَى مَبَاحِثَ الْمَعْدُومِ وَالْحَالَّ مِنْ مَبَاحِثِ الْكَلَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالِ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ عَلَى قَانُونِ الْإِسْلَامِ. وَغَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُتْقَنًا مُحْكَمًا لَا تُزَلْزِلُهُ شُبْهَةُ الْمُبْطِلِينَ، وَمَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمَعَاشِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالْمُعَامَلَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي بَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَعَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ، وَمَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ النَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ، وَمَسَائِلُهُ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالِاحْتِرَازُ بِالْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْبَدِيهِيَّ لَا يَكُونُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْمَطَالِبِ الْعِلْمِيَّةِ، بَلْ لَا مَعْنَى لِلْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَيَطْلُبُ بِالدَّلِيلِ، وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ وَالِامْتِنَاعِ، وَقَالَ بَعْضٌ: اسْتِمْدَادُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَنَظْرِ الْعَقْلِ، وَلَعَلَّ الْخَلْفَ فِي التَّعْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَالْوُجُوبَ وَالِامْتِنَاعَ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ مِمَّا يَرْجِعُ لِلدَّلِيلِ الْجُمَلِيِّ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ لِلدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَنَقَلَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَظَاهِرُ أَسْئِلَةِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، وَوَاضِعُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ أَهْلُ السُّنَّةِ حَتَّى لُقِّبُوا بِالْأَشَاعِرَةِ.
(مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ (الْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِالْقَلْبِ) الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُؤَادِ. (وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ) وَمَعْمُولُ الْإِيمَانِ وَالنُّطْقِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ (أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ.
وَفِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا إذَا حَصَلَ التَّصْدِيقُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا حَذَفَ تِلْكَ الْجُمْلَةَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ إلَخْ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ، وَيُعَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ الْآتِي: وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ فَشَرْطٌ فِي كَمَالِهِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَقَدَّمْنَا قَبْلَ الْبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، أَنَّ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا: مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَه غَيْرُهُ، وَسَكَتَ عَنْ الْأَعْمَالِ إشَارَةً إلَى أَنَّهَا غَيْرُ رُكْنٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ كَمَالٍ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ آخِرَ الْبَابِ: وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ الْمُوهِمِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَنُسِبَ لِجُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ حَبِيبٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَلِلْمُعْتَزِلَةِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ الْأَعْمَالِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا أَنَّهَا رُكْنٌ مِنْهُ بِدَلِيلِ تَصْرِيحِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، لِلْقَاعِدَةِ مِنْ رَدِّ الْمُحْتَمِلِ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ رُكْنًا حَقِيقِيًّا لِلْإِيمَانِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْأَعْمَالُ عِنْدَ السَّلَفِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ.
وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ رُكْنٌ فِيهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فَهْمُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ لَا مَا يُوهِمُهُ كَلَامُ التَّحْقِيقِ مِنْ نِسْبَةِ الْآتِي لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ الْمُتَخَالِفَةَ إذَا أَمْكَنَ رَدُّهَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ يُصَارُ إلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ شَاهِدُ صِدْقٍ فِيمَا قُلْنَا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة عَدَمُ تَرَكُّبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَصَارَ الْعِلْمُ بِهِ يُشَابِهُ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالضَّرُورَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَظَرِيًّا كَوَحْدَةِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تَصْدِيقِهِ عليه السلام قَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ مَعَ الرِّضَا بِتَرْكِ التَّكَبُّرِ وَالْعِنَادِ وَالِامْتِثَالِ لِبِنَاءِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِ، لَا مُجَرَّدَ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إذْعَانٍ، حَتَّى يَلْزَمَ عَلَيْهِ إيمَانُ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِحَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُذْعِنُوا لِذَلِكَ كَأَبِي طَالِبٍ وَمَنْ شَابَهَهُ، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ شَطْرًا مِنْهُ.
وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ حَيْثُ قَالَ
وَفَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالتَّصْدِيقِ
…
وَالنُّطْقَ فِيهِ الْخُلْفَ بِالتَّحْقِيقِ
فَقِيلَ شَرْطٌ كَالْعَمَلِ وَقِيلَ بَلْ
…
شَطْرٌ وَالْإِسْلَامُ اشْرَحَنَّ بِالْعَمَلِ
وَأَمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ فَهِيَ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، فَالتَّارِكُ لَهَا أَوْ لِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ وَلَا عِنَادٍ، وَلَا شَكٍّ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا مُؤْمِنٌ مُفَوِّتٌ عَلَى نَفْسِهِ الْكَمَالَ وَالْآتِي بِهَا مُمْتَثِلًا مُحَصِّلًا لِأَكْمَلِ الْخِصَالِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ فَهُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ فَهِيَ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَعَلَيْهِ فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِإِبَاءٍ فَهُوَ مُؤْمِنٌ نَاجٍ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِقَلْبِهِ فَبِالْعَكْسِ وَيُقَالُ لَهُ مُنَافِقٌ وَزِنْدِيقٌ، وَأَمَّا الْآبِي مِنْ النُّطْقِ فَكَافِرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمَعْذُورُ مُؤْمِنٌ فِيهِمَا؛ فَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا ثَلَاثُ مَذَاهِبَ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة وَهُوَ مَا صَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَدْ وَضَّحْنَا جَمِيعَهَا.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: الظَّاهِرُ مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ النُّطْقَ بِخُصُوصِ أَشْهَدُ بَلْ الْإِتْيَانُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ خُصُوصُ لَفْظِ أَشْهَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ، وَاعْتَمَدَ هَذَا الْأَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ أَشْهَدُ عَلَى الْقَادِرِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِهَا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَوْ أَتَى بِمَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِمَا أَتَى بِهِ بِلُغَتِهِ اتِّفَاقًا.
الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْإِيمَانِ حَيْثُ قَالَ: مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ إلَخْ وَسَكَتَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَعَلَّهُ مَشَى عَلَى طَرِيقِ جُمْهُورِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ مُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ بِاتِّحَادِ مَفْهُومِيهِمَا بِمَعْنَى وَحْدَةِ مَا يُرَادُ مِنْهُمَا شَرْعًا وَتَلَازُمُهُمَا فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا طَرِيقُ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ فَالْإِيمَانُ يُغَايِرُ الْإِسْلَامَ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الْخَارِجِ، وَإِنْ تَلَازَمَا شَرْعًا فَالْإِيمَانُ حَقِيقَتُهُ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَالْإِسْلَامُ حَقِيقَتُهُ الِانْقِيَادُ الظَّاهِرِيُّ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ذَاتًا وَمَفْهُومًا آيَةُ {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ بِأَنَّهُ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُغَايِرُ الْإِسْلَامَ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي خَلْقِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ التَّصْدِيقُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ.
الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْعَقْلُ، فَالْكِتَابُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالسُّنَّةُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ إلَخْ، وَالْإِجْمَاعُ قَوْلُ الْأُمَّةِ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، وَالْعَقْلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ وَيُقَالُ
وَلَدَ لَهُ، وَلَا وَالِدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ.
، لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
لَهُ بُرْهَانُ التَّطَارُدِ وَتَقْرِيرُهُ لَوْ وُجِدَ عَلَى جِهَةِ الْمُفْرِضِ فَرْدَانِ مُتَّصِفَانِ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَأَمْكَنَ التَّمَانُعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا صِحَّةَ زَيْدٍ وَالْآخَرُ سَقْمَهُ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ، أَوْ لَا يَقَعَ مُرَادُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ عَجْزَهُمَا مَعَ اتِّصَافِهِمَا بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، أَوْ يَقَعَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ وَاسْتِلْزَامِهِ عَجْزَ مَنْ فُرِضَ قَادِرًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَجْزُ الْآخَرُ بِانْعِقَادِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِلَى هَذَا الْبُرْهَانِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أَيْ وَلَمْ تَفْسُدَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بُرْهَانُ التَّوَارُدِ أَيْضًا وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وُجِدَ إلَهَانِ مُتَّصِفَانِ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَإِذَا قَصَدَا إيجَادَ مَقْدُورٍ مُعَيَّنٍ فَوُقُوعُهُ إمَّا بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ مَخْلُوقٌ قَطْعًا، وَلَوْ تَوَارَدَ عَلَيْهِ قُدْرَتَانِ وَارِدَتَانِ صَارَ أَثَرَيْنِ فَيَلْزَمُ انْقِسَامُ مَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الَّذِي أَوْجَدَهُ الْآخَرُ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ،؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ انْقِسَامُهُ، وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ إنْ قُدِّرَ الَّذِي أَوْجَدَهُ كُلَّ وَاحِدٍ هُوَ مَا أَوْجَدَهُ الْآخَرُ فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا وَأَنَّ الْإِيجَادَ بِأَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِلْقَادِرِيَّةِ ذَاتُ الْإِلَهِ وللمقدورية إمْكَانُ الْمُمْكِنِ، فَنِسْبَةُ الْمُمْكِنَاتِ إلَى الْإِلَهَيْنِ الْمَفْرُوضَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
، وَأَشَارَ إلَى صِفَاتِ السُّلُوبِ وَهِيَ الْمُخَالِفَةُ لِلْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ:(وَ) مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ) فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَالنَّظِيرُ بِمَعْنَى الشَّبِيهِ فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَنَزُّهُهُ عَنْ الشَّبِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَشْبَهَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ مُشْبِهًا لَهُ وَجَائِزًا عَلَيْهِ الْفَنَاءُ الْجَائِزُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَزِمَ كَوْنُهُ خَالِقًا وَمَخْلُوقًا وَقَدِيمًا وَحَادِثًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةِ تَنْزِيهٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُجَسِّمَةِ وَآخِرُهَا إثْبَاتٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ النَّافِينَ لِزِيَادَةِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَقَدَّمَ فِيهَا النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ.
وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الْعَكْسُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْإِثْبَاتَ فِيهَا لَأَوْهَمَ التَّشْبِيهَ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي سَمْعُهُ بِأُذُنٍ وَبَصَرَهُ بِحَدَقَةٍ، فَقَدَّمَ التَّنْزِيهَ لَيَعْرِفَ السَّامِعُ ابْتِدَاءً أَنَّهُ لَيْسَ مُشَابِهًا لِشَيْءٍ مِنْ الْحَوَادِثِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْحَوَادِثِ وَهِيَ أَقْمَعُ آيَةٍ لِلشَّيْطَانِ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْإِنْسَانِ فِي مَقَامِ الْبَحْثِ عَنْ ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى (لَا وَلَدَ لَهُ) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]
(وَ) كَذَا (وَلَا وَالِدَ لَهُ) فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ أَحَدٍ، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَالِدُ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأُمَّ أَيْضًا.
(وَ) كَذَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ (لَا صَاحِبَةَ) أَيْ لَا زَوْجَةَ (لَهُ) وَلَا صَدِيقَ وَلَا ضِدَّ وَلَا وَزِيرَ لَهُ.
(وَ) كَذَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (لَا شَرِيكَ لَهُ) لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْأَفْعَالِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ نَفَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى نَفَتْ أُصُولَ الْكُفْرِ مِنْ الْعَدَدِ وَالنَّقْصِ الَّذِي هُوَ الِاحْتِيَاجُ، وَالتَّقْلِيلُ بِالْقَافِ الَّذِي هُوَ الْبَسَاطَةُ وَالْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ وَالشَّبِيهُ وَالنَّظِيرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ:{اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] نَفْيُ الْكَثْرَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْعَدَدِ، وَ {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] نَفْيُ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ الِاحْتِيَاجُ وَالتَّقْلِيلِ الَّذِي هُوَ الْبَسَاطَةُ، وَ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] نَفْيُ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] نَفْيُ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَنَزُّهُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَسُئِلَ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ زَكَرِيَّا إذَا رَأَتْ الْخَلَائِقُ رَبَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ هَلْ يَتَخَيَّلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخَيُّلِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْخَيَالِ مَثَلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَثَلٌ أَوْ يُدْرَكُ بِالْوَهْمِ أَوْ الْخَيَالِ، هَذَا مَا تَقْتَضِيه ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ خِلَافًا لِبَحْثِ بَعْضِ الشُّيُوخِ.
فَإِنْ قُلْت: لَهُ التَّنْزِيهُ عَنْ الْمِثْلِ نَفْيَ الْمِثْلِ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] قُلْت: الْمَثَلُ الْمُثْبَتُ لَهُ تَعَالَى غَيْرُ الْمَثَلِ الْمَنْفِيِّ، فَالْمَثَلُ الْمَنْفِيُّ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالْمُثْبَتُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:{لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] أَيْ لَهُمْ صِفَةُ النَّقْصِ وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى الْوَلَدِ، وَبِدَلِيلِ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] أَيْ الْوَصْفُ وَهُوَ الْوُجُوبُ الذَّاتِيُّ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَالْجُودُ الْفَائِقُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
قَالَهُ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ الْجَزَائِرِيَّةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَلَمَّا قَدَّمَ بَعْضَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِوَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِنَفْيِ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، ذَكَرَ هُنَا صِفَتَيْنِ وَهُمَا الْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ مُعَبِّرًا عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ:(لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ) أَيْ لِوُجُودِهِ (ابْتِدَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَوْجُودٌ لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَسْبِقَ وُجُودَهُ عَدَمٌ، لِأَنَّ الْقِدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْأَوَّلِيَّةِ لِلْوُجُودِ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُدُوثُهُ، وَمِنْ لَازَمَ الْحُدُوثِ الِافْتِقَارُ إلَى مُحْدِثٍ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِيمٌ لَمْ يُسْبَقْ بِعَدَمٍ، وَقَيَّدْنَا الْقِدَمَ بِالذَّاتِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى لِرُجُوعِهِ إلَى وُجُوبِ الْوُجُودِ فَهُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ بِمَعْنَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ بَقَائِهِ فَهَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى.
وَمِنْهُ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِدَمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: ذَاتِيٌّ كَقِدَمِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَزَمَانِيٌّ كَقِدَمِ زَمَانِ الْهِجْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَوْمِ، وَإِضَافِيٌّ كَقِدَمِ الْأَبِ بِالنِّسْبَةِ لِلِابْنِ، وَسَلْبِيٌّ كَقِدَمِ وُجُودِهِ تَعَالَى بِمَعْنَى سَلْبِ سَبْقِ الْعَدَمِ لِوُجُودِهِ تَعَالَى.
(وَلَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (لِآخِرِيَّتِهِ) أَيْ بَقَائِهِ (انْقِضَاءٌ) أَيْ فَرَاغٌ لِامْتِنَاعِ لُحُوقِ الْعَدَمِ لِمَا ثَبَتَ لَهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ الْقِدَمِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ لُحُوقُ الْعَدَمِ لَهُ تَعَالَى لَكَانَتْ نِسْبَةُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءً، فَيَلْزَمُ افْتِقَارُ وُجُودِهِ إلَى مُوجِدٍ يَخْتَرِعُهُ بَدَلًا عَنْ الْعَدَمِ الْجَائِزِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَادِثًا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ وُجُوبِ الْوُجُودِ لَهُ تَعَالَى، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ بَاقٍ لَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَدَمُ انْتِهَاءِ الْوُجُودِ أَوْ نَفْيُ الْعَدَمِ اللَّاحِقِ لِلْوُجُودِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ كَنَّى عَنْ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ بِلَفْظِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ إشَارَةً إلَى قَوْله تَعَالَى:{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3] لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ يُوهِمُ ابْتِدَاءَ الْأَوَّلِيَّةِ وَانْقِضَاءَ الْآخِرِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ أَوَّلٍ وَفِي كُلِّ آخِرٍ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْأَسْمَاءِ: أَوَّلٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ وَآخِرٌ بِلَا انْتِهَاءٍ مِثْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: لَيْسَ لِسَبْقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِبَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ انْتِهَاءٌ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْأَسْمَاءِ: لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَوَّلًا ابْتِدَاءٌ وَلَا لِكَوْنِهِ آخِرًا انْتِهَاءٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا بِخِلَافِ أَوَّلِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ كُلَّ أَوَّلٍ مِنْهَا لَهُ آخِرٌ إلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَأَهْلُهُمَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَهَا أَوَّلٌ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهَا وَلَيْسَ لَهَا آخِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْنَى، وَمَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّ لَهُ أَوَّلِيَّةٌ لَكِنْ لَا ابْتِدَاءَ لَهَا وَأَنَّ لَهُ آخِرِيَّةً لَكِنْ لَا انْقِضَاءَ لَهَا، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ كَنَّى بِنَفْيِ ابْتِدَاءِ الْأَوَّلِيَّةِ وَانْتِهَاءِ الْآخِرِيَّةِ عَنْ نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، أَوْ يُقَالُ: إذَا انْتَفَتْ الِابْتِدَائِيَّةُ عَنْ الْأَوَّلِيَّةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْأَوَّلِيَّةُ إذْ لَا تَكُونُ أَوَّلِيَّةً مِنْ غَيْرِ ابْتِدَاءٍ، وَإِذَا انْتَفَتْ الِانْتِهَائِيَّةُ عَنْ الْآخِرِيَّةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْآيَةُ إذْ كَيْفَ تَكُونُ آخِرِيَّةً مِنْ غَيْرِ انْتِهَاءٍ؟ وَأَجَابَ بَعْضٌ آخَرَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ النَّفْيَ مُنْصَبٌّ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ أَوَّلِيَّةٌ فَيَكُونُ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَلَا آخِرِيَّةٌ فَيَكُونُ لَهَا انْقِضَاءٌ كَقَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ. أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ فَيُهْتَدَى بِهِ، فَيَكُونُ أَطْلَقَ نَفْيَ الصِّفَةِ وَأَرَادَ بِهَا نَفْيَ الْمَوْصُوفِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ عَلَى طَرِيقِ السَّكَّاكِيِّ إذْ هِيَ عِنْدَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ كَمَا هُنَا، وَاللَّاحِبُ الطَّرِيقُ وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِيَّةِ الْأَسْبَقِيَّةُ وَبِالْآخِرِيَّةِ الْبَقَاءُ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى ابْتِدَاءِ تِلْكَ الْأَسْبَقِيَّةِ وَعَلَى انْتِهَاءِ تِلْكَ الْآخِرِيَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْبَقَاءِ أَيْ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ، وَبَاقٍ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ عَدَمٌ إذْ الْقِدَمُ سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى الْوُجُودِ وَالْبَقَاءُ سَلْبُ الْعَدَمِ اللَّاحِقِ لِلْوُجُودِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلُنَا أَظْهَرَ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْإِشْكَالِ الْمُحْوِجِ إلَى الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ وَلِسَلَامَتِهِ مِنْ إيهَامِ التَّنَاقُضِ لِإِثْبَاتِهِ الْأَوَّلِيَّةَ وَالْآخِرِيَّةَ ثُمَّ نَفِيهِمَا عَنْهُ وَهُوَ تَنَاقُضٌ وَلَا كَلَامَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هِيَ الِابْتِدَاءُ وَالْآخِرِيَّةَ الِانْقِضَاءُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ غَيْرُهُ إلَى قَوْلِهِ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ إلَى صِفَاتٍ لِلسُّلُوبِ، وَأَشَارَ إلَيْهِمَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ لِلصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ بِقَوْلِهِ:
فَوَاجِبٌ لَهُ الْوُجُودُ وَالْقِدَمُ
…
كَذَا بَقَاءٌ لَا يُشَابُ بِالْعَدَمِ
وَإِنَّهُ لِمَا يَنَالُ الْعَدَمُ
…
مُخَالِفٌ بُرْهَانَ هَذَا الْقِدَمِ
قِيَامُهُ بِالنَّفْسِ وَحْدَانِيَّةٌ
…
مُنَزَّهٌ أَوْصَافُهُ سَنِيَّةٌ
عَنْ ضِدٍّ أَوْ شِبْهِ شَرِيكٍ مُطْلَقًا
…
وَوَالِدٍ كَذَا الْوَلَدُ وَالْأَصْدِقَا
فَالْوُجُودُ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا خَمْسٌ سَلْبِيَّةٌ وَهِيَ أُمَّهَاتُ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، فَلَا يُنَافِي عَدَمَ حَصْرِهَا.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ
الْوَاصِفُونَ، وَلَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ، وَيَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ ذَاتِهِ، وَلَا يُحِيطُونَ
ــ
[الفواكه الدواني]
أَنَّهُ (لَا يَبْلُغُ) أَيْ لَا يُدْرِكُ (كُنْهَ) أَيْ حَقِيقَةَ (صِفَتِهِ) تَعَالَى (الْوَاصِفُونَ) أَيْ الْعَارِفُونَ بِطَرِيقِ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ لَا بِقَيْدٍ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ، وَتَفْسِيرُ الْكُنْهِ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكُنْهِ الْغَايَةُ؛ لِأَنَّ كُنْهَ الشَّيْءِ غَايَتُهُ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ يَكُونُ عَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي أَنَّ الصِّفَةَ غَايَةٌ لَا تُدْرَكَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ عَلَى حَدٍّ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، وَاللَّاحِبُ الطَّرِيقُ، وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ حَتَّى يُهْتَدَى بِهِ، وَمَثَلُهُ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ، أَيْ لَا ضَبَّ لَهَا حَتَّى يَنْجَحِرُ أَيْ لَا يَدْخُلُ الْجُحْرَ، وَبِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أَيْ لَا عِمَادَ لَهَا حَتَّى تَرَوْهَا، فَالْمَذْكُورَاتُ مِنْ بَابِ نَفْي اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ نَفْيِ الْمَلْزُومِ، إذْ مَعْنَاهُ. لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، وَالْمَعْنَى هُنَا: لَا غَايَةَ لِصِفَتِهِ حَتَّى تُدْرَكَ فَيَكُونُ كَنَّى بِعَدَمِ إدْرَاكِ غَايَةِ الصِّفَةِ عَنْ عَدَمِ إدْرَاكِ الصِّفَةِ، فَيَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ عَدَمُ إدْرَاكِ صِفَتِهِ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْت: تَعْرِيفُهُمْ لِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَتَعْرِيفِهِمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ بِهِ يَقْتَضِي إدْرَاكَ كُنْهِ الصِّفَاتِ قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْرِيفَ كَمَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْمُعَرَّفِ يُفِيدُ تَمْيِيزَهَا عَمَّا عَدَاهَا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ مَعْرِفَةَ حَقِيقَتِهِ كَالتَّعْرِيفِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ مِمَّا هُوَ رَسْمٌ، وَتَعْرِيفُ الصِّفَاتِ تَعْرِيفٌ لَهَا بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ عِلْمُ خَلْقِهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْوَاصِفُونَ عَنْ الْبَارِي تَعَالَى فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ كَمَا يَأْتِي.
تَنْبِيهٌ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِهِ لَا تُدْرَكُ مِنْ بَابِ أَوْلَى عَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الصِّفَةِ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِيهِ هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا تُعْرَفُ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَأَطْلَقَ الْجُنَيْدُ الْقَوْلَ فِي عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّفَةِ وَقَالَ: لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: إنَّ الذَّاتَ يُمْكِنُ بُلُوغُ حَقِيقَتِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُصَنِّفُ أَرَادَ هَذَا حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الصِّفَةِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ فِي بُلُوغِ الذَّاتِ قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهَا بِاتِّفَاقِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ التَّتَّائِيِّ: أَفْهَمَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الصِّفَةِ أَنَّ الذَّاتَ يُمْكِنُ بُلُوغُ حَقِيقَتِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إلَخْ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي عِلْمِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ بَلْ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمُعَلِّمُ بِالْحَقِيقَةِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ وَهْمٌ وَلَا يُقَدِّرُهُ فَهْمٌ، وَأَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَاجِزَةٌ عَنْ إدْرَاكِ جَلَالِهِ، وَمَنْ نَفَى الْعِلْمَ بِالْحَقِيقَةِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ عَرَفَهُ الْعَارِفُونَ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَنَزَّهُوهُ عَنْ سَائِرِ النَّقَائِصِ وَأَثْبَتُوا لَهُ جَمِيعَ الْكَمَالَاتِ، فَاتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى عَدَمِ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَمُ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَهَا أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهَا لِاقْتِضَاءِ الْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ إدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ إذْ يُرَى مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أَيْ لَا تُحِيطُ بِهِ، وَالْإِدْرَاكُ أَخَصُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَةُ.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مِنْ لَفْظِيَّةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ إدْرَاكُ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ فَلَمْ تَقَعْ فِي الدُّنْيَا يَقَظَةً لِأَحَدٍ وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً لِسُؤَالِ مُوسَى إيَّاهَا سِوَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ فِيهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ بِشَهَادَةٍ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ بَلْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لِاقْتِضَائِهِ الِانْحِصَارَ نَفْيَ الْأَعَمِّ الَّتِي هِيَ الرُّؤْيَةُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ (لَا يُحِيطُ) أَيْ لَا يَعْلَمُ (بِأَمْرِهِ) أَيْ شَأْنِهِ (الْمُتَفَكِّرُونَ) جَمْعُ مُتَفَكِّرٍ وَهُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِكْرُ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْمِيزَانِ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لَلتَّأَدِّي إلَى مَجْهُولٍ كَتَرْتِيبِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ النَّتِيجَةِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْمُتَفَكَّرِينَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُتَأَمِّلُونَ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ يُطْلَقُ عَلَى التَّأَمُّلِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُحِيطُوا بِشَأْنِهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ، إذْ كُلُّ يَوْمٍ أَيْ زَمَنٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أَيْ أَمْرٍ يُظْهِرُهُ عَلَى وَفْقِ مَا قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ إحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ وَإِعْزَازٍ وَإِذْلَالٍ وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ ضِدَّ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ مُكَلَّفُونَ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إحَاطَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ دَلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ أَيْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَمَا لَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يُتَوَصَّلُ إلَى إدْرَاكِ كُنْهِ صِفَتِهِ؟ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُمْ الْإِحَاطَةُ.
وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ جَلَسَ يَوْمًا عَلَى كُرْسِيِّ وَعْظِهِ يُقَرِّرُ فِي تَفْسِيرِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فَوَقَفَ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: فَمَا يَفْعَلُ رَبُّك الْآنَ؟ فَسَكَتَ وَبَاتَ مَهْمُومًا، فَرَأَى الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ السَّائِلَ هُوَ الْخَضِرُ وَإِنَّهُ سَيَعُودُ إلَيْك فَقُلْ لَهُ: شُئُونٌ يُبْدِيهَا وَلَا يَبْتَدِيهَا يَخْفِضُ أَقْوَامًا وَيَرْفَعُ آخَرِينَ، فَأَتَاهُ فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ: صَلِّ عَلَى مَنْ عَلَّمَك. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ سَأَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ وَقَالَ لَهُ: أُشْكِلَ عَلَيَّ قَوْله تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ فِي الْجَوَابِ إنَّ مَعْنَى:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] شُؤُونٌ يُبْدِيهَا أَيْ يُظْهِرُهَا لَا شُؤُونٌ يَبْتَدِيهَا أَيْ يُقَدِّرُهَا أَيْ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ.
(وَ) لَمَّا بَيَّنَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ صِفَتِهِ وَذَاتِهِ تَعَالَى، ذَكَرَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:(يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ) هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ أَيْ وَلْيَتَّعِظْ وَيَسْتَدِلَّ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الضَّارُّ النَّافِعُ، وَالْعَبْدُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي أَمْرٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْوِيضُ أَمْرِهِ إلَى خَالِقِهِ مُمْتَثِلًا أَوَامِرَهُ مُجْتَنِبًا نَوَاهِيَهُ، فَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ الْعَالَمُ الَّذِي هُوَ مَا سِوَى اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصِلُ إلَى الْمَطْلُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ عَقْلِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ أَدِلَّةُ مَخْلُوقَاتِهِ وَعَجَائِبُ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالشَّرْعِيَّةُ آيَاتُ كِتَابِهِ وَأَدِلَّةُ خِطَابِهِ وَجُمْلَةُ مَعَانِيه وَأَسْرَارِهِ وَبِهِمَا تُسْتَفَادُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةِ أَصْلًا أَوْ قِيَاسًا، وَبِهِمَا يَتَذَكَّرُ وَيَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ.
(وَلَا يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ لِلِاعْتِبَارِ وَلَا لِغَيْرِهِ (فِي مَاهِيَّةِ) أَيْ حَقِيقَةِ (ذَاتِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ حَقِيقَتِهَا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَبِرُ وَيَنْظُرُ فِي الْآيَاتِ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ وَيَنْظُرَ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: وَلَا يَتَفَكَّرُونَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ لِمَا وَرَدَ تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ، وَوَرَدَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لِأَحَدِكُمْ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَدَوَاءُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ شِفَاءُ هَذَا الدَّاءِ، وَالْمَائِيَّةُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ وَقَدْ تُبْدَلُ هَاءٌ فَيُقَالُ مَاهِيَّةُ وَمَعْنَاهَا الْحَقِيقَةُ كَمَا بَيَّنَّا وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى لَفْظَةِ مَا الَّتِي يُسْأَلُ بِهَا نَحْوُ: مَا الْإِنْسَانُ وَالْمَائِيَّةُ وَالْمَاهِيَّةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالطَّبِيعَةُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا هُوَ، فَالْمَائِيَّةُ كَمَا هِيَ نِسْبَةٌ إلَى مَا؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ بِمَا، كَذَلِكَ الْمَاهِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى مَا هُوَ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالنَّهْيِ فِي الْمَعْنَى عَنْ النَّظَرِ فِي ذَاتِهِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِجَلَالِهِ وَكُنْهِ عَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَنَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إمَّا بِالْبَدَاهَةِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ، وَبُطْلَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ذَاتَهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِالْبَدَاهَةِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالنَّظَرِ إمَّا بِالْحَدِّ وَإِمَّا بِالرَّسْمِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْحَدِّ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا تَقْبَلُ ذَاتُهُ التَّحْدِيدَ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ، وَالتَّرْكِيبُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى ذَاتِهِ وَمُنْتَفٍ عَنْهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهُ تَعَالَى، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ لِلْخَلْقِ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ، أَعْرَضَ مُوسَى عليه السلام حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْ الْحَقِيقَةِ حَيْثُ قَالَ:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] الَّذِي قُلْت إنَّك رَسُولُهُ؟ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَأَجَابَ بِالصِّفَةِ قَائِلًا: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 24] وَقَصَدَ مُوسَى عليه السلام بِالْإِجَابَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرَكَ الْإِجَابَةَ عَنْ الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ بَيَانِهَا، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَاتَه تَعَالَى لَا تُعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَدُّ إلَّا مَا لَهُ جِنْسٌ وَفَصْلٌ مِمَّا هُوَ مُرَكَّبٌ وَالتَّرْكِيبُ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَلَمَّا لَمْ يُدْرِك فِرْعَوْنُ هَذِهِ النُّكْتَةَ اعْتَرَضَ عَلَى مُوسَى عليه السلام وَقَالَ لِأَشْرَافِ أَتْبَاعِهِ مِمَّنْ حَوْلَهُ: أَلَا تَسْتَمِعُونَ جَوَابَ مُوسَى الَّذِي لَمْ يُطَابِقْ السُّؤَالَ؟ سَأَلْته عَنْ حَقِيقَتِهِ تَعَالَى فَأَجَابَ بِصِفَاتِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مُوسَى جَهْلَ فِرْعَوْنَ وَغَلَطَهُ بَلْ ذَكَرَ صِفَاتٍ أَبْلَغَ مِنْ الْأُوَلِ مُشِيرًا إلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْعُقَلَاءِ فَقَالَ:{رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فَتَسْتَدِلُّونَ بِمَا أَقُولُ فَتَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ وَهَذَا غَايَةُ الْإِرْشَادِ؛ لِأَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِ وَهُوَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ وَآبَاؤُهُمْ، ثُمَّ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّدْرِيجِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الرَّسْمَ لَا
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ.
وَلَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْعَالَمُ الْخَبِيرُ،
ــ
[الفواكه الدواني]
يُفِيدُ الْحَقِيقَةَ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَالْحُكَمَاءُ وَنَازَعَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَجَوَّزُوا مَعْرِفَةَ الذَّاتِ وَمَنَعُوا حَصْرَهَا فِي طَرِيقِ الْبَدَاهَةِ وَالنَّظَرِ لِجَوَازِ مَعْرِفَتِهَا بِالْإِلْهَامِ وَتَصْفِيَةِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا عَنْ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ، وَمَنْ قَالَ بِعِلْمِهَا مُرَادُهُ عِلْمُهَا بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى جَلَالِ عَظَمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَا يُدْرِكُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: رَدُّوا عَلَى الْمُؤَلِّفِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمَائِيَّةِ عَلَى ذَاتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ نَفْيَ الْمَائِيَّةِ عَنْ ذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْمَائِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلَّذِي لَهُ جِنْسٌ وَنَوْعٌ وَلِمَا لَهُ مِثَالٌ وَالْبَارِي لَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِي كَلَامِهِ إطْلَاقُ الْمُوهَمِ عَلَى اللَّهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِهِ، وَأُجِيبَ عَلَى ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إطْلَاقَهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ فِي التَّلَفُّظِ وَهَذَا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ، بَلْ ذَاتُهُ تَعَالَى مَوْجُودَةٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِشَهَادَةِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى حَدِّ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، أَيْ لَيْسَ لِلَّاحِبِ أَيْ الطَّرِيقِ مَنَارٌ فَيُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ عَلَامَتِهِ، وَلَا مَائِيَّةَ لَهُ تَعَالَى فَيَفْتَكِرُ فِيهَا الْمُتَفَكِّرُونَ، وَاسْتَعْمِلْ هَذَا فِي كُلِّ مَا أُشْكِلَ عَلَيْك مِنْ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ جَيِّدٌ، وَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ مَاهِيَّةً لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى اسْمًا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، أَوْ الْمُرَادُ بِهَا الذَّاتُ لَا الْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَا لَهُ جِنْسٌ وَنَوْعٌ، وَالْبَارِي لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي أَمْرٍ مَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ إمَامُ هَذَا الْفَنِّ: لَا يُسْأَلُ عَنْهُ تَعَالَى بِكَيْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَلَا بِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ، وَلَا بِمَتَى؛ لِأَنَّهُ لَا زَمَانَ لَهُ، وَلَا بِأَيْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَكَانَ لَهُ.
الثَّانِي: الذَّاتُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْحَقِيقَةُ، فَإِضَافَةُ مَائِيَّةٍ إلَى ذَاتِهِ فِي كَلَامِهِ بَيَانِيَّةٌ أَيْ مَائِيَّةٌ هِيَ ذَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ.
الثَّالِثُ: اُخْتُلِفَ هَلْ التَّفَكُّرُ أَفْضَلُ مِنْ نَحْوِ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ النَّفْلِ أَوْ هُمَا أَفْضَلُ؟ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ سَالِمًا ثَابِتًا بِحَيْثُ يَأْمَنُ صَاحِبُهُ مِنْ التَّشْبِيهِ فَالتَّفَكُّرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: مَا نَفَعَ الْقَلْبَ شَيْءٌ مِثْلُ عُزْلَةٍ يَدْخُلُ بِهَا مَيْدَانَ فِكْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّفَكُّرُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ النَّفْسِ، وَحَدِيثُ:«تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعٍ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لَا أَصْلَ لَهُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْعِبَادَ الْعَارِفِينَ بِطُرُقِ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ الْمَشْغُولِينَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ (لَا يُحِيطُونَ) بِمَعْنَى لَا يَعْمَلُونَ إلَى الْعِلْمِ (بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أَيْ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى (إلَّا بِمَا شَاءَ) أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ فَيَعْلَمُونَ بِهِ، وَذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى رُسُلَهُ الْكِرَامَ، فَالْمَجْرُورُ بَدَلٌ مِنْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا بِالْمَعْلُومِ الَّذِي أَرَادَ إعْلَامَهُمْ بِهِ.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ بِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ يُحَاطُ بِهِ إذَا شَاءَ اللَّهُ، وَالثَّانِي يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِيمَا سَبَقَ: لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ، وَالْأَوَّلُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ بَلْ وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَإِنْ تَعَدَّدَ مُتَعَلِّقُهَا، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَصْدَرِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ: أَيْ أَنَّ الْعِبَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَيْ مَشِيئَتِهِ، فَمَا فِي قَوْلِهِ: إلَّا بِمَا شَاءَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ عَلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: قِيلَ إنَّ الْمَعْلُومَاتِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ سبحانه وتعالى كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ اللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْأَوْلِيَاءُ كَالْمُكَاشَفَاتِ، وَعِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] وَمَعْنَى وُسْعِهِ لِتِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَضِقْ عَنْهُنَّ إذْ فَضْلُهُ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ، وَالْكُرْسِيُّ فِي الْأَصْلِ وَاحِدُ الْكَرَاسِيِّ الَّذِي يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضٌ: وَهَذَا تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَتَمْثِيلٌ حِسِّيٌّ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ أَبَدًا تَجِدُ مِنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ عَدَمِ سَمَاعِ ذَلِكَ، فَالْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ الْكُرْسِيِّ وَمِثْلُهُ الْعَرْشُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لِإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ اسْتِشْعَارُ النُّفُوسِ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِعَظَمَةِ الْبَارِي سبحانه وتعالى، وَلَا كُرْسِيَّ وَلَا قُعُودَ وَلَا قَاعِدَ نَظِيرَ قَوْله تَعَالَى:{وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ بَلْ هُوَ تَخْيِيلٌ لِعَظَمَتِهِ، وَقِيلَ كُرْسِيٌّ حَقِيقَةٌ وَهُوَ جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ مُلْتَصِقٌ بِهِ لَا قَطْعَ لَنَا بِحَقِيقَتِهِ، وَالْمَاءُ كُلُّهُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا لَا لِاحْتِيَاجٍ إلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى وَسِعَ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يُسَمَّى كُرْسِيًّا وَجَمَعَ السَّمَوَاتِ وَأَفْرَادَ الْأَرْضَ، مَعَ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السَّمَوَاتُ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نُجُومٍ وَأَقْمَارٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَسَائِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: جَرَى خِلَافٌ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ لِأَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ السَّمَاءِ كَمَا جَرَى خِلَافٌ فِي الْأَفْضَلِ، فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ: الْأَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَاءِ وَأَفْضَلُ السَّمَوَاتِ أَعْلَاهَا وَأَفْضَلُ الْأَرَضِينَ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَفْضَلُ السَّمَوَاتِ السَّمَاءُ الَّتِي فِيهَا الْعَرْشُ، وَأَفْضَلُ الْأَرَضِينَ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْبُقْعَةِ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا أَفْضَلُ حَتَّى مِنْ الْعَرْشِ وَالْكَعْبَةِ، الثَّانِي: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ الْأَرْضِ بُقْعَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام وَهِيَ الْمُجِيبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ قَوْلِهِ لَهَا وَلِلسَّمَاءِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَلَا يُقَالُ: حَيْثُ خُلِقَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم مِنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ فَكَيْفَ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ؟ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقِطْعَةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم نَقَلَهَا الطُّوفَانُ إلَى الْمَدِينَةِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ إلَّا بِهَا.
فَائِدَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا خُلِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى
فَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّ السَّمَاءَ الْأُولَى مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَالثَّانِيَةَ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ، وَالثَّالِثَةَ حَدِيدٌ، وَالرَّابِعَةَ نُحَاسٌ، وَالْخَامِسَةَ فِضَّةٌ، وَالسَّادِسَةَ ذَهَبٌ، وَالسَّابِعَةَ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ إذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَإِذْ لَا أَرْضَ وَلَا سَمَاءَ خَلَقَ الرِّيحَ فَسَلَّطَهَا عَلَى الْمَاءِ حَتَّى اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ فَأَخْرَجَ مِنْ الْمَاءِ دُخَانًا وَطِينًا وَزَبَدًا فَأَمَرَ الدُّخَانَ فَعَلَى وَسَمَا فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ السَّمَوَاتِ وَخَلَقَ مِنْ الطِّينِ الْأَرَضِينَ وَخَلَقَ مِنْ الزَّبَدِ الْجِبَالَ، وَالْأَرْضُ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ السَّمَاءُ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقِيلَ كَانَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ مُلْتَزِقَتَيْنِ فَرَفَعَ السَّمَاءَ وَفَتَقَهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَاَلَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ أَيْضًا إلَى السَّابِعَةِ، وَالْأَرْضُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ مِثْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ ذَلِكَ، وَقَعَ خِلَافٌ فِي مُدَّةِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَالصَّوَابُ عِنْدِي تَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى الْبَارِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي قَدْرِهَا قُرْآنٌ وَلَا حَدِيثٌ، وَحَكَى جَمَاعَةٌ أَنَّ مُدَّتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكُبْرَى.
(وَ) مَعَ كَوْنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ (لَا يَؤُدُهُ) أَيْ لَا يُثْقِلُهُ سبحانه وتعالى وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ (حِفْظُهُمَا) أَيْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَلَا حِفْظُ مَا فِيهِمَا إذْ لَوْ شَقَّ عَلَيْهِ حِفْظُ شَيْءٍ لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى إذْ كُلُّ مُمْكِنٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ. (وَهُوَ) سبحانه وتعالى (الْعَلِيُّ) أَيْ الْمُتَعَالِي بِالْمَنْزِلَةِ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ أَوْ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ.
(الْعَظِيمُ) وَخُتِمَتْ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لِدَلَالَةِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ عَلَى تَنْزِيهِ الْحَقِّ جَلَّ وَعَلَا عَنْ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَعَلَى إثْبَاتِ الْعُلُوِّ بِالْمَنْزِلَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي الْمِقْدَارِ، وَهَذَا إشَارَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ إلَى بَيَانِ بَعْضِ أَسْمَائِهِ سبحانه وتعالى الْمُتَضَمِّنِ لِبَيَانِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَلِيِّ وَالْعَظِيمِ، وَمِنْهَا:(الْعَالِمُ) أَيْ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَالِمُ وَكَذَا الْعَلَّامُ وَالْعَلِيمُ لِوُرُودِهَا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى وَكَذَا صِفَاتُهُ تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ الْخِلَافِ، بِخِلَافِ
الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
، وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ.
، وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ، خَلَقَ
ــ
[الفواكه الدواني]
أَسْمَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ اتِّفَاقًا لِمُشَاحَّةِ الْآدَمِيِّ فِي حَقِّهِ وَمُسَامَحَةِ خَالِقِهِ؛ وَلِأَنَّ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ النَّقَائِصِ قَطْعِيٌّ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ بَشَرٌ يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْأَلْسِنَةِ إلَيْهِ بِمَا لَا يَلِيقُ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَاخْتِيرَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ
…
كَذَا الصِّفَاتُ فَاحْفَظْ السَّمْعِيَّةَ
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سبحانه وتعالى إلَّا بِمَا وَرَدَ بِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ أَوْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَارِفٌ أَوْ فَطِنٌ أَوْ عَاقِلٌ أَوْ دَارٍ، وَإِنْ وَرَدَ إطْلَاقُ مَا رَادَفَهَا عَلَيْهِ، فَعِنْدَ الْوُرُودِ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ إلَّا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُوهِمًا مَا لَا يَلِيقُ كَالزَّارِعِ وَالْمُنْشِئِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَاكِرِ وَالْمُسْتَهْزِئِ وَالْمُنْزِلِ وَالرَّامِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاجْتِزَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُجَرَّدُ وُقُوعِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْ نَوْعِ تَعْظِيمٍ وَرِعَايَةِ أَدَبٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السَّعْدُ وَغَيْرُهُ، وَعِنْدَ وُرُودِ مَنْعِ الْإِطْلَاقِ لَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ، اخْتَلَفُوا حَيْثُ لَا إذْنَ وَلَا مَنْعَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ مَا كَانَ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامُ الْمَوْضُوعَةُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، إذْ لَيْسَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِهَا عَلَيْهِ مَحَلُّ نِزَاعٍ لِأَحَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهَا مُوهِمًا نَقْصًا بَلْ كَانَ مُشْعِرًا بِالْمَدْحِ، فَمَنَعَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَقِّ مُطْلَقًا اسْمًا أَوْ صِفَةً، وَجَوَّزَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُطْلَقًا، وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إطْلَاقَ الصِّفَةِ وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ وَمَنَعَ إطْلَاقَ الِاسْمِ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْس الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا اخْتَارُوهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ، بَلْ لَوْ سُمِّيَ وَاحِدٌ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُسَمِّهِ بِهِ أَبَوَاهُ لَمَا ارْتَضَاهُ فَالْبَارِئُ أَوْلَى، فَيَجُوزُ إطْلَاقُ السَّمْعِيِّ سَوَاءٌ أَوْهَمَ كَالصَّبُورِ وَالْحَلِيمِ وَالشَّكُورِ، أَوْ لَمْ يُوهِمْ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، أَوْ وَرَدَ بِهِ إجْمَاعٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ السَّمْعِيِّ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَالْأَظْهَرُ مَنْعُهُ لِإِبْهَامِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَالْخَالِقِ وَخَالِقِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْعَالِمِ وَالْعَارِفِ وَالْجَوَادِ وَالسَّخِيِّ وَالْحَلِيمِ وَالْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ مَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ أَوْ الْمَجَازِ، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُدْعَى بِمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ كَلَفْظِ السَّيِّدِ، وَمِنْ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ الصَّانِعُ وَالْمَوْجُودُ وَالْوَاجِبُ وَالْقَدِيمُ، بَلْ قِيلَ: إنَّ الصَّانِعَ وَالْقَدِيمَ مَسْمُوعَانِ كَالْحَنَّانِ وَالْمَنَّانِ، وَلَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ مُجَرَّدُ التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْمَصْدَرِ كَصِفَةِ اللَّهِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَانِعٌ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: حَذَفَ الْمُصَنِّفُ صِلَةَ الْعَالِمِ إشَارَةً إلَى التَّعْمِيمِ تَقْدِيرُهُ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَى عُمُومِ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ قَوْمٍ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان يَعْلَمُهُ إلَخْ مَا يَأْتِي، فَعِلْمُهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الصُّلُوحِيُّ؛ لِأَنَّ الصَّالِحَ لِلتَّعَلُّقِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ، فَيُوهِمُ خُلُوَّ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، إذْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ كَانَ، وَلَا يُوصَفُ بِالضَّرُورِيِّ وَلَا بِالْكَسْبِيِّ. الثَّانِي: وَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي حَدِّ عِلْمِهِ تَعَالَى، وَالْأَوْلَى كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنْ يُحَدَّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ بِهَا دُونَ سَبْقِ خَفَاءٍ، وَتَعْرِيفُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَنْكَشِفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ أَوْ تَنْجَلِي بِهَا فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ بِذِكْرِ قَيْدِ الِانْكِشَافِ أَوْ التَّجَلِّي لِإِيهَامِهِ سَبْقَ الْخُلَفَاءِ، وَمِنْ آدَابِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ أَنْ يَسْتَحِي مِنْ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] .
(الْخَبِيرُ) أَيْ إنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْخَبِيرُ الْمُخْتَبِرُ الْمُطَّلِعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، فَالْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنَهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِهِ بَعْدَ الْعَالِمِ مُجَرَّدُ بَيَانٍ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَبِيرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى شَيْءٌ، هَذَا مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ سبحانه وتعالى. (الْمُدَبِّرُ) أَيْ إنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُدَبِّرُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ الْمُبْرِمُ لِلْأُمُورِ وَالْمُنَفِّذُ لَهَا، عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَتَصْوِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا فِكْرٍ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا تَئُولُ إلَيْهِ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ، وَالتَّدَبُّرُ التَّفَكُّرُ فِيهِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَلَفْظُ الْمُدَبِّرِ مِنْ أَسْمَائِهِ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَلَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِيهِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ وُرُودُ الْفِعْلِ وَلَا الْمَصْدَرِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ لِاسْمِ الْمُدَبَّرِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَسْمَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَنَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] أَوْ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُحَصِّلُ عِلْمًا، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَكْفِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ. (الْقَدِيرُ) أَيْ أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيرُ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُمْكِنِ حَسْبَمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْكَثْرَةُ لَا الْمُبَالَغَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهَا إثْبَاتُك لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي الَّتِي عَلَى صِفَةِ الْمُبَالَغَةِ كُلِّهَا مَجَازَاتٌ لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا مُبَالَغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَالصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَجَازِ، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ كُلِّ مُمْكِنٍ يَحْصُلُ لَهُ الْخَشْيَةُ مِنْ سَطْوَتِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ (السَّمِيعُ) مُشْتَقٌّ مِنْ السَّمْعِ وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ الْمَسْمُوعَاتِ، وَ (الْبَصِيرُ) مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَصَرِ وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى زَائِدَةٌ عَلَيْهَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَقِيلَ بِالْمُبْصَرَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَوَرَدَ بِهِمَا الْخَبَرُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا، وَتَعَلُّقُهُمَا مُغَايِرٌ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِزِيَادَتِهِمَا عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةُ فِي الِانْكِشَافِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ إذْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَوْجُودِ الَّذِي يَتَعَلَّقَانِ بِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُمْكِنًا مَعْنًى أَوْ ذَاتًا كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، وَلَا يَحْجُبُهُمَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، فَيَسْمَعُ تَعَالَى السِّرَّ. وَالنَّجْوَى، وَيُبْصِرُ مَا تَحْت الثَّرَى مِنْ جَلِيلٍ أَوْ حَقِيرٍ، فَيَسْمَعُ فِي الْأَزَلِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ ذَاتُهُ الْعَلِيَّةُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا، وَكَذَا يَسْمَعُ ذَوَاتِنَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَيَسْمَعُ مَا قَامَ بِهَا مِنْ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مِنْ عُلُومِنَا وَأَلْوَانِنَا وَقُدْرَتِنَا، وَكَذَا يُبْصِرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اتِّحَادِ الْمُتَعَلِّقِ لِلسَّلْبِيَّةِ اتِّحَادُ الصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ مُتَعَلِّقُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ سَائِرُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَجِهَةُ التَّعَلُّقِ مُخْتَلِفَةٌ؟ إذْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ تَعَلُّقَ إحَاطَةٍ وَتَعَلُّقُ الْكَلَامِ تَعَلُّقَ دَلَالَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِ السَّمْعِ بِالْمَوْجُودِ غَيْرِ الْمَسْمُوعِ أَنَّ مُوسَى عليه السلام سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ الْأَزَلِيَّ بِلَا صَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ وَسَمْعُ مُوسَى حَادِثٌ فَكَيْفَ بِالسَّمِيعِ الْقَدِيمِ، وَأَيْضًا تَرَى ذَاتَهُ تَعَالَى بِلَا كَمٍّ وَلَا كَيْفٍ وَلَا يَتَعَلَّقَانِ بِمُسْتَحِيلٍ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ دَاوَمَ الْمُرَاقَبَةَ وَمُطَالَبَةَ النَّفْسِ بِدَقِيقِ الْمُحَاسِبَةِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ (الْعَلِيُّ) عَلَى عِبَادِهِ وَ (الْكَبِيرُ) قَالَ تَعَالَى:{فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وَانْعَقَدَ عَلَيْهِمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، لَيْسَ عُلُوُّهُ بِجِهَةٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ بِبُقْعَةٍ وَلَا كَبِيرٌ بِعِظَمِ جُثَّةٍ، بَلْ الْعَلِيُّ وَصَفَهُ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ مَوْصُوفَةٌ بِأَوْصَافِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، نَعْتُهُ بِصِفَاتِ الْجَمَالِ، وَمِنْ حَقِّ مَنْ عَرَفَ لِرَبِّهِ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَنْ يَذِلَّ وَيَتَوَاضَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ يَرْفَعُ اللَّهُ قَدْرَهُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَعَلَامَةُ التَّوَاضُعِ قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَالَ، وَالتَّكَبُّرِ جَحْدُ الْحَقِّ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206] .
(وَ) كَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ (أَنَّهُ) سبحانه وتعالى (فَوْقَ عَرْشِهِ) وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفَوْقَ السَّمَوَاتِ وَالْكُرْسِيُّ مِنْ تَحْتِهِ بَيْنَ قَوَائِمِهِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً كُلُّ مَا عَلَا، وَالظَّرْفُ خَبَرُ إنَّ، وَ (الْمَجِيدُ) يَصِحُّ جَرُّهُ نَعْتًا لِلْعَرْشِ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الْعَائِدُ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى اللَّهِ. (بِذَاتِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجِيدِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى فِي مِثْلُ أَقَمْت بِمَكَّةَ أَيْ فِيهَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعَرْشِ أَيْ الْعَظِيمِ فِي ذَاتِهِ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَهُ تَعَالَى مُسْتَحَقُّهَا بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالٍ أَوْ جُنُودٍ كَفَوْقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقٌ بِذَاتِهِ بِفَوْقٍ لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمُوهِمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْفَوْقِيَّةِ الْغَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِلَفْظِ الذَّاتِ عَلَى اللَّهِ، فَيَجُوزُ قَوْلُ الْقَائِلِ فَوْقَ سَمَائِهِ أَوْ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَتُحْمَلُ عَلَى فَوْقِيَّةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالِ وَالسَّلْطَنَةِ وَالْقَهْرِ لَا فَوْقِيَّةِ حَيِّزٍ وَمَكَانٍ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْفَوْقِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى لِاسْتِلْزَامِهَا الْجُرُمِيَّةَ وَالْحُدُوثَ الْمُوجِبَيْنِ لِلِافْتِقَارِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ الْخَالِقُ جَلَّ وَعَلَا، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِمَا مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] مِنْ أَنَّ النُّفُوسَ تَجِدُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ مَا لَمْ تَجِدْهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ؛ وَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى نَفْيِ مُشَابَهَتِهِ لِلْحَوَادِثِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَقَالَ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وَلِذَلِكَ لَمَّا بَلَغَ الْعَلَّامَةَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ تَعَقُّبَ بَعْضِ الشُّيُوخِ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَكَانًا، رَدَّ هَذَا التَّعَقُّبَ بِوُرُودِ الْفَوْقِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] مَعْنَاهُ يَخَافُونَ عَذَابَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ إنْ عَصَوْهُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَقَالَ:{وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ دُسَّتْ عَلَى الْمُؤَلِّفِ رَدَّهُ ابْنُ نَاجِي قَائِلًا: لَيْسَ هَذَا مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إطْلَاقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ رَدُّ ابْنِ نَاجِي بِأَنَّ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ السَّلَفُ هُوَ لَفْظُ الْفَوْقِيَّةِ الْغَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِذَاتِهِ، وَالْإِيهَامُ إنَّمَا عَظُمَ مِنْ التَّقْيِيدِ بِذَاتِهِ.
قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: أُخِذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ بِذَاتِهِ، وَقِيلَ هِيَ دَسِيسَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي سُقُوطِ الِاعْتِرَاضِ عَنْهُ، وَلَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا سَمْعٌ، وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَنْ هَذَا هَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ مُعْتَقِدُهَا أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُعْتَقِدَهَا لَا يَكْفُرُ، وَمَا قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ يَرُدُّهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُجَاهِدٍ فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا أَجْمَعُوا عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ أَرْضِهِ إطْلَاقًا شَرْعِيًّا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَلِذَلِكَ قَالَ دُونَ أَرْضِهِ، وَهَذَا مَعَ ثُبُوتِ عِلْمِهِمْ بِاسْتِحَالَةِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُشْكِلًا لِعِلْمِهِمْ بِفَصَاحَةِ الْعَرَبِ وَاتِّسَاعِهِمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَنَقَلَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيَّرَ لَفْظَهُ هُنَا قَصْدًا لِلتَّقْرِيبِ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّاسُ عَالَةٌ عَلَى الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ إطْلَاقُهُمْ هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا تَفَهُّمُهُ بِالتَّمْثِيلِ وَالْبَسْطِ إذْ قَدْ غَلَبَتْ الْعُجْمَةُ عَلَى الْقُلُوبِ حَتَّى ظَنَّتْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْجِهَةِ فِي حَقِّ الْمُنَزَّهِ؛ عَنْهَا تَقَدَّسَ وَتَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَتَكُونُ حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً كَزَيْدٍ فَوْقَ الْفَرَسِ، وَالسُّلْطَانِ فَوْقَ الْوَزِيرِ، وَأَنَّ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَوْقِيَّتُهُ حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَاَلَّذِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ وَالْجِسْمِيَّةُ لَا تَكُونُ فَوْقِيَّتُهُ إلَّا مَعْنَوِيَّةً، فَفَوْقِيَّةُ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمُرَادُ بِهَا فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لِمَا قَدَّمْنَا، وَحَمْلُ الْفَوْقِيَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعْنَوِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ وَهِيَ الْمُؤَوَّلَةُ، وَعَلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَمَاعَةٌ كَتَأْوِيلِ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ، وَأَمَّا السَّلَفُ فَيَقِفُونَ عَنْ الْخَوْضِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُفَوِّضُونَ عِلْمَ ذَلِكَ إلَى الْبَارِي سبحانه وتعالى، وَإِلَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
…
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا
وَالْأُولَى أَعْلَمُ وَالثَّانِيَةُ أَسْلَمُ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَارِيَ سبحانه وتعالى يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ حَقِيقَةً وَبِالْفَوْقِيَّةِ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا الْعَظَمَةُ، وَلَا يُوصَفُ سُبْحَانَهُ بِالسُّفْلِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا.
الثَّانِي: مِنْ الصِّفَاتِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ كَالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَالْعَبْدُ الْمُوَحِّدُ أَيْضًا يَعْلَمُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا، وَكَالْعِلْمِ بِحَرَارَةِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ قَدِيمًا وَعِلْمُ الْعَبْدِ حَادِثًا، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مَجَازًا كَالْمُعْطِي وَالرَّازِقُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا يُقَال لَهُ مُعْطٍ مَجَازًا لِحُصُولِ صُورَةِ الْعَطَاءِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ لِصُورَةِ الْفَرَسِ فَرَسٌ، وَمِنْ ثَمَّ أَجَابَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ خَيْرِ الرَّازِقِينَ وَأَحْسَنِ الْخَالِقِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا رَازِقَ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سبحانه وتعالى، بِأَنَّ الرَّازِقَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْمَخْلُوقِ مَجَازًا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرُ مَنْ تَزْعُمُونَهُمْ رَازِقِينَ، وَيَجْرِي نَحْوُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ فِي أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْبَارِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَالْأَزَلِيِّ، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ حَقِيقَةً وَيُوصَفُ بِهِ الْبَارِي مَجَازًا كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ.
الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى وَكَذَا صِفَاتِهِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَيْ تَعْلِيمِيَّةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْوُرُودِ فِي السَّمْعِ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَعْظِيمٍ، فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ نَحْوِ الْمَاكِرِ وَالْحَارِثِ وَالْمُسْتَهْزِئِ وَإِنْ وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ قَوْلُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَخُونُ الْفَاتِحَةَ يَخُونُهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَشْتَهِرَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى يُجَازِيه اللَّهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ فَلَا إثْمَ عَلَى قَائِلِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ.
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً قَدِيمَةً عَامَّةَ التَّعَلُّقِ قَالَ: (وَهُوَ) أَيْ الْبَارِي سبحانه وتعالى (فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ) بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ.
قَالَ تَعَالَى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]
الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا، وَلَا حَبَّةٍ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
فِي أَمْكِنَتِهَا وَأَزْمِنَتِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا مُحِيطَةٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْجَائِزَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَلَا يُوصَفُ عِلْمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَلَا الِاكْتِسَابِ وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلِّقُهَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ إلَى بَيَانِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمُصَاحَبَةُ بِالْعِلْمِ لَا الْمُصَاحَبَةُ فِي الْمَكَانِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا عِلْمًا وَحُكْمًا لَا نَفْسًا وَذَاتًا، وَبِالْحَمْلِ الْمَذْكُورِ عَلِمْت الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أُخِذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إيهَامُهُ الْجِهَةِ وَأَنَّ عِلْمَهُ يَتَجَزَّأُ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْجِهَةِ وَعَنْ التَّجَزُّؤِ لِعِلْمِهِ الْمُوهِمِ مُفَارِقَتَهُ لِذَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِشَهَادَةِ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 12] وَ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وَالدَّلِيلُ عَلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَمَا فِيهَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْآيَاتِ أَنَّهُ (خَلَقَ) أَيْ أَوْجَدَ (الْإِنْسَانَ) وَكَذَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ:(وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ) أَيْ تُحَدِّثُ (بِهِ نَفْسُهُ) أَيْ مَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيَخْطِرُ بِبَالِهِ.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَسْوَسَةُ النَّفْسِ مَا يَخْطِرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ، وَفَسَّرْنَا حَدِيثَ النَّفْسِ بِمَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فَأَطْلَقَ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ قَوْلًا، وَالْوَسْوَسَةُ تُطْلَقُ عَلَى الصَّوْتِ الْخَفِيِّ وَعَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ، فَالْوَسْوَسَةُ وَالْوَسْوَاسُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِخَفَائِهِ أَوْ لِاشْتِغَالِ الْمُتَّصِفِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ.
وَلِذَا أُضِيفَتْ لِلنَّفْسِ، وَعُمُومُ الْإِنْسَانِ مُتَنَاوِلٌ لِلْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنْ خَوَاطِرِ النَّفْسِ وَلَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] أَيْ قَرَأَ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ. ثُمَّ يَنْسَخُ اللَّهُ جَمِيعَ مَا يُلْقِيه الشَّيْطَانُ وَيُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ آيَاتِهِ.
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ بِوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ أَوْ عِنْدَ شُغْلِ الْقَلْبِ حَتَّى يَغْلَطَ ثُمَّ يُنَبِّهَ وَيَرْجِعَ إلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] وَحِينَئِذٍ فَالْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الشَّيْطَانِ عِصْمَتُهُمْ مِنْ إغْوَائِهِ وَأَذِيَّتِهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ وَسْوَسَتِهِ وَتَفَلَتِهِ الْمُجَرَّدِينَ مِنْ الْإِيذَاءِ.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: النَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَلَى الرُّوحِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لِلْجَاهِلِ، وَلَوَّامَةٌ لِلتَّائِبِ، وَمُطْمَئِنَّةٌ لِلْعَارِفِ، وَإِسْنَادُ الْوَسْوَسَةِ إلَيْهَا مَجَازٌ كَنِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى:{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ وَلَا إعْدَامِهِ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسْوَسَةِ مَا يَقُولُهُ الْإِنْسَانُ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ، فَالْمُوَسْوِسُ بِمَعْنَى الْمُتَحَدَّثِ فِي قَلْبِهِ هُوَ الشَّخْصُ، الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّفْسَ مُرَادِفَةٌ لِلرُّوحِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إلَّا الْبَارِي سبحانه وتعالى فَيُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي حَقِيقَتِهَا.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَلَا تَخُضْ فِي الرُّوحِ إذْ مَا وَرَدَا
…
نَصٌّ عَنْ الشَّارِعِ لَكِنْ وُجِدَا
لِمَالِكٍ هِيَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ
…
فَحَسْبُك النَّصُّ بِهَذَا السَّنَدِ
وَهِيَ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَيْنِ: رُوحُ الْيَقِظَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ نَائِمٍ عِنْدَ وُجُودِهَا وَيَنَامُ عِنْدَ مُفَارِقَتِهَا، وَرُوحُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَمُوتُ الْحَيَوَانُ بِخُرُوجِهَا وَيَحْيَا بِوُجُودِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ. (وَ) كَمَا يَعْلَمُ سبحانه وتعالى مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ (هُوَ) أَيْ اللَّهُ (أَقْرَبُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وَالْقَصْدُ التَّمْثِيلُ لِلتَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّ قُرْبَ اللَّهَ مَعْنَوِيٌّ وَقُرْبَ حَبْلِ الْوَرِيدِ حِسِّيٌّ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَكُونُ
ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى.
، وَلَهُ الْأَسْمَاءُ
ــ
[الفواكه الدواني]
فِي الْقُرْبِ مِنْهُ كَحَبْلِ الْوَرِيدِ، وَيَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَعْلَمُ وَهُوَ الْعِلْمُ عَلَى حَدِّ:{اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وَحَبْلُ الْوَرِيدِ الْمُرَادُ بِهِ عِلْمُ صَاحِبِ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ بِهَا، أَيْ وَعِلْمُ اللَّهِ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ أَقْرَبُ مِنْ عِلْمِ صَاحِبِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْقُرْبِ هُنَا قُرْبُ عِلْمٍ لَا قُرْبَ مَسَافَةٍ، فَهُوَ مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَعْلُومَاتِ الْعِبَادِ وَسَرَائِرِهِمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَأَنَّ ذَاتَه قَرِيبَةٌ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان، وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ، وَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ وَرِيدَانِ مُكْتَنِفَانِ بِصَفْحَتَيْ الْعُنُقِ مِنْ الْمُقَدِّمِ وَمُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ يَرِدَانِ مِنْ الرَّأْسِ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْوَتِينِ وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِهِ إذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ، وَالْحَبْلُ الْعِرْقُ شُبِّهَ بِالْحَبْلِ وَاسْتُعِيرَ لَهُ لَفْظُ الْحَبْلِ مِنْ حَيْثُ اشْتِدَادِ اللَّحْمِ بِالْعِرْقِ مِثْلُ الْحَبْلِ، وَتِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ تُسَمَّى تَصْرِيحِيَّةً لِلتَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ، وَإِضَافَةُ الْحَبْلِ إلَى الْوَرِيدِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى مُرَادِفِهِ، وَيُقَالُ لَهَا الْإِضَافَةُ الْبَيَانِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَبْلَ بِمَعْنَى الْعِرْقِ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقِيلَ مِنْ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى نَوْعِهِ كَقَوْلِهِمْ: حَيُّ الطَّيْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمِهِ.
تَنْبِيهٌ: فِي إتْيَانِهِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ دُونَ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ تَغْيِيرٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ، إذْ لَفْظُ الْقُرْآنِ:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَهَذَا التَّغْيِيرُ يُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ بِالِاقْتِبَاسِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُذْكَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الْحَدِيثِ فِي كَلَامٍ لَا بِلَفْظِ: قَالَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَيُغْتَفَرُ فِيهِ التَّغْيِيرُ الْيَسِيرُ لِنَحْوِ تَفْقِيهٍ أَوْ إبْهَامٍ مَا لَا يَصِحُّ كَمَا هُنَا، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ فَعَزَا بَعْضُ الشُّيُوخِ لِمَالِكٍ التَّشْدِيدَ فِي مَنْعِهِ وَهُوَ السُّيُوطِيّ حَيْثُ قَالَ:
وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ
…
فَمَالِكٌ مُشَدِّدٌ فِي الْمَنْعِ
وَنُسِبَ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَابْنِ الْمُنِيرِ تَجْوِيزُهُ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَأْيُهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الِاقْتِبَاسِ، وَلَيْسَ مِنْ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَوْلُنَا فِي حَدِّ الِاقْتِبَاسِ عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُ الْقُرْآنِ إشَارَةٌ إلَى شَرْطِ جَوَازِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ؛ لِأَنَّ مَا تَغَيَّرَ بَعْضُ لَفْظِهِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ قُرْآنٌ أَوْ حَدِيثٌ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا شَدَّدَ مَالِكٌ فِي مَنْعِ الِاقْتِبَاسِ وَإِنْ خَلَا مِنْ التَّغْيِيرِ لِإِيهَامِ السَّامِعِ عَدَمَ كَوْنِهِ قُرْآنًا أَوْ حَدِيثًا، وَإِنَّمَا حَرُمَ نَقْلُ الْمُغَيَّرِ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْمُغَيَّرَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ، وَالْإِيهَامُ الْمُقْتَضِي لِتَغْيِيرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إيهَامُ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُصَنِّفِ لَوْ قَالَ: وَنَحْنُ كَمَا فِي التِّلَاوَةِ.
وَهُوَ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَهُوَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي رُجُوعِهِ لِلَّهِ هُوَ فَاعِلُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مِنْ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِهِ، بِخِلَافِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى فَفِيهِ خِلَافٌ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْحَدِيثَ كَلَامُ رَسُولِهِ، وَأَمَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ الدُّعَاءِ أَوْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ أَوْ الْخُطَبِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ عَدَمُ الْقُرْآنِيَّةِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ:« {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79] الْآيَةُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي دَيْنِي وَأَمِّنِّي مِنْ الْفَقْرِ» وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ، فَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ مُطْلَقًا غَيْرُ صَرِيحٍ.
(وَ) إذَا عَلِمْت أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ فَيَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ (مَا تَسْقُطُ) أَيْ تَقَعُ (مِنْ) زَائِدَةً قِيَاسًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَفَاعِلُ تَسْقُطُ (وَرَقَةٍ) فَمَحَلُّهَا رَفْعٌ وَالْمَعْنَى: مَا تَسْقُطُ سَاقِطَةٌ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لَا خُصُوصَ الْوَرَقَةِ (إلَّا يَعْلَمُهَا) سبحانه وتعالى لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا. (وَلَا حَبَّةٍ) عُطِفَ عَلَى لَفْظِ وَرَقَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ أَوْ عَلَى مَحَلِّهَا عَلَى رَفْعِ حَبَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَبَّةِ أَقَلُّ قَلِيلٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَبَّةِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَصِلَةُ تَسْقُطُ (فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَسْقُطُ تَغِيبُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ أَيْ بُطُونِهَا. (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الْمُرَادُ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سُقُوطِ الْحَبَّةِ وَالْوَرَقَةِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَهُمَا مَعْرُوفَانِ، وَقِيلَ: الرَّطْبُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَالْيَابِسُ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَالْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ الْآيَةِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَزْبُورٌ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ حَتَّى سُقُوطِ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَهِيَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا. فَمَا بَالُك بِالْأَعْمَالِ الْمُجَازَى عَلَيْهَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ إنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] كَالتَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا حَبَّةٍ وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفَانِ عَلَى وَرَقَةٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهَا كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إلَّا أَكْرَمْته وَلَا امْرَأَةٍ إلَّا أَكْرَمْتهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُعِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ أَعْنِي قَوْلَهُ: إلَّا فِي كِتَابٍ بَدَلٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إلَّا يَعْلَمُهَا بَدَلٌ مُطَابِقٌ إنْ فُسِّرَ الْكِتَابُ بِعِلْمِهِ تَعَالَى، وَاشْتِمَالٌ إنْ فُسِّرَ الْكِتَابُ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِاشْتِمَالِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّوْحِ كَنَفَعَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَطْفِ رَطْبٍ وَيَابِسٍ عَلَى لَفْظِ حَبَّةٍ بِنَاءً عَلَى جَرِّهِمَا أَوْ عَلَى مَحَلِّهِمَا عَلَى رَفْعِهِمَا، وَأَمَّا عَلَى رَفْعِهِمَا بِالِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى:{إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] خَبَرًا لَا بَدَلًا. هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِ أَبِي السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ وَبِمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَحُكْمِهِ فَقَالَ:(عَلَى الْعَرْشِ) وَهُوَ لُغَةً كُلُّ مَا عَلَا، وَشَرْعًا جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْكُرْسِيِّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (اسْتَوَى) أَيْ اسْتَوْلَى بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ اسْتِيلَاءَ مَلِكٍ قَاهِرٍ وَإِلَهٍ قَادِرٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ اسْتِيلَائِهِ تَعَالَى عَلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَعْلَاهَا اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى مَا دُونَهُ، وَلَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَالْأَصَابِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ظَاهِرُهُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى الْقَطْعِ إلَّا اللَّهُ سبحانه وتعالى، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ حَقِيقَةِ وُرُودِهِ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْبَارِي عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْتَحِيلِ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ إمَامُ هَذَا الْفَنِّ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ تَعَالَى زَائِدَةٍ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي الثَّمَانِيَةِ أَوْ السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِدْرَاكُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّتِهَا، وَالدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى ثُبُوتِهَا السَّمْعُ لِوُرُودِهَا إمَّا فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ لِذَلِكَ تُسَمَّى عَلَى مَذْهَبِهِ صِفَاتٌ سَمْعِيَّةٌ.
وَطَرِيقُ السَّلَفِ كَابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ الْإِمَامِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ تَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا عَنْ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ وَقَالَ أَهْلُهَا انْقَطَعَ بِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى اسْتِوَاءً وَيَدًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ إلَّا اللَّهُ.
وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الْمَعْنَوِيَّةُ، وَطَرِيقُ الْخَلَفِ تُؤَوِّلُ الْمُتَشَابِهَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ قَصْدًا لِلْإِيضَاحِ وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْمُؤَوِّلَةُ، فَأَوَّلُوا الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْيَدَ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَيْنَ بِالْبَصَرِ وَالْأَصَابِعَ بِإِرَادَاتِ الْقَلْبِ وَإِلَى طَرِيقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ:
وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا
…
أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا
فَعُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقَتَيْنِ تُؤَوِّلُ الْمُتَشَابِهَ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَافْتَرَقَا بَعْدَ صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْتَحِيلِ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، فَالسَّلَفُ يُفَوِّضُونَ عِلْمَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْخَلَفُ تُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا بِحَمْلِ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ خَاصٍّ كَمَا قَدَّمْنَا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ: وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَكْفِيَك فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ذَهَابُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِوَاءِ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: اسْتَوَى بِلَا تَشْبِيهٍ وَصَدَّقْت بِلَا تَمْثِيلٍ وَاتَّهَمْت نَفْسِي فِي الْإِدْرَاكِ وَأُمْسِكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ كُلَّ الْإِمْسَاكِ.
وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لَا كَمَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ رضي الله عنه قَالَ: مَنْ قَالَ لَا أَعْرِفُ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ كَفَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوهِمُ أَنَّ لِلْحَقِّ مَكَانًا، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ لِلْحَقِّ مَكَانًا فَهُوَ مُشَبِّهٌ.
وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ أَنَّ عُقُولَنَا دَلَّتْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ اللَّائِقَ بِاَللَّهِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ دُونَ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَقَوْلُهُ: وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ لَا تُوصَفُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَعَقِّلَةِ وَالْهَيْئَاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنْ التَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ بَلْ يُفَوِّضُونَ
الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً، كَلَّمَ
ــ
[الفواكه الدواني]
مَعْرِفَتَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ إلَى اللَّهِ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْخَلَفِ فَهِيَ أَحْكُمُ بِمَعْنَى أَكْثَرُ إحْكَامًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إثْبَاتًا لِمَا فِيهَا مِنْ إزَالَةِ الشُّبَهِ عَنْ الْأَفْهَامِ، وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِأَعْلَمَ بَدَلَ أَحْكَمَ بِمَعْنَى أَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ بِبَيَانِ الْمَعْنَى التَّفْصِيلِيِّ، وَمَالَ إلَى تَرْجِيحِهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ أَقْرَبُ الطَّرِيقَيْنِ إلَى الْحَقِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَالَ مَرَّةً إلَى طَرِيقِ الْخَلَفِ وَمَرَّةً إلَى طَرِيقِ السَّلَفِ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَا تَدْعُو ضَرُورَةٌ إلَى التَّأْوِيلِ، وَإِلَّا اتَّفَقَ عَلَى وُجُوبِ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ وَذَلِكَ بِأَنْ تَحْصُلَ شُبْهَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِهِ.
وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوَقْفِ فِي الْآيَةِ هَلْ عَلَى قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: إلَّا اللَّهُ؟ فَمَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عَلَى إلَّا اللَّهُ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ بِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَمُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا وَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَنْ قَدَّرَ الْوَقْفَ عَلَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ وَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ اسْتِئْنَافٌ مُوَضِّحٌ لِحَالِ الرَّاسِخِينَ أَوْ حَالٌ مِنْهُمْ أَوْ خَبَرٌ إنْ جَعَلْته مُبْتَدَأً.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ سبحانه وتعالى (عَلَى الْمُلْكِ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ (احْتَوَى) أَيْ أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُلْكِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، فَلَا مُلْكَ وَلَا مَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا لَهُ سبحانه وتعالى، لِاسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ وَافْتِقَارِ كُلِّ مَا عَدَاهُ إلَيْهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ، وَتَفْسِيرُ الْمُلْكِ بِالْمَمْلُوكِ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُسْتَغْنِي، وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: حَقِيقَةُ الْمُلْكِ بِالضَّمِّ تَصَرُّفُ الْمُوجِدِ فِيمَا أَوْجَدَهُ مَعَ رَبْطِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَضَبْطِهِ عَنْ الْفَسَادِ، وَيَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْمُلْكُ بِالضَّمِّ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقَضَاءِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ كَسْبٌ عَارٍ عَنْ الِانْتِزَاعِ أَوْ تَقُولُ هُوَ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ لَا بِنِيَابَةٍ، وَأَمَّا الْمَلَكُوتُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَاطِنِ الْمِلْكِ وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الِاحْتِوَاءَ بِالْإِحَاطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ الِاسْتِدَارَةُ بِالشَّيْءِ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهٌ: إنَّمَا ذَكَرَ جُمْلَتَيْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] مِنْ أَنَّ النُّفُوسَ تَجِدُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَأْلُوفَةِ لَهَا الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَاَللَّهُ سبحانه وتعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِذَكَرِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَيْضًا أَنَّ (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ لُغَةً مَا لَهُ مُسَمًّى، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا دَلَّ عَلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ تَعَالَى كَلَفْظِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَكُلُّهَا تُوصَفُ وَصْفًا كَاشِفًا بِالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ وَصْفًا مَعَ إفْرَادِهِ وَجَمْعُ الْأَسْمَاءِ؛ لِأَنَّ حُسْنَى جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى إذْ هُوَ مَصْدَرٌ لِحَسُنَ حُسْنًا ضِدُّ قَبُحَ، فَإِذَا قَصَدْت الْمُبَالَغَةَ فِي الْحُسْنِ قُلْت حُسْنَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى وَمُذَكَّرُهُ حَسَنٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٌ، وَوَصْفُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْحُسْنَى بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ إذْ لَا حُسْنَ يُوَازِيهَا وَلَا جَمَالَ يُدَانِيهَا.
تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَدْ اشْتَهَرَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرَهُ أَوْ لَا، وَاَلَّذِي حَقَّقَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اسْمِ اللَّهِ الْمَدْلُولُ وَمِنْ مُسَمَّاهُ الذَّاتُ، فَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ أَرَادَ بِالِاسْمِ اللَّفْظَ وَبِالْمُسَمَّى الذَّاتَ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْخِلَافَ حِينَئِذٍ لَفْظِيٌّ، وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْبِسَاطِيِّ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ: الذَّاتُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا هُوَ الِاسْمُ، فَإِذَا قُلْت: عَالِمٌ فَهُنَاكَ أَمْرَانِ ذَاتٌ وَعِلْمٌ فَالذَّاتُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْعِلْمُ هُوَ الِاسْمُ، وَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَالْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُقَالُ فِيهِ عَيْنٌ وَلَا غَيْرٌ، فَالْأَوَّلُ كَمَوْجُودٍ وَقَدِيمٍ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ وَالْقَدِيمَ عَيْنُ الذَّاتِ، وَالثَّانِي مِثْلُ خَالِقٍ وَرَازِقٍ وَكُلُّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الِاسْمَ غَيْرُ الذَّاتِ، وَالثَّالِثُ مِثْلُ الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَالْمُرِيدِ فَالْعِلْمُ مَثَلًا الَّذِي هُوَ الِاسْمُ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ عَيْنٌ وَلَا غَيْرٌ، هَذَا تَحْقِيقُ مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ.
الثَّانِي: الَّذِي يَظْهَرُ إبْقَاءُ الْأَسْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلِهَا بِالْمُسَمَّيَاتِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْمِ لَا بِالْمُسَمَّى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَسَبَبُ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم -
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
تَارَةً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَارَةً يَذْكُرُونَ الرَّحْمَنَ قَالُوا: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إلَهًا وَاحِدًا وَإِذَا هُمْ يَعْبُدُونَ آلِهَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] أَيْ اُتْرُكُوا تَسْمِيَةَ الَّذِينَ يَمِيلُونَ عَنْ الْحَقِّ وَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ كَيَا أَبْيَضَ الْوَجْهِ وَيَا أَبَا الْمَكَارِمِ، وَلِذَلِكَ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى سُبْحَانَهُ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْ الْوَارِدِ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَنَّانِ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَهِيَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ.
(وَ) لَهُ أَيْضًا سبحانه وتعالى (الصِّفَاتُ) جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ، (الْعُلَى) أَيْ الْمُرْتَفِعَةُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَالْفَائِقَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ، وَلَفْظُ الْعُلَى مَصْدَرُ عَلَى يَعْلَى عُلًا إذَا شَرُفَ وَتَنَاهَى فِي الْمَكَارِمِ، وَعَلَى يَعْلُو عُلُوًّا إذَا ارْتَفَعَ، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا صَحَّ جَعْلُهُ وَصْفًا لِلْجَمِيعِ وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لَا مُخَصِّصٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ بِقَوْلِهِ:(لَمْ يَزَلْ) سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ وَلَا يَزَالُ مَوْجُودًا قَدِيمًا بَاقِيًا مَوْصُوفًا (بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ) النَّفْسِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي وَالْمَعْنَوِيَّةِ.
(وَ) لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ أَيْضًا مُسَمًّى بِجَمِيعِ (أَسْمَائِهِ) تَعَالَى وَمُرَادُهُ بِلَمْ يَزَلْ الْقِدَمُ وَبِلَا يَزَالُ الْبَقَاءُ، وَالْمُرَادُ بِقِدَمِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَالِاتِّصَافِ بِهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِكَلَامِ الْجَوْهَرَةِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ خَبَرَ لَمْ يَزَلْ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ وَقَدَّرْنَاهُ قَدِيمًا بَاقِيًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ رَدٍّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا سَيُبَيِّنُهُ (تَعَالَى) سُبْحَانَهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ (أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ) الذَّاتِيَّةُ (مَخْلُوقَةً وَ) تَعَالَى أَيْضًا عَنْ أَنْ تَكُونَ (أَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً) بِمَعْنَى مَخْلُوقَةٍ وَأَشَارَ فِي الْجَوْهَرَةِ إلَى بَيَانِ قِدَمِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِقَوْلِهِ:
وَعِنْدَنَا أَسْمَاؤُهُ الْعَظِيمَةُ
…
كَذَا صِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ قَدِيمَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ.
وَالْمُرَادُ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى مَا دَلَّ عَلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ كَ " اللَّهِ "، أَوْ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَقَدَّمَهَا إمَّا بِاعْتِبَارِ قِدَمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ بِهَا وَهَذَا أَحْسَنُ خُصُوصًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا أَزَلًا، وَمَعْنَى سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا أَظْهَرَ تَسْمِيَتَهُ بِهَا إذْ الْعَقْلُ لَا يَتَصَوَّرُهُ إلَّا مُسَمًّى وَمُتَّصِفًا بِهَا، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ - بِالتَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ. . . إلَخْ وَبِمَا قَبْلَهُ - الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ كَانَ فِي الْأَزَلِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ فَلَمَّا أَوْجَدَ الْخَلْقَ وَصَفُوا لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى النُّفَاتِ لِزِيَادَةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ صِفَاتِهِ عَيْنُ ذَاتِهِ، وَهُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، بَلْ ذَاتُهُ تُسَمَّى بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ بِالْمَعْلُومَاتِ عَالِمًا وَبِالْمَقْدَرَاتِ قَادِرًا هُرُوبًا مِنْ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ وَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، إذْ التَّعَدُّدُ الْمَمْنُوعُ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ.
وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: الْمَعْبُودُ ذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ بِقِدَمِهَا وَلَا حَظْرَ فِي ذَلِكَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا وَلَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ حَتَّى يَكُونَا إلَهَيْنِ وَلَا غَيْرَهَا حَتَّى تَكُونَ مُحْدَثَةً فَهِيَ كَالْوَاحِدَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ صِفَاتُ الذَّاتِ لَيْسَتْ بِغَيْرٍ أَوْ بِعَيْنِ الذَّاتِ وَقُيِّدَتْ الصِّفَاتُ بِالذَّاتِيَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَادِثَةٌ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ.
قَالَ الْمَحَلِّيُّ: أَمَّا صِفَاتُ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ فَلَيْسَتْ أَزَلِيَّةٌ وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لِلْقُدْرَةِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا بِوُجُودِ ذَاتِ الْمَقْدُورَاتِ لِأَوْقَاتِ وِجْدَانِهَا، وَلَا مَحْظُورَةَ فِي اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ قَبْلَ الْعَالَمِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَأَزَلِيَّةٌ أَسْمَائِهِ الرَّاجِعَةُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ رُجُوعِهَا إلَى الْقُدْرَةِ لَا الْفِعْلِ، فَالْخَالِقُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهِ الْخَلْقُ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا يَصِحُّ الْخَلْقُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ قَدِيمَةٌ وَصُدُورُ الْخَلْقِ لَيْسَ أَزَلِيًّا، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَتَّصِفُ الْبَارِي بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ حَادِثَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأَشْعَرِيِّ وَقِيَامُ الْحَادِثِ بِالْقَدِيمِ مُحَالٌ؟ قُلْت: اتِّصَافُهُ بِهَا لَا يَقْتَضِي قِيَامَهَا بِهِ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ وَهِيَ مِنْ الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ مَوْجُودَةً بِالْوُجُودِ.
مُوسَى بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلَالِهِ.
، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ:
ــ
[الفواكه الدواني]
الْخَارِجِيِّ وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ مِثْلُ قَوْلِنَا: شَرِيكُ الْبَارِي مَعْدُومٌ فَإِنَّ الْعَدَمَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرِيكِ وَلَيْسَ صِفَةً لَهُ إذْ لَوْ كَانَ صِفَةً لَهُ لَكَانَ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ فَهُوَ مَوْجُودٌ.
(تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: الصِّفَاتُ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ أَرْبَعٌ: نَفْسِيَّةٌ وَسَلْبِيَّةٌ وَمَعَانٍ وَمَعْنَوِيَّةٌ. فَالنَّفْسِيَّةُ كَالْوُجُودِ وَحَقِيقَتُهَا الْحَالُ الْوَاجِبَةُ لِلذَّاتِ مَا دَامَتْ الذَّاتُ غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَةٍ، بِخِلَافِ الْحَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَكَوْنِ الذَّاتِ عَالِمَةً وَقَادِرَةً وَمُرِيدَةً فَإِنَّهَا مُعَلَّلَةٌ بِقِيَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِالذَّاتِ. وَالسَّلْبِيَّةُ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ سبحانه وتعالى وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْوَحْدَانِيَّة. وَصِفَاتُ الْمَعَانِي وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِالذَّاتِ زَائِدٍ عَلَيْهَا وَهِيَ سَبْعٌ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْحَيَاةُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْإِدْرَاكَ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً. وَالْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ فَرْعُ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَكَوْنِهِ قَادِرًا وَمُرِيدًا وَهِيَ قَدِيمَةٌ كَأَصْلِهَا وَضَابِطُهَا أَنَّهَا الْحَالُ الْوَاجِبَةُ لِلذَّاتِ مَا دَامَتْ الذَّاتُ مُعَلَّلَةً بِعِلَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا حَالَ، وَالشَّيْءُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَوْجُودٍ خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَ الْحَالَ وَهُوَ كَوْنُ الشَّيْءِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا الْقَوْمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِيَامِ صِفَةِ الْمَعْنَى بِالذَّاتِ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَيْهَا
الثَّانِيَةُ: الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْ الصِّفَاتِ كُلُّ مَا اقْتَضَى أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ، وَذَلِكَ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَبَقِيَّةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي سِوَى الْحَيَاةِ، فَالْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ تُوجِدُهُ أَوْ تُعْدِمُهُ، وَالْإِرَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَالْعِلْمُ وَالْكَلَامُ يَتَعَلَّقَانِ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا، لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ تَعَلُّقُ إحَاطَةٍ، وَتَعَلُّقَ الْكَلَامِ تَعَلُّقُ دَلَالَةٍ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ يَتَعَلَّقَانِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَقِيلَ: السَّمْعُ بِالْمُسْمَعِ وَالْبَصِيرُ بِالْمُبْصَرِ فَقَطْ، وَالْإِدْرَاكُ بِالْمَشْمُومَاتِ وَالْمَذُوقَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ، وَالْحَيَاةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تُصَحِّحُ لِلذَّاتِ الِاتِّصَافَ بِالْعِلْمِ فَهِيَ شَرْطٌ فِيهِ، وَمِثْلُهَا فِي عَدَمِ التَّعَلُّقِ صِفَاتُ السُّلُوبِ.
الثَّالِثَةُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَفُرُوعَهَا قَدِيمَةٌ، وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ حَادِثَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَمَّا صِفَاتُ السُّلُوبِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّف قِدَمُهَا أَيْضًا وَلِذَلِكَ قَالَ السُّكْتَانِيُّ: فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَجِبُ الْقِدَمُ لِأَوْصَافِهِ التَّنْزِيهِيَّةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ تَعَالَى كَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ وَمَا مَعَهُمَا مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ أَوْ لَا؟ قُلْت: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْقِدَمَ مَثَلًا أَمْرٌ يَجِبُ لَهُ عَقْلًا. فَلَا يَصِحُّ سَلْبُهُ عَنْهُ بِحَالٍ لَا فِي الْأَزَلِ وَلَا فِيمَا لَا يَزَالُ، وَعَلَيْهِ فَقِسْ بَقِيَّةَ صِفَاتِ السُّلُوبِ.
الرَّابِعَةُ: كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، وَالْمَعْنَى: هَلْ هِيَ مُتَّحِدَةٌ أَوْ مُتَغَايِرَةٌ؟ وَهَلْ الْمَعْبُودُ الِاسْمُ أَوْ الْمُسَمَّى أَوْ الْمَعْنَى؟ وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ أَنْ تَقُولَ: اسْمُ الْبَارِي عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ دَالٌ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ فَقَطْ كَلَفْظِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَزَيْدٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ وَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ أَوْصَافًا لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، فَهُنَا الِاسْمُ الْحُرُوفُ وَالْمُسَمَّى الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تُعْبَدُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمَعْنَى لَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ وَاللَّفْظُ لَا يُعْبَدُ، فَحِينَئِذٍ الْحَدُّ الْمُسَمَّى وَالْمَعْنَى مَا صَدَقَا وَإِنْ اخْتَلَفَا بِالِاعْتِبَارِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مُسَمًّى وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَقْصُودٌ بِاللَّفْظِ مَعْنًى. وَقِسْمٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ.
وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الصِّفَةِ فَإِذَا قُلْت: عَالِمٌ قَصْدُك الصِّفَةَ لَا الذَّاتَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِشْعَارِ اللَّفْظِ بِهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فَهُنَا الِاسْمُ عَالِمٌ أَعْنِي حَرْفَهُ وَالْمُسَمَّى الذَّاتُ وَالْمَعْنَى الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ، فَلَيْسَ الْمَعْبُودُ الِاسْمَ وَلَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَعْبُودُ الْمُسَمَّى، هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى صِفَةُ الْكَلَامِ، وَكَانَ تَصَوُّرُهُ مِنْهُ خَفِيًّا بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ لَنَا أَنَّهُ بِآلَةٍ وَصَوْتٍ وَهُمَا مُسْتَحِيلَانِ فِي حَقِّهِ، نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِيهَا حَتَّى سُمِّيَ هَذَا الْفَنُّ بِهَا فَقِيلَ عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَالَ (كَلَّمَ) اللَّهُ سبحانه وتعالى نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ (مُوسَى) عليه الصلاة والسلام (بِكَلَامِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا) هُوَ (خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ) وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةِ هُوَ بِهَا آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهَا بِالْعِبَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ. وَالدَّالُّ يُسَمَّى قُرْآنًا وَتَوْرَاةً وَزَبُورًا بِاعْتِبَارِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِلَا وَاسِطَةٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْمَذَاهِبِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَإِنَّمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ إلَى سَمْعِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: خَلَقَ لَهُ فَهْمًا فِي قَلْبِهِ وَسَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ سَمِعَ بِهِ كَلَامًا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ كَمَا نَرَى ذَاتَه تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا انْحِصَارٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِ مَا يَفُوقُ خَرْقَ الْعَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَلَامُهُ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً لَهُ أَيْضًا لَازِمَةً لِذَاتِهِ لَا تُفَارِقُهَا فَمَا بَالُ مُوسَى عليه السلام لَمْ يَسْمَعْهُ قَبْلَ التَّكْلِيمِ وَلَا بَعْدَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إسْمَاعَهُ كَلَامَهُ أَزَالَ الْحِجَابَ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَسَمِعَ، ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ تَعَالَى وَذَاقَ لَذَّتَهُ أَعَادَ الْحِجَابَ، فَإِنْ قِيلَ: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ تَعَالَى بِكَلَامِهِ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلِمَاذَا خَصَّ مُوسَى بِالْكَلِيمِ دُونَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحْسَنُهَا طَرِيقُ الْأَشْعَرِيِّ وَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ الْأَزَلِيَّ بِلَا صَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ كَمَا تُرَى ذَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ بِلَا كَمٍّ وَلَا كَيْفٍ، وَقِيلَ: سَمِعَهُ بِصَوْتٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ الْعَادَةُ، وَقِيلَ: أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جِهَةٍ لَكِنْ بِصَوْتٍ غَيْرِ مُكْتَسَبٍ لِلْعِبَادِ عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ سَمَاعِنَا بِخِلَافِ سَمَاعِ نَبِيِّنَا بِكَلَامِ رَبِّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهٍ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مُوسَى كَانَ حِينَ سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ فِي الْأَرْضِ وَنَبِيَّنَا كَانَ فِي السَّمَاءِ، وَسَمَاعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِمَنْ فِي السَّمَاءِ لَمْ يُعْهَدْ لِأَحَدٍ سِوَى مُوسَى، بِخِلَافِ سَمَاعِ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِكَلَامِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ أَوْ لِسَمَاعِ مُوسَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَلَامُ اللَّهِ عِبَارَةً عَنْ الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمَهُ مُوسَى إمَّا بِوَحْيٍ أَوْ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لَهُ عَلِمَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ رَبِّهِ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِهِ وَلَمْ أَرَهُ سِوَى هَامِشٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ مِائَةَ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشْرَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَفِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَقُولُ لِمُوسَى: قَتَلْت نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، خِلَافًا لِمَا ادَّعَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَاخْتَارَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مِنْ أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ صَوْتٌ دَالٌ عَلَى الْكَلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ خُصَّ بِاسْمِ الْكَلِيمِ.
الثَّانِي: سَمَاعُ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رُؤْيَا مِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الْيَقِظَةِ لَمْ تَقَعْ بِالْفِعْلِ لِأَحَدٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
الثَّالِثُ: إنَّمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى لَيْسَ بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُ بَلْ كَلَامُهُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ صِفَةُ ذَاتِهِ لِلرَّدِّ عَلَى طَائِفَةٍ سَمَّتْ أَنْفُسَهَا بِالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلِهَا: إنَّ كَلَامَهُ بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ خَلَقَهَا وَهَذَا وَاضِحُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ حَادِثَةٌ لَا تَقُومُ بِالْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِكَلَامِهِ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إمَّا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَعَلَى الْكِتَابَةِ وَعَلَى النُّطْقِ خَصَّهُ مِنْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ بِالْمَصْدَرِ إلَّا الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجَازُ.
الرَّابِعُ: عُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا خَلْقٌ إلَخْ مَرْفُوعٌ بِالْعِطْفِ عَلَى صِفَةِ ذَاتِهِ فَهُوَ صِفَةٌ لِكَلَامِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي كَلَّمَ الْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الَّذِي سَمِعَ الْكَلَامَ هُوَ مُوسَى وَحْدَهُ، وَقِيلَ بَلْ سَمِعَهُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِصَاصِ الْكَلِيمِ بِمُوسَى فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَهُ، وَشَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ.
الْخَامِسُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا لِقَصْدِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلِبَيَانِ أَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَوَجْهُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذِكْرِهَا إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَلَامِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ لَهُ: الصِّفَاتُ الْعُلَى، وَإِنْ أَرَادَ بِذِكْرِهَا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ سَيَأْتِي قَرِيبًا.
(وَ) لَمَّا مَنَّ اللَّهُ سبحانه وتعالى عَلَى مُوسَى بِإِسْمَاعِهِ كَلَامَهُ طَمِعَ فِي رُؤْيَةِ ذَاتِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحِبِّ فَسَأَلَهُ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143](تَجَلَّى) سبحانه وتعالى أَيْ أَظْهَرَ بَعْضَ جَلَالِهِ (لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا) أَيْ نَازِلًا فِي الْأَرْضِ حَتَّى قِيلَ إلَى الْآنِ خَشْيَةً (مِنْ جَلَالِهِ) سبحانه وتعالى، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي خَوْفِ الْجَبَلِ وَخَشْيَتِهِ لِجَوَازِ خَلْقِ اللَّهِ لَهُ عِلْمًا وَحَيَاةً وَبَصَرًا لِتَوَقُّفِ الْخَوْفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ مِنْ جَلَالِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَجَلِّيَهُ تَعَالَى لِلْجَبَلِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَكْلِيفٍ وَالْمُرَادُ بِالْجَبَلِ طُورُ سَيْنَاءَ.
تَنْبِيهٌ:
لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ، وَلَا صِفَةً لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدُ.
، وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَكُلِّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
دُعَاءُ مُوسَى عليه الصلاة والسلام رَبَّهُ وَطَلَبُهُ مِنْهُ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا وَإِمْكَانِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةٌ مَا طَلَبَهَا مُوسَى عليه الصلاة والسلام لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومُونَ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إمْكَانِهَا تَعْلِيقُهَا عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَقَظَةً إلَّا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ عَطْفًا عَلَى الْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ الْوَاجِبِ السَّمْعِيِّ بِقَوْلِهِ:
وَمِنْهُ أَنْ يُنْظَرَ بِالْأَبْصَارِ
…
لَكِنْ بِلَا كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ
لِلْمُؤْمِنِينَ إذْ بِجَائِزٍ عُلِّقَتْ
…
هَذَا وَلِلْمُخْتَارِ دُنْيَا ثَبَتَتْ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ تَرْجَمَهَا أَصْحَابُ الْكَلَامِ بِمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ) خَبَرُ إنَّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْقُرْآنِ (فَيَبِيدَ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنَّصْبِ بِإِنَّ الْمُضْمَرَةِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ بِمَعْنَى يَهْلِكُ. (وَلَا صِفَةً) بِالنَّصْبِ لِعَطْفِهِ عَلَى مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ وَالْبَاءُ تُزَادُ فِي خَبَرِهَا كَثِيرًا (لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى يَفْرُغُ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُضْمَرَةِ فِي جَوَابِ النَّفْي، وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَ لَفْظِ يَبِيدُ وَيَنْفَدُ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ لِلْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ تَفْنَى أَصَالَةً فَنَاسَبَهَا لَفْظُ " يَبِيدُ "، وَالْأَعْرَاضَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَنَاسَبَهَا لَفْظُ " يَنْفَدُ "، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ صِفَةُ ذَاتِهِ الْقَدِيمَةِ، فَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا كَسَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْكَلَامِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمُنْتَظِمُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُفْتَتَحُ بِالتَّحْمِيدِ الْمَخْتُومُ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا حَادِثٌ وَمَخْلُوقٌ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ وَصْفُهُ بِخَوَاصَّ كَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ عَوَارِضِ الْحَوَادِثِ، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَمَّا تَمَسَّكَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ عَلَى الْحُدُوثِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَنَزِّهْ الْقُرْآنَ أَيْ كَلَامَهُ
…
عَنْ الْحُدُوثِ وَاحْذَرْ انْتِقَامَهُ
وَكُلُّ نَصٍّ لِلْحُدُوثِ دَلَّا
…
احْمِلْ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي قَدْ دَلَّا
وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْقُرْآنَ بِكَلَامِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ تَبَادُرِ الذِّهْنِ إلَى اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فِي اللَّفْظِ كَمَا اشْتَهَرَ لَفْظُ الْكَلَامِ فِي الْمَعْنَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَنَفْيِهِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ تُثْبِتُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِيه، دَلِيلُنَا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْكَلَامِ، وَيَمْتَنِعُ قِيَامُ اللَّفْظِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَيَتَعَيَّنُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُمْ إنْكَارُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ مُوجِدٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي غَيْرِهِ، وَكَلَامُهُمْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ صِفَةُ الْكَلَامِ لَا مَنْ أَوْجَدَهُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَائِمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْقِيَامُ وَوُجِدَ مِنْهُ لَا مَنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ وَزْنُهُ فُعْلَانُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ قَرَأْت الشَّيْءَ قُرْآنًا جَمَعْته، أَوْ مِنْ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا تَلَوْته؛ لِأَنَّهُ مَجْمُوعٌ وَمَتْلُوٌّ، وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْعَامَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْإِعْجَازِ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ الْمُحْتَجُّ بِأَبْعَاضِهِ، فَخَرَجَ بِقَيْدِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الْأَحَادِيثُ غَيْرُ الْقُدْسِيَّةِ، فَالْحَقُّ أَنَّ النَّازِلَ فِيهَا الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَبِقَيْدِ عَلَى مُحَمَّدٍ التَّوْرَاةُ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلُ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى، وَالزَّبُورُ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى دَاوُد، وَيُفِيدُ الْإِعْجَازُ الَّذِي هُوَ صِدْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ مَجَازًا عَنْ إظْهَارِ عَجْزِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ عَنْ مُعَارِضَةِ الْأَحَادِيثِ الرَّبَّانِيَّةِ وَيُقَالُ لَهَا الْقُدْسِيَّةُ كَحَدِيثِ:«أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ لِلْعَمَلِ وَالِاحْتِجَاجُ بِمَعَانِيهَا لَا لِلْإِعْجَازِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِعْجَازِ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّعْجِيزِ، وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَمَخْلُوقٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى تَأْلِيفَهُ.
الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ رَتَّبَهُ وَجَمَعَهُ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ مِنْ جِبْرِيلَ كَمَا وَرَدَ، وَتَرْتِيبُ الْآيَاتِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَتَرْتِيبُ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ تَوْقِيفِيٌّ، وَاَلَّذِي جَمَعَهُ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ زَمَانَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَحْفَظْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ سِوَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَتَبَهُ النَّاسُ فِي صُحُفٍ وَجَرِيدٍ وَخِرَقٍ وَأَقْتَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمَّا حَصَلَ الْقَتْلُ فِي أَهْلِ الْيَمَامَةِ قُتِلَ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَتَبَّعَ الْقُرْآنَ وَيَجْمَعَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: وَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفَانِي بِنَقْلِ جَبَلٍ لَنَقَلْته وَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَانِي بِهِ فَجَمَعَ الْقُرْآنَ رضي الله عنه، وَالْقُرَّاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ سَبْعَةٌ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكُلُّهُمْ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. وَالْمُفَسِّرُونَ لِلْقُرْآنِ خَمْسَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّفْسِيرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجَمِيعُ أَخَذُوا التَّفْسِيرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
الثَّالِثُ: كَلَامُ اللَّهِ مُتَّحِدٌ وَاخْتِلَافُ أَسْمَائِهِ بِاخْتِلَافِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الرُّسُلِ، فَالنَّازِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام عَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَيُسَمَّى قُرْآنًا وَفُرْقَانًا وَذِكْرًا، وَالنَّازِلُ عَلَى مُوسَى عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لُغَتُهُ فَيُسَمَّى تَوْرَاةً، وَالنَّازِلُ عَلَى عِيسَى عَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَتِهِ وَيُسَمَّى إنْجِيلًا، وَالنَّازِلُ عَلَى دَاوُد وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَتِهِ يُسَمَّى زَبُورًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَاخْتِلَافُ الِاسْمِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ وَالتَّفَاصِيلِ بِاعْتِبَارِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَيُوصَفُ بِالْخَيْرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ إنْ تَعَلَّقَتْ بِطَلَبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَمْرًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ فِعْلِهِ تَكُونُ نَهْيًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْإِعْلَامِ تَكُونُ خَبَرًا وَهَكَذَا، فَكَلَامُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَهَا تَعَلُّقَانِ.
الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ إلَى جِبْرِيلَ وَمِنْهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام فَهِمَ الْكَلَامَ مِنْ الْعُلُوِّ وَأَدَّاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ تَلَقَّنَتْهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَقَّنَتْهُ لِجِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَقَّنَهُ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي عِشْرِينَ سَنَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَعْنَى فَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَبَّرَ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ، وَقِيلَ: أَلْقَى جِبْرِيلُ الْمَعْنَى عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَبَّرَ عَنْهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ النَّازِلَ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ اللَّفْظُ وَقِيلَ الْمَعْنَى، وَعَلَى الثَّانِي اخْتَلَفَ فِي الْمُعَبِّرِ هَلْ جِبْرِيلُ أَوْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ الْخَامِسُ: قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ مَقَامِ الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِي أَوْ نُطْقِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَمَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ.
السَّادِسُ: هَلْ يَقَعُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَالْبَاقِلَّانِيّ إلَى عَدَمِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ آيَاتِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّفْضِيلِ إنْ صَحَّتْ تُحْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ الْأَجْرِ وَكَثْرَةِ النَّفْعِ.
السَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مُحْدَثَةٌ وَمَدْلُولَهَا قَدِيمٌ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّ مَدْلُولَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: مُفْرَدٌ وَهُوَ قِسْمَانِ: أَيْضًا مَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ كَمَدْلُولِ اللَّهِ وَالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ وَهَذَا قَدِيمٌ، وَمَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مُحْدَثٌ كَمَدْلُولِ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ. وَإِسْنَادَاتٌ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: حِكَايَاتٌ وَإِنْشَاءَاتٌ، فَالْإِسْنَادَاتُ الَّتِي هِيَ الْإِنْشَاءَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْلُولَةً لِلَفْظِ الْخَبَرِ أَوْ لِلَفْظِ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ إذْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهِيَ نَفْسُهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ، وَتَعَدُّدُهَا إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَعَلُّقَاتِهَا، وَالْمَدْلُولَاتُ الَّتِي هِيَ حِكَايَاتٌ قِسْمَانِ: حِكَايَةٌ عَنْ اللَّهِ وَحِكَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ:{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] فَالْحِكَايَةُ وَالْمَحْكِيُّ فِي هَذَا قَدِيمَانِ أَيْ الْإِسْنَادُ الْوَاقِعُ فِيهِمَا قَدِيمٌ، وَالثَّانِي نَحْوُ قَوْلِهِ:{قَالَ نُوحٌ رَبِّ} [نوح: 21] الْآيَةُ، وَالْحِكَايَةُ فِي هَذَا قَدِيمَةٌ أَيْ الْإِسْنَادُ
اللَّهُ رَبُّنَا، وَمَقَادِيرُ الْأُمُورِ بِيَدِهِ وَمَصْدَرُهَا عَنْ قَضَائِهِ.
، عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَجَرَى عَلَى قَدَرِهِ لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْوَاقِعُ فِيهَا قَدِيمٌ؛ لِأَنَّهَا خَبَرُ اللَّهِ عَنْ الْمَحْكِيِّ، وَأَمَّا الْمَحْكِيُّ فَهُوَ الْمُحْدَثُ أَيْ الْإِسْنَادُ الْوَاقِعُ فِيهِ مُحْدَثٌ فَإِنَّهُ إسْنَادٌ مُحْدَثٌ، وَإِسْنَادُ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ وَقَعَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ قَدِيمٌ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مُحْدَثَةٌ وَمَدْلُولَاتِهَا فِيهَا التَّفْضِيلُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَيْك أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (الْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِالْقَدَرِ) بِتَحْرِيكِ الدَّالِ وَحُكِيَ تَسْكِينُهَا وَهُوَ مَصْدَرُ قَدَرْت الشَّيْءَ بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفَةً إذَا أَحَطْت بِمِقْدَارِهِ، وَأَلْ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَيْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الْأُمُورَ وَإِحَاطَتِهِ بِهَا، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِهِ يَسْتَدْعِي الرِّضَا بِهِ، وَالْقَدَرُ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ تَحْدِيدُهُ تَعَالَى أَزَلًا كُلَّ مَخْلُوقٍ بِحَدِّهِ الَّذِي يُوجَدُ بِهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَفْعٍ وَضَرٍّ، وَمَا يَحْوِيه مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَغُفْرَانٍ، وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ إيجَادُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ، وَتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ فِي ذَوَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا طِبْقَ مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ وَالْمَالُ وَاحِدٌ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إيجَادِهَا، ثُمَّ أَوْجَدَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُوجَدُ، فَكُلُّ مُحْدَثٍ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ الدِّينِ بِقَوَاطِعِ الْبَرَاهِينِ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخِيَارُ التَّابِعِينَ قَبْلَ حُدُوثِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْقَدَرِ. (خَيْرِهِ) وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. (وَشَرِّهِ) وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي. (حُلْوِهِ) وَهُوَ لَذَّةُ الطَّاعَةِ وَثَوَابُهَا. (وَمُرِّهِ) وَهُوَ مَشَقَّةُ الْمَعْصِيَةِ وَعُقُوبَتُهَا.
تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الضَّمَائِرَ عَائِدَةٌ عَلَى الْقَدَرِ لِتَأَوُّلِهِ بِالْمَقْدُورِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْمُبَاحَاتِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِفَهْمِ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّصِّ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ التَّعْمِيمُ كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِك: أَعْلَمُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَقَصْدُك جَمِيعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَ) يَجِبُ عَلَيْك أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ (كُلَّ ذَلِكَ) الَّذِي مَرَّ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُمَا (قَدْ قَدَّرَهُ) أَيْ حَدَّهُ وَخَصَّهُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ (اللَّهُ رَبُّنَا) إذْ لَا مُوجِدَ وَلَا مُعْدِمَ لِشَيْءٍ مِنْ الْكَائِنَاتِ سِوَاهُ سبحانه وتعالى، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَالْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ خَالِقٌ لِلْقَبِيحِ، وَدَلِيلُنَا مَعَاشِرَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِ لَكَانَ يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا ضَرُورَةً، إذْ إيجَادُ الشَّيْءِ بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَشْيَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى سَكَنَاتٍ مُتَخَلِّلَةٍ، وَعَلَى حَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْرَعُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُهَا أَبْطَأُ وَلَا شُعُورَ لِلْمَاشِي بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا ذُهُولًا عَنْ الْعِلْمِ بَلْ لَوْ سَأَلَ لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا فِي أَظْهَرْ أَفْعَالِهِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِ الظَّاهِرِ. (وَ) بِالْجُمْلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْك اعْتِقَادُ أَنَّ (مَقَادِيرَ) جَمْعُ مِقْدَارٍ بِمَعْنَى مَقْدُورَاتٍ (الْأُمُورِ بِيَدِهِ) تَعَالَى أَيْ قُدْرَتِهِ. (وَمَصْدَرُهَا) أَيْ صُدُورُهَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ، وَكَوْنُهَا عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي وُجِدَتْ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَائِنٌ. (عَنْ قَضَائِهِ) أَيْ إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَالْإِرَادَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ مَعَ زِيَادَةِ إحْكَامٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إتْقَانٍ، هَذَا حَقِيقَتُهُ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: الْقَضَاءُ إرَادَةُ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ بَيَانَ وُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِ إرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَالرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ فِرْقَتَانِ: أُولَى وَهِيَ تُنْكِرُ سَبْقَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ الْأُمُورَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا أَزَلًا، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا حَالَ وُقُوعِهَا وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ قَرَضَهَا اللَّه. وَالثَّانِيَةُ يَعْتَرِفُونَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعَمَلَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ أَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ وَتَمْكِينِهِ، وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهَا بَاطِلًا، وَأَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ:
وَوَاجِبٌ إيمَانُنَا بِالْقَدَرِ
…
وَبِالْقَضَا كَمَا أَتَى فِي الْخَبَرِ
لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبًا لَوَجَبَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْكُفْرُ مَقْضِيٌّ لَا قَضَاءٌ، وَالرِّضَا إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ، فَمَنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَوْ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ فَيَكْرَهَهَا، وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمَا فَاللَّازِمُ لَهُ الرِّضَا بِهِ، فَإِنْ سَخِطَ أَيْ لَمْ يَرْضَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا أَتَى فِي الْخَبَرِ إلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ سَمْعِيٌّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» .
قَالَ
قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ؛ إلَّا وَقَدْ قَضَاهُ وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي رَوَيْنَاهُ بِرَفْعِ الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ عَطْفًا عَلَى كُلٍّ وَبِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ قَالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْعَجْزَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَالتَّسْوِيفُ بِهِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ.
قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْعَجْزُ عَنْ الطَّاعَاتِ وَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْحِذْقُ فِي الْأُمُورِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَاجِزَ قُدِّرَ عَجْزُهُ وَالْكَيِّسُ قُدِّرَ كَيْسُهُ.
وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ النَّاظِمِ: وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْحُمْقِ، وَفَسَّرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْوَلَدِ وَطَلَبِ النَّسْلِ.
قَالَهُ الشَّنَوَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نَظْمِ ابْنِ هِشَامٍ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَمَنْ وَقَعَ فِي جَرِيمَةٍ عَمْدًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِهَا شَرْعًا مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ حُجَّةً وَعُذْرًا لَهُ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِمُقْتَضَاهَا بَلْ هُوَ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا يُفِيدُ، الثَّانِي: إنْ قِيلَ إذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَدَمُ جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ فَكَيْفَ نَفْعَلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ مُحَاجَّةِ آدَمَ مَعَ مُوسَى عليهما السلام؟ فَقَدْ احْتَجَّ آدَم بِالْقَدَرِ وَلَامَهُ مُوسَى عليهما السلام، وَقَدْ أَشَارَ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الشَّعْرَانِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ الْكَشْفِيَّةِ لِذَلِكَ وَجَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «حَاجَّ آدَم بِالرَّفْعِ مُوسَى حِينَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي السَّمَاءِ فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَم أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ مَلَائِكَتَهُ لَك كَيْفَ أَكَلْت مِنْ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاك اللَّهُ عَنْهَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَم: وَأَنْتَ يَا مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ لِكَلَامِهِ وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً» وَسَاغَ لِآدَمَ أَنْ يُعَبِّرَ بِقَدَرِ اللَّهِ الْقَدِيمِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ آدَمَ عليه الصلاة والسلام أَرْبَعُونَ فَأَكْثَرُ أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَرْبَعِينَ سَنَةً الْمُدَّةُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا التَّقْدِيرُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ مَكْنُونُ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي جَوَابِ مُوسَى لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ إنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ وَمُوسَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ مَحَلَّ اجْتِمَاعِهِمَا كَانَ بِالسَّمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ ارْتِكَابُ مِثْلِهِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، الثَّالِثُ: الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَحَقِيقَتُهُمَا إرَادَةُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَى فَاعِلِهِ وَهُمَا مِنْ اللَّهِ غَيْرِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ أَيْضًا، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ وَلَا يَرْضَى بِهَا مَعَ تَوَعُّدِ فَاعِلِهَا بِالْعُقُوبَةِ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يَصِحُّ غَيْرُهُ.
الرَّابِعُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِهِ: وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا إلَخْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ إلَخْ زِيَادَةُ إيضَاحٍ لِفَهْمِهِ مِمَّا قَبْلَهُ.
وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا قَالَ (عَلِمَ) تَعَالَى بِمَعْنَى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا (كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ) أَيْ وُجُودِهِ (فَجَرَى) أَيْ وَقَعَ وَحَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْدُورُ (عَلَى قَدَرِهِ) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزَيَّ تَابِعٌ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيِّ وَتَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ، فَلَا يَقَعُ مَقْدُورٌ إلَّا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ؛ فَلِذَلِكَ أَتَى بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ قَوْله تَعَالَى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] فَمَنْ أَنْكَرَ عِلْمَهُ تَعَالَى بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْمُرَكَّبَاتِ وَالْبَسَائِطِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ (لَا يَكُونُ) أَيْ لَا يُوجَدُ (مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ) وَقَعَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (إلَّا) وَالْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ قَضَاهُ) أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرَادَهُ.
(وَسَبَقَ عِلْمُهُ) تَعَالَى (بِهِ) أَيْ بِالْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ عِلْمِ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهَا: عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ إلَخْ زِيَادَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ.
وَفِي قَوْلِهِ: سَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عِلْمَ الْبَارِئِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا مِنْهُمْ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَؤُلَاءِ قَدْ انْقَرَضُوا، وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ مُطْبِقَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ وَوَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِكُفْرِ أَصْحَابِ الْأَوَّلِ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ فَالرِّضَا بِهِ بِحَسَبِ حُكْمِهِ، فَالرِّضَا بِالْوَاجِبِ كَالْإِيمَانِ وَاجِبٌ، وَالرِّضَا بِالْمَنْدُوبِ مَنْدُوبٌ، وَبِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَبِالْمُبَاحِ مُبَاحٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ إنَّمَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
يَكُونُ كُفْرًا إذَا رَضِيَ بِهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ قَضَاهُ.
قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَوَضَّحَهُ السَّيِّدُ بِقَوْلِهِ: إنَّ لِلْكُفْرِ نِسْبَةً إلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ إيجَادِهِ لَهُ، وَنِسْبَةً إلَى الْمَخْلُوقِ بِاعْتِبَارِ تَحْلِيَتِهِ بِهِ، وَإِنْكَارُهُ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، وَالرِّضَا بِهِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِالْمَرَضِ فَتَأَلَّمَ مِنْهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْسِبْ لِلْبَارِئِ جَوْرًا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْمَقْضِيِّ لَا بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى أَسْتَوْجِبَ هَذَا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْقَضَاءِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَا هُوَ مِنْ سَلْطَنَتِهِ وَقَهْرِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُنَا وَمَالِكُنَا، فَفِعْلُهُ الْمُخَالِفُ لِطَبَائِعِنَا وَمُشْتَهَانَا لَا يُعَدُّ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفُ الْفَاعِلِ فِي غَيْرِ مَمْلُوكِهِ، وَأَمَّا خِطَابُنَا وَأَمْرُنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ فَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ، إذْ الْوَارِدُ تَكْلِيفُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى نَحْوِ: الْأَرْمَدِ وَالْمُجْزَمِ أَنْ يَسْتَطِيبَ مَرَضَهُ، بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ بِذَلِكَ، بَلْ الْمَطْلُوبُ التَّأَلُّمُ لِيَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ رَفْعَ ذَلِكَ وَيَلْجَأَ إلَيْهِ، تَقَدَّمَ ذَمُّ اللَّهِ مَنْ لَمْ يُبَالِ بِالشَّدَائِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ وَيَسْأَلُ رَبَّهُ الْإِقَالَةَ مِنْ الشِّدَّةِ فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ، هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِ السَّيِّدِ، وَلَا يَضُرُّ فِي هَذَا مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فِي حَالِ اشْتِدَادِ مَرَضِهِ مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ يَا رَبُّ إنْ كَانَ فِي هَذَا رِضَاك فَزِدْنَا مِنْهُ، لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى نَحْوِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي: الْمَقْضِيُّ أَثَرُ الْقَضَاءِ، وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى عُمُومِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِسَائِرِ الْكَائِنَاتِ بِقَوْلِهِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ لِشَيْءٍ يَعْلَمُ مَا أَوْقَعَ صَنْعَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَلَا هَذِهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَلَا النَّافِيَةِ وَمَعْنَاهَا تَحْقِيقُ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إذَا دَخَلَ عَلَى نَفْيٍ أَبْطَلَهُ وَأَفَادَ الْإِثْبَاتَ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى بَابِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ لِيَعْلَمَ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ:{أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] أَيْ الَّذِي خَلَقَ مَخْلُوقَهُ، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا لِلْعُمُومِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ فَيَشْمَلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: مَنْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِيَعْلَمَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَمَنْ لِلْعَاقِلِ، فَاَللَّهُ يَعْلَمُ عِبَادَهُ دُونَ أَفْعَالِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِشَهَادَةِ قَوْله تَعَالَى:{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 282 - 3] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا الْإِتْيَانُ بِمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا لِمَنْ يَعْقِلُ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا، لِئَلَّا يُخَالِفَ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِهِ، إمَّا لِلتَّغْلِيبِ نَحْوُ:{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النحل: 49] أَوْ لِاقْتِرَانِهِ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي عُمُومِ فَصْلٍ بِمَنْ نَحْوُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] أَوْ لِأَجْلِ التَّشْبِيهِ نَحْوُ:
أَسِرْبُ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ
…
لَعَلِّي إلَى مَنْ قَدْ هَوَيْت أَطِيرُ
وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتِبَ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ.
وَحَاصِلُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِأَفْعَالِهَا بَعْدَ خَلْقِهَا وَقَبْلَ خَلْقِهَا، خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْبِقْ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْأُمُورَ أَزَلًا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا وَإِنَّمَا يَأْتَنِفُهَا حَالَ وُقُوعِهَا، وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ وَلِذَلِكَ قَرَضَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَبْقَ الْآنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. (وَهُوَ) أَيْ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ خَالِقًا لِسَائِرِ الْعِبَادِ وَعَالِمًا بِمَا أَكَنَّتْهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (اللَّطِيفُ) بِهِمْ فِي سَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِمْ، فَلَطِيفٌ بِمَعْنَى مُلْطِفٍ أَيْ مُحْسِنٍ وَمُوصِلٍ لِعِبَادِهِ النِّعَمَ بِرِفْقٍ، وَمِنْ لُطْفِهِ أَنْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ الْكِفَايَةِ وَكَلَّفَهُمْ دُونَ الطَّاقَةِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى الْبَاطِنِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَوْهَامِ وَلَا يُتَخَيَّلُ فِي الضَّمَائِرِ فَهُوَ اسْمُ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ مَعْنَى اللَّطِيفِ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا وَالْمُرَادُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَنِسْبَةُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَهُوَ أَيْضًا (الْخَبِيرُ) أَيْ الْعَلِيمُ بِهِمْ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ الْمُشَاهِدُ لَهَا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْ سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلَّا قَدْ قَضَاهُ إلَخْ بِقَوْلِهِ: (يُضِلُّ) سبحانه وتعالى (مَنْ يَشَاءُ) إضْلَالَهُ (فَيَخْذُلُهُ) أَيْ يُصَيِّرُهُ مَخْذُولًا ضَالًّا.
بِعَدْلِهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهِ، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ: إلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ شَقِيٍّ، أَوْ سَعِيدٍ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، أَوْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى، أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ: رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ
ــ
[الفواكه الدواني]
(بِعَدْلِهِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) هِدَايَتَهُ (فَيُوَفِّقُهُ) أَيْ يُصَيِّرُهُ مُوَفَّقًا مَهْدِيًّا (بِفَضْلِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْخِذْلَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ قُدْرَةِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ بِمَعْنًى أَيْضًا وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ الْعَرَضُ الْمُقَارِنُ لِلْفِعْلِ لَا مُجَرَّدُ سَلَامَةِ الْآلَاتِ، فَلَا يَرِدْ الْكَافِرُ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فَيُضِلُّهُ فِي الْأَوَّلِ وَيَهْدِيه فِي الثَّانِي لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وَلِرَكَاكَةِ تَكْرَارِ اللَّفْظِ وَالْعَدْلُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ عِوَضٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، وَيَخْذُلُ عَلَى وَزْنِ يَنْصُرُ فَهُوَ بِضَمِّ الذَّالِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] .
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ يُضِلُّ. . . إلَخْ قَوْلَهُ: (فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ) بِالتَّنْوِينِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ مُهَوَّنٌ وَمُسَهَّلٌ (بِتَيْسِيرِهِ) وَتَسْهِيلِهِ سبحانه وتعالى وَيَصِحُّ إضَافَةُ كُلٌّ الْمُبْتَدَأُ إلَى مُيَسَّرٌ وَالْخَبَرُ بِتَيْسِيرِهِ (إلَى) نَيْلِ (مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ) أَيْ فِي عِلْمِهِ (وَإِرَادَتِهِ) ثُمَّ بَيَّنَ عُمُومَ مَا يَقُولُهُ (مِنْ) شَقَاوَةِ (شَقِيٍّ أَوْ) سَعَادَةِ (سَعِيدٍ) وَحَقِيقَةُ الشَّقَاوَةِ الْمَضَرَّةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى، فَمَنْ أَرَادَ لَهُ فِي الْأَزَلِ الشَّقَاوَةَ سَهَّلَ عَلَيْهِ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَحَقِيقَةُ السَّعَادَةِ الْمَنْفَعَةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى، فَمَنْ أَرَادَ لَهُ تَعَالَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ السَّعَادَةَ تَسَهَّلَ عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِهَا، وَكُلُّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إرَادَتُهُ لَا مَحَالَةَ فِي وُقُوعِهِ، إذْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا تَبْدِيلَ فِيمَا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِوُقُوعِهِ، بِخِلَافِ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَهُوَ أَصْلُهُ الَّذِي لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا تَبْدِيلَ، وَالسَّعِيدُ شَرْعًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَالشَّقِيُّ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ كَانَ مُؤْمِنًا، فَهُمَا أَزَلِيَّتَانِ أَيْ مُقَدَّرَتَانِ فِي الْأَزَلِ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
فَوْزُ السَّعِيدِ عِنْدَهُ فِي الْأَزَلِ
…
كَذَا الشَّقِيُّ ثُمَّ لَمْ يَنْتَقِلْ
فَالسَّعَادَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالشَّقَاوَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى السَّعَادَةِ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُهُ، وَعَلَى الشَّقَاوَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَتَوَابِعُهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَظَرًا إلَى الْمَآلِ، خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيَّة فِي عَدَمِ الْجَوَازِ نَظَرًا إلَى الْحَالِ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: السَّعِيدُ الْمُؤْمِنُ وَالشَّقِيُّ الْكَافِرُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ وَجَدَ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا.
تَنْبِيهٌ: إنَّمَا أَتَى الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّفْرِيعِ إشَارَةً إلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ: «لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالُوا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] » وَفُرِغَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْأَزَلِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَيْهِ أَيْ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَنُهْمِلُ الْعِلْمَ، إذْ الْمُقَدَّرُ كَائِنٌ سَوَاءٌ عَمِلْنَا أَوْ لَا؟ فَقَالَ: لَا بَلْ عَلَيْكُمْ بِالْأَعْمَالِ فَإِنَّ الَّذِي قُدِّرَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُسَهِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَمَلَ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ قُدِّرَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَسَّرَ عَلَيْهِ عَمَلَ الضَّالِّينَ.
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ السَّابِقَةِ الْمَفْهُومُ مِنْهَا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا بِقَوْلِهِ: (تَعَالَى) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ سُبْحَانَهُ عَنْ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ يُوجَدَ (فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ) إيجَادَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (أَوْ) أَيْ وَتَعَالَى أَيْضًا عَنْ أَنْ (يَكُونَ لِأَحَدٍ) مِنْ الْخَلْقِ وَلَوْ أَفْضَلَهُمْ (عَنْهُ غِنًى) قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وَعَدَمُ اسْتِغْنَاءِ غَيْرِهِمْ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ.
(فَائِدَةٌ) : وَقَعَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالْكَفَافِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنْ الْفَقْرِ لِمَنْ يُصْلِحُهُ الْغِنَى، وَأَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ لِمَنْ يُصْلِحُهُ الْفَقْرُ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَنْ يَصْلُحُ حَالُهُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَصَحُّ قَوْلُ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي فَتَاوِيهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا فِي الْبَيَانِ أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْكَفَافِ، وَوَجَّهَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عِنْدَهُ الْكَفَافُ إنَّمَا يُؤْجَرُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ الْمَالِ وَالْفَقِيرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ مَعَ الرِّضَا بِهِ وَالشُّكْرُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُفَضَّلُ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ» وَبَعْضٌ قَالَ بِالْعَكْسِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْأَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنْ
أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ.
، الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ: لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ.
، ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْحَلَالِ وَيَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِهِ وَلَا يَحْبِسُ مِنْهُ إلَّا مَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَحْتَاجُ لَهُ لَا مَنْ يَجْمَعُ الْمَالَ وَيُمْسِكُهُ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ الْقَائِمُ بِوَظِيفَةِ الْفَقْرِ مِنْ الرِّضَا بِحَالَتِهِ وَعَدَمِ شَكْوَاهُ، وَمَعْنَى فَضْلُ الْغِنَى كَثْرَةُ الثَّوَابِ الْحَاصِلَةُ بِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ مَعَ بَعْضِ تَصَرُّفٍ.
(أَوْ) أَيْ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ (يَكُونَ) أَيْ يُوجَدَ (خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ) بَدَلٌ مِنْ خَالِقٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] مِنْ الْحَوَادِثِ، فَلَا يَرِدُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ سَبْقِ الْعَدَمِ لَهَا، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُهَا الْعَقْلُ إلَّا قَدِيمَةً لَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ دُخُولُهَا فِي عُمُومِ شَيْءٍ، فَهُوَ سبحانه وتعالى (رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ) أَيْ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِأَعْمَالِهِمْ.
قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا: تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، عُمُومُ تَعَلُّقِ إرَادَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُرِيدُ الشُّرُورَ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَبِيرَ الْقَرْيَةِ لَا يَرْضَى أَنْ يَقَعَ فِي قَرْيَتِهِ مَا لَيْسَ عَلَى مُرَادِهِ، فَكُفْرُ الْكُفَّارِ بِإِرَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ مَالِكُ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.
وَإِلَى هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَجَائِزٌ عَلَيْهِ خَلْقُ الشَّرِّ
…
وَالْخَيْرِ كَالْإِسْلَامِ وَجَهْلِ الْكُفْرِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرَّ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَبِيحِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ عَاجِلًا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ آجِلًا مَخْلُوقٌ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعَالَى وَلَا يَرْضَاهُ، وَالْخَيْرُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَسَنِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ فِي الْعَاجِلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ الثَّوَابُ فِي الْآجِلِ مَخْلُوقٌ بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ مَعَ رِضَاهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَا يُقَالُ: إذَا كَانَتْ الشُّرُورُ وَجَمِيعُ الْمُؤْذِيَاتِ مَخْلُوقَةً بِإِرَادَتِهِ لَا يَمْتَنِعُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُ خَالِقٌ لِلْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ، وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى يُرِيدُ أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعْصَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَك فَمَا أَرَادَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَك فَمَنْ حَالَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ؟ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِلْأُسْتَاذِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ عُظَمَاءِ الْأَشَاعِرَةِ مَعَ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ حِينَ قَوْلِ عَبْدِ الْجَبَّارِ: سُبْحَانَهُ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ، وَفَهِمَ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمَعْنَى تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهَا، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا يَشَاءُ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَعَرَفَ أَنَّهُ فَهِمَ فَقَالَ: أَيُرِيدُ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى أَحْسَنَ لِي أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إنْ مَنَعَك مَا هُوَ لَك فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ مَنَعَك مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاَللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابُ الثَّانِي، إنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ، وَإِنْ عَلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ لِلرَّدِّ صَرِيحًا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ إمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَقْدَارِ وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ إذْ الْعَبْدُ كَاسِبٌ وَالْخَالِقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
(وَ) كَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ إلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا غِنَى لِأَحَدٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ، يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (الْمُقَدِّرُ) بِكَسْرِ الدَّالِ بِمَعْنَى الْمُحَدِّدُ وَالْمُعَيِّنُ (لِحَرَكَاتِهِمْ) وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْوُجُودِ، وَحَقِيقَةُ الْحَرَكَةِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، وَقِيلَ: الْحَرَكَةُ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي مَكَانَيْنِ بِخِلَافِ السُّكُونِ فَإِنَّهُ حُصُولُ ذَلِكَ فِي مَكَان وَاحِدٍ. (وَ) الْمُقَدِّرُ لِ (آجَالِهِمْ) جَمْعُ أَجَلٍ وَهُوَ زَمَنُ الْحَيَوَانِ وَوَقْتُهُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه فِي الْأَزَلِ مَوْتَهُ بِانْقِضَائِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ بِقَتْلٍ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ إنَّمَا مَاتَ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَاتِلَ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَمَيِّتٌ بِعُمْرِهِ لَمْ يُقْتَلْ
…
وَغَيْرُ هَذَا بَاطِلٌ لَا يُقْبَلْ
دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَمَعْنَى لَا يَسْتَقْدِمُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَأْخِرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَغْيِيرَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَا يَسْتَأْخِرُونَ، فَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى حَدِّ: الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ حُلْوٍ حَامِضٍ هُوَ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مُزٌّ أَيْ أَخَذَ طَرَفًا مِنْ الْحَلَاوَةِ وَطَرَفًا مِنْ الْحُمُوضَةِ، وَكَذَلِكَ هُنَا إذَا جَاءَ الْأَجَلُ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَغْيِيرَهُ، وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى قَبُولِ الْعُمُرِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ الصَّدَقَةَ وَالصِّلَةَ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْعُمُرِ» .
وَبِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وَبِوُجُوبِ الدِّيَةِ أَوْ الْقِصَاصِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْفَاعِلِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فِي الْجِنَايَةِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ: إنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَرَكَةِ أَوْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَكْتُوبًا فِيهِ الْعُمُرُ لِفُلَانٍ عِشْرُونَ سَنَةً وَيَكُونُ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً بِسَبَبِ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ صَدَقَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَتَّجِهُ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِطُولِ الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الدَّاعِي طَلَبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَدْعُوُّ لَهُ بِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ زِيَادَةً عَلَى عُمُرِ أَمْثَالِهِ بِسَبَبِ صَدَقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَأُجِيبَ عَنْ وُجُوهِ الْعِقَابِ أَوْ الدِّيَةِ أَوْ الْقِصَاصِ: بِأَنَّهُ بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِكَسْبِهِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ عَقِبَهُ الْمَوْتَ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُنْسَبُ إلَيْهِ كَسْبًا وَإِلَى اللَّهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا، وَالْحُدُودُ وَالدِّيَاتُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِحَسَبِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْمَيْلِ وَصُورَةُ الْفِعْلِ الْوَاقِعَةُ مِنْهُ الَّتِي تُسَمَّى كَسْبًا وَالْأَحْكَامُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ هُوَ الْبَارِئُ سبحانه وتعالى، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَنُوطَةٌ بِالْأَفْعَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِهَا تَأْثِيرٌ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَأَمَّا حَدِيثُ:«إنَّ الْمَقْتُولَ يَتَعَلَّقُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ رَبِّ قَتَلَنِي فُلَانٌ وَظَلَمَنِي وَقَطَعَ أَجَلِي» فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ فَيُحْتَمَلُ عَلَى مَقْتُولٍ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَكَانَ يُعْطَى أَجَلًا زَائِدًا، هَذَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، وَحَاصِلُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ بِقُدْرَتِهِ، وَتَخْصِيصُ إرَادَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، شَرَعَ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَقْلًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا شَرْعًا وَهُوَ إرْسَالُ رُسُلِ الْبَشَرِ إلَى خَلْقِهِ فَقَالَ:(الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الْعِبَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِإِرْسَالِ رُسُلِ الْبَشَرِ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى خَلْقِهِ لِيُبْلِغُوهُمْ عَنْهُ نَهْيَهُ وَأَمْرَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ تَعَالَى رُسُلَهُ إلَيْهِمْ (لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرْسِلْ لَهُمْ لَقَالُوا:" هَلَّا أَرْسَلْت إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِك؟ " وَقَدْ تَفَضَّلَ سبحانه وتعالى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَاَلَّذِي تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الَّذِي بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ فَلَا تُقَامُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةٌ تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ مَحْضُ صِدْقٍ لِتَأْيِيدِهِ بِالْمُعْجِزَةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ:«صَدَقَ عَبْدِي فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي» ، وَأَعْظَمُ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا الْقُرْآنُ، وَاخْتُلِفَ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ هَلْ فِي الْمَشِيئَةِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ مَعْذُورُونَ أَقْوَالٌ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَأَعْذَرُ إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَمِنْ قَوْلِهِ هُنَا: الْبَاعِثُ الرُّسُلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْوَاجِبَاتِ السَّمْعِيَّةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى مَنْ أَحَالَهُ كَالسُّمَنِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ عَدَّهُ عَبَثًا كَالْبَرَاهِمَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ طَرِيقُ الْأَشَاعِرَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ أَيْضًا عَلَى مَنْ قَصَرَ الرِّسَالَةَ عَلَى آدَمَ فَقَطْ أَوْ عَلَى آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى مَنْ قَصَرَهَا عَلَى مُوسَى وَعِيسَى كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى.
الثَّانِي: ذَكَرَ الرُّسُلَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ فِي عِدَّتِهِمْ فَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَصَرَ فِيهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى عَدَدٍ لِآيَةِ:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . وَالْحَدِيثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ فِي عَدَدِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ.
الثَّالِثُ: كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِمْ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ
وَالنُّبُوَّةَ بِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَهُ آخِرَ الْمُرْسَلِينَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْزَلَ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالتَّبْلِيغُ كَمَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِمْ أَضْدَادُهَا، وَيَجُوزُ فِي حَقِّهِمْ كَالْأَكْلِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْقُصُ مِنْ مَرَاتِبِهِمْ الْعَلِيَّةِ.
الرَّابِعُ: سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا مَعْصُومُونَ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ ذَنْبٌ وَلَوْ صَغِيرَةً لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ.
قَالَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ وَتَبِعَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ.
وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ وُقُوعَ الصَّغِيرَةِ مِنْهُمْ سَهْوًا وَلَكِنْ يُنَبَّهُونَ عَلَيْهَا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ كَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ فَلَا تَصْدُرُ عَنْهُمْ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ صُدُورِ الذَّنْبِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا يَحْمِلُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي الصُّدُورَ عَنْهُمْ عَلَى صُدُورِهِ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ.
قَالَ بَعْضٌ: وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا وَطَرْحُ مَا عَدَاهُ.
وَفِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلْعَلَّامَةِ اللَّقَانِيِّ: يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ النِّسْيَانُ فِي الْبَلَاغِيَّاتِ قَبْلَ تَبْلِيغِهَا قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، وَأَمَّا بَعْدَ التَّبْلِيغِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ حَفِظَهَا وَضَبَطَهَا وَيُبَلِّغُهَا، وَأَمَّا السَّهْوُ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْأَخْبَارِ مُطْلَقًا بَلَاغِيَّةً كَانَتْ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ لَا، وَفِي الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْإِنْشَائِيَّةِ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَغَيْرِهَا خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَالسَّهْوُ فِي السَّلَامِ وَهُوَ قَوْلٌ بَلَاغِيٌّ فِي فِعْلِهِ وَإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا فِي لَفْظِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ أَنَّ السَّهْوَ زَوَالُ الصُّورَةِ مِنْ الْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ لَا مِنْ الْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ، وَالنِّسْيَانَ زَوَالُهُ مِنْهُمَا فَيَكُونُ النِّسْيَانُ أَخَصَّ، وَقِيلَ: النِّسْيَانُ يَكُونُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ وَالسَّهْوُ أَعَمُّ، فَقَدْ اتَّضَحَ لَك جَوَازُ السَّهْوِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ الْقِيَامُ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَتَرَكَ الْجُلُوسَ وَقَامَ أَيْضًا لِخَامِسَةٍ وَسَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْوِ فِي الْأَخْبَارِ مُطْلَقًا.
الْخَامِسُ: كَمَا تَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةُ تَجِبُ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْضًا، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذَّنْبُ فِي حَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وَمَنْ قَالَ فِي أَعْرَاضِهِمْ شَيْئًا وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ فَقَدْ كَفَرَ كَالْأَنْبِيَاءِ.
1 -
، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَقِيلَ: مَلَكَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ ابْتِلَاءً لِلنَّاسِ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ أَوْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَوَقَّاهُ وَلَا يَضُرُّ بِهِ أَحَدًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَهُمَا كَانَا يَعِظَانِ النَّاسَ وَيَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ وَابْتِلَاءٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَعْتَقِدْ وَلَا تَعْمَلْ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ لِارْتِكَابِهِمَا السِّحْرَ فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، بَلْ الْحَقُّ حُرْمَةُ اعْتِقَادِ ارْتِكَابِهِمَا الْعَمَلَ بِالسِّحْرِ أَوْ اعْتِقَادِ تَأْثِيرِهِ، وَتَعْذِيبُهُمَا إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاتَبَةِ كَمَا تُعَاتَبُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى السَّهْوِ وَالزَّلَّةِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابٍ مِنْهُمَا لِكَبِيرَةٍ فَضْلًا عَنْ كُفْرٍ وَاعْتِقَادِ سِحْرٍ أَوْ عَمِلَ بِهِ، وَقِيلَ: هُمَا رَجُلَانِ عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَقِيلَ: رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيل. وَمُحَصَّلُ قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى مَا قَالَهُ السُّيُوطِيّ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ رَكَّبَ اللَّهُ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ اخْتِيَارًا لَهُمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا فِي الْأَرْضِ، فَنَزَلَا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ وَحَكَمَا بِالْعَدْلِ مَرَّةً، ثُمَّ افْتَتَنَا بِامْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَعُوقِبَا بِسَبَبِ ذَلِكَ بِأَنْ حُبِسَا فِي بِئْرِ بَابِلَ مُنَكَّسَيْنِ وَابْتُلِيَا بِالنُّطْقِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَصَارَ يَقْصِدُهُمَا مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَهُمَا قَدْ عَرَفَا ذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقَانِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ حَتَّى يُحَذِّرَاهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي مَلَكِيَّتِهِمَا فَلَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُمَا وَلَوْ مَعَ اعْتِقَادِ مَلَكِيَّتِهِمَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ شُرَّاحِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِيمَنْ يُشَدَّدُ فِي أَدَبِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، أَوْ سَبَّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى مَلَكِيَّتِهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَلَوْ مَعَ اعْتِقَادِ نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكِيَّتِهِ.
وَلَمَّا أَخْبَرَ بِكَثْرَةِ الرُّسُلِ شَرَعَ فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا خُصَّ بِهِ الْمُصْطَفَى دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نَزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، هَذَا هُوَ نَسَبُ الْمُصْطَفَى الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، حَتَّى كَانَ إذَا بَلَغَهُ (صلى الله عليه وسلم) يُمْسِكُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْخَتْمُ الطَّبْعُ، وَخِتَامُ الشَّيْءِ آخِرُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] أَيْ آخِرُهُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:؛ لِأَنَّ آخِرَ مَا يَجِدُونَهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام مَانِعَةً مِنْ ابْتِدَاءِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ بَعْدَهُ شُبِّهَتْ بِالْخَتْمِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ مَا خُتِمَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَتْمِ هُنَا التَّمَامُ أَيْ تَمَّمَ الرِّسَالَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَنَا الْعَاقِبُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» .
وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ وَهُوَ الْجَاهِلُ وَيَظْهَرُ عَدَمُ كُفْرِهِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ ابْتِدَاءِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ انْدَفَعَ إيرَادُهُ نُبُوَّةَ وَرِسَالَةَ عِيسَى عليه الصلاة والسلام لِتَقَدُّمِهِمَا؛ لِأَنَّ عِيسَى عليه السلام لَمْ يُعْزَلْ عَنْهُمَا، لَكِنْ لَا يُتَعَبَّدُ بَعْدَ نُزُولِهِ بِشَرِيعَتِهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
لِنَسْخِهَا فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَصْلًا وَفَرْعًا، فَلَا يَكُونُ إلَيْهِ وَحْيٌ وَلَا نَصْبُ أَحْكَامٍ، بَلْ يَنْزِلُ خِلْفَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاكِمًا مِنْ حُكَّامِ مِلَّتِهِ بَيْنَ أُمَّتِهِ بِمَا عَلِمَهُ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ مِنْ شَرِيعَتِهِ كَمَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَوْ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَصِّرُ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَيَّامَ مُكْثِهِ فِي الْأَرْضِ، فَكَسْرُهُ لِلصَّلِيبِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ الْجِزْيَةَ مِنْ شَرِيعَتِنَا لَا نَسْخَ لَهَا؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَشْرُوعِيَّةِ جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ نُزُولُ سَيِّدِنَا عِيسَى عليه الصلاة والسلام، وَالرِّسَالَةُ فِعَالَةٌ مِنْ أَرْسَلَ وَهِيَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ بِخِطَابِ التَّبْلِيغِ، وَالنِّذَارَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ التَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنُّبُوَّةُ مِنْ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ وَالْعُلُوُّ، وَشَرْعًا إيحَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْسَانٍ عَاقِلٍ حُرٍّ ذَكَرٍ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَكْلِيفِيٍّ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ أَمْ لَا فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ، وَمَنْ قَالَ إنْ النُّبُوَّةَ مُجَرَّدُ الْوَحْيِ وَمُكَالَمَةُ الْمَلَكِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَلَّمَتْ نَحْوَ مَرْيَمَ وَأُمَّ مُوسَى وَالْأُنْثَى لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدَّمَ الرِّسَالَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَكْسَ ذَلِكَ، وَقَدَّمَ النِّذَارَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الرِّسَالَةِ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّذَارَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْبِشَارَةِ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] قَالَ الْحَطَّابُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّذَارَةَ تَسْتَلْزِمُ الْمُبَاشَرَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْذَرَك بِالْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَقَدْ بَشَّرَك بِالسَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ التَّرْكِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ. ثَانِيهِمَا أَنَّهُ مُرَاعَاةٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَهَبَتْ النُّبُوَّةُ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْهَا إلَّا الْبِشَارَةُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» .
الثَّانِي: لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَتْمِ الْأَخَصِّ خَتْمُ الْأَعَمِّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَمَا قِيلَ خِلَافُ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ الثَّالِثُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ فَضْلَ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ هِدَايَةُ الْأُمَّةِ فَنَفْعُهَا مُتَعَدٍّ وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَهُمَا كَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا عِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّهِمَا، وَأَمَّا رِسَالَةُ رَسُولٍ مَعَ نُبُوَّةِ آخَرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَحْدَهَا ضَرُورَةَ جَمْعِ الرِّسَالَةِ لَهَا مَعَ زِيَادَةٍ الرَّابِعُ: وَقَعَ التَّرَدُّدُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ مَعَ وِلَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ نُبُوَّتَهُ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ بِخِلَافِ وِلَايَةِ وَلِيٍّ وَنُبُوَّةِ آخَرَ، فَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ النُّبُوَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ.
قَالَ صَاحِبُ الْإِسْعَادِ: لَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ دَرَجَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ أَعْلَى دَرَجَاتِ أَعْظَمِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ دَرَجَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ ثُمَّ فَسَّرَ خَتْمَ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ:(فَجَعَلَهُ) أَيْ صَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا (آخِرَ الْمُرْسَلِينَ) حَالَ كَوْنِهِ (بَشِيرًا) أَيْ مُخْبِرًا لِلطَّائِعِينَ بِالْخَيْرِ.
(وَ) حَالَ كَوْنِهِ (نَذِيرًا) أَيْ مُخَوِّفًا لِلْعَاصِينَ بِالْعَذَابِ، وَالْبِشَارَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ لِلْخَيْرِ وَإِنْ قُيِّدَتْ جَازَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ.
قَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ مُطْلَقُ التَّغَيُّرُ وَالتَّأَثُّرِ؛ لِأَنَّ الْمُبَشَّرَ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَالْمُنْذَرَ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: فِي كَلَامِهِ هُنَا حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلُ وَالنُّبُوَّةُ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلَهُ أَيْضًا آخِرَ النَّبِيِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ نَحْوُ:{وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَوْ شَرٍّ، وَنَحْوُ:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ وَالْبَرْدَ. الثَّانِي: جَعْلُهُ صلى الله عليه وسلم آخِرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي خَصَّهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ أُمَّتَهُ عليه الصلاة والسلام أَفْضَلُ الْأُمَمِ أَيْ أَكْثَرُهَا ثَوَابًا وَمَفَاخِرَ وَمَنَاقِبَ، وَمِنْهَا أَنَّ أُمَّتَهُ آخِرُ الْأُمَمِ حَتَّى لَا يَطُولَ مُكْثُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ شَهِيدًا عَلَى الْخَلْقِ، وَمِنْهَا تَكْلِيمُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْهَا عُرُوجُهُ بِهِ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمِنْهَا انْزِوَاءُ الْأَرْضِ لَهُ حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَمِنْهَا إعْطَاؤُهُ كَنْزَيْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْهَا نُصْرَتُهُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَمِنْهَا جَعْلُ الْأَرْضِ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَمِنْهَا إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ أَوَّلَ شَافِعٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ.
(وَ) مِنْهَا أَنْ جَعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ (دَاعِيًا) جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْكَلِمِ (إلَى) فِعْلِ مَا يُقَرِّبُ إلَى (اللَّهِ) مِنْ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ إنَّمَا كَانَ يُرْسَلُ إلَى قَوْمِهِ وَلَمْ يُرْسَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الْجِنِّ، فَضْلًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ أُرْسِلَ
عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ وَشَرَحَ بِهِ دِينَهُ الْقَوِيمَ وَهَدَى بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا
، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
ــ
[الفواكه الدواني]
إلَيْهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ قِيلَ إلَى الْجَمَادَاتِ فَبَعَثَهُ عَامَّةً صلى الله عليه وسلم، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَبْلِيغَهُ الشَّرَائِعَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَدَعْوَتَهُمْ إلَيْهَا (بِإِذْنِهِ) أَيْ بِأَمْرِهِ سبحانه وتعالى.
قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]
(وَ) مِنْ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا أَنْ جَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام (سِرَاجًا مُنِيرًا) يُسْتَضَاءُ بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِالسِّرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيُقْتَبَسُ مِنْ نُورِهِ نُورُ الْبَصَائِرِ كَاقْتِبَاسِ نُورِ الْبَصَرِ مِنْ نُورِ السِّرَاجِ، وَعَلَى هَذَا فَالسِّرَاجُ هُوَ النَّبِيُّ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ وَمُنِيرًا قَرِينَتُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ مِثْلُ سِرَاجٍ فِي وُضُوحِ الطَّرِيقِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ شَبَّهَ عليه الصلاة والسلام بِالسِّرَاجِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَعْظَمُ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْأَخْذِ مِنْهُمَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ بِخِلَافِ نُورِ السِّرَاجِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّرَاجِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى ذَا سِرَاجٍ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ كَدَعْوَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ فِيهِ تَشْبِيهٌ، وَإِنَّ النُّورَ وَالسِّرَاجَ اسْمَانِ لَهُ عليه الصلاة والسلام كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:{قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قِيلَ هُوَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي ذِكْرِ أَوْصَافِهِ عليه الصلاة والسلام لَا فِي ذِكْرِ أَسْمَائِهِ. (خَاتِمَةٌ) : قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: الْأُمُورُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَزِيدُ عِنْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ الْعِلْمُ تَعْلِيمًا وَعَمَلًا، وَقِسْمٌ يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ الْمَالُ، وَقِسْمٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ السِّرَاجُ.
(وَ) مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّنَا عليه الصلاة والسلام وَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ تَعَالَى (أَنْزَلَ عَلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم (كِتَابَهُ) الْحَكِيمَ وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِلْإِعْجَازِ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ الْمُحْتَجُّ بِأَبْعَاضِهِ، هَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى مُحْتَرَزَاتِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَإِنْزَالُهُ مِنْ السَّمَاءِ مُحْدَثٌ قَالَ تَعَالَى:{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] وَالذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَصِفَةُ إنْزَالِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ فَحَفِظَهُ جِبْرِيلُ وَوَعَاهُ وَنَقَلَهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَالْإِنْزَالُ إنْزَالُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ لَا إنْزَالُ الشَّخْصِ وَالصُّورَةِ، فَلَمَّا تَلَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَتَلَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَحَفِظُوهُ وَتَلَوْهُ عَلَى التَّابِعِينَ وَتَلَاهُ التَّابِعُونَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَكَذَا حَتَّى وَصَلَ لَنَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَمُرَتَّبٌ وَفَصِيحٌ وَمَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْحَادِثِ، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ قَائِمًا بِلِسَانٍ وَلَا حَالًّا فِي مُصْحَفٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَالْحَكِيمُ نَعْتٌ لِلْكِتَابِ مَعْنَاهُ الْمُحْكَمُ الْآيَاتِ فَلَا يَقَعُ فِي آيَاتِهِ نَسْخٌ، وَقِيلَ مَعْنَى الْحَكِيمِ الْمُحْكَمُ الْجَامِعُ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ أَوْ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] .
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أُنْزِلَ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ صَارَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فَكَانَ أَمَدُ نُزُولِهِ عِشْرِينَ سَنَةً بِقَدْرِ زَمَنِ نُبُوَّتِهِ. وَصُحِّحَ فَقِيلَ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُدَّةُ الْوَحْيِ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرُ سِنِينَ.
الثَّانِي: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَقِيلَ تَوْقِيفِيٌّ وَقِيلَ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ فَارِسٍ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ السُّوَرِ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ. (وَشَرَحَ) أَيْ فَهَّمَ وَبَيَّنَ اللَّهُ سبحانه وتعالى (بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَالَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَفْعُولُ شَرَحَ (دِينَهُ) أَيْ دِينَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ دِينُ الْإِسْلَامِ.
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] وَوَصَفَ الدِّينَ بِقَوْلِهِ: (الْقَوِيمَ) أَيْ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. (وَهَدَى) أَيْ أَظْهَرَ (بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام. (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أَيْ الطَّرِيقَ الْقَيِّمَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَالْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: الصِّرَاطُ عَلَى قِسْمَيْنِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْمَعْنَوِيُّ فِي الدُّنْيَا وَالْحِسِّيُّ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ مَشَى عَلَى الْمَعْنَوِيِّ هُنَا وُفِّقَ لِلْمَشْيِ عَلَى الْحِسِّيِّ هُنَالِكَ.
الثَّانِي: فِي الصِّرَاطِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِالسِّينِ وَالصَّادِ، وَالْمُضَارَعَةِ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ، وَغَلِطَ مِنْ قَالَ بِالزَّايِ، وَالصِّرَاطُ يُرَادِفُهُ الطَّرِيقُ، وَالسَّبِيلُ مَعْنَاهُ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْأَصْلِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَرِطْت الشَّيْءَ بِكَسْرِ الرَّاءِ ابْتَلَعْته كَأَنَّهُ يَبْتَلِعُ الْمَارَّةَ وَيُجْمَعُ عَلَى سُرُطٍ كَكُتُبٍ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَالطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا طَرِيقُ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ. . . إلَخْ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أَيْ الْقِيَامَةَ وَيُسَمَّى يَوْمُهَا الْيَوْمُ الْآخِرُ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مِنْ وَقْتِ الْحَشْرِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، أَوْ إلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَآخِرُ أَيَّامِهَا، وَيُسَمَّى أَيْضًا بِيَوْمِ الْحَسْرَةِ وَيَوْمِ النَّدَامَةِ وَيَوْمِ الْحَاقَّةِ وَيَوْمِ الْمُحَاسَبَةِ وَيَوْمِ الْمُنَاقَشَةِ وَيَوْمِ الزَّلْزَلَةِ وَيَوْمِ الْمُنَافَسَةِ وَيَوْمِ التَّلَاقِي وَيَوْمِ الدَّمْدَمَةِ أَيْ إطْبَاقِ الْعَذَابِ وَيَوْمِ الصَّاعِقَةِ وَيَوْمِ الْوَاقِعَةِ وَيَوْمِ الْقِصَاصِ وَيَوْمِ الْقَارِعَةِ وَيَوْمِ الرَّادِفَةِ وَيَوْمِ الرَّاجِفَةِ وَيَوْمِ الْمَآبِ وَيَوْمِ الْحِسَابِ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقِيَامَةُ لَمَّا عَظُمَتْ أَحْوَالُهَا وَجَلَّتْ أَهْوَالُهَا سَمَّاهَا اللَّهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَهْوَالِهَا.
(آتِيَةٌ) أَيْ جَائِيَةٌ قَطْعًا، وَوَصَفَهَا بِالْإِتْيَانِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ، فَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهَا انْقِرَاضُ الدُّنْيَا وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ:(لَا رَيْبَ فِيهَا) أَيْ لَا شَكَّ وَلَا تَرَدُّدَ فِي إتْيَانِهَا وَإِنْ عُمِّيَ عَلَيْنَا وَقْتُ إتْيَانِهَا، فَإِنْ قِيلَ: الرَّيْبُ وَقَعَ فِي إتْيَانِهَا فَمَا مَعْنَى إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي إتْيَانِهَا.
وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ ارْتِيَابُ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ بَاطِلٍ يَنْزِلُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] .
وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ لَا رَيْبَ فِيهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى إتْيَانِهَا، وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ انْقِرَاضَ الدُّنْيَا وَحُصُولَ الْفَظَائِعِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّتِي تُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَتُوجِبُ ذُهُولَ الْمَرَاضِعِ عَنْ الْأَوْلَادِ حَقٌّ.
قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 1 - 2] الْآيَةُ {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10] أَيْ شَدِيدًا، يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
وَفِي الْحَدِيثِ: «خَوَّفَنِي جِبْرِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَبْكَانِي فَقُلْت: يَا جِبْرِيلُ أَلَمْ يَغْفِرْ لِي رَبِّي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ لَتُشَاهِدَنَّ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا يُنْسِيكَ الْمَغْفِرَةَ» أَخْرَجَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ.
قَالَ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَيُشَدَّدُ عَلَى الْكَافِرِينَ حَتَّى يَجِدُوا مِنْ طُولِهِ الْغَايَةَ، وَيَتَوَسَّطُ عَلَى فَسَقَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَخِفُّ عَلَى الصَّالِحِينَ حَتَّى يَكُونَ كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ السَّعْدُ: وَهَلْ يَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِيهِ تَرَدُّدٌ وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ.
قَالَ تَعَالَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] وَقَالَ: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْمُحَاسِبِيِّ وَارْتَضَاهُ أَنَّ خَوْفَ الْأَنْبِيَاءِ خَوْفُ إعْظَامٍ وَإِجْلَالٍ وَإِنْ كَانُوا آمَنِينَ مِنْ الْعَذَابِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّوَاهِرِ فَعَلَيْهِ شُدَّ يَدَك.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: السَّاعَةُ اسْمٌ لِحِصَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ أَقَلُّهَا طَرْفَةُ عَيْنٍ فَهِيَ نَكِرَةٌ تَقْبَلُ التَّعْرِيفَ وَالتَّنْكِيرَ إلَّا هَذِهِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَلْ مِنْهَا، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ قَدْ لَزِمَتْهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ كَالثُّرَيَّا وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ وَهِيَ آخِرُ سَاعَاتِ الدُّنْيَا، وَزَمَنُ انْقِرَاضِهَا سُمِّيَتْ بِالسَّاعَةِ مَعَ طُولِ زَمَنِهَا بِالنِّسْبَةِ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا طَوِيلَةٌ عَلَى غَيْرِ الْأَخْبَارِ، وَأَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى هِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ أَيْ الْمَوْتِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} [الزمر: 68] أَيْ مَاتَ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] مِنْ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ} [المزمل: 14] وَقَوْلِهِ: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 7] هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَتُسَمَّى نَفْخَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ وَقِيَامِ الْخَلْقِ لِلْحِسَابِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] وَالضَّمِيرُ فِي إذَا هُمْ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَبَعْدَ قِيَامِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ عِنْدَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِمْ وَعَرْضِهِمْ عَلَيْهِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَحِسَابِهِمْ، وَقِيلَ النَّفَخَاتُ ثَلَاثٌ: الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ أَيْ فِي الدُّنْيَا لَا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي النَّمْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] وَفِي ص: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ وَتَرْتَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا كَالسَّفِينَةِ وَتَهْرُبُ الشَّيَاطِينُ إلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَتَرُدُّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَهُوَ يَوْمُ التَّنَادِ وَتَنْصَدِعُ الْأَرْضُ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ النَّفْخَتَيْنِ يَرْجِعَانِ إلَى نَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى آيَةِ النَّمْلِ أَنَّهُمْ يُلْقَى عَلَيْهِمْ الْفَزَعُ إلَى أَنْ يُصْعَقُوا هَذَا مُلَخَّصُ الْأُجْهُورِيِّ.
الثَّانِي: لِلسَّاعَةِ أَشْرَاطٌ وَعَلَامَاتٌ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: كُبْرَى وَصُغْرَى، فَالْكُبْرَى عَشَرَةٌ خَمْسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخَمْسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَدُخَانٌ بِالْيَمَنِ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَرُوحُ مَعَ النَّاسِ حَيْثُ رَاحُوا وَتَمِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ مَالُوا حَتَّى تَسُوقَهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ. وَالصُّغْرَى بَعْثُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ: «بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَبْضُ الْعِلْمِ وَرَفْعُ الْقُرْآنِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ وَكَثْرَةُ الْفِتَنِ وَكَثْرَةُ الزِّنَا وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِالرِّبَا وَظُهُورُ الدَّجَّالِينَ وَكَثْرَةُ الزَّلَازِلِ وَظُهُورُ الْمَهْدِيِّ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَرَجْمُ الشَّيَاطِينِ مِنْ السَّمَاءِ وَتَأْمِينُ الْخَائِنِ وَخِيَانَةُ الْأَمِينِ وَكَثْرَةُ الْعُقُوقِ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ وَالتَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ وَفَسَادُ الْبُلْدَانِ وَخَرَابُ مَكَّةَ وَنَقْلُ حِجَارَتِهَا إلَى الْبَحْرِ، وَإِذَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ تَتَابَعَتْ حَتَّى تَتَّصِلَ بِالسَّاعَةِ، وَقَدْ وُجِدَ أَكْثَرُهَا لَكِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي السَّابِقِ مِنْهَا فَقِيلَ فَسَادُ مُعْظَمِ الْبُلْدَانِ وَقِيلَ غَيْرُهُ.
الثَّالِثُ: تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عَلَى مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ كَعَادَتِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا تَغْرُبُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلِعَهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يُدِيرُهَا بِالْقُطْبِ فَيَجْعَلُ مَشْرِقَهَا مَغْرِبَهَا وَمَغْرِبَهَا مَشْرِقَهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الْآيَةُ. وَوَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مُدَّةِ عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْكَافِرِ بَعْدَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا وَفِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي، وَهَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِ أَوْ عَامٌّ؟ فَنَقَلَ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ مَا نَصُّهُ: وَالْحَقُّ أَنَّ مِنْ يَوْمِ الطُّلُوعِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ اهـ.
وَظَاهِرُ كَلَامِهِ عُمُومُهُ فِي الْكَافِرِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْأُجْهُورِيِّ: وَاخْتُلِفَ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الْكَافِرِ فَقِيلَ لَا يُقْبَلَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ عَدَمُ قَبُولِهِمَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ شَاهَدَ هَذَا الطُّلُوعَ وَهُوَ مُمَيِّزٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ يُولَدُ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَمَيَّزَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إيمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ مَنْ رَأَى طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا إيمَانُهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ وَمَنْ بَلَغَهُ مَعَ الْيَقِينِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَإِيمَانُهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا لَا يُقْبَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا عَمَلٌ وَلَا تَوْبَةٌ حِينَ يَرَاهَا إلَّا مَنْ كَانَ صَغِيرًا حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذُّنُوبِ قُبِلَ مِنْهُ. وَوَرَدَ: أَنَّ الْقَمَرَ حِينَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ أَيْضًا.
1 -
فَوَائِدُ حِسَانٌ تَتَشَوَّفُ النَّفْسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا فَأَحْبَبْنَا ذِكْرَهَا: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّابَّةِ مِنْ صِفَةِ خُرُوجِهَا وَمَكَانِهَا وَكَلَامِهَا وَصِفَاتِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] أَيْ إذَا قَرُبَ وُقُوعُ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [النمل: 82] رُوِيَ أَنَّ طُولَهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَلَهَا قَوَائِمُ وَزَغَبٌ وَرِيشٌ وَجَنَاحَانِ لَا يَفُوتُهَا هَارِبٌ وَلَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام «سُئِلَ عَنْ مَخْرَجِهَا فَقَالَ: مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» ؟ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ.
وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ مِنْ أَجْيَادَ فَبَلَغَ صَدْرُهَا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلَمْ يَخْرُجْ ذَنَبُهَا بَعْدُ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: تَمُرُّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا ثُلُثُهَا.
وَقَالَ كَعْبٌ: صُورَتُهَا صُورَةُ حِمَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ لَيْلَةَ جَمْعٍ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ إلَى مِنًى فَتَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ بِذَنَبِهَا وَعَجُزِهَا فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ إلَّا خَطَمَتْهُ وَلَا مُؤْمِنٌ إلَّا مَسَحَتْهُ وَتَجْزَعُ النَّاسَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَكْلُمُهُمْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّام مِنْ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ وَقُرِئَ تُكَلِّمُهُمْ مِنْ الْكَلَامِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَلَامِهَا فَقِيلَ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ إلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ تَقُولُ: يَا فُلَانٌ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَا فُلَانٌ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ تَقُولُ:{أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] بِخُرُوجِي وَتَخْرُجُ وَمَعَهَا عَصَى مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا وَتَخْطِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَخُرُوجُهَا عَلَى النَّاسِ يَكُونُ ضُحًى، وَعَنْهُ عليه الصلاة والسلام:«أَنَّ لَهَا ثَلَاثَ خَرَجَاتٍ: خَرْجَةٌ بِأَقْصَى الْيَمَنِ فَيَفْشُو ذِكْرُهَا فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا مَكَّةَ ثُمَّ تَمْكُثُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَخَرْجَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ فَيَفْشُو ذِكْرُهَا فِي الْبَادِيَةِ وَبِمَكَّةَ، وَخَرْجَةٌ بَيْنَمَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ إذْ تَهْتَزُّ الْأَرْضُ تَحْتَهُمْ وَيَنْشَقُّ الصَّفَا مِمَّا يَلِي الْمَشْعَرَ فَيَخْرُجُ رَأْسُ الدَّابَّةِ مِنْ الصَّفَا تَجْرِي الْفَرَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا خَرَجَ ثُلُثُهَا وَبَعْدَ تَكَامُلِ خُرُوجِهَا تَمَسُّ رَأْسُهَا السَّحَابَ وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْضِ» فَسُبْحَانَ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ.
1 -
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ وَبَيَانِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ النَّاسِ وَعَلَامَةِ خُرُوجِهِ، وَفِي بَيَانِ جَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَمَسِيرِهِ فِي الْأَرْضِ وَخَبَرِ دَابَّتِهِ الْجَسَّاسَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيَانِ قَتْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
«قَالَ صلى الله عليه وسلم عَنْ الدَّجَّالِ: هُوَ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الدَّجَّالُ خَارِجٌ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتْبَعُهُ قَوْمٌ وُجُوهُهُمْ الْمِجَانُ الْمُطَرَّقَةُ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالْمِجَانُ جَمْعُ مُجْنِ التُّرْسُ.
قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَالْمِجَانُ الْأَتْرَاسُ الَّتِي أُلْبِسَتْ الْعَصَبَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ.
وَفِيهِ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَلَامَةُ خُرُوجِهِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَفَتْحُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى خُرُوجِهِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَلْبَثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْضُ الْأَيَّامِ كَسَنَةٍ وَبَعْضُهَا كَشَهْرٍ وَبَعْضُهَا كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَذْرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى قَوْمٍ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جِزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ وَهُوَ يَضْحَكُ» .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قُلْت لِأَبِي سَلَمَةَ: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَهَا، جِلْدُهَا وَرَاءَهَا.
وَفِي حَدِيثِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ: «إنَّ لِلدَّجَّالِ حِمَارًا يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحِمَارُهُ أَعْوَرُ كَمَا هُوَ أَعْوَرُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُحْسِنَ خَلْقَهُ وَلَا خَلْقَ مَرْكُوبِهِ، ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى فَيَقْتُلُهُ بِحَرْبَتِهِ حَتَّى يَرَى دَمَهُ فِي الْحَرْبَةِ» .
فَلَوْ كَانَ إلَهًا لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُنَافِقُ يُشْبِهُهُ.
وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ مَنْ بَلَدٍ إلَّا سَيَطَأُ الدَّجَّالُ إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ» .
وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَلَا يَبْقَى مَوْضِعٌ إلَّا وَيَدْخُلُهُ غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَبَلِ الطُّورِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَطْرُدُونَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ» .
وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: «أَنَّ عِيسَى يُدْرِك الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ» وَلُدٌّ بِضَمِّ اللَّامِ وَشَدَّ الدَّالِ مُنْصَرِفٌ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْقُدْسِ.
وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ الدَّجَّالَ إذَا رَأَى عِيسَى عليه السلام ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَلَوَّكُهُ لَذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ» . وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي نُزُولِ عِيسَى عليه السلام إلَى الْأَرْضِ وَأَنَّ نُزُولَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ قِيلَ لِلْكِتَابِ الْمَفْهُومِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ لِعِيسَى؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ قُرْبَ السَّاعَةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَأْمُرُ بِتَرْكِ الْقِلَاصِ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَتُتْرَكُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ وَيَدْعُو إلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا: «أَنَّهُ عليه السلام يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءَ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ» وَمَعْنَى كَوْنِهِ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ أَنَّهُ لَابِسٌ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِوَرْسٍ ثُمَّ بِزَعْفَرَانٍ، وَمَهْرُودَتَانِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْجُمَانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَبَّاتٌ مِنْ الْفِضَّةِ تُصْنَعُ عَلَى هَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ، وَالْمُرَادُ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ عَلَى هَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ فِي صَفَائِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ عِيسَى عليه السلام مُتَّبِعٌ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ شَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِي أَزْمَانِهِمْ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَبِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ عِيسَى عليه السلام بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بَعْدَهُ وَأَخْبَرَهُ بِجُمْلَةٍ مِنْ شَرِيعَتِهِ يَأْتِي بِهَا تُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ، وَأَيْضًا عِيسَى عليه الصلاة والسلام لَا يُقَصِّرُ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَحُجُّ لِتَحْقِيقِ التَّبَعِيَّةِ ثُمَّ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ فِي رَوْضَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَيْهِ رضي الله عنهما وَالنَّاسُ فِي زَمَانِهِ فِي أَمْنٍ وَخَصْبٍ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنَبْتِي ثَمَرَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ قِشْرُهَا الشَّبِيهُ بِقِحْفِ الرَّأْسِ، وَيُبَارَكُ فِي اللَّبَنِ حَتَّى أَنَّ النَّاقَةَ لَتَكْفِي الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ النَّاسِ، وَيَقَعُ الْأَمْنُ فِي زَمَنِهِ فِي الْأَرْضِ، يَرْعَى الْأَسَدُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنَّمِرُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئْبُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ وَلَا يُصَابُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَيَتَسَلَّمُ الْأَمْرَ مِنْ الْمَهْدِيِّ، وَيَكُونُ الْمَهْدِيُّ مَعَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَهْدِيِّ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ، وَيُصَلِّي عِيسَى وَرَاءَ الْمَهْدِيِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي قَدْرِ نُبُوَّتِهِ، وَيُسَلِّمُ الْمَهْدِيُّ لِعِيسَى الْأَمْرَ، وَيُقْتَلُ الدَّجَّالُ، وَيَمُوتُ الْمَهْدِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَنْتَظِمُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِعِيسَى عليه السلام، وَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ نُزُولِهِ لَيْسَ يَبْقَى بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَسُئِلَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ حَيَاةِ عِيسَى عليه السلام وَمَقَرِّهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَقَالَ: فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ بَلْ هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَسَبَبُ رَفْعِهِ إلَى السَّمَاءِ أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبَتْهُ وَآذَتْهُ وَهَمَّتْ بِقَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاجْتَمَعَ بِالْمُصْطَفَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى يَنْزِلَ آخِرَ الزَّمَانِ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ وَيَكُونُ نُزُولُهُ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيَقُولُ لَهُ أَمِيرُ النَّاسِ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: إنَّكُمْ مَعْشَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمَرَاءُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِنَا، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْمَهْدِيُّ؟ فَإِذَا انْصَرَفَ يَأْخُذُ عِيسَى حَرْبَتَهُ وَيَتْبَعُ الدَّجَّالَ فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ الشَّرْقِيِّ وَيَحْكُمُ بِشَرِيعَتِنَا، وَيُقِيمُ سَبْعَ سِنِينَ وَقِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مَجْمُوعُ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ فَإِنَّهُ رُفِعَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَسُئِلَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ هَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: «فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا» . . . إلَخْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نُزُولِ جِبْرِيلَ إلَيْهِ،
مَنْ يَمُوتُ، كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ.
، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ضَاعَفَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ.
، وَصَفَحَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كِبَارِ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَأَمَّا حَدِيثُ الْوَفَاةِ مِنْ قَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا آخِرُ وَطْأَتِي فِي الْأَرْضِ فَضَعِيفٌ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ عِيسَى نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الرَّفْعِ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ وَخَالَتِهِ فَسَكَّنَ أَلَمَهُمَا بِإِخْبَارِهِمَا بِحَالِهِ ثُمَّ رُفِعَ حَتَّى يَنْزِلَ آخِرَ الزَّمَانِ. وَسُئِلْت عَنْ حَالِهِ فِي السَّمَاءِ هَلْ كَانَ مُكَلَّفًا أَمْ لَا؟ فَأَجَبْت بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ السُّيُوطِيّ: هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ عِيسَى دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَبَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ، وَقِيلَ لِأَجْلِ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ لَا يُدْفَنُ فِي السَّمَاءِ.
1 -
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِالْهَمْزِ وَدُونِهِ فِيهِمَا وَهُمَا قَبِيلَتَانِ مِنْ وَلَدِ يَافِثِ بْنِ نُوحٍ عليه السلام، فَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ عليه السلام مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ:«أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إلَى عِيسَى عليه السلام بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ أَنِّي قَدْ أَخْرَجْت عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ يُقَاتِلُهُمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أَيْ مِنْ كُلِّ نَشْرٍ يَمْشُونَ مُسْرِعِينَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَاءَهَا وَهِيَ بِالشَّامِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ أَثَرُ مَاءٍ، وَيَحْصُرُونَ عِيسَى وَأَصْحَابَهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلَّا مَلَأَتْهُ زَهَمَتُهُمْ، فَيَرْغَبُ إلَى اللَّهِ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي ثَمَرَتَك. . .» الْحَدِيثُ. وَقَوْلُهُ: لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ تَثْنِيَةُ يَدِهِ وَمَعْنَاهُ لَا قُدْرَةَ وَلَا طَاقَةَ، وَمَعْنَى حَرِّزْهُمْ إلَى الطُّورِ ضُمَّهُمْ إلَيْهِ وَاجْعَلْ لَهُمْ حِرْزًا.
وَقَوْلُهُ: النَّغَفُ هُوَ بِتَحْرِيكِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الدُّودُ الَّذِي يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَقَوْلُهُ: فَرْسَى كَقَتْلَى وَزْنًا وَمَعْنًى وَوَاحِدُهُ فَرِيسٌ.
وَفِي الثَّعْلَبِيِّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ؟ قَالَ: أُمَمٌ كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى أَلْفَ عَيْنٍ تَطُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، فَيَسِيرُونَ إلَى خَرَابِ الدُّنْيَا فَيَشْرَبُونَ الْفُرَاتَ وَالدَّجْلَةَ وَبُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ فَيَقُولُونَ: قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا فَقَاتِلُوا مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إلَى السَّمَاءِ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مُحْمَرًّا دَمًا» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ الدَّجَّالَ يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَخْرُجُ بَعْدَهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَيَقْتُلُونَ مِنْ اتَّبَعَ الدَّجَّالَ الَّذِي قَتَلَهُ عِيسَى وَيَتَحَصَّنُ عِيسَى وَمَنْ مَعَهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَاءً فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيَمُوتُونَ كَمَوْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» .
1 -
الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الدُّخَانِ وَالرِّيحِ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الْآيَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ دُخَانٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ فِي أَسْمَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَيَعْتَرِي الْمُؤْمِنِينَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ كُلُّهَا كَبَيْتٍ أُوقِدَ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ خُصَاصٌ.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّاعَةَ بِمَعْنَى الْقِيَامَةِ وَانْقِرَاضُ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا حَقٌّ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الَّذِي يَمُوتُ لَا يَعُودُ قَالَ: (وَأَنَّ اللَّهَ) سبحانه وتعالى لِتَمَامِ قُدْرَتِهِ (يَبْعَثُ) أَيْ يُحْيِي كُلَّ (مَنْ يَمُوتُ) وَلَوْ حُرِّقَ وَذُرِّيَ فِي الْهَوَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَعْثَ إعَادَةُ مَا عَدِمِ بَعْدَ وُجُودِهِ مِثْلُ مَا كَانَ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ إعَادَةِ جَمِيعِ الْعِبَادِ بَعْدَ إحْيَائِهِمْ بِأَجْزَائِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْبَقَاءُ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إلَى آخِرِهِ كَالْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَسَوْقِهِمْ إلَى مَحْشَرِهِمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الشَّارِعُ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِمَا تَوَاتَرَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِثْلُ:{قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51]{فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] ، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] : {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] .
(وَالْحَاصِلُ) أَنَّ الْبَعْثَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، فَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ يُحَاسَبُ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِمَنْ يُجَازَى، وَالْبَعْثُ وَالنُّشُورُ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْقُبُورِ بَعْدَ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إلَيْهَا، وَأُطْلِقَ عَلَى إحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ نُشُورًا لِانْتِشَارِهَا مِنْ قُبُورِهَا يَوْمَ حَشْرِهَا، وَبِتَقَيُّدِ الْأَجْزَاءِ بِالْأَصْلِيَّةِ سَقَطَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ أَكَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا وَصَارَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ أَنَّهُ يَعُودُ بِغَيْرِ جَسَدِهِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْمُعَادَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ لَا الْفَضْلِيَّةُ، فَالْمُعَادُ فِي الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ هَكَذَا قَالُوا، وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا كُلِّهِ لِاسْتِحَالَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِنْ جِسْمٍ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ لِلْأَكْلِ بَعْدَ الْأَكْلِ لِأَجْزَاءِ غَيْرِهِ النَّمَاءُ فِي جَسَدِهِ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صَيْرُورَةُ أَجْزَاءِ الْمَأْكُولِ أَجْزَاءَ الْآكِلِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّخْصَ يَأْكُلُ الثَّمَرَ وَالْخُبْزَ وَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا جُزْءًا لَهُ، فَتَدَبَّرْهُ يَدْفَعُ عَنْك الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِنَا بَعْدَ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ وَإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَيْهَا الرَّدُّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّمَا تُعَادُ الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَجْسَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَادَ بِمَعْنَى الْعَوْدِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيُعْدِمُ اللَّهُ الذَّوَاتَ ثُمَّ يُعِيدُهَا لِلْجَزَاءِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ فِي مَعْنَاهُ فَالصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ الذَّوَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ يُعِيدُهَا، وَقِيلَ: يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ الْأَصْلِيَّةَ ثُمَّ يُرَكِّبُهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَيْنِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ:
وَقُلْ يُعَادُ الْجِسْمُ بِالتَّحْقِيقِ
…
عَنْ عَدَمٍ وَقِيلَ عَنْ تَفْرِيقٍ
، وَالْجِسْمَانُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةٌ إلَى الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْبَدَنُ وَأَنْكَرَهُمَا الْمُلْحِدَةُ وَالدَّهْرِيَّةُ، وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّتِهِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ.
وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَدِلَّتِهِ قِيَاسَ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: (كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ) يَعْنِي كَمَا أَنْشَأَهُمْ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَذَلِكَ يُنْشِئُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِعَادَةِ وَالِابْتِدَاءِ بَلْ الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أَيْ هَيِّنٌ، وَالتِّلَاوَةُ:{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُشَابِهٌ لِلْآيَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِرِوَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَشَبَّهَ الْإِعَادَةَ بِالِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] . وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ، الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] وَمِنْهَا إخْرَاجُ النَّارِ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى إعَادَةِ الذَّوَاتِ وَسَكَتَ عَنْ إعَادَةِ أَعْرَاضِهَا وَأَزْمَانِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ، رَجَّحَ جَمَاعَةٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
إعَادَةَ أَعْيَانِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً بِالْأَجْسَادِ فِي حَالَةِ حَيَاتِهَا تُعَادُ بِأَشْخَاصِهَا، لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ مَا يَطُولُ بَقَاءُ نَوْعِهِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَمَا لَا يَطُولُ كَالْأَصْوَاتِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ مَقْدُورًا لِلشَّخْصِ كَالضَّرْبِ وَالْقِيَامِ وَغَيْرِهِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَرَجَّحُوا أَيْضًا إعَادَةَ جَمِيعِ أَزْمِنَتِهَا الَّتِي مَرَّتْ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا تَبَعًا لِلذَّوَاتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ الْأَجْسَامَ بِأَزْمِنَتِهَا وَأَوْقَاتِهَا كَمَا تُعَادُ بِأَكْوَانِهَا وَهَيْئَتِهَا، لِوُرُودِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى:{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِيَّةِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَإِلَّا فَالْجُلُودُ هِيَ الْأُولَى بِأَعْيَانِهَا إذْ هِيَ الَّتِي عَصَتْ، فَيُعَادُ تَأْلِيفُهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَأَعْيَانُهَا إذَا عَدِمَتْ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِرَدِّ الشَّمْسِ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَرُدَّتْ» فَلَوْلَا أَنَّ الْوَقْتَ يُعَادُ لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ بَعْدَ رَدِّ الشَّمْسِ أَدَاءً وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّدِّ فَائِدَةٌ. عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَبْسِهِ نَفْسَهُ فِي حَاجَتِهِ عليه الصلاة والسلام حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَصَلَّاهَا بَعْدَ رَدِّهَا أَدَاءً، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَمْنَعُ إعَادَتَهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُنَافِيَاتِ كَالْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَجَابَ صَاحِبُ الرَّاجِحِ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ حَسْبَمَا مَرَّتْ فِي الدُّنْيَا لَا دَفْعِيَّةٌ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِشْكَالِ يَأْتِي فِي إعَادَةِ الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا الطُّولُ وَالْقِصَرُ وَالصِّغَرُ وَالْكِبَرُ وَالْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَجَوَابُ مَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ إعَادَتَهَا تَدْرِيجِيَّةٌ عَلَى حُكْمِ مَا قَامَتْ بِهِ فِي الدُّنْيَا.
الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ أَنَّ الْعَبْدَ يُبْعَثُ وَيَخْسَرُ كَمَا نَزَلَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَجَمِيعَ مَا قُطِعَ مِنْهُ يَرْجِعُ لَهُ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى الْخِتَانُ، وَلَا يُقَالُ: الْمُمَاثَلَةُ لِمَا وُلِدَ يَقْتَضِي أَنْ يُبْعَثَ بِلَا أَسْنَانٍ وَلَا لِحْيَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا وُلِدَ فَلَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ عَمَّا وُلِدَ بِهِ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَسُئِلَ بَعْضٌ عَمَّنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ وَارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَتُبْعَثُ يَدُهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْيَدَ تَدْخُلُ النَّارَ وَلَمْ تُذْنِبْ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَيُخَالِفُ قَوْلَكُمْ يُبْعَثُ كَمَا وُلِدَ، فَالْجَوَابُ: إنَّا نَخْتَارُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلْبَدَنِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْجُزْءِ إنَّمَا هُوَ بِمَجْمُوعِ الْهَيْكَلِ.
الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عُمُومُ الْبَعْثِ حَتَّى مَنْ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَوْ سِقْطًا حَيْثُ أُلْقِيَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالصَّحِيحُ بَعْثُهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . أَيْ الْجَزَاءُ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ: «يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ، مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَوْمِئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقُرَنَاءِ» ، وَسِوَى هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ: غَيْرُ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ فَلَا يُؤَاخَذُ. قُلْنَا: بَلْ يُؤَاخَذُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ لَا لِارْتِكَابِ ذَنْبٍ، وَجَرْيُ الْقَلَمُ إنَّمَا هُوَ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِحَشْرِ كُلِّ ذِي رُوحٍ غَيْرِ الْآدَمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْجَمَادَاتُ وَسَائِرُ مَا تَحِلُّ فِيهِ رُوحٌ فَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: لَا تُبْعَثُ اتِّفَاقًا، وَقَالَ اللَّقَانِيُّ: وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «بَعْثُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ لِلشَّهَادَةِ لِلْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْآثَامِ» فَلَعَلَّ مَا نَقَلَهُ الْأُجْهُورِيُّ مِنْ نَفْيِ الْبَعْثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُبْعَثُ لِلْجَزَاءِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُبْعَثُ لِلشَّهَادَةِ أَوْ لِلْقِصَاصِ فِيمَا بَيْنَهَا لِمَا رُوِيَ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ: وَيُقَادُ لِلْحَجَرِ الَّذِي رَكِبَهُ حَجَرٌ مِثْلُهُ وَمِنْ الْعُودِ الَّذِي خَدَشَ غَيْرَهُ.
الرَّابِعُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْبَعْثِ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ الْحَيَوَانَاتِ فَقَطْ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ مَنْ شَأْنُهُ التَّكْلِيفُ، بَلْ بَعْدَ تَمَامِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا مَرَّ، يَصِيرُ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمِيُّ تُرَابًا سِوَى عَشْرٌ مِنْهُ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ: بُرَاقُ الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام، وَنَاقَةُ صَالِحٍ، وَكَبْشُ إسْمَاعِيلَ، وَعِجْلُ إبْرَاهِيمَ، وَهُدْهُدُ بِلْقِيسَ، وَنَمْلَةُ سُلَيْمَانَ، وَحِمَارُ الْعُزَيْرِ، وَكَلْبُ الْكَهْفِ، وَحُوتُ ابْنِ مَتَّى، وَبَقَرَةُ مَنْ بَرَّ أُمَّهُ فِي الرَّخَاءِ وَالْمَحَلِّ.
الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ الْبَعْثِ وَبَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «بِأَنَّهُ إذَا صَارَ الْعَظْمُ رَمِيمًا وَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ وَهُوَ آخِرُ سِلْسِلَةِ صُلْبِهِ فَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَطَرٍ يَنْزِلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ يُحْيِي اللَّهُ الْخَلَائِقَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا كَانُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيَجْمَعُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ فِي قَرْنٍ مِنْ نُورٍ فِيهِ ثَقْبٌ عَلَى عَدَدِ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إسْرَافِيلَ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَتُسَمَّى نَفْخَةُ الْبَعْثِ فَتَخْرُجُ كُلَّ رُوحٍ مَزْعُوجَةً مِنْ قَبْرِهَا فَيُحْيِيهِمْ اللَّهُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَامًا، الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي بِهَا اللَّهُ كُلَّ مَيِّتٍ، ثُمَّ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءٌ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يُرَكَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
بِقُدْرَةِ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا» . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: «أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ ثَانِيًا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ مَاءً يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ حَتَّى يَصِيرَ فَوْقَهُمْ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ حَتَّى تَصِيرَ كَمَا كَانَتْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِتَحْيَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَيَحْيَوْنَ، ثُمَّ يَقُولُ: لِيَحْيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ فَيَأْمُرُ اللَّهُ إسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ ثُمَّ يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَيُؤْتِي بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا وَالْأُخْرَى ظُلْمَةً فَيَأْخُذُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَيُلْقِيَهَا فِي الصُّورِ ثُمَّ يَقُولُ لِإِسْرَافِيلَ: اُنْفُخْ نَفْخَةَ الْبَعْثِ فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَمْثَالِ النَّحْلِ قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إلَى جَسَدِهَا فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ فَتَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَشْيِ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ ثُمَّ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ الْأَجْسَادِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رُءُوسِهِمْ كَمَا تَنْشَقُّ عَنْ رَأْسِ الْكَمْأَةِ فَتَطْرَحُهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُجِيبُونَ إجَابَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قِيَامًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحِينَ النَّفْخِ يَكُونُ إسْرَافِيلُ وَاقِفًا عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَنْفُخُ وَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَالْأَشْعَارُ الْمُتَمَعِّطَةُ أَيْ السَّاقِطَةُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَجْتَمِعِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ انْفِلَاقِ الْأَرْضِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ يَقُولُ الْكَافِرُ:{يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] وَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] » .
السَّادِسُ: أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَلَيْهِ الْأَرْضُ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ وَأَوَّلُ وَارِدٍ الْمَحْشَرَ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَمَرَاتِبُ النَّاسِ فِي الْحَشْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لِتَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ، فَمِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي عَلَى وَجْهِهِ، وَصِفَةُ كُلِّ إنْسَانٍ فِي الْمَوْقِفِ كَصِفَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا كَمَا أَجَابَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ حِين سُئِلَ عَنْ طُولِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ يُحْشَرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَكُونُونَ عِنْدَ دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ عَلَى طُولٍ وَاحِدٍ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ «إنَّهُمْ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ «وَفِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ. ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً» .
(وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَخُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ دُونَ غَيْرِهَا (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى (ضَاعَفَ) أَيْ كَثَّرَ إذْ التَّضْعِيفُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ أَوْ أَمْثَلِهِ (لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الْمُكَلَّفِ بِالْفِعْلِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ كَتْبُ حَسَنَاتِ الصَّبِيِّ بِدَلِيلِ «أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تُضَاعَفُ لَهُمْ حَسَنَاتٌ بَلْ اُخْتُلِفَ هَلْ يُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَاتٌ أَمْ لَا؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقِيلَ: يُجَازَوْنَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ بِالْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ. وَقِيلَ: يُجَازَوْنَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ الْعِقَابُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ بِجِنَايَتِهِمْ غَيْرِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفْرِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا يُفَتَّرُ وَلَا يُغْفَرُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ثَوَابِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ هَلْ يُجَازَى عَلَيْهَا مُضَاعَفَةً أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ الْأَوَّلُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ شُمُولُهُ لِلْعُصَاةِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ الْكَافِرُ وَمَفْعُولُ ضَاعَفَ (الْحَسَنَاتِ) جَمْعُ حَسَنَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحُسْنِ وَجْهِ صَاحِبِهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهَا، وَالسَّيِّئَةُ كُلُّ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا.
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزَاءُ الْحَسَنَاتِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُضَاعَفُ وَمَفْهُوم الْحَسَنَاتِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ بَلْ جَزَاؤُهَا بِالْمِثْلِ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
فَالسَّيِّئَاتُ عِنْدَهُ بِالْمِثْلِ
…
وَالْحَسَنَاتُ ضُوعِفَتْ بِالْفَضْلِ
كَمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَجَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، فَمِنْ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] .
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] .
وَمِنْ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» .
وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ خَمْسِينَ صَلَاةً فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَمُوسَى حَتَّى وَقَفَ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ فَسَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عز وجل: يَا مُحَمَّدُ إنِّي يَوْمَ خَلَقْت السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَرَضْت عَلَيْك وَعَلَى أُمَّتِك خَمْسِينَ صَلَاةً وَلَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ هِيَ خَمْسٌ بِخَمْسِينَ فَقُمْ بِهَا أَنْتَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَأُمَّتُك إنِّي قَدْ أَمْضَيْت فَرِيضَتِي وَخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي وَأَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرُ صَلَوَاتٍ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ: «إنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ إلَى أَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ وَقِلَّتَهَا بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: التَّضْعِيفُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَسَنَاتِ الْمَفْعُولَةِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ. فَلَوْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لِمَانِعٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ وَجُوزِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ كَمَا لَا يَكُونُ إلَّا الْإِجْزَاءِ عِبَادَةٍ تَمَّتْ، فَلَا تَضْعِيفَ لِتَسْبِيحٍ وَخُشُوعٍ وَتَكْبِيرٍ وَقِرَاءَةٍ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةٍ قَطَعَهَا الْمُصَلِّي كَمَا حَكَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي قَطْعِهَا، وَبِقَوْلِنَا: الْمَفْعُولَةُ خَرَجَتْ الْمَأْخُوذَةُ فِي نَظِيرِ الظُّلَامَةِ فَلَا تُضَاعَفُ بَلْ لَهُ ثَوَابُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ كَالْحَسَنَاتِ الْفَرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لِلْأَصْلِيَّةِ الْمَقْبُولَةِ لِذَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام: 160] وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْإِثَابَةَ مَعَ التَّضْعِيفِ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْقَبُولِ.
الثَّانِي: أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْمُضَاعَفَةِ عَشْرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَهُ إحْدَى عَشْرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ لَهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ بِخَمْسِينَ صَلَاةً، وَقَدْ تَكُونُ الْمُضَاعَفَةُ بِخَمْسِينَ لِخَبَرٍ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِإِعْرَابِهِ. وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ فَاعْتَبَرَ بِهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، لَا أَقُولُ أَلَمْ حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْمُرَادُ بِإِعْرَابِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ اللَّحْنِ لَا تُعَدُّ قِرَاءَةً وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهَا.
وَرُوِيَ «مَنْ قَرَأَهُ بِوُضُوءٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ قَرَأَهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ» ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الِاعْتِبَارِ كَالْقِرَاءَةِ عَلَى وُضُوءٍ، فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مِمَّا لَهُ الثَّوَابُ مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ فِي الْمُضَاعَفَةِ، الصَّائِمُ احْتِسَابًا وَالصَّابِرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَعَلَى طَاعَتِهِ وَعَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ.
الثَّالِثُ: الْحِكْمَةُ فِي تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْعَبْدُ مُفْلِسًا إذَا اجْتَمَعَ مَعَ خُصَمَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُدْفَعُ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَتَبْقَى لَهُ تِسْعَةٌ، فَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تُوَفَّى مِنْ أُصُولِ حَسَنَاتِهِ وَلَا تُوَفَّى مِنْ التَّضْعِيفَاتِ؛ لِأَنَّهَا فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْعِبَادُ بَلْ يَدَّخِرُهَا إذَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ أَثَابَهُ بِهَا.
وَمِثْلَهُ حَدِيثُ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ، بَلْ إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّوْمُ يَتَحَمَّلُ اللَّهُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، وَمِمَّا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ كَثَوَابِ الصَّوْمِ مَا فِي عِدَّةِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ:«كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ لِلرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَنْ قَالَهَا مَعَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ كُتِبَتْ لَهُ كَمَا قَالَهَا ثُمَّ عُلِّقَتْ بِالْعَرْشِ لَا يَمْحُوهَا ذَنْبٌ عَمِلَهُ صَاحِبُهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَخْتُومَةً كَمَا قَالَهَا» ، الرَّابِعُ: الثَّوَابُ الْمُجَازَى بِهِ عَلَى الْحَسَنَةِ يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَفَ أَفْرَادُهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ثُمَّ تُضَاعَفُ كُلُّ حَسَنَةٍ مِنْ الْمِائَةِ بِعَشْرٍ» وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا قَالَهُ الْحَطَّابُ: إنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ حَسَنَةً، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبِمِائَتِي أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيْسَتْ لَهُ غَايَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ.
(وَ) مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ سبحانه وتعالى (صَفَحَ) أَيْ عَفَا عَلَى جِهَةِ التَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ (لَهُمْ) أَيْ عَنْهُمْ أَيْ جَمِيعِ عِبَادِهِ وَلَوْ كُفَّارًا، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (بِالتَّوْبَةِ) وَهِيَ لُغَةً الرُّجُوعُ مِنْ تَابَ يَتُوبُ إذَا رَجَعَ يُسْتَعْمَلُ فِعْلَهَا بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَبِالْمُثَلَّثَةِ وَبِالنُّونِ وَبِالْهَمْزِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيُقَالُ: تَابَ وَثَابَ وَنَابَ وَأَنَابَ وَآبَ إذَا رَجَعَ وَيُسْنَدُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْعَبْدِ.
قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. فَإِذَا أُسْنِدَ إلَى الْعَبْدِ أُرِيدَ بِهِ رُجُوعُهُ عَنْ الزَّلَّةِ إلَى النَّدَمِ، وَإِذَا أُسْنِدَ إلَى اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ رُجُوعُ لُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَحَقِيقَتُهَا اصْطِلَاحًا وَشَرْعًا النَّدَمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ مَعَ عَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا إذَا قَدَرَ، فَمَنْ نَدِمَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّدَاعِ أَوْ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَقَوْلُنَا مَعَ عَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّادِمَ عَلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ:«النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَقَوْلُنَا إذَا قَدَرَ لِأَنَّ مَنْ سُلِبَ الْقُدْرَةَ عَلَى الزِّنَا مَثَلًا وَانْقَطَعَ طَمَعُهُ مِنْ عَوْدِ الْقُدْرَةِ إلَيْهِ فَيَكْفِي فِي تَوْبَتِهِ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ، وَأَمَّا النَّدَمُ لِخَوْفِ النَّارِ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي الْجَنَّةِ فَهَلْ يَكُونُ تَوْبَةً فِيهِ تَرَدُّدٌ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَدَمًا عَلَيْهَا لِقُبْحِهَا مَعَ غَرَضٍ آخَرَ، وَالْحَقُّ أَنَّ جِهَةَ الْقُبْحِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَتْ لَتَحَقَّقَ النَّدَمِ فَتَوْبَةٌ وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ تَوْبَةً، كَمَا إذَا كَانَ الْغَرَضُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَبُولُهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ. وَحَقِيقَةُ النَّدَمِ تَحَزُّنٌ وَتَوَجُّعٌ عَلَى الْفِعْلِ وَتَمَّنِي كَوْنَهُ لَمْ يَقَعْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّوْبَةُ مَا اسْتَجْمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ: أَنْ يُقْلِعَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا وَأَنْ يَعْزِمَ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهَا أَبَدًا
، فَإِنْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِآدَمِيٍّ فَلَهَا شَرْطٌ رَابِعٌ وَهُوَ رَدُّ الْمَظَالِمِ إلَى أَهْلِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَأَصْلُهَا النَّدَمُ وَهُوَ رُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، وَإِذَا لَمْ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَصَحَّحَ الْإِمَامُ تَوْبَتَهُ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ إنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إلَى أَهْلِهَا، فَإِنْ عَجَزَ لِفَقْدِهِ أَوْ لِغَيْبَةِ صَاحِبِهَا أَوْ مَوْتِهِ يَبْرَأُ بِتَصَدُّقِهِ بِهِ عَنْهُ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ عَنْهُ خَصْمَهُ، وَمِنْ الْقَتْلِ بِتَمْكِينِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْقِصَاصِ.
وَفِي الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّبْدِيعِ بِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ إنْ لَمْ يَخْشَ فِتْنَةً، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُشْتَرَطُ، وَعَنْ الْإِسْنَوِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَكَذَلِكَ السَّنُوسِيُّ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: التَّوْبَةُ مِنْ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَغْصُوبِ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِاسْتِهْلَاكِهِ فَرَدُّ عِوَضِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الْغَصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ لِتَوْبَةٍ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي نَسَبَهُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ قَدْ ذَهَبَتْ وَتَعَلَّقَتْ بِالذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَعَ بَقَائِهَا فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّهَا، وَيُرَجِّحُ هَذَا مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ مِنْ تَقْرِيرِهِ إلَّا فِي شَرْحِهِ.
وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَظَالِمِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَابَ مِنْهَا مِنْ الْمَظَالِمِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا يَأْتِي عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ وَهُوَ مَا إذَا تَابَ الْغَاصِبُ مِنْ الْغَصْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَرُدَّ الْأَعْيَانَ مَعَ قِيَامِهَا لَمْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِهَا.
قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: ثُمَّ الْمَعْصِيَةُ الَّذِي يَتُوبُ مِنْهَا إنْ كَانَتْ فِي خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ يَكْفِي النَّدَمُ كَمَا فِي ارْتِكَابِ الْفِرَارِ عِنْدَ الزَّحْفِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ كَتَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الشُّرْبِ وَتَسْلِيمِ مَا وَجَبَ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لَزِمَ مَعَ النَّدَمِ رِضَا الْعَبْدُ أَوْ بَذْلُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ الذَّنْبُ ظُلْمًا كَمَا فِي الْغَصْبِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَزِمَ إرْشَادُهُ إنْ كَانَ الذَّنْبُ إضْلَالًا لَهُ وَاعْتِذَارُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ إيذَاءً كَمَا فِي الْغِيبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْصِيلُ مَا اغْتَابَهُ بِهِ إلَّا إذَا بَلَغَهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ وَاجِبٌ آخَرُ عَنْ التَّوْبَةِ لِقَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ الْقَاتِلَ إذَا نَدِمَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ مَعْصِيَةً مُتَجَدِّدَةً تَسْتَدْعِي تَوْبَةً وَلَا تَقْدَحُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْقَتْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَوْبَةِ الْغَاصِبِ مِنْ غَصْبِهِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّدَمُ عَلَيْهِ مَعَ إدَامَةِ الْيَدِ عَلَى الْمَغْصُوبِ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ، قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ صَغِيرَةً، فَمَنْ أَخَّرَهَا عَصَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَتَانِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ الْكَافِرِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] .
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» أَيْ يَقْطَعُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الْإِيمَانِ النَّدَمُ عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ أَوَّلًا وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ مَمْحُوٌّ بِإِيمَانِهِ وَإِقْلَاعِهِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي فَقِيلَ تُقْبَلُ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى قَبُولِهَا شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] .
الثَّانِي: إذَا أَذْنَبَ التَّائِبُ هَلْ تَعُودُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ أَمْ لَا؟ الصَّحِيحُ لَا تَعُودُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ عَادَ بِمَجْلِسِ التَّوْبَةِ وَلَكِنْ يُجَدِّدُ تَوْبَةً لِمَا اقْتَرَفَ، وَإِذَا تَابَ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضِهَا فَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إيمَانِ الْكَافِرِ مَعَ إدَامَتِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ أَوْ الزِّنَا.
الثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَعْيِينُ الذَّنْبِ إذَا تَابَ مِنْ الْبَعْضِ، وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الذُّنُوبِ إجْمَالًا وَلَوْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ خِلَافًا لِبَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَعْيِينِ مَا اغْتَابَهُ بِهِ إذَا بَلَغَهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ مِنْهُ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْمَالِكِيَّةِ بَلْ عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ التَّفْصِيلُ مَعَ الْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ وَلَا التَّعَازِيرَ إلَّا حَدَّ الْحِرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدُّهَا، وَيُسْتَحَبُّ التَّفْصِيلُ لِلْمُغْتَابِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْلِيلُ حَرَامٍ بَلْ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُبْرِئِ.
الرَّابِعُ: إذَا اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ هَلْ يَكُونُ الْقِصَاصُ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةً أَوْ لَا بُدَّ
السَّيِّئَاتِ وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ صَائِرًا إلَى مَشِيئَتِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
مَعَهُ مِنْ التَّوْبَةِ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ الْمَحْدُودُ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقِصَاصَ كَفَّارَةٌ وَمُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: السَّاقِطُ حَقُّ الْوَلِيِّ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ بَاقٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ حَقُّهُ وَصَلَ إلَيْهِ، وَأَيُّ حَقٍّ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ:«السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا» وَفِي آخَرَ: «لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إلَّا مَحَاهُ وَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ» .
الْخَامِسُ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ إنَّ مِنْ يَوْمِ الطُّلُوعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ:«فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحْمَلِ النِّزَاعِ.
قَالَهُ الْحَافِظُ، وَبَحْثُ الْقُرْطُبِيِّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْغَرْغَرَةِ فِي الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَلَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَقَوْلُنَا فِي الْكَافِرِ إلَّا لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لِجُنُونٍ أَوْ صِبًا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْ لَهُمْ قَوْلَهُ:(عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ) لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَيْهَا وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ وَالْأَصْلُ عَنْ السَّيِّئَاتِ الْكَبَائِرُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَالْحَقُّ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّوْبَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا أَنْ يَصْفَحَ عَنْهَا وَيُكَفِّرَهَا عَنْ عَبْدِهِ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ، وَإِذَا كَانَ يَصْفَحُ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ فَصَغَائِرُهَا بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مُكَفِّرَاتِهَا كَثِيرَةٌ وَلِذَا قَالَ:(وَغَفَرَ) سبحانه وتعالى (لَهُمْ) الذُّنُوبَ (الصَّغَائِرَ) أَيْ سَتَرَهَا وَأَخْفَاهَا عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَتَرَكَ مُؤَاخَذَةَ فَاعِلِهَا (بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أَيْ الصَّغَائِرَ، وَالْمُرَادُ بِاجْتِنَابِهَا مَا تَشْمَلُ التَّوْبَةَ مِنْهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا لَا مَا يَخُصُّ عَدَمَ مُقَارَفَتِهَا أَصْلًا، وَأَمَّا اجْتِنَابُهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَا تُغْفَرُ بِهِ الصَّغَائِرُ، فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْمُصَنِّفِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّغَائِرُ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا أَمْ لَا، فَمَنْ قَبَّلَ فَمًا مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَتَجَنَّبَ شُرْبَ الْخَمْرِ مَثَلًا غُفِرَتْ قُبْلَتُهُ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ كَوْنَ الصَّغَائِرِ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا تُغْفَرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ بِنَحْوِ الصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَبِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تُجْتَنَبْ الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفَّرُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا الصَّغَائِرُ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ الْمَفْعُولَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَا تُكَفِّرُ الْمَذْكُورَاتُ شَيْئًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِمَا ذُكِرَ حَيْثُ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ أَمْ لَا، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ تَكْفِيرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلصَّغَائِرِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ لَمْ تُكَفِّرْ شَيْئًا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ عَلِمْت تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ كَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ فَضْلُ اللَّهِ لَا الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَعَ الْكَبَائِرِ لَا يُكَفَّرُ شَيْءٌ كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ رحمه الله هَكَذَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ، وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» . وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ حُصُولُ الْمَصَائِبِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ:«مَا مِنْ مُسْلِمٌ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ وَصَبٌّ وَلَا نَصَبٌ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» . فَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْفِيرِ الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَمَا ثَقُلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مَشَقَّتُهُ، وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَزِيَادَةُ حَسَنَاتٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَمُقَابِلُهُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ وَلَا يَحْصُلُ بِهَا رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَلَا كِتَابَةُ حَسَنَاتٍ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمَذْكُورَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ عَامٌّ فِيمَنْ صَبَرَ عَلَيْهَا وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ، لَكِنَّ الصَّابِرَ يَجْتَمِعُ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ، وَغَيْرَ الصَّابِرِ وَهُوَ الْمُتَسَخِّطُ الَّذِي لَمْ يَرْضَ بِالْقَضَاءِ قَدْ يَعُودُ عَلَيْهِ الَّذِي كُفِّرَ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ الْمَرَضِ، وَبِمَا قَرَّرْنَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَلِكُلِّ مُصَابٍ بِنَحْوِ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَك كَفَّارَةً لِجَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا عَلِمْت السَّلَامَةَ مِنْهُ، وَأَيْضًا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدَّاعِي أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الْمُصَابِ مَا يُخِلُّ بِثَوَابِ الْمُصِيبَةِ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَاصُ مِنْ عُهْدَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالثَّوَابُ بِخِلَافِ التَّرْكِ الْمُجَرَّدِ عَنْ قَصْدِ الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ عُهْدَةِ الْكَبِيرَةِ فَقَطْ دُونَ ثَوَابِ الِامْتِثَالِ، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ بِالِاجْتِنَابِ قَصْدَ الِامْتِثَالِ.
الثَّانِي: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ كُلُّهَا كَبَائِرُ وَمَا سُمِّيَ مِنْهَا صَغِيرًا فَبِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
ثُمَّ الذُّنُوبُ عِنْدَنَا قِسْمَانِ
…
صَغِيرَةٌ كَبِيرَةٌ فَالثَّانِي
مِنْهُ الْمَتَابُ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ
…
وَلَا انْتِقَاضَ إنْ يَعُدْ لِلْحَالِ.
1 -
وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ، وَالْحَقُّ عَدَمُ حَصْرِ الْكَبَائِرِ فِي عَدَدٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّمْعِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَمَيْلِ النَّفْسِ إلَيْهَا وَارْتِكَابِ الْمُكَلَّفِ لَهَا، وَكَمَا أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ حَصْرِهَا بِالْعَدِّ فَالصَّحِيحُ عَدَمُ ضَبْطِهَا بِالْحَدِّ بَلْ يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى نَصِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى أَعْيَانِهَا لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُمْتَنِعًا مِنْ جَمِيعِهَا مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَرْغِيبًا لَهُ فِي انْتِظَارِهَا وَسَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ وَالْوَلِيَّ مِنْ النَّاسِ لِلْحِرْصِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَبِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَعَلَى الِاعْتِقَادِ فِي كُلِّ النَّاسِ.
الثَّالِثُ: أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ الْكُفْرُ وَيَلِيه قَتْلُ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَقِيلَ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ كُفْرِهِ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ بِحَسَبِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْكَيْلِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً وَكَذَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَقْدِيمُهَا مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، وَكَضَرْبِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَسَبِّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكِيَّتِهِ مِثْلُ الْخَضِرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَقَبُولِ الرِّشْوَةِ. وَالصَّغِيرَةُ أَفْرَادُهَا كَثِيرَةٌ وَلْنُنَبِّهْ مِنْهَا عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرَةً، كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَلَوْ بَهِيمَةً وَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا إفْسَادُ بَدَنٍ وَلَا مَالٍ وَلَا ضَرُورَةَ وَهَجْرِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ تَعْرِيضًا وَهَجْرِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالنَّوْحِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ وَالنَّجْشِ وَالِاحْتِكَارِ الْمُضِرِّ وَبَيْعِ مَا عَلِمَهُ مَعِيبًا كَاتِمًا عَيْبَهُ وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ.
وَالصَّغِيرَةُ تَنْقَلِبُ كَبِيرَةً بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا وَالْفَرَحِ بِهَا وَصُدُورِهَا مِنْ عَالِمٍ فَيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ.
الرَّابِعُ: غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِالِاجْتِنَابِ الْمَذْكُورِ قَطْعِيٌّ وَقِيلَ ظَنِّيٌّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَعَلَى الثَّانِي أَئِمَّةُ الْكَلَامِ وَلِكُلٍّ دَلِيلٌ، وَيَحْصُلُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ وَلَوْ بِاجْتِنَابِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الظَّاهِرِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَرُبَّمَا يُعَارِضُهُ تَفْسِيرُ الِاجْتِنَابِ بِأَنَّهُ عَدَمُ مُفَارَقَةِ الْكَبِيرَةِ أَوْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهَا إنْ صَدَرَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَتَابَ مِنْهَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ إنْ ارْتَكَبَ أُخْرَى وَلَمْ يَتُبْ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ عَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَلَوْ وَاحِدَةً وَحَرَّرَهُ.
الْخَامِسُ: نَشَأَ سُؤَالٌ مِمَّا قَدَّمْنَا وَمِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُحَصِّلُهُ: إذَا كَانَتْ الصَّغَائِرُ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالْكَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ فَمَاذَا يُكَفِّرُهُ نَحْوُ الْوُضُوءِ؟ وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ الذُّنُوبَ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كَالْأَدْوِيَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدْوِيَةِ لَا يَنْفَعُ فِي غَيْرِهِ كَذَلِكَ الْمُكَفِّرَاتُ مَعَ الذُّنُوبِ وَتَوْزِيعُ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثُ:«إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لَا يُكَفِّرُهَا صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا جِهَادٌ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا السَّعْيُ عَلَى الْعِيَالِ» وَأَمَّا مَنْ لَا صَغَائِرَ لَهُ وَلَا كَبَائِرَ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهَا رَفْعُ دَرَجَاتٍ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ مَحْضُ كَبَائِرَ وَفَعَلَ بَعْضَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: فَتَنْشَطِرُ كَبَائِرُهُ، وَبَحَثَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَائِلًا: لَا بُدَّ لِكَبَائِرِهِ مِنْ التَّوْبَةِ إلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَفْوِ، وَالْقَوْلُ بِالتَّشْطِيرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ.
1 -
السَّادِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَهَذَا مَعَ بَقَاءِ ثَوَابِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ التَّائِبَ عَنْ كَبَائِرِهِ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ الْمُجْتَنِبَ لِلْكَبَائِرِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى صَغَائِرِهِ ذَكَرَ حُكْمَ مَنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ غَيْرَ الْمُكَفَّرَةِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَتُعْرَفُ مَسْأَلَتُهُ بِمَسْأَلَةِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فَقَالَ:(وَجَعَلَ) سبحانه وتعالى (مَنْ لَمْ يَتُبْ) مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ الْكَبَائِرِ صَائِرًا) أَيْ رَاجِعًا (إلَى مَشِيئَتِهِ)
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] .
وَمَنْ عَاقَبَهُ بِنَارِهِ: أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]
ــ
[الفواكه الدواني]
أَيْ إرَادَتِهِ سبحانه وتعالى، فَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِعَفْوٍ وَلَا عِقَابٍ بَلْ هُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عُقُوبَتِهِ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَمَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ
…
فَأَمْرُهُ مُفَوَّضٌ لِرَبِّهِ
خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ لِظَاهِرِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَخِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ، وَخِلَافًا لِلْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي النَّارِ وَلَا إيمَانَ لَهُ، وَأُجِيبَ عَمَّا تَمَسَّك بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْإِقَامَةِ لَا الدَّوَامُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ} [النساء: 48] أَيْ لَا يَسْتُرُ الْإِشْرَاكَ (بِهِ) ؛ لِأَنَّهُ بَتَّ الْحُكْمَ عَلَى خُلُودِ عَذَابِ الْكُفْرِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ. (وَيَغْفِرُ) كَرَمًا وَفَضْلًا (مَا دُونَ ذَلِكَ) أَيْ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَوْ الْكَبَائِرِ (لِمَنْ يَشَاءُ) وَمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَقَرَارُهُ الْجَنَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إلَّا الْكُفَّارُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعْ لَهُ بِالْعَفْوِ لِئَلَّا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَلَا بِالْعُقُوبَةِ لِقَوْلِهِ:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] لَكِنْ يَجِبُ اعْتِقَادُ تَعْذِيبِهِ بَعْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ تَنْفِيذًا لِلْوَعِيدِ لِوُجُوبِ صِدْقِ إيعَادِهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي تَعَوُّذُهُ وَلَوْ فِي وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الزِّنَا وَوَاحِدٍ مِنْ الْمُحَارِبِينَ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ إخْرَاجِهِ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَوَاجِبٌ تَعْذِيبُ بَعْضٍ ارْتَكَبَ
…
كَبِيرَةً ثُمَّ الْخُلُودُ مُجْتَنَبْ
فَالْآيَةُ مُفِيدَةٌ لِأَمْرَيْنِ: كَوْنِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالثَّانِي: عَدَمِ غُفْرَانِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى الْغُفْرَانِ تَخَلُّفُ الْوَعِيدِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْعَدَ الْعَاصِيَ بِالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بَعْدَ الْإِيعَادِ بِالْعُقُوبَةِ مَحْضُ كَرْمٍ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ بِهِ الطَّائِعَ مِنْ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنَزُّهُ الْبَارِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بُخْلٌ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ تُكَفَّرْ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ كَالْحَدِّ وَالْحَجِّ الْمَبْرُورِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْحَدِّ أَنَّهُ جَابِرٌ وَالْحَجُّ مُكَفِّرٌ حَتَّى الْكَبَائِرَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَارَ بِلَا ذَنْبٍ، وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي غَفْرِ الْكَبَائِرِ سِوَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ زِنًا وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَا يُسْقِطُهَا حَجٌّ وَلَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إنَّمَا تُسْقِطُ إثْمَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَعَلَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مُكَفِّرٌ لَهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْحُدُودَ جَوَابِرُ وَلَا الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِإِهْمَالِ هَذَا الْقَيْدِ، الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ صَغَائِرَ وَمَاتَ قَبْلَ تَكْفِيرِهَا بِتَوْبَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لَيْسَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، إذْ نَقَلَ الشَّاذِلِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْكَافِرَ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعٍ وَكَذَا الْمُسْتَحِلَّ لِلْمَعَاصِي.
وَالْمُؤْمِنَ الطَّائِعَ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَالْعَاصِيَ بِالصَّغَائِرِ يُسْأَلُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْعَاصِيَ بِالْكَبَائِرِ التَّائِبَ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَغَيْرَ التَّائِبِ فِي الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّالِثُ: جَرَى خِلَافٌ فِيمَنْ مَاتَ زَمَنَ الْفَتْرَةِ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ أَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا وَدَامَ عَلَى جُنُونِهِ وَكَذَا أَوْلَادُ الْكُفَّارِ فَقِيلَ الْجَمِيعُ فِي الْمَشِيئَةِ، بِخِلَافِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَفِي الْجَنَّةِ اتِّفَاقًا، وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ هُمْ الْأُمَمُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ الْأَوَّلُ وَلَا أَدْرَكَهُمْ الثَّانِي يَشْمَلُ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْعَقْلِ دَخَلَ فِي شَرِيعَةٍ كَوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَمْ لَا كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِي وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِمَّنْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ أَصْحَابَهُ نَاجُونَ عَلَى الصَّحِيحِ وَمُثَابُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَثَانِي الْأَقْسَامِ: مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ وَلَمْ يُوَحِّدْ وَشَرَّعَ أَحْكَامًا، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ سَنَّ لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ وَبَحَّرَ الْبَحَائِرَ وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَثَالِثُ الْأَقْسَامِ: مَنْ لَمْ يُشْرِكْ وَلَمْ يُوَحِّدْ وَلَا دَخَلَ فِي شَرِيعَةٍ بَلْ فَنِيَ عُمْرُهُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمُهُمْ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ وَلَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ.
وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَرَّحَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ أَبَوَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَاتَا عَلَى الْكُفْرِ هُوَ مَبْنِيٌّ
وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَفَعَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ.
، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ
ــ
[الفواكه الدواني]
عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعَقْلِ، نَعَمْ إنْ وَرَدَ نَصٌّ صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمَا وَآمَنَا بِهِ صلى الله عليه وسلم وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّ أَبَا إبْرَاهِيمَ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ عَمَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ نَاجُونَ فَيَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ أَبَوَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاجِيَانِ وَلَيْسَا فِي النَّارِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَدُخُولُ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ بِعَمَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالنَّارُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يُتَصَوَّرْ عِصْيَانُهُ، وَأَيْضًا أَطْبَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَشَاعِرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ يَمُوتُ نَاجِيًا لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنْ شَاءَ عُقُوبَتَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ قَالَ: (وَمَنْ عَاقَبَهُ) سبحانه وتعالى (بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَدْخَلَ الْمُؤْمِنَ النَّارَ لِعِصْيَانِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا بِسَبَبِ إيمَانِهِ وَيَجْعَلَ قَرَارَهُ الْجَنَّةَ، وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُحْرِقٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ لَا بِقُوَّةٍ وَلَا بِطَبِيعَةٍ.
وَإِضَافَتُهَا إلَى الضَّمِيرِ مِنْ إضَافَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ، وَخَصَّ الْعِقَابَ بِهَا وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عِقَابُهُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعِقَابَ بِهَا أَعْظَمُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِقَابَ أَهْلِ النَّارِ مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ لَحْظَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَاعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَهُوَ آخِرُ مَنْ يَبْقَى فِي النَّارِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هَنَّادٌ وَقِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ الْبُسْتَانُ.
وَفِي الشَّرْعِ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَيُقَالُ لَهَا الدَّارُ الْآخِرَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» . فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: السَّبَبُ إيمَانُهُ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ نَقُولَ: الْإِيمَانُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَمَلٍ إلَّا عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ، وَالْغَالِبُ إطْلَاقُهُ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْبَاءَ فِي إيمَانِهِ لِلْبَدَلِ أَيْ بَدَلَ إيمَانِهِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ كَوْنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ عليه الصلاة والسلام:«لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» وَهَذَا نَحْوُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْمَعْنَى عَنْ مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِي وَقْفَةٌ فِي هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَعْنَاهُ الْعِوَضُ وَهُوَ مُنَافٍ لِكَوْنِ الدُّخُولِ بِمَحْضِ الْفَضْلِ فَلَعَلَّ الصَّوَابَ جَعْلُ الْبَاءِ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عَاقَبَهُ بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مَنْ عَامٌّ فَلَمَّا زَادَ لَفْظَ بِإِيمَانِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْ النَّارِ إنَّمَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَيَدْخُلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كُلُّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَحَلِّهِمَا وَأَنْوَاعِهِمَا، الثَّانِي: الضَّمَائِرُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي عَاقَبَ وَأَخْرَجَ وَأَدْخَلَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الضَّمَائِرُ الْمَنْصُوبَةُ وَالْمَجْرُورَةُ بِإِيمَانٍ فَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَى مَنْ؛ لِأَنَّ لَفْظَهَا مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ وَمَعْنَاهَا مُخْتَلِفٌ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّارِ بِقَوْلِهِ:(وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ وَشَرْطُهَا (يَعْمَلْ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَلْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَارِحِ (مِثْقَالَ) أَيْ زِنَةَ (ذَرَّةٍ خَيْرًا) أَيْ مِنْ خَيْرٍ فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا، وَالشَّرُّ عَكْسُهُ وَجَوَابُ الشَّرْطِ (يَرَهُ) أَيْ يَرَ جَزَاءَهُ وَالْإِيمَانُ عَمَلُ خَيْرٍ وَعَدَ اللَّهُ بِجَزَائِهِ وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا بُدَّ مِنْ إنْجَازِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَزَاءَ الْخَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ لِمَنْ دَخَلَهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَى جَزَاءُ الْخَيْرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَيَّدْنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُتَصَوَّرُ خُرُوجُهُ مِنْ النَّارِ بَلْ وَلَا دُخُولُهُ جَنَّةً، وَمَا عَمِلَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ فَقِيلَ يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالتَّنْعِيمِ وَمُعَافَاةِ الْبَدَنِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ، وَقِيلَ فِي دَارِ الْعَذَابِ بِتَخْفِيفِ عَذَابِ غَيْرِ الْكُفْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِدَلِيلِ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الْآيَةُ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَمُخَاطَبُونَ بِهِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: لَا يُجَازَى مِنْهُمْ فِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْآخِرَةِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ إلَّا جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ جَاءَ فِيهَا النَّصُّ مِنْهُمْ حَاتِمُ الطَّائِيُّ لِكَرْمِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ «لَمَّا أَسْلَمَ وَلَدُهُ عَدِيٌّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ عَنْ أَبِيك الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ سَخَائِهِ» .
وَمِنْهُمْ أَبُو لَهَبٍ لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَتْهُ أَمَتُهُ ثُوَيْبَةُ بِوِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْتَقَهَا. وَمِنْهُمْ «أَبُو طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا ابْنَ أَخِي إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَعُولُك وَيَكْفِيك أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إنِّي وَجَدْته فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي أَسْفَلِ الدِّرْكَاتِ مِنْ النَّارِ» ، وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَغَيْرَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّخْفِيفَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ إنَّمَا هُوَ بِالشَّفَاعَةِ، وَلَعَلَّ التَّخْفِيفَ الْحَاصِلَ لِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الْعَذَابِ بِجِنَايَتِهِمْ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا سِوَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْكُفْرِ فَلَا يُخَفَّفُ وَلَا يُفَتَّرُ وَلَا يُغْفَرُ كَمَا قَدَّمْنَا.
الثَّانِي: جَعَلْنَا صِلَةَ يَعْمَلُ بِقَلْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَشْمَلَ عَمَلَ الْقَلْبِ الْهَمَّ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً. وَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ» ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ النَّفْسِ عَلَى قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ: الْهَاجِسُ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا وَالْخَاطِرُ وَهُوَ مَا يَجْرِي فِيهَا، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ يَتْرُكُ، وَالْهَمُّ وَهُوَ أَنْ يَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَصْدُ الْفِعْلِ، وَالْعَزْمُ وَهُوَ قُوَّةُ الْقَصْدِ وَالْجَزْمُ بِهِ، فَالْهَاجِسُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ قَهْرًا عَلَيْهِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الْخَاطِرِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِمَا لِحَدِيثٍ:«إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» وَإِذَا تَجَاوَزَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ فَمَا قَبْلَهُ أَوْلَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ مَرْفُوعَةٌ إلَى جَانِبِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا أَجْرَ فِيهَا فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَأَمَّا الْهَمُّ فَتَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَسَنَةُ مِنْ السَّيِّئَةِ، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ بِالْحَسَنَةِ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ وَبِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ فِي التَّرْكِ إنْ كَانَ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ بِالْهَمِّ.
وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ لَكِنْ تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ مُطْلَقَةٌ حَيْثُ تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ، وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي عَزَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يُعْتَبَرُ الْعَزْمُ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِالْأَوْلَى، وَيَظْهَرُ لِي عَلَى مُقْتَضَى كَرَمِهِ تَعَالَى فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ الْحَسَنَةِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهَا لَا حَسَنَةً مُطْلَقَةً وَحَرَّرَهُ، الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْهَمِّ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا لَوْ انْضَمَّ لَهُمَا فِعْلٌ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْهَمِّ وَالْعَمَلِ وَلَا تُفْهَمُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْعَمَلِ فَقَطْ اهـ.
وَأَقُولُ: الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فَقَطْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] .
وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، وَهَلْ يُوجَدُ عَمَلٌ بِلَا تَقَدُّمِ هَمٍّ؟ وَيَلْزَمُ عَلَى كَلَامِهِ أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْعَزْمِ وَبِالْعَمَلِ وَلَا تَظُنُّ صِحَّةَ هَذَا، وَمُقَدَّمَاتُ الزِّنَا تُدْرَجُ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَالْأَطْرَافُ تُدْرَجُ فِي الْقَتْلِ وَحَرَّرَهُ.
الرَّابِعُ: الْمُصَنِّفُ لَمْ يَقْصِدْ لَفْظَ التِّلَاوَةِ وَإِلَّا لَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ بِالْفَاءِ وَلَا قَصَدَ رِوَايَةَ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِعَدَمِ جَوَازِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يُحَاكِ كُلَّ مَا فِي التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ التَّدْلِيلِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ يُغْتَفَرُ فِي الِاقْتِبَاسِ كَمَا هُنَا، وَالذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ أَدَقُّ الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ مِنْ الْعُصَاةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةِ أَحَدٍ، ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِشَفَاعَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَاطِفًا عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ:(وَيُخْرِجُ) أَيْضًا سبحانه وتعالى (مِنْهَا) أَيْ مِنْ النَّارِ (بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) وَمَفْعُولُ يَخْرُجُ (مَنْ شَفِعَ) عليه الصلاة والسلام (لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ) الْكَائِنِ (مِنْ أَمَتِهِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيَّنَا عليه الصلاة والسلام يَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ فَيَقْبَلُ اللَّهُ شَفَاعَتَهُ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَوَاجِبٌ شَفَاعَةُ الْمُشَفَّعِ
…
مُحَمَّدٌ مُقَدَّمًا لَا تُمْنَعْ
وَغَيْرُهُ مِنْ مُرْتَضَى الْأَخْيَارِ
…
يَشْفَعُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ
وَحَقِيقَةُ الشَّفَاعَةِ لُغَةً: الْوَسِيلَةُ وَالطَّلَبُ. وَعُرْفًا سُؤَالٌ لِلْغَيْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام يَشْفَعُ قَوْله تَعَالَى:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُمَا الشَّفَاعَةُ.
خَلَقَ الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَهِيَ الَّتِي أَهْبَطَ مِنْهَا آدَمَ نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «ادَّخَرْت شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ غُفْرَانُ غَيْرِ الْكُفْرِ مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَبِالشَّفَاعَةِ أَوْلَى، وَلِذَا أَجْمَع أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا لَهُ صلى الله عليه وسلم وَلِسَائِرِ الْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، يَشْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ جَاهِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ:«أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» . وَلَهُ عليه الصلاة والسلام شَفَاعَاتٌ أَعْظَمُهَا وَأَهَمُّهَا شَفَاعَتُهُ صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ بَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ يُعَايِنُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْمَوْقِفِ وَأَهْوَالِهِ وَطُولِ الْقِيَامِ فِيهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَزِيَادَةِ الْقَلَقِ وَتَصَاعُدِ الْعَرَقِ مَا يُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَيُنْسِي الْأَوْلَادَ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ، فَيَتَرَادُّونَهَا مِنْ آدَمَ إلَى عِيسَى فِي خَمْسَةِ آلَافِ سَنَةٍ، إذْ بَيْنَ سُؤَالِ نَبِيٍّ وَآخَرَ أَلْفُ سَنَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَإِذَا انْتَهَوْا إلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا أُمَّتِي أُمَّتِي، وَكُلُّ مَنْ قَبْلَهُ لَا يَقُولُ إلَّا نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إلَى غَيْرِي فَيَشْفَعُ فَيُشَفَّعُ، وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ عليه الصلاة والسلام وَتُسَمَّى الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ أَوَّلُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، خَاصَّةً بِهِ وَعَامَّةً فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ، وَهَذِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لِلْإِرَاحَةِ مِنْ طُولِ الْوُقُوفِ حَيْثُ يَتَمَنَّوْا الِانْصِرَافَ مِنْ مَوْقِفِهِمْ وَلَوْ إلَى النَّارِ، وَمِنْ شَفَاعَاتِهِ أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي إدْخَالِ جَمَاعَةٍ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَيَشْفَعُ فِي قَوْمٍ اسْتَوْجِبُوا النَّارَ فَلَا يَدْخُلُونَهَا، وَفِي جَمَاعَةٍ دَخَلُوهَا فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَيَشْفَعُ لِجَمَاعَاتٍ فِي رَفْعِ دَرَجَاتٍ، وَيَشْفَعُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِأَنْ نُقِلَ مِنْ غَمَرَاتٍ إلَى ضَحْضَاحٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم لَهُ شَفَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَّهُ مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ وَارِدٍ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ وَارِدٍ الْمَحْشَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الشَّفَاعَةَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْهَا:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وَمِنْهَا:{مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18]، وَمِنْهَا:«لَا يَنَالُ شَفَاعَتِي أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . وَأَجَابَ أَهْلُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَعْنَى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . أَيْ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ لَهُ وَهُمْ الْمُوَحِّدُونَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِ الْكَافِرُ، وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ النَّقَلَةِ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ.
قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: وَحَقِيقٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا أَنْ لَا يَنَالَهَا.
الثَّانِي: يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَنَالُهُ شَفَاعَةُ الْمُصْطَفَى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ عَذَابٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُذْنِبِينَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يَأْنَفُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ تَنَالُهُ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِسُؤَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ وَمُسْتَحِقٌّ لِلْعَفْوِ لِعَدَمِ اعْتِدَادِهِ بِعَمَلِهِ، وَأَيْضًا الْخَاتِمَةُ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ، فَكُلٌّ مِنَّا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَصِيرُ وَمِنْ أَيْ فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوَّلًا أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ، وَقَوْلِهِ ثَانِيًا يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ لِلشَّفَاعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، وَيَصِحُّ إسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إلَى كُلٍّ مِنْ السَّبَبَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِأَصْلِ الْخُرُوجِ، وَالشَّفَاعَةُ لِتَعْجِيلِ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ.
وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي وُجُودِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ وَعَدَمِ وُجُودِهِمَا بَيَّنَ الْحَقَّ فَقَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى (قَدْ خَلَقَ) أَيْ أَوْجَدَ (الْجَنَّةَ) فَهِيَ مَوْجُودَةٌ الْآنَ فَقَدْ فِي كَلَامِهِ لِلتَّحْقِيقِ. (فَأَعَدَّهَا) أَيْ هَيَّأَهَا وَصَيَّرَهَا (دَارَ خُلُودٍ) أَيْ مَنْزِلَ إقَامَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ. (لِأَوْلِيَائِهِ) جَمْعُ وَلِيٍّ وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِنَاءً عَلَى دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَالْمَأْثُورُ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَدَمُ دُخُولِهِمْ وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي رَبَضِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَوْلِيَاءَ الْمُتَعَارَفَيْنِ وَهُمْ الْعَارِفُونَ بِرَبِّهِمْ حَسَبَ الْإِمْكَانِ الْمُوَاظِبُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُونَ لِلْمَعَاصِي الْمُعْرِضُونَ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَامَّةٌ وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِيمَانِ وَخَاصَّةً وَهِيَ وِلَايَةُ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَنَّةُ لُغَةً الْبُسْتَانُ وَالْمُرَادُ بِهَا دَارُ الثَّوَابِ، وَهَلْ هِيَ سَبْعُ جَنَّاتٍ مُتَجَاوِرَاتٍ أَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا الْفِرْدَوْسُ وَهِيَ أَعْلَاهَا وَفَوْقَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا تَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَجَنَّةُ الْخُلْدِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَنَّةُ عَدْنٍ، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْخُلْدِ، أَوْ أَرْبَعَةٌ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ وَقِيلَ وَاحِدَةٌ، وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا لِتَحَقُّقِ مَعَانِيهَا كُلِّهَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْجَنَّةِ الْآنَ مِنْ ثَمَّ إخْرَاجُهُمَا مِنْهُمَا بِالْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَكَوْنُهُمَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قِصَّةُ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِسْكَانُهُمَا الْجَنَّةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَحَمْلُ الْجَنَّةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَى بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا، وَآدَمُ عَلَى رَجُلٍ يُسَمَّى بِذَلِكَ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ لَهُ عَلَى رَبْوَةٍ أَيْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ فَعَصَى فِيهَا فَأُهْبِطَ مِنْهَا إلَى بَطْنِ الْوَادِي تَلَاعُبٌ بِالدِّينِ، كَمَا سَيُشِيرُ إلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم. . . إلَخْ وَثَانِيهِمَا خَيْرُ حَمْلِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] وَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]، وَمِنْ السُّنَّةِ:«عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ فَتَنَاوَلْت مِنْهَا عُنْقُودًا» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا دَارُ الثَّوَابِ، وَأَنَّ آدَمَ الْمُرَادُ بِهِ أَبُو الْبَشَرِ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ وُجُودِ الْجَنَّةِ الْآنَ، فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا الْآنَ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ كَافِرٌ كَالْفَلَاسِفَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا الْآنَ وَيَعْتَرِفُ بِوُجُودِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ كَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَهَلَكَتْ لِعُمُومِ:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] مَرْدُودٌ بِأَنَّهَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الَّتِي لَا تَهْلِكُ كَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْقَلَمِ وَاللَّوْحِ.
الثَّانِي: وَقَعَ خِلَافٌ فِي مَحَلِّهَا كَالنَّارِ فَقَالَ بَعْضٌ: لَا يَعْلَمُ مَحَلَّهُمَا إلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَلَعَلَّ هَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ بِتَعْيِينِ مَحَلِّهِمَا، وَقَالَ بَعْضٌ: الْجَنَّةُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَالنَّارُ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: جَهَنَّمُ مُحِيطَةٌ بِالدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا، فَلِذَلِكَ ضُرِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «هِرَقْلَ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: تَدْعُونِي إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ» ، وَكَمَا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِخَلْقِ الْجَنَّةِ خَصَّهُمْ بِهَا (وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ) بِأَبْصَارِهِمْ (إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ) الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ لِلْجَنَّةِ، وَالْمُذَكَّرِ لِلَّهِ تَعَالَى.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَمِنْهُ أَنْ يُنْظَرَ بِالْأَبْصَارِ
…
لَكِنْ بِلَا كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ
فَيَنْكَشِفُ لَهُمْ انْكِشَافًا تَامًّا مُنَزَّهًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي خَلْقِهِ يَنْكَشِفُ لَهُمْ بِهَا الْمَرْئِيُّ وَلَا تَسْتَدْعِي جِرْمِيَّةً وَلَا جِهَةً وَلَا مُقَابَلَةً، وَإِنَّمَا تَسْتَدْعِي مُطْلَقَ مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ، وَإِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاتِّفَاقِ لَا الشَّرْطِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُهُ سُبْحَانَهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَان؟ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22]{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وَآيَةُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَلَوْلَا أَنَّهَا جَائِزَةٌ مَا طَلَبَهَا مُوسَى عليه الصلاة والسلام، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ وَهُوَ مُمْكِنٌ فَتَكُونُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ مُمْكِنَةً.
وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَا عَيَّرَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ بِالْحَجْبِ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِقَوْلِهِ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بِأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَعَادِ لَمَا عَبَدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ:«إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ مُتَمَسِّكِينَ بِشُبْهَةِ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي تَقْرِيرُهَا: لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَكَانَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي بِالضَّرُورَةِ فَيَكُونُ فِي جِهَةٍ وَحَيِّزٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَجَوَابُهَا الْمُقَابَلَةُ إنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقِ، وَقِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْغَائِبِ وَصِفَتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لَنَا، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِشُبْهَةٍ سَمْعِيَّةٍ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَجَوَابُهَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، إذْ الْإِدْرَاكُ الْإِحَاطَةُ بِالْمُدْرَكِ وَهِيَ مَحَالَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى:{لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَلَمْ يَقُلْ لَا تَرَاهُ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَنْ الشُّبْهَةِ الْأُولَى أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: بِلَا كَيْفٍ، وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا انْحِصَارٍ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِكْرَامِ بِالنَّظَرِ فِي الْجَنَّةِ قَصْرُ الرُّؤْيَا فِيهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَظَاهِرُهُ تَنَاوُلُ النِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَا يَرَوْنَهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ عَامَّةٌ وَقِيلَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَسَيَأْتِي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا فَلَا تَرَاهُ سبحانه وتعالى لَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي الْمَوْقِفِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ الَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ فِي النُّصُوصِ فِي رُؤْيَةِ الْعُقَلَاءِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ.
الثَّانِي: يَدْخُلُ فِيمَنْ يَرَاهُ سبحانه وتعالى كُلُّ مَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ الصِّبْيَانَ وَالْمَلَائِكَةَ وَمُؤْمِنَ الْجِنِّ وَالْأُمَمَ السَّابِقَةِ وَالْبُلْهَ وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ الْبُلُوغُ عَلَى الْجُنُونِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِالتَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُمْ صَحِيحٌ، إذْ هُوَ فِي حُكْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مَحَلُّ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ مُخْتَصَّةٌ بِمُؤْمِنِ الْإِنْسِ.
وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُوا الْجِنِّ فَلَا يَرَوْنَهُ إلَّا جِبْرِيلَ عليه السلام فَإِنَّهُ يَرَاهُ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقَالَ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَقِيلَ: يَرَاهُ الْكَافِرُ أَوَّلًا ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ لِتَكُونَ الْحَجْبَةُ حَسْرَةً لَهُ الثَّالِثُ: الرُّؤْيَةُ فِي الْجَنَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّائِي، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا كَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي الْعِيدِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، الرَّابِعُ: الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الدُّنْيَا لَكِنْ فِي الْمَوْقِفِ الصَّحِيحِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمُؤْمِنِ كَمَا مَرَّ، وَمُقَابِلُهُ يَرَاهُ حَتَّى الْكَافِرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خُصُوصُ الْمُنَافِقِ ثُمَّ يُحْجَبُ، وَأَمَّا فِي الْجَنَّةِ فَالِاخْتِصَاصُ بِالْمُؤْمِنِ ظَاهِرٌ لِحُرْمَةِ الْجَنَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَهِيَ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ بِدَلِيلِ طَلَبِ سَيِّدِنَا مُوسَى عليه السلام لَهَا مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا يَقِظَةً إلَّا لِمُحَمَّدٍ عليه السلام لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: " وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ ".
وَأَمَّا مُوسَى فَفِي رُؤْيَتِهِ خِلَافٌ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، فَمَنْ ادَّعَاهَا مِنْ آحَادِ النَّاسِ غَيْرُهُمَا فِي الدُّنْيَا يَقِظَةً فَهُوَ ضَالٌّ بِإِطْبَاقِ الْمَشَايِخِ.
وَفِي كُفْرِهِ قَوْلَانِ: فَفِي الْحَدِيثِ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ» . وَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمَشْهُورِينَ بِالْوِلَايَةِ مِنْ دَعْوَى رُؤْيَتِهِ تَعَالَى يَقِظَةً فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لَا الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَلَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ تَعَالَى.
الْخَامِسُ: وَقَعَ خِلَافٌ فِي كُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ، فَنَقَلَ شُرَّاحُ هَذَا الْكِتَابِ كَالْجَزُولِيِّ وَالْأَقْفَهْسِيِّ وَالشَّاذِلِيِّ التَّكْفِيرَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَالتَّوَلُّدِ وَشِبْهِهَا مِنْ الدَّقَائِقِ فَالْمَنْعُ مِنْ إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا أَوْضَحُ، إذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ شَيْءٌ مِنْهَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْهَا، نَعَمْ يُؤَدَّبُ وَيُفَسَّقُ إنْ لَمْ يَتُبْ، وَأَمَّا مَنْ لَا تَأْوِيلَ عِنْدَهُ أَصْلًا وَهُوَ الْعَابِدُ، وَالْجَاهِلُ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى شُبْهَةٍ فَيَكْفُرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا النَّظَرُ هَلْ هِيَ فِي الدُّنْيَا أَوْ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ؟ بَيَّنَ الصَّحِيحَ مِنْ الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ) أَيْ الْجَنَّةُ بِمَعْنَى دَارٍ حَدِيثًا وَأَيَّدَهَا دَارَ خُلُودٍ وَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا أَوْلِيَاءَهُ (الَّتِي أُهْبِطَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى أُنْزِلَ (مِنْهَا آدَم) بِالرَّفْعِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ الْفَاعِلِ وَمَنَعَ الصَّرْفَ الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ، وَلَوْ قَرَأَ أَهْبَطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَلَى اللَّهِ لَصَحَّ نَصْبُ آدَمَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَآدَمُ عليه الصلاة والسلام هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأُدْمَةِ لَوْنِهِ وَهِيَ حُمْرَةٌ تَمِيلُ إلَى سَوَادٍ، وَكُنْيَتُهُ إلَى الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ هُبُوطُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا أُخْرِجَ وَأُنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَقِيلَ بِمَا خُلِقَ فِي الْأَرْضِ وَرُدَّ إلَيْهَا، وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ شِيثٌ، بِغَارِ أَبِي قَيْسٍ: وَكَانَ طُولُهُ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الطِّينِ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَمَاتَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَكَانَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَرْبَعُ جُمَعٍ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ وَخُرُوجِهِ سِتَّةُ أَيَّامٍ، وَسَبَبُ هُبُوطِهِ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا، قِيلَ نَاسِيًا، وَقِيلَ مُتَأَوِّلًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقِيلَ شَجَرَةُ التِّينِ، وَقِيلَ الْحِنْطَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا. . . إلَخْ، الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا بِأَرْضِ عَدَنَ مُحْتَجًّا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ جَنَّةَ أَوْلِيَائِهِ بِدَارِ الْخُلْدِ وَالْقَرَارِ وَالْمُقَامَةِ وَالسَّلَامِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا نَصَبَ وَلَا لَغْوَ وَلَا تَأْثِيمَ وَلَا كَدَرَ وَلَا حَسَدَ، وَمَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْ جَنَّةِ آدَمَ لِأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْهَا وَكَذَبَ فِيهَا إبْلِيسُ وَأَثِمَ وَتَكَبَّرَ وَحَسَدَ، وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُ اللَّهِ لَهَا بِصِفَةٍ هِيَ عَلَامَةٌ عَلَى خِلَافِهَا، وَأُجِيبَ عَمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ بِأَنَّ صِفَاتِ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لَهَا، بَلْ يَجُوزُ وَصْفُهَا بِذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، أَوْ يَكُونُ وَصْفُهَا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطٍ فَلَا تُوصَفُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الشَّرْطَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ فِي كَلَامِهِ دَارَ الثَّوَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِآدَمَ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا أَبَا الْبَشَرِ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ:(نَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ بِأَمْرِهِ
إلَى أَرْضِهِ: بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ.
، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ، وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ خَلِيفَتُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخَلَفِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ أَيْ مِنْ الْإِنْسِ؛ لِأَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ: كَانَ قَبْلَ آدَمَ سَبْعُ أُمَمٍ يَتَعَيَّنُ فَهْمُهُ عَلَى ذَلِكَ رَاجِعٌ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] . فَإِنَّهُمْ بَنُو الْجَانِّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا أَفْسَدُوا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَطَرَدُوهُمْ إلَى الْجَزَائِرِ وَالْجِبَالِ رَاجِعِ التَّفْسِيرَ، وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُوُفِّيَ سَبْعُونَ أُمَّةً قَبْلهَا هِيَ آخِرُهَا» فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ آدَمَ الَّذِي أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ لَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ لِلَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ لَهُ عَلَى رَبْوَةٍ أَيْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ فَعَصَى فِيهَا فَأُهْبِطَ مِنْهَا، فَنَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، وَآدَمُ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، فَيَجُوزُ فِي نَبِيِّهِ وَخَلِيفَتِهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى حُكْمِ مَا سَبَقَ فِي آدَمَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَصِلَةُ أُهْبِطَ (إلَى أَرْضِهِ) وَكَذَا قَوْلُهُ:(بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ) فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُهْبِطَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ حُصُولِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْقَدِيمِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي الْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ. فَقَوْلُهُ: فِي سَابِقِ عِلْمِهِ صِلَةٌ لَسَبَقَ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ عِلْمُهُ السَّابِقُ، وَهَذَا سَبْقُ حُكْمٍ وَمَرْتَبَةٍ لَا سَبْقُ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَلَا تَرْتِيبَ فِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ، بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا، وَالْهُبُوطُ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا وَحِسِّيًّا، فَالْحِسِّيُّ يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَعْنَوِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ عليهم السلام؛ لِأَنَّهُ الِانْحِطَاطُ فِي الرُّتْبَةِ، وَهُبُوطُ آدَمَ حِسِّيٌّ وَهُوَ رُقِيٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بِهِ قَدْرُهُ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَحُصُولِ الذُّرِّيَّةِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَى مَا وُجِدَ مِنْ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ وَهُوَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَسَائِرُ الصَّالِحِينَ، فَإِهْبَاطُهُ مِنْهَا لَيْسَ طَرْدًا بَلْ لِقَضَاءِ أَوْطَارِهِ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا، قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: فَكَانَ مُرَادُ الْحَقِّ مِنْ آدَمَ عليه السلام الْأَكْلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِيُنْزِلَهُ إلَى الْأَرْضِ وَيَسْتَخْلِفَهُ فِيهَا، فَكَانَ هُبُوطًا فِي الصُّورَةِ رُقِيًّا فِي الْمَعْنَى.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَاَللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آدَمَ إلَى الْأَرْضِ وَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا لِتَنْقِيصِهِ وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِيَجْعَلَ لَهُ الْمَزِيَّةَ حَتَّى عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتَعْلِيمِهِمْ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، فَكَمَّلَ فِي آدَمَ الْعُبُودِيَّتَانِ: عُبُودِيَّةَ التَّعْرِيفِ وَعُبُودِيَّةَ التَّكْلِيفِ، فَعَظُمَتْ مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَوَفَّرَ إحْسَانُهُ إلَيْهِ.
تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ مِنْ شَخْصَيْنِ آدَم عليه السلام وَإِبْلِيسُ لَعَنْهُ اللَّهُ، فَجَمِيعُ الْبَشَرِ مِنْ آدَمَ وَجَمِيعُ الْجِنِّ مِنْ إبْلِيسَ، وَكَانَ لَإِبْلِيسَ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ حِرْفَةٌ مِنْ حِرَفِ السُّوءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَكَالدُّخُولِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ بِالرَّمْيِ بِالْمَكَارِهِ، وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَا مِنْهُ وِلَادَةُ إبْلِيسَ هَلْ مِنْ زَوْجِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا آدَم عليه السلام فَقِيلَ وُلِدَ لَهُ مِنْ حَوَّاءَ أَرْبَعُونَ بَطْنًا فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَكَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ لِأُنْثَى الْأُخْرَى، فَمَا مَاتَ حَتَّى بَلَغَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِائَةَ أَلْفٍ مَاتُوا جَمِيعًا إلَّا شِيثًا، وَخَرَجَ مِنْ شِيثٍ ذُرِّيَّةٌ كَثِيرَةٌ إلَّا نُوحًا، وَخَرَجَ مِنْ نُوحٍ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ وَهُمْ الَّذِينَ أَعْقَبُوا، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ وَالْخَزْرَجِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَا هُنَالِكَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا هَبَطَ نُوحٌ مِنْ السَّفِينَةِ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ نَامَ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ فَنَظَرَ إلَيْهَا حَامٌ فَضَحِكَ وَلَمْ يَسْتُرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ سَامٌ فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ وَغَطَّى عَوْرَةَ أَبِيهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَدَعَا وَلَدَهُ حَامًا فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ غَيَّرَ اللَّهُ مَاءَ صُلْبِك فَلَا يَلِدُ غَيْرَ السُّودَانِ السِّنْدِ وَالْهِنْدِ وَالنُّوبَةِ، وَقَوْلُنَا إلَّا شَيْئًا الْمُرَادُ وَزَوْجُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي نُوحٍ.
الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ حَوَّاءَ فَقِيلَ كَغَيْرِهَا وَقِيلَ كَانَتْ أَقَلَّ، كَمَا اُخْتُلِفَ فِي الْوَطْءِ فَقِيلَ مَا حَصَلَ مِنْ آدَمَ إلَّا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هُبُوطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالْمُعَلِّمُ لَهُ جِبْرِيلُ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ.
الثَّالِثُ: شَارَكَ آدَم عليه السلام فِي الْهُبُوطِ مِنْ الْجَنَّةِ حَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ، فَإِنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ كَمَا مَرَّ، وَكَذَا عَصَا مُوسَى فَإِنَّهَا كَانَتْ مَعَ آدَمَ فَهَبَطَتْ مَعَهُ فَتَنَاوَلَتْهَا ذُرِّيَّتُهُ حَتَّى وَصَلَتْ مُوسَى وَهِيَ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ آدَمَ عليه السلام فَخَرَجَ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَتَنَاوَلَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ حَتَّى وَصَلَ لِسُلَيْمَانَ، وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ كَانَ مِنْ جَوَاهِرِ الْجِنَانِ فَأَخَذَهُ آدَم فَصَارَ حَجَرًا وَهَبَطَ مَعَهُ وَصَارَ فِي أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ، وَالْعُودُ الَّذِي مِنْهُ الطِّيبُ، وَوَرَقُ التِّينِ الَّذِي سَتَرَ سَوْأَتَيْهِمَا حِين بَدَتَا فَنَزَلَ مَعَهُمَا.
(وَ) لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ دَارَ إقَامَةٍ لِأَوْلِيَائِهِ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ خَلَقَ أَيْضًا النَّارَ دَارَ خُلُودٍ لِأَعْدَائِهِ فَقَالَ: (إنَّ اللَّهَ)
وَرُسُلِهِ، وَجَعَلَهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَتِهِ.
وَأَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا: لِعَرْضِ
ــ
[الفواكه الدواني]
تَعَالَى (خَلَقَ النَّارَ) الْمُرَادُ دَارُ الْعَذَابِ بِجَمِيعِ طِبَاقِهَا السَّبْعِ الَّتِي أَعْلَاهَا جَهَنَّمُ وَتَحْتَهَا لَظًى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ ثُمَّ السَّعِيرُ ثُمَّ سَقَرُ ثُمَّ الْجَحِيمُ ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، وَبَابُ كُلٍّ مِنْ دَاخِلِ الْأُخْرَى عَلَى الِاسْتِوَاءِ، وَبَيْنَ أَعْلَى جَهَنَّمَ وَأَسْفَلِهَا سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَحَرُّهَا هَوَاهُ مُحْرِقٌ وَلَا جَمْرَ لَهَا سِوَى بَنِي آدَمَ وَالْأَحْجَارُ الْمُتَّخَذَةُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ إلَى النَّاسِ مِنْ جَهَنَّمَ حَتَّى غُسِلَتْ فِي الْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا مِنْ حَرِّهَا وَكَفَى بِهَذَا زَاجِرًا. (فَأَعَدَّهَا) أَيْ هَيَّأَهَا (دَارَ خُلُودٍ) عَلَى التَّأْبِيدِ (لِمَنْ كَفَرَ بِهِ) أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ.
(وَ) لِمَنْ (أَلْحَدَ) أَيْ ارْتَابَ (فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) وَمَلَائِكَتِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَتَمَامِ قُدْرَتُهُ وَالْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِهِ آيَاتُ كُتُبِهِ، وَالْإِلْحَادُ فِيهَا تَأْوِيلُهَا عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَعَطْفُ أَلْحَدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ. (وَجَعَلَهُمْ) أَيْ وَصَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ (مَحْجُوبِينَ) أَيْ مَمْنُوعِينَ وَمَطْرُودِينَ (عَنْ رُؤْيَتِهِ) سبحانه وتعالى فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ نَزْعٍ قِيلَ وَكَذَا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ يَرَوْنَهُ فِيهَا ثُمَّ يُحْجَبُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا حُجِبُوا عَنْ الرُّؤْيَةِ لِمَا أَنَّهَا إكْرَامٌ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عَبَّرَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي هُنَا وَفِي قَوْلِهِ سَابِقًا خَلَقَ الْجَنَّةَ إشَارَةً إلَى وُجُودِهِمَا الْآنَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْنَيَانِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَالنَّارُ حَقٌّ أُوجِدَتْ كَالْجَنَّهْ
…
فَلَا تَمِلْ لِجَاحِدٍ ذِي جِنَّهْ
دَارُ خُلُودٍ لِلسَّعِيدِ وَالشَّقِيّ
…
مُعَذَّبٌ مُنَعَّمٌ مَهْمَا بَقِيَ
قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107]{وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّعِيدِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَبِالشَّقِيِّ مَنْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْقِيَاءِ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ كَالْعُصَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ شَقُوا بِالْعِصْيَانِ، فَقَوْلُهُ:{إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] أَيْ عَدَمَ خُلُودِهِ فَيُخْرِجُهُ مِنْهَا. وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ بَعْضَ السُّعَدَاءِ لَا يُخَلَّدُ فِي الْجَنَّةِ بَلْ يُفَارِقُهَا ابْتِدَاءً يَعْنِي أَيَّامَ عَذَابِهِ كَالْفُسَّاقِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سُعِدُوا بِالْإِيمَانِ وَالتَّأْبِيدُ مِنْ مَبْدَأٍ مُعَيَّنٍ كَمَا يَنْتَقِضُ بِاعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، الثَّانِي: تَدْخُلُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ الْجِنِّ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعَاصِي.
قَالَ تَعَالَى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [هود: 119] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا وَيُثَابُونَ فَيُنَعَّمُونَ فِيهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ.
وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَنَّهُمَا لَا يُدْخَلَانِ إلَّا بَعْدَ الْحِسَابِ ذَكَرَهُ عَقِبَهُمَا وَإِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ تَأْخِيرُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ حَقِيقَةً (أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى أَيْ تَزَايَدَ وَتَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَتَعَاظَمَ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (يَجِيءُ) الْمُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ حَامِلُ أَمْرِهِ أَوْ الْمُرَادُ ظُهُورُ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَلَيْهِ سبحانه وتعالى، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ بِمَا يَظْهَرُ عِنْدَ حُضُورِ السُّلْطَانِ مِنْ تَعْظِيمِ هَيْبَتِهِ وَإِتْقَانِ سِيَاسَتِهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَهُوَ زَمَنُ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَلِذَا يُقَالُ لَهُ الْيَوْمُ الْآخِرُ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلُهُ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِيَامِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ فِيهِ، وَقِيَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَهِيَ مَصْدَرُ قَامَ، وَدَخَلَتْهَا التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي نَحْوِ عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ (وَ) يَجِيءُ (الْمَلَكُ) أَيْضًا حَالَةَ كَوْنِهِ (صَفًّا صَفًّا) أَيْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ فَهُوَ حَالٌ مِنْ الْمَلَكِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ الِاصْطِفَافَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْمُتَعَدِّدِ وَصَفًّا مَصْدَرٌ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ذِي الْحَالِ، فَهُوَ إمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمُشْتَقِّ أَيْ مُصْطَفِّينَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ ذَوِي صُفُوفٍ وَتِلْكَ الْحَالُ مَنْوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الِاصْطِفَافَ لَيْسَ مُقَارِنًا
الْأُمَمِ وَحِسَابِهَا، وَعُقُوبَتِهَا، وَثَوَابِهَا.
، وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ هُمْ.
ــ
[الفواكه الدواني]
لِلْمَجِيءِ بَلْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ صَفًّا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصُّفُوفَ مُتَعَدِّدَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَتَكُونُ الْخَلْقُ إذْ ذَاكَ عَلَى الصِّرَاطِ يَأْمُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَمْتَدَّ كَالْأَدِيمِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَيَنْزِلُ الْخَلَائِقُ مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَتَجْتَمِعُ فِيهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَصْطَفُّونَ وَيَحْتَاطُونَ بِالْخَلَائِقِ صَفًّا أَوَّلًا ثُمَّ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَهَكَذَا بِعَدَدِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ بَعْدَ تَنَاهِي الصُّفُوفِ السَّبْعِ يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أَيْ بِحَجَّةٍ، وَخَالَفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِي تَعْبِيرِهِ بِيَجِيءُ لِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَاضِي فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُضَارِعِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاقْتِبَاسِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ يُغْتَفَرُ فِيهِ التَّغْيِيرُ الْيَسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَالْمَلَكُ مُفْرَدُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أَعْطَاهَا اللَّهُ قُدْرَةَ التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ كَامِلَةٍ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ، شَأْنُهَا الطَّاعَاتُ وَمَسْكَنُهَا السَّمَوَاتُ رُسُلُ اللَّهِ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى وَحْيِهِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُعِينُونَ النَّاسَ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ كَالْغَلَبَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَكَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ، بِخِلَافِ الشَّيَاطِينِ مِنْ الْجِنِّ فَإِنَّهُمْ مِنْ النَّارِ أَوْ الْهَوَاءِ وَإِنَّمَا يُعِينُونَ عَلَى الشَّرِّ، وَصِلَةُ يَجِيءُ قَوْلُهُ:(لِعَرْضِ الْأُمَمِ) عَلَيْهِ تَعَالَى لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا.
وَرُوِيَ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَلَاثُ عَرْضَاتٍ: عَرْضَتَانِ لِلِاعْتِذَارِ وَالِاحْتِجَاجِ وَالتَّوْبِيخِ وَالثَّالِثَةُ فِيهَا نَشْرُ الْكُتُبِ، فَيَأْخُذُ الْفَائِزُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَالْهَالِكُ يَأْخُذُهُ بِشِمَالِهِ، وَالْأُمَمُ جَمْعُ أُمَّةٍ وَهِيَ طَوَائِفُ الْمَخْلُوقِينَ بِنَاءً عَلَى بَعْثِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَوْ خُصُوصِ مَنْ يُحَاسَبُ مِنْ الثَّقَلَيْنِ.
(وَحِسَابِهَا وَعُقُوبَتِهَا وَثَوَابِهَا) فَإِنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَهُوَ الثَّوَابُ يَخْتَصُّ بِالثَّقَلَيْنِ، وَاخْتَصَّ الْحِسَابُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَضْيَقُ الْأَحْوَالِ بِاحْتِيَاطِ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ سَبْعَ صُفُوفٍ لَا يَسْتَطِيعُ ذُو الْبَطْشِ مِنْهُمْ الْهُرُوبَ نَسْأَلُهُ سبحانه وتعالى الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ، وَعَطْفُ الْحِسَابِ وَمَا بَعْدُهُ عَلَى الْعَرْضِ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْحِسَابِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ مُحَاسَبَةَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ لَيْسَتْ لِلْإِحَاطَةِ بِجَرَائِمِهِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَالْحَسَنَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ بَلْ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] إنَّمَا ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ بِإِفْشَاءِ الْحَالِ بِإِظْهَارِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ وَفَضِيحَةِ أَرْبَابِ الضَّلَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ وَالْإِثَابَةَ نَاشِئَتَانِ عَنْ الْحِسَابِ وَمُرَتَّبَتَانِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَعَظَائِمُ الْعَرْضِ عَلَى الرَّبِّ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَيَفِرُّ فِيهِ الْوَالِدُ مِنْ بَنِيهِ وَالْأَخُ مِنْ أَخِيهِ وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْقَلَقُ وَيَكْثُرُ فِيهِ الْعَرَقُ حَتَّى يَغُوصَ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَأَمَّا عَلَى ظَهْرِهَا فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجَمُ بِعَرَقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُوصُ بِنِصْفِهِ فِي عَرَقِهِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، يَوْمٌ تَشْهَدُ فِيهِ الْأَلْسُنُ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْجُلُودُ وَالْأَرْضُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالْحَفَظَةُ الْكِرَامُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهِ الْأَلْوَانُ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَرْضُ وَالْحِسَابُ وَشَدَائِدُهُمَا مَعْلُومَةٌ لَا يُنْكِرُهَا إلَّا مُلْحِدٌ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ لَعَلَّ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ.
1 -
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اخْتِصَاصُ الْحِسَابِ بِالْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ وَعُقُوبَتُهَا، وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِي حِسَابِ الْأَطْفَالِ وَالْبُلْهِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتْرَةِ وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي الْعَرْضِ هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحَاسَبُ كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا أَوْ لَا يُعْرَضُ إلَّا مَنْ يُحَاسَبُ؟ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا وَالْعَرْضُ أَخَصُّ مِنْ الْحَشْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ إنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِيمَا يُدْعَى بِهِ الشَّخْصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُدْعَى بِأَبِيهِ وَلَوْ مِنْ زِنًى، وَقِيلَ يُدْعَى بِأُمِّهِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ سَتْرًا لِوَلَدِ الزِّنَا.
1 -
الثَّانِي: الْحِسَابُ لُغَةً الْعَدَدُ وَاصْطِلَاحًا تَوْقِيفُ اللَّهِ عِبَادَهُ قَبْلَ الِانْصِرَافِ مِنْ الْمَحْشَرِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، تَفْصِيلًا لَا بِالْوَزْنِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى مُحَاسَبَتِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَثَانِيهَا أَنْ يُوقِفَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُؤْتِيَهُمْ كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي شَأْنِ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ يُسْمِعَهُمْ صَوْتًا يَخْلُقُهُ يَسْمَعُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْحِسَابِ مُخْتَلِفَةٌ،
الْمُفْلِحُونَ.
وَيُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
فَمِنْهُ الْيَسِيرُ وَمِنْهُ الْعَسِيرُ وَمِنْهُ الْجَهْرُ وَمِنْهُ السِّرُّ، وَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْإِنْسِيِّ وَالْجِنِّيِّ إلَّا مَنْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِاسْتِثْنَائِهِ فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ:«أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ» . وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكُونُ أَدْنَى إلَى رَحْمَةٍ فَلَا يُحَاسَبُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَافِرِينَ مَنْ هُوَ أَدْنَى إلَى غَضَبِ اللَّهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَلَا يُحَاسَبُ أَيْضًا.
(فَائِدَةٌ) : مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ عَنْهُمْ وَالتَّجَاوُزُ لَهُمْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ أَخْذًا وَعَطَاءً، وَكَذَا إشْبَاعُ الْجَائِعِ وَكُسْوَةُ الْعُرْيَانِ وَإِيوَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ رِفْقٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَرَتِّبَةً، أَوَّلُهَا: الْبَعْثُ وَهُوَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَإِعَادَتُهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ النُّشُورُ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَشِرُونَ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَثَانِيهَا: الْحَشْرُ وَالْجَمْعُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] ثَالِثُهَا: الْقِيَامُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَابِعُهَا: الْعَرْضُ عَلَى الرَّبِّ. خَامِسُهَا: تَطَايُرُ الصُّحُفِ وَأَخْذُهَا بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ الَّتِي يَقُولُونَ عِنْدَ أَخْذِهَا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] . سَادِسُهَا: السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ.
وَسَابِعُهَا: الْمِيزَانُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَزْنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] . وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8](فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) أَيْ مَوْزُونَاتُهُ (فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) أَيْ النَّاجُونَ، وَقَدْ بَلَغَتْ أَحَادِيثُهُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ تُوضَعُ فِيهِ صُحُفُ الْأَعْمَالِ أَوْ أَعْيَانُهَا بَعْدَ تَجْسِيمِهَا لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ وَالْخَاسِرُ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَمِثْلُ هَذَا الْوَزْنُ وَالْمِيزَانُ
…
فَتُوزَنُ الْكُتُبُ أَوْ الْأَعْيَانُ
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا بِاَلَّذِينَ يُحَاسَبُونَ لِمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْمِيزَانَ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ فِيهِ: «يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أُدْخِلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ» وَأُجْزِي الْأَنْبِيَاءَ فَاَلَّذِي لَا يُحَاسَبُ لَا تُوزَنُ أَعْمَالُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: أَهْلُ الصَّبْرِ أَيْضًا لَا تُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَإِنَّمَا يُصَبُّ لَهُمْ الْأَجْرُ صَبًّا.
الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْعِبَادُ شُمُولُ الْكُفَّارِ وَفِيهِمْ قَوْلَانِ. فَمَنْ قَالَ بِدُخُولِهِمْ نَظَرَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ دُخُولِهِمْ فَقَدْ نَظَرَ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] وَأَوَّلُهَا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ بِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الصِّفَةِ أَيْ نَافِعًا، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ.
الثَّالِثُ: وَقْتُ الْوَزْنِ بَعْدَ الْحِسَابِ كَمَا ذَكَرْنَا وَمَكَانُهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِحْدَى كِفَّتَيْهِ عَلَى الْجَنَّةِ وَالْأُخْرَى عَلَى النَّارِ، وَالْمُنْتَصِبُ لِذَلِكَ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ بِعَمُودِهِ مُسْتَقْبِلًا بِهِ الْعَرْشَ وَمِيكَائِيلُ أَمِينٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ الْأُمَمِ، وَقِيلَ بِعَدَدِ الْمُكَلَّفِينَ.
الرَّابِعُ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْوَزْنِ خِفَّةً وَثِقَلًا فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ كَيْفِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا ثَقُلَ وَرَجَحَ نَزَلَ إلَى أَسْفَلَ ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى عِلِّيِّينَ، وَمَا خَفَّ طَاشَ إلَى أَعْلَى ثُمَّ نَزَلَ إلَى سِجِّينٍ، وَعَلَامَةُ الرُّجْحَانِ ظُهُورُ نُورٍ وَعَلَامَةُ عَدَمِهِ ظُهُورُ ظُلْمَةٍ، وَقِيلَ: يَخْلُقُ اللَّهُ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَعْرِفُ بِهِ الرَّاجِحَ مِنْ الْحَسَنَاتِ أَوْ السَّيِّئَاتِ.
الْخَامِسُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُقَابِلِ: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] وَهُوَ {مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْكَافِرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَسَكَتَ أَيْضًا عَمَّنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ قِيلَ: وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُوَ سُوَرٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَمَنَعَتْهُمْ الْحَسَنَاتُ مِنْ النَّارِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَقُومُونَ فِي سُوَرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
وَرَاءَ ظَهْرِهِ: فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا.
وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ
ــ
[الفواكه الدواني]
السَّادِسُ: سَكَتَ عَنْ الصِّنَجِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَمَثَاقِيلِ الذَّرِّ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: تُوضَعُ الْحَسَنَةُ فِي كِفَّةٍ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ أَنَّ الصِّنَجَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيمَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ سَيِّئَاتٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَإِنَّهَا تُوضَعُ حَسَنَاتُهُ فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِ حَرَّرَهُ.
السَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: إذَا وَقَعَ الْوَزْنُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَتَعَدَّتْ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى فَرَغَتْ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ قَبْلَ فَرَاغِ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ وَتُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ أُخْرَى لِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي شَخْصَيْنِ لَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَأَمَّا هَذِهِ فَبِذَنْبِهِ أُخِذَ وَبِكَسْبِهِ غُفِرَتْ، وَمَحَلُّ الطَّرْحِ الْمَذْكُورِ إذَا مَاتَ الظَّالِمُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَلَا يُطْرَحُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ مَظْلُومِهِ شَيْءٌ.
قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَظْلُومِ سَيِّئَةٌ كَالْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِلظَّالِمِ حَسَنَةٌ كَالْكُفَّارِ فَيُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الظَّالِمِ، وَيُزَادُ فِي عُقُوبَةِ الظَّالِمِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَظْلُومُ أَنْ لَوْ كَانَ ثُمَّ مَا يُؤْخَذُ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا كَانَ الْمَظْلُومُ ذِمِّيًّا وَالظَّالِمُ مُسْلِمًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ حَقُّهُ كَالْحَرْبِيِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: صَارَ حَقًّا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَطْلُبُ بِهِ الظَّالِمَ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «إلَّا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالْحَدِيثُ بَلَغَتْ رُوَاتُهُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ.
الثَّامِنُ: لَيْسَ وَزْنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ لِلْوُصُولِ لِلْإِحَاطَةِ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ ذَلِكَ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ السَّيِّئَاتِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] .
(وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ حِسَابَهُمْ (يُؤْتَوْنَ) أَيْ يُعْطُونَ (صَحَائِفَهُمْ) جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْكُتُبُ الْمَشْحُونَةُ (بِأَعْمَالِهِمْ) الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ الْحَفَظَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ أَخْذَ الصُّحُفِ بَعْدَ الْعَرْضِ وَقَبْلَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ، فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَدِّمَ أَخْذَ الصُّحُفِ عَلَى الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْحِسَابَ بَعْدَ أَخْذِ الصُّحُفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحَقِّيَّةِ أَخْذِ الصُّحُفِ الْكِتَابُ وَالْأَحَادِيثُ وَالْإِجْمَاعُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّحَائِفِ كُتُبُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَنْ يُؤْتِي لَهُمْ الْكُتُبَ وَيَدْفَعُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. فَقِيلَ إنَّ الرِّيحَ تُطَيِّرُهَا مِنْ خِزَانَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَا تُخْطِئُ صَحِيفَةٌ عُنُقَ صَاحِبِهَا، وَقِيلَ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُدْعَى فَيُعْطَى كِتَابَهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَالْكَافِرُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ تَدُلُّ عَلَى الْمَشْهُورِ.
(فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) وَلَوْ عَاصِيًا (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [الإسراء: 71] أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِهِمْ مِقْدَارَ فَتِيلٍ وَهُوَ الْقِشْرُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، سُمِّيَ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَرَادَ اسْتِخْرَاجَهُ يَنْفَتِلُ وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ وَمِثْلُهُ النَّقِيرُ وَالْقِطْمِيرُ. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) وَهُوَ الْكَافِرُ إجْمَاعًا. (فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا) وَالتِّلَاوَةُ {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 11 - 12] قَالَ الْمُفَسِّرُ: أَيْ يَتَمَنَّى الثُّبُورَ بِقَوْلِهِ يَا ثُبُورَاهُ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَالصَّلَى الِاحْتِرَاقُ أَيْ يَذُوقُونَ حَرَّهَا، وَالسَّعِيرُ اسْمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ طِبَاقِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَطْلَقَهُ هُنَا عَلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ هُوَ لَفْظُ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ وَفِي أُخْرَى بِشِمَالِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَافِرَ يُدْخِلُ،
النَّجَاةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ.
وَالْإِيمَانُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، تَرِدُهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَتَكُونُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا بِأَنَّ شِمَالَهُ تُجْعَلُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيُعْطَى كِتَابَهُ بِهَا.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ إنَّمَا قُلْنَا: الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ حِسَابَهُمْ لِإِخْرَاجِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ صُحُفًا وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، نَعَمْ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَخْذِ الصُّحُفِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَعَدَمُ اخْتِصَاصِهِ أَيْضًا بِالْإِنْسِ بَلْ الْجِنُّ كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ.
الثَّانِي: أَوَّلُ مَنْ يُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مُطْلَقًا وَلَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ زَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إلَى الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَبَعْدَهُ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَخُوهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَتَأَمَّلْ هَذَا الْعَجَبَ فِي هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَيْسَ مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
الثَّالِثُ: ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَقِيقِيَّةٌ وَقِيلَ مَجَازِيَّةٌ عَبَّرَ بِهَا عَنْ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَفْظُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَقْرَأُ كُلُّ إنْسَانٍ كِتَابَهُ أُمِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْوَزْنِ. شَرَعَ فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ لِكُلٍّ مِنْ الدَّارَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ) أَيْ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهِ وُجُودُ الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرِدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ حَتَّى مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالصَّادِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى نِزَاعٍ فِي إخْلَاصِهَا وَمُضَارَعَتِهَا بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ مِنْ صَرِت الشَّيْءَ بِكَسْرِ الرَّاءِ إذَا ابْتَلَعْته؛ لِأَنَّهُ يَبْتَلِعُ الْمَارَّةَ، كَمَا أَنَّ الطَّرِيقَ كَذَلِكَ وَحَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ وَشَرْعًا قَالَ السَّعْدُ: هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ أَيْ ظَهْرِ جَهَنَّمَ أَرَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ تَعَالَى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس: 66] وَقَالَ عليه الصلاة والسلام: «يُنْصَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ أَنَا وَأُمَّتِي» . (تَجُوزُهُ الْعِبَادُ) جَمِيعًا لَكِنَّ جَوَازَهُمْ عَلَيْهِ مُخْتَلِفٌ إذْ هُوَ (بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ) الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَلْ فِي الْعِبَادِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ مَنْ يُحَاسَبُ وَمَنْ لَمْ يُحَاسَبْ كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا وَنَازَعَ بَعْضٌ فِي الْكُفَّارِ قَائِلًا: لَا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَحَمَلَ كَلَامَهُ عَلَى أَثْنَاءِ الْمُرُورِ لَا عَلَى ابْتِدَائِهِ فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْكَافِرِ. (فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ) وَالْمَعْنَى: فَقَوْمٌ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ نَاجُونَ (مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ) أَيْ مِنْ السُّقُوطِ فِيهَا وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ إذْ هِيَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالصِّرَاطُ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى جَهَنَّمَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ حِينَئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلُ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ تَخْتَطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَفِي الْحَدِيثِ:«يَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي وَمِنْهُمْ الْحَابِي» . (وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ) أَيْ أَوْقَعَتْهُمْ (فِيهَا) أَيْ فِي جَهَنَّمَ (أَعْمَالُهُمْ) وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ أَيْضًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ وَلَا يَخْرُجُ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ وَيَمْكُثُ فِيهَا مُدَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا كَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى خُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ لِيَجُوزُوا عَلَيْهِ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُزَالُ ثُمَّ يُعَادُ لَهُمْ أَوْ لَا يُعَادُ أَوْ تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إلَى السُّورِ الَّذِي هُوَ الْأَعْرَافُ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ أَرَقُّ أَوْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى الصَّوَابِ خِلَافًا لِلْقَرَافِيِّ فِي قَوْلِهِ الصَّحِيحِ: إنَّهُ عَرِيضٌ، وَخِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ لِوُجُوبِ حَمْلِ النُّصُوصِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إلَّا مَا خَالَفَ الْقَوَاطِعَ، وَالْعُبُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَرَفْعِ السَّمَاءِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى الصَّوَابِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ فِيهِ كَلَالِيبَ تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِأَخْذِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَرَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ.
الثَّانِي: إنَّمَا قَيَّدْنَا وُجُودَ الصِّرَاطِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ جَرَى خِلَافٌ فِي وُجُودِهِ الْآنَ وَعَدَمِ وُجُودِهِ، كَمَا جَرَى خِلَافٌ فِيمَا
أُمَّتُهُ، لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ وَيُذَادُ عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ.
، وَأَنَّ الْإِيمَانَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ: يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا، فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ، وَبِهَا الزِّيَادَةُ، وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا
ــ
[الفواكه الدواني]
مِنْهُ الصِّرَاطُ، فَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ الْبُرْهَانِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الصِّرَاطَ شَعْرَةٌ مِنْ شَعْرِ جَفْنِ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ.
وَفِي كَلَامِ الشِّهَابِ مَا يَرُدُّ قَوْلَ الْبُرْهَانِ: وَأَنَّ الْحَقَّ تَفْوِيضُ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى.
الثَّالِثُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَهَنَّمَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ يُعَيِّنُ أَنَّ الْجَنَّةَ مُجَاوِرَةٌ لِلنَّارِ، وَيُشْكِلُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: إنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالنَّارَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحِسَابِ.
وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَسِيرَتَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَلْفٌ صُعُودٌ وَأَلْفٌ اسْتِوَاءٌ وَأَلْفٌ هُبُوطٌ، وَحِكْمَتُهُ ظُهُورُ عَظِيمِ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّجَاةِ مِنْ النَّارِ، وَلِيَتَحَسَّرَ الْكَافِرُ بِفَوْزِ الْمُؤْمِنِ وَسُقُوطِهِ هُوَ فِي جَهَنَّمَ مَعَ اشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي أَصْلِ الْمُرُورِ.
وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يَغْلِبُ عَطَشُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ ذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ: (وَالْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِحَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) وَاجِبٌ وَيُبَدَّعُ مُنْكِرُهُ دَلَّ عَلَى حَقِّيَّتِهِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْحَوْضُ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ زَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَا ظَلَمَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَرِدُهُ أُمَّتُهُ) عليه الصلاة والسلام (لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ) بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ وُرُودَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ وَقَبْلَ الْحِسَابِ وَقَبْلَ الصِّرَاطِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَهْلُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَقِيدَةِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِهَا.
(وَيُذَادُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةُ وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ يُبْعَدُ (عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ) مُرَادِفٌ لِمَا قَبْلَهُ. إلَّا أَنَّ الَّذِي غَيَّرَ بِكُفْرٍ وَمَاتَ عَلَيْهِ يُطْرَدُ أَبَدًا وَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ بِعِصْيَانٍ دُونَ كُفْرٍ فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ قَوْلِ أُمَّتِهِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّةَ غَيْرِهِ لَا تَرِدُهُ وَإِنَّمَا تَرِدُ حَوْضَ أَنْبِيَائِهَا لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَصَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِحَوْضِ الْمُصْطَفَى - عَلَى الْجَمِيعِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ قُلْت: لِاتِّفَاقِ الْأَحَادِيثِ عَلَى وُجُودِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَقْتَضِي مَفْهُومُ أُمَّتِهِ أَيْضًا أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَغَيْرُ أُمَّتِهِ يُطْرَدُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنْ حَوْضِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَذَا الظَّلَمَةُ الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ. الثَّانِي: مَاءُ الْحَوْضِ مِنْ نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَحَصَلَ التَّوَقُّفُ هَلْ فِي الْمَوْقِفِ مَاءٌ أَمْ لَا؟ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ مَكَانِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَلْ فِيهِ مَاءٌ؟ فَقَالَ: أَيْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ فِيهِ لَمَاءً وَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَيَرِدُونَ حَوْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ بِأَيْدِيهِمْ عَصًى مِنْ نَارٍ يَذُودُونَ الْكُفَّارَ عَنْ حِيَاضِ الْأَنْبِيَاءِ» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيمَى أَيْ عَلَامَةٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ تَرِدُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» .
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: (وَإِنَّ الْأَيْمَانَ) عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ (قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ) أَيْ تَصْدِيقٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِيمَانِ لَا الْإِخْلَاصُ الْمُقَابِلُ لِلرِّيَاءِ. (وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ) لَكِنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة فَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ عليه الصلاة والسلام، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ
بِالْعَمَلِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ.
، وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ
ــ
[الفواكه الدواني]
فَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْخِلَافِ، كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ عَلَى كَلَامِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَكَانَ الرَّاجِحُ الْقَبُولَ قَالَ:(يَزِيدُ) أَيْ الْإِيمَانُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَحَلِّهِ (بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا) وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: (فَيَكُونُ فِيهَا) أَيْ الْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا عَلَى حَدِّ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا (النَّقْصُ) فِي الْإِيمَانِ (وَبِهَا الزِّيَادَةُ) دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَفَاوَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ لَكَانَ إيمَانُ الْفَسَقَةِ مُسَاوِيًا لِإِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَمَلْزُومُهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِكَثْرَةِ النُّصُوصِ نَحْوُ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا} [الأحزاب: 22] وَقَوْلُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَرَجَحَ عَلَيْهَا» وَكُلَّمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ يَقْبَلُ النَّقْصَ فَتَمَّ الدَّلِيلُ، وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِهِ بِنَفْسِ التَّصْدِيقِ فَكَذَلِكَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ وَيَنْقُصُ بِعَدَمِهَا. وَعَلَى هَذَا الرَّاجِحِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْفُقَهَاءُ، وَالْمُحَدِّثُونَ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَنَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ، وَمُقَابِلُهُ لِجَمَاعَةٍ أَعْظَمُهُمْ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ لِأَنَّهُ اسْمُ التَّصْدِيقِ الْبَالِغِ حَدَّ الْجَزْمِ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَأَجَابُوا عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ بِحَسَبِ الدَّوَامِ وَكَثْرَةِ الزَّمَانِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ زِيَادَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَانَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْمُرَادُ زِيَادَةُ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَأَشَارَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ:
وَرُجِّحَتْ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ
…
بِمَا تَزِيدُ طَاعَةُ الْإِنْسَانِ
وَنَقْصُهُ بِنَقْصِهَا وَقِيلَ لَا
…
وَقِيلَ لَا خَلْفٌ كَذَا قَدْ نُقِلَا
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ لَا خَلْفٌ إلَى قَوْلِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ مَعَ جَمَاعَةٍ: إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُفَسِّرُهُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ قَبُولِهِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُفَسِّرُهُ بِالتَّصْدِيقِ فَقَطْ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَذَا قَدْ نُقِلَا إلَى التَّبَرِّي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ الْخِلَافَ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَلْبِيَّ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الصِّدِّيقِينَ أَقْوَى مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيه الشُّبَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، فَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا، وَلَا يُقَالُ: إنْ قَبِلَ التَّصْدِيقُ النَّقْصَ وَالزِّيَادَةَ كَانَ شَكًّا.؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَرَاتِبُ الْيَقِينِ مُتَفَاوِتَةٌ إلَى عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْخَبَرِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْمُشَاهَدِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ مَعًا.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي إيمَانِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِمَا قَالَهُ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ مِنْ أَنَّ إيمَانَ أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّقْصُ وَإِيمَانَ غَيْرِهِمْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ دَائِمًا فِي زِيَادَةٍ عَلَى تَوَالِي الزَّمَانِ، وَإِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُرَادَفَةِ الْإِيمَانِ لِلْإِسْلَامِ أَوْ مُخَالَفَتِهِمَا وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِمَا حُكْمًا كَبَقَائِهِمَا حَالَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الثَّابِتَ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ مَا يُضَادُّهُ يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ وَأَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ، وَمَنْ قَالَ الْإِيمَانُ قَدِيمٌ فَبِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ وَهُوَ التَّوْفِيقُ فَإِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ قَدْ بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ حُدُوثُهَا، فَيَكُونُ التَّوْفِيقُ مَخْلُوقًا أَيْضًا.
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ تَوَقَّفَ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَإِنْ قِيلَ بِهِ، نَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ شَرْطُ كَمَالٍ فَقَطْ بِقَوْلِهِ:(وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ) مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ الْإِيمَانِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ الطَّاعَاتُ، وَأَشَارَ بِهَذَا الْمُصَنِّفُ إلَى دَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ عَمَلَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالْمُصَنِّفُ جَرَى عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ كَسَلًا كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ.
قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَالْإِيمَانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَعَمَلٌ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَتَدْخُلُ الِاعْتِقَادَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، وَمَا نُسِبَ لِأَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إدْخَالُ الْفَاسِقِ تَحْتَ الْإِيمَانِ، وَلَوْلَا التَّأْوِيلُ لَكَانَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِبُطْلَانِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ بِبُطْلَانِ جُزْئِهَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ: إنَّ الْإِيمَانَ النُّطْقُ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَقَوْلِ قَوْمٍ: إنَّهُ الْعَمَلُ فَقَطْ.
(وَلَا) يَكْمُلُ (قَوْلٌ وَ) لَا (عَمَلٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ) أَيْ عَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِالنِّيَّةِ حَقِيقَتُهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْإِخْلَاصُ فَيَصِحُّ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ ثُمَّ إنْ فُسِّرَتْ النِّيَّةُ بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُرَادُ بِلَا يَكْمُلُ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا حَقِيقَتُهَا فَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ، وَمِثَالُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ كَالْأَذَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، هَذَا مُحَصَّلُ مَعْنَى كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ وَلِي وَقْفَةٌ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ إنْ فُسِّرَتْ النِّيَّةُ بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُرَادُ بِلَا يَكْمُلُ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ بِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ بِبُطْلَانِ الْعِبَادَةِ بِالرِّيَاءِ إنْ شَمِلَهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَإِنْ شَمِلَ بَعْضَهَا وَتَوَقَّفَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَفِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ قَالَهُ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ، وَيَكْمُلُ صِحَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ عَدَمُ مُلَاحَظَةِ كَوْنِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ الْكَمَالُ وَعَدَمُ الْإِخْلَاصِ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَمَلَ، وَاسْتَظْهَرَ الْفَاكِهَانِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ هُنَا الْإِخْلَاصُ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لِلَّهِ خَالِصًا بِأَنْ يُفْرِدَهُ بِالْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَإِذَا ابْتَدَأَ الْعَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَسَدَ اتِّفَاقًا. وَإِنْ ابْتَدَأَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ، وَإِنْ ابْتَدَأَهُ وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ وَأَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يُحْمَدَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَدْفَعْهُ بِقَلْبِهِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَبْطُلُ اتِّفَاقًا وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ يَصِحُّ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَدَفَعَهُ فَلَا يَبْطُلُ اتِّفَاقًا.
(وَلَا) يَكْمُلُ (قَوْلٌ) وَهُوَ مَا يَصْدُرُ مِنْ اللِّسَانِ كَالْأَذَانِ وَالْحَمْدِ.
(وَ) لَا (عَمَلٌ وَ) لَا (نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ) أَيْ طَرِيقَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكِتَابِ بَلْ الْمُرَادُ شَرِيعَتُهُ، وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ شَرِيعَتُهُ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ يَجِبُ عَلَى الْآتِي بِهِمَا عَرْضُهُمَا عَلَى شَرِيعَتِهِ، فَمَا وَافَقَهَا كَانَ صَحِيحًا وَمَا خَالَفَهَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَعْصِيَةٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَالْمُوَافِقُ لَهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ أَوْ أُضِيفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ قُرْبَتَهُ وَصَحَّتْ فِيهِ نِيَّتُهُ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا الْفَصْلُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ بِنِيَّةٍ وَكَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ، فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ وَلَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا هُوَ الْكَافِرُ، وَمَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِجَوَارِحِهِ كَانَ فَاسِقًا.
وَمَنْ نَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ وَلَمْ يُخْلِصْ بِقَلْبِهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ بِنِيَّةٍ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لِلسُّنَّةِ كَانَ مُبْتَدِعًا، وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ بِأَنْ قَصَدَ بِفِعْلِهِ النَّاسَ كَانَ مُرَائِيًا فَيَكُونُ عَمَلُهُ بَاطِلًا وَيُسَمَّى الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَإِنَّمَا بَطَلَ عَمَلُ الْمُرَائِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ مُتَلَبِّسَةً بِالْإِخْلَاصِ حَيْثُ قَالَ:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وَمَنْ عَمِلَ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى لَمْ يَأْتِ بِشَرْطِهَا، وَلَيْسَ مِنْ الرِّيَاءِ مَحَبَّةُ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ حَيْثُ ابْتَدَأَ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: اشْتَمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَسَائِلَ: الْأُولَى: بَيَانُ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّطْقِ وَعَمَلِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْجَوَارِحِ. وَالثَّانِيَةُ: قَبُولُ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ. وَالثَّالِثَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عَمَلَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ. وَالرَّابِعَةُ: بَيَانُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ بِمُوَافَقَةِ شَرْعِهِ صلى الله عليه وسلم.
الثَّانِي: رُبَّمَا أَشْعَرَ سُكُوتُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّحَادِهِ مَعَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ بِمَعْنَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالْإِذْعَانِ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35]{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] .
قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَصِحُّ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا يَعْنِي بِوَحْدَتِهِمَا سِوَى هَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَعَدِّدَيْنِ فِي الْخَارِجِ شَرْعًا وَإِنْ اخْتَلَفَ مَفْهُومُهُمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِوَحْدَتِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَآيَةُ:{قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَالْحَدِيثُ وَالْآيَةُ صَرِيحَانِ فِي مُغَايَرَةِ الْإِسْلَامِ لِلْإِيمَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّغَايُرِ أَرَادَ الْمَفْهُومَ. وَمَنْ قَالَ بِالِاتِّحَادِ نَظَرَ بِاللُّزُومِ الْخَارِجِيِّ الْمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ فَافْهَمْ.
وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي كُفْرِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَكَانَ الصَّحِيحُ عَدَمَ كُفْرِهِ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّهُ) أَيْ وَالْحَالُ وَالشَّأْنُ (لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ) مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ (بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أَيْ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَقَرَّرَ بِالْإِيمَانِ الْجَازِمِ إيمَانُهُ وَتَحَقَّقَ بِالْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ إسْلَامُهُ إذَا ارْتَكَبَ ذَنْبًا لَيْسَ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ عِنْدَنَا بِارْتِكَابِهِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عِنْدَنَا عَنْ الْإِيمَانِ صَغِيرًا كَانَ الذَّنْبُ أَوْ كَبِيرًا، خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فِي التَّكْفِيرِ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَلَوْ صَغَائِرَ، وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إخْرَاجِهِمْ الْعَبْدَ بِالْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ تُدْخِلْهُ فِي الْكُفْرِ إلَّا بِاسْتِحْلَالٍ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَالَ بِهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ ابْتَدَعَ بِإِنْكَارِهِ صِفَةَ الْبَارِي، وَكَمُنْكِرِ خَلْقِ اللَّهِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَكْثَرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ بَلْ يُؤَدَّبُونَ، أَمَّا مَنْ خَرَجَ بِبِدْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمُنْكَرِي حُدُوثَ الْعَالَمِ وَالْبَعْثَ وَالْحَشْرَ لِلْأَجْسَامِ وَالْعِلْمَ لِلْجُزْئِيَّاتِ فَلَا نِزَاعَ فِي كُفْرِهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ بَعْضَ مَا عُلِمَ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً، وَوَقَعَ نِزَاعٌ فِي تَكْفِيرِ الْمُجَسِّمِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْأَقْرَبُ كُفْرُهُ، وَاخْتِيَارُ الْعِزِّ عَدَمُ كُفْرِهِ لِعُسْرِ فَهْمِ الْعَوَامّ بُرْهَانَ نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَإِنْ نَفَى شَخْصٌ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ جَحَدَهَا مُسْتَبْصِرًا فِي ذَلِكَ أَيْ حَالَ كَوْنِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ جَحْدِهَا وَنَفْيِهَا مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا مُرِيدًا وَلَا مُتَكَلِّمًا وَشِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ عز وجل، فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّتُنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْوَصْفَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ يُكَفِّرُونَ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُفْرِهِ، وَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ مَقَالَتَهُ حَقًّا وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دِينًا، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْوَصْفَ وَنَفَى الصِّفَةَ فَقَالَ: اللَّهُ عَالِمٌ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ وَلَا كَلَامَ لَهُ وَهَكَذَا فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَالِ لَمْ يُكَفِّرْهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْمَآلِ كَفَّرَهُ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ كُفْرِهِ، كَمَنْ نَفَى الصِّفَاتَ الْمَعْنَوِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ قَدِيمٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ، كَمَا يَكْفُرُ مَنْ اعْتَرَفَ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً أَوْ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ شَيْءٍ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ هُنَاكَ صَانِعًا لِلْعَالَمِ سِوَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةَ الْبَقَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِالنَّفْيِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ فَلَا يَكْفُرُ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ بِنَفْيِهِ طَرَيَانَ الْعَدَمِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا فَإِنْ أَرَادَ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ فَلَا يَكْفُرُ، وَإِنْ أَرَادَ الْوُجُوبَ الذَّاتِيَّ أَيْ بِالْقَهْرِ وَعَدَمِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِنَفْيِهِ الْإِرَادَةَ، وَالِاخْتِيَارَ، وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْأَفْعَالِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَشِبْهِهَا مِنْ الدَّقَائِقِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ تَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا. إذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ بِالذَّنْبِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ النَّاطِقَةُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْعَاصِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] الْآيَةُ، وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَبِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُدُودِ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ كَالسَّارِقِ وَالزَّانِي وَلَوْ كَفَرَ لَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُكَفِّرُ مِنْ نَحْوِ حَدِيثِ:«مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» فَمُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّ
وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ.
، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ
ــ
[الفواكه الدواني]
مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِ بِالِارْتِدَادِ مِنْ قَتْلِهِ إنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَعِنَادًا أَوْ أَخَّرْنَاهُ لَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا، بِخِلَافِ الْجَاحِدِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ.
1 -
(تَتِمَّةٌ: أَهْلُ الْبِدَعِ عَلَى أَصْنَافٍ) مِنْهُمْ مُعْتَزِلَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ شَيْخِ وَاصِلٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ يُكَفِّرُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مُفَكِّرًا فِي الْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ فَبَادَرَهُ وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَلَا وَلَا وَهُوَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، وَأَرَادَ إثْبَاتَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّخْصِ لَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا اعْتَزَلَ عَنَّا وَاصِلٌ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ قَوَاعِدَ الِابْتِدَاعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ ثَوَابِ الْمُطِيعِ وَعُقُوبَةِ الْعَاصِي وَهُوَ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، وَيَنْفُونَ زِيَادَةَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ عَالَمٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ. وَمِنْهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ الْجَبْرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْكَسْبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ كَالْخَيْطِ الْمُعَلَّقِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَلَا يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ. وَمِنْهُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُتَّبِعُونَ إلَى رَأْي أَبِي جُهَيْمٍ الْمُنْفَرِدِ بِمَقَالَةٍ بَاطِلَةٍ كَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ الْبَارِي وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَمَنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهِ (أَنَّ) أَجْسَامَ (الشُّهَدَاءِ) جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ (أَحْيَاءٌ) حَقِيقَةً (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ (يُرْزَقُونَ) مِنْ مُشْتَهَى الْجَنَّاتِ مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ لَمَّا قَالَ النَّاسُ فِي حَقِّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مَاتَ فُلَانٌ وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا، فَكَرِهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحُطَّ مَنْزِلَتَهُمْ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْجُزُولِيُّ: حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِأُمِّ حَارِثَةَ: إنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ» وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلصَّحَابَةِ لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُهُمْ بِأُحُدٍ: جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَيَتَأَخَّرُوا عَنْ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الْآيَةُ» .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ أَجْسَادُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ حَقِيقَةٌ ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَعُودُ إلَيْهَا الْحَيَاةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَا تَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ بَلْ حَيَاةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ.
الثَّانِي: حَمَلْنَا الشُّهَدَاءَ عَلَى شُهَدَاءِ الْحَرْبِ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مُؤْثِمٍ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُجَاهِدُونَ شَرْعًا، وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ قَاتَلَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ذَاهِبًا إلَى إرَادَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَةٍ لَا تُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ. نَعَمْ اخْتَارَ جَمْعٌ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَصْدِ الْأُخْرَوِيِّ فَيُؤْجَرُ بِقَدْرِهِ وَبَيْنَ الْقَصْدِ الدُّنْيَوِيِّ فَلَا يُؤْجَرُ كَمَا إذَا قُصِدَا مَعًا، وَأَلْحَقَ الْقُرْطُبِيُّ بِالْمُجَاهِدِ كُلَّ مَقْتُولٍ عَلَى الْحَقِّ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَفِي إقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ دَارَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا إلَّا عِنْدَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ دَمَهُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِلشَّهِيدِ كَرَامَتَانِ غَيْرَ هَذِهِ، كَالْأَمْنِ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَالْغُفْرَانِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ جَسَدَهُ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ احْتِسَابًا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ» وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ فِي مَغْرِزِ الذَّنَبِ لِلدَّابَّةِ.
مُعَذَّبَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ.
، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيُسْأَلُونَ، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .
ــ
[الفواكه الدواني]
الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ بِشَهِيدِ الْحَرْبِ أَوْ مَنْ مَعَهُ أَنَّ شَهِيدَ الْآخِرَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالْإِحْرَاقِ أَوْ بِالْإِسْهَالِ، أَوْ كَالْمَقْتُولِ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ مَاتَ غَرِيبًا أَوْ مُتَلَبِّسًا بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ وَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ فِي مُطْلَقِ الْأَجْرِ.
الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَإِنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَةِ أُمَّتِهِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلَوْنَ مَعَ أَنَّا نَعْتَقِدُ ثُبُوتَ الْإِدْرَاكَاتِ كَالْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ لِسَائِرِ الْمَوْتَى وَنَقْطَعُ بِعَوْدِ حَيَاةِ كُلِّ مَيِّتٍ فِي قَبْرِهِ وَبِنَعِيمِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَهُمَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى بِنْيَةٍ، وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْحَيَاةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَمُقْتَضَاهَا أَنَّهَا مَعَ الْبِنْيَةِ فَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ: الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالْعُلَمَاءُ لَا يَبْلَوْنَ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَأْكُلُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي نِكَاحِهِمْ نِسَاءَهُمْ، وَلِلشَّاذِلِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إنَّ الشُّهَدَاءَ يَنْكِحُونَ حَقِيقَةً كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَقَائِلُ غَيْرِ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ.
قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:
وَصِفْ شَهِيدَ الْحَرْبِ بِالْحَيَاةِ
…
وَرِزْقِهِ مِنْ مُشْتَهَى الْجَنَّاتِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا حَقِيقَةَ الرِّزْقِ فِيمَا سَبَقَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّوحِ مِنْ حَيْثُ نَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَمَحَلِّهَا وَحَقِيقَتِهَا فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يُطْلَبُ الْجَزْمُ بِهِ أَنَّ (أَرْوَاحَ) جَمْعُ رُوحٍ وَيُرَادِفُهَا النَّفْسُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (أَهْلِ السَّعَادَةِ) وَهُمْ كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى وَهِيَ الْمَوْتُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (بَاقِيَةٌ) لَا تَفْنَى عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا وَلَا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَهْلِكُ عِنْدَهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ، وَكَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهَا (نَاعِمَةٌ) أَيْ مُنَعَّمَةٌ بِرُؤْيَةِ مَقْعَدِهَا فِي الْجَنَّةِ وَيَسْتَمِرُّ لَهَا ذَلِكَ (إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ يَقُومُونَ أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
(وَ) يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ (أَرْوَاحَ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) وَهُمْ كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا طُولَ عُمْرِهِ (مُعَذَّبَةٌ) بِرُؤْيَةِ مَقْعَدِهَا مِنْ النَّارِ وَيَسْتَمِرُّ لَهَا ذَلِكَ (إلَى يَوْمِ الدِّينِ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الدِّينِ يَحْصُلُ النَّعِيمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْعَذَابُ الْحَقِيقِيُّ الْأَبَدِيُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا بَعْدَ الْقِيَامَةِ يَنْقَطِعَانِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي مُدَّةِ الْبَرْزَخِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُك إلَى أَنْ يَبْعَثَك اللَّهُ» . وَالتَّنْعِيمُ وَالتَّعْذِيبُ إمَّا لِلْجَسَدِ كُلِّهِ أَوْ لِجُزْئِهِ بَعْدَ إعَادَةِ الرُّوحِ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ. . . إلَخْ تَبِعَ فِيهِ مَذْهَبَ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنَ هُبَيْرَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّنْعِيمَ وَالتَّعْذِيبَ لِلرُّوحِ فَقَطْ.
قَالَ الْجَلَالُ تَبَعًا لِشَيْخِهِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَهُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ أُضِيفَ إلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ إلَى أَنْ قَالَ: وَمَحَلُّهُ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّعِيمِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَسْنَدَ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلْأَرْوَاحِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَجْسَادِ، فَيَلْزَمُ مِنْ تَعْذِيبِ أَوْ تَنْعِيمِ الْأَرْوَاحِ تَنْعِيمُ أَوْ تَعْذِيبُ الْأَجْسَادِ، فَلَمْ يَخْرُجْ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ.
1 -
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عَذَابُ الْقَبْرِ قِسْمَانِ: دَائِمٌ وَهُوَ عَذَابُ الْكُفَّارِ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنْقَطِعٌ وَهُوَ عَذَابُ مَنْ خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ بِدُعَاءٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْيَافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَوْتَى لَا يُعَذَّبُونَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَشْرِيفًا لَهَا قَالَ: وَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، وَعَمَّمَهُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا قَالَ: إنَّ الْكَافِرَ يُرْفَعُ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا وَجَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْعَاصِي فَإِنْ مَاتَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا عُذِّبَ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَلَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا عُذِّبَ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ:«مَا مِنْ مُسْلَمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا إلَّا وُقِيَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَلَقِيَ اللَّهَ وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ» قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ سُؤَالِ الْمَيِّتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ عَدَمُ إعَادَةِ السُّؤَالِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ مُضِيِّ اللَّيْلَةِ وَالْيَوْمِ لِفَضْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يُوهِمُ الْإِعَادَةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
الثَّانِي: مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَتُهُ وَهِيَ الْتِقَاءُ حَافَّتَيْهِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَنْجُو مِنْهَا صَالِحٌ وَلَا طَالِحٌ، وَلَوْ نَجَا مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَلَائِكَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَفْلَتَ مِنْهَا
وَأَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ.
، وَأَنَّ
ــ
[الفواكه الدواني]
أَحَدٌ لَأَفْلَتَ مِنْهَا هَذَا الصَّبِيُّ» . وَوَرَدَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ أُمَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ بِهِ يَسْلَمَانِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام» .
1 -
الثَّالِثُ: مِنْ نَعِيمِ الْقَبْرِ وَتَوْسِيعِهِ وَجَعْلِ قِنْدِيلَ فِيهِ وَفَتْحِ طَاقَةٍ فِيهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَإِمْلَائِهِ خَضِرًا أَيْ نَعِيمًا وَجَعْلِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَخْتَصُّ نَعِيمُ الْقَبْرِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بِالْمُكَلَّفِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ، وَقَوْلُ الْمَلَكِ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ النَّعِيمِ خَاصٌّ بِالطَّائِعِ وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ يَوْمَ الدِّينِ.
الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْخَوْضِ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي حَقِيقَتِهَا بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَنَا التَّكَلُّمُ فِيهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ لِعِلْمِ الْعَبْدِ عَجْزَ نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ جَسَدُهُ وَبَيْنَ جَنْبَيْهِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أَيْ مِمَّا انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ كَمَا عَلَيْهِ جَمْعٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ حَتَّى أَطْلَعَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِمَّا أَخْفَاهُ كَالسَّاعَةِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِكَتْمِهِ، كَمَا اُخْتُلِفَ فِي مَقَرِّهَا مِنْ الشَّخْصِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِكَوْنِهَا فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَإِنْ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ مَحَلَّهَا الْقَلْبُ. كَمَا أَنَّ الصَّوَابَ مُرَادَفَةُ الرُّوحِ لِلنَّفْسِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: النَّفْسُ جَسَدٌ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّ وَالرُّوحُ النَّفَسُ الْمُتَرَدِّدُ فِي الْإِنْسَانِ، وَكَمَا اُخْتُلِفَ فِي تَعَدُّدِهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَخَالَفَ الْعِزُّ وَادَّعَى أَنَّ فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَيْنِ: رُوحَ الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ مَاتَ، وَرُوحَ الْيَقَظَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُ الْجَسَدِ بِبَقَائِهَا مُسْتَيْقِظًا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ نَامَ.
الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّ الرُّوحِ مِنْ الْجَسَدِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَأَمَّا مَقَرُّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقِيَامَةِ فَمُخْتَلَفٌ، فَمَقَرُّ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ الْجَنَّةُ وَمَقَرُّ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَمَقَرُّ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمَا الْبَرْزَخُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاجِزُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ زَمَانٌ وَحَالٌ وَمَكَانٌ، فَزَمَانُهُ فِي حِينِ الْمَوْتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَالُهُ الْأَرْوَاحُ وَمَكَانُهُ مِنْ الْقَبْرِ إلَى عِلِّيِّينَ لِأَرْوَاحِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَلَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بَلْ هِيَ فِي سِجِّينٍ مَسْجُونَةً وَبِلَعْنَةِ اللَّهِ فِيهِ مَوْصُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ بِسِجِّينٍ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَقِيلَ: أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِكُلِّ رُوحٍ بِجَسَدِهَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لِيَحِلَّ لَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ مَا كُتِبَ لَهَا، وَبِقَوْلِنَا لَهَا اتِّصَالٌ يَحْصُلُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ وَمَنْ قَالَ إنَّهَا فِي عِلِّيِّينَ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَالِ مَا وَرَدَ:«أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَبْرِ شَخْصٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَعْرِفُهُ وَيَرُدُّ عليه السلام وَهُوَ فِي قَبْرِهِ» .
1 -
السَّادِسُ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُحْدَثَةٌ خِلَافًا لِلزَّنَادِقَةِ، نَعَمْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خَلْقِهَا قَبْلَ الْجَسَدِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ خُلِقَتْ قَبْلَهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَقِيلَ بَعْدَهُ؛ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] قِيلَ: إنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ وَخَلْقِهِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّأْخِيرِ.
1 -
السَّابِعُ: وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فَنَائِهَا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَا تَفْنَى كَمَا لَا يَفْنَى عَجْبُ الذَّنَبِ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ) أَيْ يُمْتَحَنُونَ وَيُخْتَبَرُونَ (فِي قُبُورِهِمْ وَ) مَعْنَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ (يُسْأَلُونَ) لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَكِيرٌ بِكَسْرِهَا بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَوَّبَتْهَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَكْرِمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِتَثْبِيتِهِمْ وَهَتْكًا لِسِتْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثُوا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وَهُوَ قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَّتَهُمْ لَا يَزُولُونَ إذَا فُتِنُوا فِي دِينِهِمْ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ (وَفِي الْآخِرَةِ) عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ لَهُ فِي قَبْرِهِ فَإِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَلَا يَتَلَعْثَمُونَ إذَا سُئِلُوا عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا مَفْهُومَ لِلْمَقْبُورِ بَلْ كُلُّ مَيِّتٍ يُسْأَلُ قُبِرَ أَوْ لَمْ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
يُقْبَرْ إلَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ بَعْدَ سُؤَالِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُثَبِّتُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْلِ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ.
وَقِيلَ: عِنْدَ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ لِلْفِتْنَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ تَحْضُرُ لَهُ شَيَاطِينُ عَلَى صُورَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ هُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ سَبَقْنَاك إلَى الْآخِرَةِ فَوَجَدْنَا أَحْسَنَ الْأَدْيَانِ دِينَ كَذَا إشَارَةً إلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ بِالشَّرْعِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمَوْتَى تُسْأَلُ فِي قُبُورِهَا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَحْيَا بِرَدِّ الرُّوحِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَرُجِّحَ وَقِيلَ إلَى النِّصْفِ الْأَعْلَى وَيُرَدُّ إلَيْهَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْخِطَابِ وَيَتَأَتَّى مَعَهُ رَدُّ الْجَوَابِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ كَالْحَيَاةِ الْمَعْهُودَةِ ثُمَّ تُسْأَلُ، وَالدَّلِيلُ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَك بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْت أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيه غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِنَحْوِهِ وَزَادَ: «وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خُضَرًا أَيْ شَيْئًا يَتَلَذَّذُ بِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُ» .
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: الْمُؤْمِنِينَ شُمُولُهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ مِنْ الْجِنِّ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَخْرُجُ الْكَافِرُ وَلَوْ مُنَافِقًا، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ اخْتِصَاصُ السُّؤَالِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِحَدِيثِ:«أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا» وَخَالَفَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خُرُوجِ الْكَافِرِ خَالَفَ فِيهِ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَا: إنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ يُسْأَلَانِ، بَلْ صَرِيحُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ سُؤَالُ الْكَافِرِ وَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى سُؤَالِ الْمُنَافِقِ، فَلَعَلَّ الرَّاجِحَ الْقَوْلُ بِسُؤَالِ الْكُفَّارِ فَلَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِي سُؤَالِهِمْ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ وَهُمْ بِذَلِكَ أَحْرَى مِنْ الْمُسْلِمِ.
الثَّانِي: قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ وَابْنُ نَاجِي: الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ وَهِيَ السُّؤَالُ مَرَّةً وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّهُ يُسْأَلُ ثَلَاثًا، وَفَصَّلَ الْجَلَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ فَيُسْأَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالْكَافِرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا.
الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمَسْئُولَ عَنْهُ وَصَرَّحَ الْبَعْضُ بِهِ فَقَالَ: السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ عَنْ الْعَقَائِدِ فَقَطْ، يَقُولُ الْمَلِكُ لِلْمَيِّتِ: مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ.
وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ مَنْ أَبُوك وَمَا قِبْلَتُك، وَفِي أُخْرَى الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَجُمِعَ بِاخْتِلَافِ الْمَسْئُولِينَ وَبِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضٍ وَبَعْضُهُمْ أَتَمَّ فَتَوَهَّمَ الِاخْتِلَافَ.
الرَّابِعُ: جَوَّزَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَسْأَلَا الْمَيِّتَ مَعًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَكَتَبَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَالْآخَرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَاَلَّذِي يُبَاشِرُ السُّؤَالَ الْوَاقِفُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي أُخْرَى، وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَسْئُولِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَوَقْتُ السُّؤَالِ أَوَّلُ يَوْمٍ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ وَعِنْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، وَتَوَقَّفَ الْجَلَالُ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ السُّؤَالِ وَجَزَمَ بِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ الْمَيِّتَ مَعًا وَلَا يَتَوَلَّى السُّؤَالَ إلَّا أَحَدُهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى كَوْنِ السُّؤَالِ أَوَّلَ يَوْمٍ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ وَعِنْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ لَوْ مَاتَ جَمَاعَةٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَبَاعِدَةٍ وَدُفِنُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَلَكَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ مُبَاشَرَةُ سُؤَالِ الْجَمِيعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يُعَظِّمَ اللَّهُ جُثَّتَيْهِمَا حَتَّى يُخَاطِبَا الْخَلْقَ الْكَثِيرَ فِي زَمَانٍ مُتَّحِدٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَيُخَيَّلُ لِكُلٍّ أَنَّهُ الْمَسْئُولُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُحْجَبُ سَمْعُ كُلٍّ عَنْ سَمَاعِ كَلَامِ غَيْرِهِ عَلَى نَظِيرِ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ خَلْقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْصِيصِ الْمَلَكَيْنِ، وَأَمَّا تَعَدُّدُ مَلَائِكَةِ السُّؤَالِ بِتَعَدُّدِ الْمَسْئُولِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَقُولُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَعْيِينُهُمَا بِأَنَّهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ.
الْخَامِسُ: صِفَةُ الْمَلَكَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ أَعْيُنُهُمَا كَقُدُورِ النُّحَاسِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: كَالْبَرْقِ وَأَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ إذَا تَكَلَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمَا كَالنَّارِ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِطْرَاقٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضَرَبَ بِهِ الْجِبَالَ ضَرْبَةً لَذَابَتْ.
وَفِي رِوَايَةٍ: بِيَدِ أَحَدِهِمَا مِرْزَبَّةٌ لَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ مِنًى لَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَهَا وَاسْمُهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْبِهَانِ خَلْقَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا خَلْقَ الطَّيْرِ وَلَا الْبَهَائِمِ وَلَا الْهَوَامِّ بَلْ هُمَا خَلْقٌ بَدِيعٌ وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا أُنْسٌ لِلنَّاظِرِينَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَذْكِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَتْكًا لِسِتْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا لِلْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ هُمَا لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي وَأَمَّا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ فَلَهُ مَلَكَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا بَشِيرٌ وَالْآخَرُ مُبَشِّرٌ، قِيلَ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ نَاكُورٌ، وَقِيلَ وَيَجِيءُ قَبْلَهُمَا مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ رُمَّانُ، وَحَدِيثُهُ قِيلَ مَوْضُوعٌ وَقِيلَ فِيهِ لِينٌ، وَمَا وَرَدَ مِنْ انْتِهَاءِ الْمَلَكَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَإِزْعَاجِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ لَهُ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ فَيَقُولَانِ لَهُ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ: أَنَّ كُلَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ يُوَفَّقُ لِجَوَابِ الْمَلَكَيْنِ.
السَّادِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا كَذَلِكَ كَيْفَ يَدْخُلَانِ الْقَبْرَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ، وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُمَا يَبْحَثَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَأَنَّهُمَا كَصَيَاصِي الْبَقَرِ أَيْ قُرُونِهِمَا.
وَفِي آخَرَ أَنَّهُمَا يَمْشِيَانِ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي الضَّبَابِ وَهُمَا رَافِعَانِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي أَبَدَاهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ.
السَّابِعُ: رُبَّمَا يَقَعُ السُّؤَالُ فِي حُضُورِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لِأَحَدٍ فِي قَبْرِهِ وَقْتَ سُؤَالِهِ، وَقَالَ فِيهِ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَحْضُرُ لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُضُورُ إبْلِيسَ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْقَبْرِ مُشِيرًا إلَى نَفْسِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْمَلَكِ: مَنْ رَبُّكَ مُسْتَدْعِيًا مِنْ جَوَابِهِ بِهَذَا رَبِّي، فَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلْجَوَابِ.
الثَّامِنُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا مَنْ وَرَدَ عَدَمُ سُؤَالِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ - وَلَوْ شَهِدَ آخِرَةً فَقَطْ - وَالْمُرَابِطِ وَالْمَيِّتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَتَدْخُلُ بِزَوَالِ شَمْسِ الْخَمِيسِ، أَوْ يَوْمَهَا وَالْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يُقْبَرَ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبُلْهِ.
قَالَ الْجَلَالُ: وَمُقْتَضَى الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ إلَّا الْمُكَلَّفُ فَلَا تُسْأَلُ الْأَطْفَالُ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِسُؤَالِهِمْ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي فِي بَابِ الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ، وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَتَلَخَّصَ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْأَطْفَالِ قَوْلَيْنِ، وَمِمَّنْ لَا يُسْأَلُ الْمُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ وَالْمُلْكِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَجَمِيعُ مَنْ نَصَّ عَلَى شَهَادَتِهِ.
التَّاسِعُ: مَنْ أَنْكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَسُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ مُبْتَدِعٌ وَيُؤَدَّبُ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُضْرَبُ أَدَبًا كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رضي الله عنه بِبَعْضِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّخْصِ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْجَزْمُ بِهِ وَيَكْفُرُ بِجَحْدِهِ اعْتِقَادُ (أَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ) الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكْتُبُونَهَا فِي دِيوَانٍ مِنْ وَرَقٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، لَا يُهْمِلُونَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ شَيْئًا قَوْلًا أَوْ اعْتِقَادًا، هَمًّا أَوْ عَزْمًا، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، أَوْ الصَّغَائِرَ الْمَغْفُورَةَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ أَوْ الذُّهُولِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ كَمَا رَوَاهُ عُلَمَاءُ النَّقْلِ.
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: يَكْتُبُونَ عَلَى الْعِبَادِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُمْ فِي مَرَضِهِمْ مُحْتَجًّا بِظَاهِرِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَالرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَالْعَتِيدُ الْحَاضِرُ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
بِكُلِّ عَبْدٍ حَافِظُونَ وُكِّلُوا
…
وَكَاتِبُونَ خِيرَةً لَنْ يُهْمِلُوا
مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا فَعَلَ وَلَوْ ذَهَلَ
…
حَتَّى الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ كَمَا نُقِلَ
فَحَاسِبِ النَّفْسَ وَقِلِّ الْأَمَلَا
…
فَرُبَّ مَنْ جَدَّ لِأَمْرٍ وَصَلَا
وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي الْعَبْدِ الْكَافِرُ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ أَيْ نَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْكَافِرِ حَفَظَةً يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ قَالَ بَعْضٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَاتِبِينَ هُمْ الْحَفَظَةُ، وَكَلَامُ الْجَوْهَرَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ خِلَافٍ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْحَقَّ مِنْهُ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إطْلَاقُهُ الْعِبَادَ يَتَنَاوَلُ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ كَتْبُهُمْ حَسَنَاتِ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ لَا
مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ بِإِذْنِ رَبِّهِ.
، وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ: الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ
ــ
[الفواكه الدواني]
حَفَظَةَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ حَالَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا لِلتَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَأَمَّا غَيْرُ الْحَسَنَاتِ فَلَا يُكْتَبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَرُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْجُزُولِيُّ فِيهِمْ وَفِي الْجِنِّ هَلْ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ أَمْ لَا؟ ثُمَّ جَزَمَ بِأَنَّ عَلَى الْجِنِّ الْحَفَظَةَ دُونَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ اسْتَبْعَدَ كَوْنَ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّسَلْسُلِ الثَّانِي: مَحَلُّ الْحَفَظَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ شَفَةُ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ مَحَلُّ كَاتِبِ الْحَسَنَاتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرَ، وَقَلَمُهُمْ لِسَانُهُ وَمِدَادُهُمْ رِيقُهُ لَا يُفَارِقُونَهُ إلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَالْجِمَاعِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَتْبُهُمَا عَلَيْهِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمَا عَلَامَةً وَعَلَى نَوْعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ كَتْبِ السَّيِّئَةِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ سِتِّ سَاعَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَيُبَادِرُ لِكَتْبِ الْحَسَنَاتِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمَكِّنْهُ كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ مِنْ كَتْبِ السَّيِّئَةِ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ، فَإِنْ اسْتَغْفَرَ فِي دَاخِلِ السَّاعَاتِ كَتَبَهَا كَاتِبُ الْيَمِينِ حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ اسْتِغْفَارٌ وَلَا تَوْبَةٌ كَتَبَهَا صَاحِبُ الشِّمَالِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَكْتُبُهَا كَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى الْقَوْلِ بِكَتْبِهَا، وَأَمَّا مَحَلُّهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَبْرُ الْمَيِّتِ يُسَبِّحَانِ وَيُهَلِّلَانِ وَيُكَبِّرَانِ وَيُكْتَبُ ثَوَابُهُ لِلْمَيِّتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَيَلْعَنَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ كَانَ كَافِرًا.
الثَّالِثُ: اُخْتُلِفَ هَلْ عَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ الْمَلَكَيْنِ؟ فَقِيلَ عَلَيْهِ عَشْرَةٌ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّ عَلَيْهِ عِشْرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْحَفَظَةِ قَوْله تَعَالَى:{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]{وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10]{كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ» وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْحَفَظَةِ فَمَنْ جَحَدَ أَوْ كَذَّبَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ، وَسُمُّوا حَفَظَةً لِحِفْظِهِمْ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ لِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ.
الرَّابِعُ: وَقَعَ تَرَدُّدُ الشُّيُوخِ فِيمَنْ يَصْعَدُ بِالْمَكْتُوبِ هَلْ هُوَ الْكَاتِبُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ فَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ» هَلْ هُمْ الْحَفَظَةُ فَيَكُونُونَ أَرْبَعَةً اثْنَانِ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، كَمَا وَقَعَ خِلَافٌ هَلْ الْكَتَبَةُ هُمْ الْحَفَظَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ؟ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ أَنَّ الْكَتَبَةَ هُمْ الْحَفَظَةُ وَقِيلَ غَيْرُهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ وَضْعِ الْحَفَظَةِ عَلَى الْعِبَادِ خَفَاءُ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ.
قَالَ كَالْمُسْتَدْرِكِ عَلَى مَا سَبَقَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنْ (لَا يَسْقُطَ) أَيْ يَغِيبَ (شَيْءٌ) مِمَّا ضَبَطُوهُ عَلَى الْعِبَادِ (عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ) لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ سبحانه وتعالى بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ وَضْعَ الْحَفَظَةِ لَا لِخَوْفِ نِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْبَارِي - تَعَالَى - وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ تَرْجِعُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مَنْ يُحْصِي عَمَلَهُ وَيَضْبِطُهُ لِيَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَحْصُلُ مِنْهُ انْزِجَارٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَلِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ جَحْدِهِمْ.
(وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ (أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ) وَهُوَ عِزْرَائِيلُ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ (يَقْبِضُ) جَمِيعَ (الْأَرْوَاحِ) مِنْ مَقَرِّهَا أَوْ مِنْ يَدِ أَعْوَانِهِ الْمُعَالِجِينَ لِنَزْعِهَا مِنْهُ لَكِنْ (بِإِذْنِ رَبِّهِ) لِمَا فِي الْخَبَرِ: «وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ بِقَبْضِهَا» ، وَأَشَارَ إلَى هَذَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ:
وَوَاجِبٌ إيمَانُنَا بِالْمَوْتِ
…
وَيَقْبِضُ الرُّوحَ رَسُولُ الْمَوْتِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ كُلَّ ذِي رُوحٍ وَلَوْ أَعَزُّ خَلْقِهِ كَمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ أَعْظَمُ مُصِيبَةً يُصَابِهَا الْآدَمِيُّ، وَلَيْسَ ثَمَّ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ سِوَى الْغَفْلَةِ عَنْهُ.
قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] وَحَقِيقَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ كَيْفِيَّةٌ وُجُودِيَّةٌ تُضَادُّ الْحَيَاةَ أَوْ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُون حَيًّا وَجَاحِدُهُ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ كُلَّ رُوحٍ يَشْمَلُ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ وَلَوْ شَهِيدَ بَحْرٍ، وَيَشْمَلُ أَرْوَاحَ الْبَهَائِمِ وَلَوْ بَرَاغِيثَ، بَلْ قِيلَ إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ إنَّمَا يَقْبِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قِيلَ إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ شَهِيدِ الْبَحْرِ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ جَمِيعًا مَلَكُ الْمَوْتِ فَكَيْفَ إذَا مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ فِي زَمَنٍ مُتَّحِدٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْآكِلِ وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى وَوَجْهُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا فَأَتَى مُوسَى عليه الصلاة والسلام فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَأَتَى رَبَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُك مُوسَى فَقَأَ عَيْنِي وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْك لَشَقَقْت عَلَيْهِ.
قَالَ: اذْهَبْ إلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ وَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْهَا يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ وَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَهُ إلَيْهِ، فَكَانَ بَعْدُ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدَانَ:«مَلَكُ الْمَوْتِ كَانَ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ بِغَيْرِ وَجَعٍ فَسَبَّهُ النَّاسُ وَلَعَنُوهُ فَشَكَا إلَى رَبِّهِ فَوَضَعَ اللَّهُ الْأَوْجَاعَ وَنُسِيَ مَلَكُ الْمَوْتِ، يُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ مِنْ مَرَضِ كَذَا» .
الثَّانِي: إنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الرُّوحَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَيَاتِهَا، لَكِنَّ إسْنَادَ الْقَبْضِ إلَى مَلَكِ الْمَوْتِ يُعَارِضُهُ آيَةُ:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَآيَةُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ إسْنَادَ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ فِي آيَةِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} [الزمر: 42] عَلَى طَرِيقِ الْخَلْقِ، وَإِسْنَادَهُ إلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فِي آيَةِ {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] كَمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِنَزْعِهَا، وَإِسْنَادَهُ إلَى الرُّسُلِ فِي آيَةِ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُعَالِجُونَ فِي نَزْعِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ الْأَعْصَابِ.
الثَّالِثُ: وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَدْرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فَقِيلَ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ تَفْوِيضُ عِلْمُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَدْرُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْكَشْفِ: الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ وَلَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ أَيْضًا: كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ فَضْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَعَلَى بَعْضِهِمْ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ (أَنَّ خَيْرَ) أَيْ أَفْضَلَ (الْقُرُونِ) الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ مَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم (الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا بِهِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالْمُرَادُ بِهِمْ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَصَحِبُوهُ وَلَوْ قَلِيلًا فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَأَوْلَى الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِلْءَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَلِحَدِيثٍ: «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» .
وَفِي الْقُرْآنِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْضَلُ أُمَّتِي، وَمَعْنَى لَا يَبْلُغُ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَنَّ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ بِمِلْءِ أُحُدٍ مِنْ الذَّهَبِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يَبْلُغُ ثَوَابَ إنْفَاقِ الْمُدِّ وَلَا نَصِيفِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ رضي الله عنهم كَانَ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَضِيقِ الْحَالِ، وَكَانَ فِي حَضْرَةِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَحِمَايَتِهِ مَعَ صِدْقِ نِيَّتِهِمْ وَخُلُوصِ طَوِيَّتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالنَّصِيفُ عَلَى وَزْنِ رَغِيفٍ فَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ قَبْلَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ لُغَةً فِي النِّصْفِ، قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْعَقَائِدِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ الْمُسَمَّى بِالْحَبْرَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِرَأَوْا إشَارَةً إلَى تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَأَى النَّبِيُّ مُسْلِمًا ذُو صُحْبَةٍ وَقِيلَ إنْ طَالَتْ وَلَمْ تَثْبُتْ وَقِيلَ مَنْ أَقَامَ عَامًا وَغَزَا وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ كَالْعِرَاقِيِّ وَلَوْ رَآهُ عَلَى بُعْدٍ وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَالْأَوْلَى تَعْرِيفُهُ بِمَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِيَشْمَلَ الْأَعْمَى، وَيَشْمَلَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم نَائِمًا أَوْ أَحْضَرَهُ أَبُوهُ مَعَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ التَّمْيِيزَ كَمَا اعْتَبَرَ التَّعَارُفَ وَأَلْغَاهُ آخَرُونَ، وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَنْ كَلَّمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِطٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الصُّحْبَةِ طُولُ زَمَانِ الرُّؤْيَا بِخِلَافِ اجْتِمَاعِ التَّابِعِيِّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ طُولِهِ حَتَّى يَكُونَ تَابِعِيًّا عَلَى مَا ارْتَضَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَكَذَلِكَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنْ الطُّولِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الصُّحْبَةُ عُرْفًا.
الثَّانِي: الْمُفَضَّلُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ صُحْبَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ حَيْثُ الصُّحْبَةِ لَا يُرَدُّ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي قَرْنِ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ أَوْ الصَّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَمَعْنَى التَّفْضِيلِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ أَفْضَلُ الْقُرُونِ؛ لِأَنَّهُمْ رضي الله عنهم آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَتَصَدَّقُوا بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ وَبَاعُوا
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ.
، وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ
ــ
[الفواكه الدواني]
النُّفُوسَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.
الثَّالِثُ: كَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ رضي الله عنهم بِكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْمُجَاهِدَةِ مَعَهُ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، إذْ لَيْسَ مَنْ رَآهُ وَفَارَقَهُ كَمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ شَرَفُ الصُّحْبَةِ حَاصِلًا لِلْجَمِيعِ.
الرَّابِعُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ قَائِلًا: وَتُعْرَفُ الصُّحْبَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَبِالشُّهْرَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَوْ بِإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إذَا دَخَلَتْ دَعْوَاهُ تِلْكَ تَحْتَ الْإِمْكَانِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ.
(ثُمَّ) يَلِي قَرْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْفَضْلِ أَهْلُ الْقَرْنِ (الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وَهُمْ التَّابِعِينَ جَمْعُ تَابِعِيٍّ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ وَطَالَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ حَتَّى صَارَ صَاحِبًا لَهُ عُرْفًا كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: هُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ فَجَعَلَ الْكَلَامَ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّحَابِيِّ، وَالْفَرْقُ عَلَى كَلَامِ الْخَطِيبِ مَزِيَّةُ لِقَائِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى لِقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ صُلَحَاءِ أُمَّتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحَابِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَأَفْضَلُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا أَنَّ أَفْضَلَ التَّابِعِيَّاتِ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ عَلَى خِلَافٍ. (ثُمَّ) يَلِي قَرْنَ التَّابِعِينَ قَرْنُ (الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وَهُمْ تَابَعُوا التَّابِعِينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِالتَّابِعِينَ اجْتِمَاعًا طَوِيلًا، وَالْأَصْلُ فِي التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: «ثُمَّ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» .
قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: اقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَفْضَلُ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَنَّ التَّابِعِينَ أَفْضَلُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ أَوْ الْأَفْرَادِ؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الثَّانِي، فَيَكُونُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا أَوْ تَابِعِيًّا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْقَرْنِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ عَامِلًا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَرْنِ الصَّحَابَةِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: اُخْتُلِفَ فِيمَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ هَلْ بَيْنَهُمْ تَفَاضُلٌ بِالسَّبْقِيَّةِ كَالْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَأَنَّ كُلَّ قَرْنٍ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِخَبَرِ:«مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ وَإِنَّمَا يُسْرَعُ بِخِيَارِكُمْ» وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْأَقْرَبُ التَّفَاضُلُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ فِي الدِّينِ لَا بِالسَّبْقِيَّةِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلُنَا بِالسَّبْقِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ التَّفَاضُلِ بِغَيْرِ السَّبْقِيَّةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّفَاوُتُ وَالتَّفَاضُلُ بِهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم «أَنَّهُ قَالَ لِلصَّحَابَةِ: أَتَدْرُونَ أَيَّ الْخَلْقِ أَفْضَلُ إيمَانًا؟ فَقِيلَ لَهُ: الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، فَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ عليه الصلاة والسلام: أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ» .
وَلَمَّا رَأَى الْفَاكِهَانِيُّ وَغَيْرُهُ مُعَارَضَةَ هَذَا لِمَا مَرَّ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمْ بِهِ عليه الصلاة والسلام مِنْ غَيْرِ رُؤْيَتِهِ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا.
الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْقَرْنِ فَقِيلَ هُمْ أَهْلُ زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلزَّمَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ اسْمٌ لِمِائَةِ سَنَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَوْ الْمُتَعَيِّنُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ وَأَهْلَ الزَّمَانِ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يُرَى وَإِنَّمَا الَّذِي يُرَى هُوَ أَهْلُهُ.
الثَّالِثُ: التَّفْضِيلُ بَيْنَ تِلْكَ الْقُرُونِ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَظَنِّيٌّ عِنْدَ الْبَاقِلَّانِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَبِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الْقَطْعِ، وَفِي الظَّاهِرِ فَقَطْ عَلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ.
وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَفْضَلُ الْقُرُونِ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنَّا، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ:(وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ) الْأَرْبَعَةُ (الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ وُلُّوا الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ وَصِيَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَبَيَّنَ عليه الصلاة والسلام مُدَّتَهَا بِقَوْلِهِ:«الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَهَذِهِ الْمُدَّةُ هِيَ دُورُ وِلَايَتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالْخُلَفَاءُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ كُلُّ مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي خَيْرٍ، وَسُمُّوا خُلَفَاءَ لِأَنَّهُمْ خَلَفُوا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْأَحْكَامِ، وَالرَّاشِدُونَ جَمْعُ رَاشِدٍ وَهُوَ الْمُسَدَّدُ فِي نَفْسِهِ الْمُوَثَّقُ فِي أَمْرِهِ وَحَالِهِ، وَالْمَهْدِيُّونَ أَيْ الْمُتَّصِفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِكَمَالِ الْهُدَى فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَرَادِفَانِ؛ لِأَنَّك تَقُولُ: أَرْشَدَك اللَّهُ بِمَعْنَى هَدَاك وَهَدَاك بِمَعْنَى أَرْشَدَك، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْخِلَافَةِ إلَى الْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْمَيِّتِ عَنْ رِضًا مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرَ فِي الْمُلْكِ إلَى الْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا، مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِمَنْ قَامَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقُوَّةِ كَقِيَامِهِ عَنْ رِضًى مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْفِعْلِ كَقِيَامِهِ عَنْ كُرْهٍ مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْبِقَاعِيُّ، وَمِنْهُ تُعْرَفُ حِكْمَةُ تَوْصِيفِ الْمُلْكِ فِي الْحَدِيثِ بِالْعَضُوضِ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَصَحْبُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ فَاسْتَمِعْ
…
فَتَابِعِيٌّ فَتَابِعٌ لِمَنْ تَبِعَ
وَخَيْرُهُمْ مَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ
…
وَأَمْرُهُمْ فِي الْعَضَلِ كَالْخِلَافَةِ
وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّفَاوُتِ فِي الْفَضْلِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ، فَالْأَسْبَقُ فِيهَا أَكْثَرُهُمْ فَضْلًا، ثُمَّ التَّالِي فَالتَّالِي، كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَامِهِمْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فَالْأَفْضَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ الَّذِي صَدَّقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَصَدَّقَهُ فِي الْمِعْرَاجِ بِلَا تَرَدُّدٍ، وُلِّيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَانِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَمَاتَ رضي الله عنه لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِثَمَانٍ بَلَغَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً كَسِنِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ شِدَّةُ حِقْدِهِ وَحُزْنِهِ عَلَى الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَدُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
(ثُمَّ) يَلِي أَبَا بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ (عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ الْفَارُوقُ لِفَرْقِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخُصُومَاتِ، وَلِي الْخِلَافَةَ بِاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ عَشْرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَقُتِلَ رضي الله عنه فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، قَتَلَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَاسْمُهُ فَيْرُوزُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ اسْتَغَلَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ يَصْنَعُ الرَّحَى، فَلَقِيَ عُمَرَ وَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ ثَقَّلَ عَلَيَّ عَمَلِي فَكَلِّمْهُ لِي بِالتَّخْفِيفِ عَنِّي، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ إلَى مَوْلَاك، فَغَضِبَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَقَالَ: وَاعَجَبَاهُ قَدْ وَسِعَ النَّاسَ عَدْلُهُ غَيْرِي وَأَضْمَرَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ وَاصْطَنَعَ لَهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - خَنْجَرًا لِقَتْلِ عُمَرَ لَهُ رَأْسَانِ وَسَمَّهُ فَجَاءَهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ.
قَالَ عُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ: إنِّي لَقَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ إلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْته يَقُولُ: قَتَلَنِي الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ وَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَشِمَالًا إلَّا طَعَنَهُ حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ سِتَّةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحْوَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْت بِهِ مَعْرُوفًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ بَلْ كَانَ رَقِيقًا مَجُوسِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ نَصْرَانِيًّا، تُوُفِّيَ عُمَرُ رضي الله عنه فِي ذِي الْحَجَّةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَاتَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ أَبِي بَكْرٍ، دُفِنَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رِجْلَيْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعُمَرُ خَلْفَهُ، وَبَقِيَ هُنَاكَ مَوْضِعُ قَبْرٍ يُدْفَنُ فِيهِ عِيسَى عليه السلام وَمَنَاقِبُهُمَا كَثِيرَةُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ:«أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» .
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الرَّأْسِ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَدِدْت أَنِّي كُنْت مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إلَيْهِ.
قَالَ: أَمَا إنَّك يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي» . وَمِنْهَا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْعَقِيدَةِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ أَيْنَ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقُلْت لَهُ: يَا جِبْرِيلُ حَدِّثْنِي بِفَضَائِلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ حَدَّثْتُك بِفَضَائِلِ عُمَرَ فِي السَّمَاءِ مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا مَا نَفِدَتْ فَضَائِلُ عُمَرَ، وَإِنَّ عُمَرَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ» .
(ثُمَّ) يَلِي عُمَرَ فِي الْفَضْلِ (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه الْمُلَقَّبُ بِذِي النُّورَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم زَوَّجَهُ رُقَيَّةَ وَلَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ زَوَّجَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ وَلَمَّا مَاتَتْ قَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُكهَا، وَلِيَ رضي الله عنه الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ قُتِلَ ظُلْمًا، وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَتْ زَوْجَتُهُ:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
إنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعَتَمَةِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْعَرْشِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عُمَرُ الْفَارُوقُ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ يُقْتَلُ ظُلْمًا. وَسَبَبُ قَتْلِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ فِي أَيَّامِهِ الْفُتُوحَاتُ كَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَفَارِسَ وَسَوَاحِلِ الرُّومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعُمِّرَتْ الْمَدِينَةُ وَصَارَتْ قُبَّةَ الْإِسْلَامِ وَكَثُرَتْ فِيهَا الْخَيْرَاتُ وَالْأَمْوَالُ، بَطِرَتْ الرَّعِيَّةُ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْخَيْرِ وَالنِّعَمِ وَفَتَحُوا أَقَالِيمَ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا وَتَفَرَّغُوا، أَخَذُوا يَنْقِمُونَ عَلَى خَلِيفَتِهِمْ عُثْمَانَ رضي الله عنه؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ ذَوِي الشَّأْنِ الْعِظَامِ حَتَّى صَارَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، وَيُعْطِي الْأَمْوَالَ لِأَقَارِبِهِ وَيُوَلِّيهِمْ الْوِلَايَاتِ الْجَلِيلَةَ، فَتَكَلَّمُوا فِيهِ إلَى أَنْ قَالُوا: هَذَا مَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ وَهَمُّوا بِعَزْلِهِ وَصَارُوا لِمُحَاصَرَتِهِ فَحَاصَرُوهُ فِي دَارِهِ أَيَّامًا وَكَانُوا أَهْلَ جَفَاءٍ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ فَذَبَحُوهُ وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ: وَفَتَحُوا عَلَيْهِ دَارِهِ وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي يَا ابْنَ أَخِي فَوَاَللَّهِ لَوْ رَأَى أَبُوك مَقَامَك هَذَا لَسَاءَهُ فَأَرْسَلَ لِحْيَتَهُ وَوَلَّى، وَضَرَبَهُ تَبَارُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ بِسَيْفِهِمَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى قَوْلِهِ:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] وَجَلَسَ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ عَلَى صَدْرِهِ وَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَطِئَ عُمَرُ بْنُ صَابِئٍ عَلَى بَطْنِهِ فَكَسَرَ لَهُ ضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَقُتِلَ رضي الله عنه وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً.
وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَقِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ.
(ثُمَّ) يَلِي عُثْمَانَ فِي الْفَضْلِ (عَلِيُّ) بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمُرْتَضَى مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَخَوَاصِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، يُقَالُ لَهُ كَمَا يُقَالُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَبِسْ بِكُفْرٍ قَطُّ وَلَا سَجَدَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ صِغَرِهِ وَكَوْنِ أَبِيهِ عَلَى غَيْرِ الْمِلَّةِ وَلِذَا خُصَّ بِكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ رضي الله عنه أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ طَعَنَهُ الْكَلْبُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ عَلَى دِمَاغِهِ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَأَخَذُوا ابْنَ مُلْجِمٍ وَعَذَّبُوهُ وَقَطَّعُوهُ إرَبًا إرَبًا بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ رضي الله عنه، وَدُفِنَ فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ بِقَصْرِ الْأُمَرَاءِ، وَقِيلَ قَبْرُهُ بِرَحْبَةِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ لَا يُعْلَمُ قَبْرُهُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلَى مُدَّةِ خِلَافَتِهِمْ بِقَوْلِهِ:«الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُون مُلْكَا عَضُوضًا» وَلِهَذَا قَالَ مُعَاوِيَةُ رضي الله عنه لَمَّا وَلِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِينَ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكُ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: هَذَا التَّرْتِيبُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَفْضِيلِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ.
الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ فَضْلَ الْخُلَفَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَبَعًا لِشَيْخِهِ اللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِ جَوْهَرَتِهِ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: التَّفْضِيلُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اكْتِسَابُهُ وَاعْتِقَادُهُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، بَلْ لَوْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا لَمْ يَقْدَحْ فِي دِينِهِ، نَعَمْ لَوْ خَطَرَتْ بِالْبَالِ أَوْ تَحَدَّثَ فِيهَا بِاللِّسَانِ وَجَبَ الْإِنْصَافُ وَتَوْفِيَةُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَوْ جَحَدَ التَّفْضِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ نَظَرًا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ.
الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ يُفِيدُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ بَلْ مَلِكٌ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» وَقِيلَ: إنَّمَا تَتِمُّ بِمُدَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُوهُ بَعْدَ أَبِيهِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ إنَّ الْحَسَنَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْحَسَنِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا وَأَيَّامًا، فَبِخِلَافَتِهِ تَتِمُّ مُدَّةُ الثَّلَاثِينَ سَنَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ مُدَّتَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا. الرَّابِعُ: إنَّمَا سُمُّوا بِالْخُلَفَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا حَافَظُوا عَلَى مُتَابَعَتِهِ سُمُّوا خُلَفَاءَ، وَأَمَّا الَّذِينَ خَالَفُوا سُنَّتَهُ وَبَدَّلُوا سِيرَتَهُ فَهُمْ مُلُوكٌ، وَقَوْلُ الرَّسُولِ: مُلْكًا عَضُوضًا الْمُلْكُ مُثَلَّثُ الْمِيمِ، وَالْعَضُوضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَضَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ الرَّعِيَّةَ وَيَتَعَسَّفُونَ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَعَضُّونَهُمْ بِالْأَسْنَانِ، وَمَعْنَى مُلْكًا خِلَافَةً نَاقِصَةً لِشَوْبِهَا بِالزَّلَلِ وَعَدَمِ خُلُوصِهَا مِنْ الْخَلَلِ.
قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَمُلْكًا عَضُوضًا أَيْ يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ غَضَبٌ وَظُلْمٌ كَأَنَّهُمْ يُعَضُّونَ عَضَّا، وَمُلُوكٌ عُضُوضٌ جَمْعُ عَضُدٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْخَبِيثُ الشِّرِّيرُ، وَأَوَّلُ الْمُلُوكِ
- رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ إلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ.
، وَالطَّاعَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وُلَاةِ
ــ
[الفواكه الدواني]
مُعَاوِيَةُ وَلَمَّا تَوَلَّى قَالَ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا وَجَيْشًا عَظِيمًا قَدْ سَالَتْ الْأَوْدِيَةُ بِهِ وَنَقَعَ غُبَارُ الْخَيْلِ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا نَائِبُك مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: هَذَا كِسْرَى الْعَرَبِ.
وَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ أَجْمَعِينَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنَّا فِي حَقِّهِمْ بِقَوْلِهِ:(وَ) مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ (أَنْ لَا يُذْكَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ نَائِبُهُ (أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا بِأَحْسَنَ ذِكْرٍ) لِخَبَرِ: «إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُذْكَرُوا إلَّا بِخَيْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهُمْ، وَقَالَ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام:«لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي» .
وَقَالَ أَيْضًا: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» أَيْ لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَقِيلَ لَا صَدَقَةً وَلَا قُرْبَةً.
وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ فَقَدْ اسْتَضَاءَ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا احْتِرَامُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْقَاضِي: مَنْ سَبَّ غَيْرَ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً وَيُؤَدَّبُ حَيْثُ اشْتَمَلَ سَبُّهُ عَلَى قَذْفٍ.
قَالَ: وَمَنْ قَالَ إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَعَنْ سَحْنُونٍ مِثْلُهُ فِيمَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَيُنَكَّلُ فِي غَيْرِهِمْ، وَذُكِرَ فِي الشِّفَاءِ خِلَافًا فِيمَنْ كَفَّرَ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا. وَجَزَمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ، وَلَفْظُ الْقُرْطُبِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً وَكَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُسْتَتَابُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ أَوْ لَا يُسْتَتَابُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَالزِّنْدِيقِ إنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَبَّهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ سَبَّهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَذْفِ حُدَّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُنَكَّلُ النَّكَالَ الشَّدِيدَ، وَإِنْ سَبَّهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ جُلِدَ الْجَلْدَ الشَّدِيدَ.
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيَخْلُدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَأَمَّا أَذِيَّةُ الزَّوْجَاتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَبَّ وَاحِدَةً فَلَا تَوْبَةَ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ عَائِشَةَ أَوْ غَيْرَهَا، وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي غَيْرِ عَائِشَةَ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْعُقُوبَةُ فِي غَيْرِهِ.
قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا: قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ عَائِشَةَ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ.
وَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَكَانَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ مُنَازَعَاتٍ وَمُحَارَبَاتٍ لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ التَّفْسِيقِ، خَشِيَ مِنْ إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ:(وَ) مِمَّا يُطْلَبُ مِنَّا فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا (الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ) أَيْ وَقَعَ (بَيْنَهُمْ) أَيْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ.
(وَ) إنْ احْتَجْنَا إلَى الْخَوْضِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ (أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ) وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَنْ (يَظُنَّ) أَيْ يَسْلُكَ (بِهِمْ أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ) أَيْ الْمَسَالِكِ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَأَوِّلْ التَّشَاجُرَ الَّذِي وَرَدَ
…
إنْ خُضْت فِيهِ وَاجْتَنِبْ دَاءَ الْحَسَدَ
فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمْ أَحْسَنَ التَّأْوِيلَاتِ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُمْ نَقْلًا صَحِيحًا مِنْ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَشَاجِرَيْنِ لَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّوَابَ، فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ صِفِّينَ اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ مَاءٍ بِالشَّامِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَجَرَّدَ ذَا الْفَقَارِ وَقَتَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْفًا وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَمَا فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ بِالْعِرَاقِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فَتَأَوَّلْ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، عَلَى أَنَّ عَلِيًّا طَلَبَ انْعِقَادَ الْبَيْعَةِ أَوَّلًا بَعْدَ عُثْمَانَ قَبْلَ الْقِصَاصِ مِنْ الَّذِينَ قَتَلُوهُ لِيَحْصُلَ التَّمَكُّنُ مِمَّا يُرِيدُهُ، إذْ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ إلَّا بِالْإِمَامِ، وَتَأَوَّلْ مَا وَقَعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ الْقِصَاصَ مِنْ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ، فَكُلٌّ قَصَدَ مَقْصِدًا حَسَنًا فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مَا وَقَعَ، وَتَعْتَقِدَ أَنَّ وُقُوفَ عَلِيٍّ عَنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ إنَّمَا كَانَتْ عَتَبًا، ثُمَّ لَمَّا أَعْتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بَايَعَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ.
كَمَا أَنَّ مُنَازَعَتَهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَوُقُوفَهُ عَنْ الْقِصَاصِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إنَّمَا ذَلِكَ لِطَلَبِ انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ لِيَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ وَيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاقْتِصَاصِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ وَسَائِرَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا مَعَ نَصْبِ الْإِمَامِ، وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ عَلِيًّا اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُعَاوِيَةَ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ السَّعْدُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ عَلِيٌّ، وَالْمُخْطِئَ مُعَاوِيَةُ،
أُمُورِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ
وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ.
وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ.
ــ
[الفواكه الدواني]
وَلَكِنَّ الْجَمِيعَ مَا بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُقَلِّدٍ عَلَى هُدًى وَخَيْرٍ فَهُوَ مَأْجُورٌ، وَسَبَبُ تِلْكَ الْحُرُوبِ مَعَ عَدَالَتِهِمْ اخْتِلَافُ اجْتِهَادِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الْقَضَايَا كَانَتْ مُشْتَبِهَةً. فَإِنْ قِيلَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ. . . إلَخْ وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِمْسَاكِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ ابْتِدَاءُ الْإِمْسَاكِ مِنْ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَتَكَلَّمَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَلْتَمِسَ لَهُمْ أَحْسَنَ الْمَخَارِجِ، أَوْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ إنَّمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّ الْعَوَامّ أَوْ بِحَضْرَةِ الْعَوَامّ أَوْ الْمُبْتَدِعَةِ، وَأَمَّا الْخَوْضُ لِلْعَالِمِ بِحَضْرَةِ غَيْرِ الْعَامِّيِّ فَلَا حَرَجَ وَيَلْتَمِسُ لَهُمْ أَحْسَنَ الْمَحَامِلِ.
تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَلَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ بَلْ رُبَّمَا أَضَرَّ بِالْيَقِينِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْمُ بَعْضَ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا صَوْنًا لِلْقَاصِرِينَ عَنْ اعْتِقَادِ ظَوَاهِرِ حِكَايَاتِ الرَّافِضَةِ.
الثَّانِي: مَفْهُومُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ غَيْرَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ قَرْنَ التَّابِعِينَ لَا يَجِبُ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ، بَلْ كُلُّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ قَادِحٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهُ وَوُسِمَ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ كُفْرٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، وَكَانَ مِنْ يَزِيدَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَالْإِهَانَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَعَنَهُ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَنْ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ مَنْ طَعَنَهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُنَجِّسُ أَلْسِنَتَنَا بِذَكَرِهِ.
قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ رَضِيَ يَزِيدَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَإِهَانَتَهُ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِمَّا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُهُ آحَادًا فَنَحْنُ لَا نَتَوَقَّفُ فِي شَأْنِهِ بَلْ فِي إيمَانِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْصَارِهِ وَعَلَى أَعْوَانِهِ، وَخَالَفَ فِي جَوَازِ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ كَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَيَجُوزُ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الصَّوَاعِقِ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ حِكَايَةُ قَتْلِ الْحُسَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنُوا مَا يَنْدَفِعُ بِهِ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِيهِمْ، وَأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ كَانَ لِغَرَضٍ مَذْمُومٍ يُؤَدِّي إلَى تَنْقِيصِ الصَّحَابَةِ، فَلَا يُنَافِي مَا قَالُوهُ مِنْ جَوَازِ ذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لِبَيَانِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ وَبَرَاءَتِهِمْ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ.
الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْحُسَيْنِ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ الْأَشْجَعِيُّ وَكَانَ قَتَلَهُ بِكَرْبِلَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، وَلَمَّا حَمَلَ رَأْسَهُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَعَلَهُ فِي طَشْتٍ وَجَعَلَ يَضْرِبُ ثَنَايَاهُ بِقَضِيبٍ وَكَانَ أَنَسُ حَاضِرًا فَبَكَى وَقَالَ: كَانَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ إخْوَتِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ: ارْفَعْ قَضِيبَك فَوَاَللَّهِ لَطَالَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَ زَيْدٌ يَبْكِي، فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْك لَوْلَا أَنْتَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْت لَضَرَبْت عُنُقَك.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ:(وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (الطَّاعَةُ) أَيْ الِامْتِثَالُ وَالِانْقِيَادُ (لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ سِوَى الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ، فَأَمَّا فِي الْمَعْصِيَةِ فَتَحْرُمُ طَاعَتُهُمْ لِخَبَرٍ:«لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَغَيْرُ الْمَعْصِيَةِ يَشْمَلُ الْمَكْرُوهُ، وَفِي وُجُوبِ إطَاعَتِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ الْوُجُوبُ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ الْكَرَاهَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَعَدَمُهُ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ فَإِنْ أَطَاعَهُمْ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ عَاصٍ، وَالْأَئِمَّةُ جَمْعُ إمَامٍ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِمَامَةِ وَهِيَ لُغَةً التَّقَدُّمُ، وَاصْطِلَاحًا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا تَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعْنًى وَمُتَابَعَةَ غَيْرِهِ لَهُ حِسًّا.
وَتَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: إمَامَةُ وَحْيٍ وَهِيَ النُّبُوَّةُ، وَإِمَامَةُ وِرَاثَةٍ كَالْعِلْمِ، وَإِمَامَةُ عِبَادَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِمَامَةُ مَصْلَحَةٍ وَهِيَ الْخِلَافَةُ الْعُظْمَى لِمَصْلَحَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ لَهُ صلى الله عليه وسلم، وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي لِسَانِ أَهْلِ الْكَلَامِ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ عُرْفًا وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا نِيَابَةً عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لَكِنْ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ إلَّا بِشُرُوطٍ الْإِسْلَامُ وَالتَّكْلِيفُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ وَالْكِفَايَةُ وَكَوْنِهِ قُرَشِيًّا وَاحِدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِمَا، فَإِنْ اجْتَمَعَ عَدَدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْإِمَامُ مَنْ انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِأَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، فَإِنْ انْعَقَدَتْ لِاثْنَيْنِ بِبَلَدَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ هِيَ لِلَّذِي عُقِدَتْ لَهُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ الْعَدَدُ فِي الْعَصْرِ الْوَاحِدِ وَالْبَلَدِ إجْمَاعًا إلَّا أَنْ تَتَبَاعَدَ الْأَمَاكِنُ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ حُكْمُ الْإِمَامِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَيَجُوزُ التَّعَدُّدُ لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ حُقُوقُ النَّاسِ وَأَحْكَامُهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ:(مِنْ وُلَاةِ) أَيْ حُكَّامِ (أُمُورِهِمْ، وَ) مِنْ (عُلَمَائِهِمْ) وَالضَّمِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ السُّنَّةِ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] إذْ هُمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» وَالْمُؤَلِّفُ رحمه الله جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فَإِنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ، فَالْمُجْتَهِدُ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا يُقَلِّدُ، وَالْمُقَلِّدُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إلَّا عَقَائِدَ الْإِيمَانِ فَيَحْرُمُ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِنْ الْقَادِرِ عَلَى النَّظَرِ الْمُوصِلِ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ صِحَّةِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا تَقَدَّمَ.
1 -
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ لَا يَنْعَزِلُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ حَيْثُ نُصِّبَ عَدْلًا، وَإِنَّمَا يَنْحَلُّ عَقْدُ الْإِمَامَةِ بِمَا يَزُولُ بِهِ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ كَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَصَيْرُورَةِ الْإِمَامِ أَسِيرًا لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ، وَكَذَا بِالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيه الْعُلُومَ، وَبِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ، وَكَذَا بِخَلْعِهِ نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ الْمَرَضُ إنَّمَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْإِمَامَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَلْعُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ رضي الله عنه، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْ عَدَمِ عَزْلِهِ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ يُعَارِضُهُ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: إذَا نُصِبَ الْإِمَامُ عَدْلًا ثُمَّ فَسَقَ بَعْدَ إبْرَامِ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْفَسِخُ إمَامَتُهُ وَيَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُقَامُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفِسْقِ يُقْعِدُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَدَّى إلَى إبْطَالِ مَا أُقِيمَ لِأَجْلِهِ اهـ. وَقَوْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ الضَّرَرُ بِبَقَائِهِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَزْلِهِ، وَأَمَّا نَائِبُ الْإِمَامِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالْإِمَامِ فَيُعْزَلُ بِمَا ذُكِرَ اتِّفَاقًا وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَأَمَّا خَلْعُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ لِضَابِطِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِي تَوْضِيحِهِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْخَلِيفَةِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِمَامِ الصَّلَاةِ وَكُلِّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَلَا يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ كَالْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَلَوْ مُفَوَّضًا، وَإِذَا خُلِعَ بِلَا سَبَبٍ لَمْ تَنْعَقِدْ الْإِمَامَةُ لِمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ.
الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ الْجَوْرِ بِلُطْفٍ وَيُنْصَحُ وَيُرْشَدُ إلَى الْحَقِّ وُجُوبًا عَلَى مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ وَظَنَّ إفَادَتَهُ أَوْ تَوَهَّمَهَا، وَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ عَلَى الْأُمَرَاءِ جَهْرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتَنِ كَمَا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُمْ، بَلْ الْمَطْلُوبُ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ، وَالِاسْتِغْفَارُ.
(وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ.
قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:
وَتَابِعِ الصَّالِحَ مِمَّنْ سَلَفَا
…
وَجَانِبِ الْبِدْعَةَ مِمَّنْ خَلَفَا
وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ رضي الله عنه وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَالْفَاكِهَانِيِّ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَتَّبِعُهُمْ فِيمَا اسْتَنْبَطُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ، وَأَمَّا أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يُحَصِّلُوهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فَلَا خِلَافَ فِي اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، فَلَعَلَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا يُخَالِفُ هَذَا، ثُمَّ أَكَّدَ الْكَلَامَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ:(وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاقْتِفَاءَ هُوَ الِاتِّبَاعُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي عَقَائِدِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهَيْئَاتِهِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«اقْتَدُوا بِاَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» .
وَقَالَ أَيْضًا: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضْوًا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» .
وَقَالَ أَيْضًا: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَالْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ النَّجَاةَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَفِيهِ الْفَوْزُ بِكُلِّ كَمَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مُحَافَظَةً عَلَى طَرِيقَةِ نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام (وَ) لِحُصُولِ النَّجَاةِ لَنَا وَالْفَوْزِ بِاتِّبَاعِهِمْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُكَلَّفِينَ (الِاسْتِغْفَارُ) أَيْ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (لَهُمْ) أَيْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَكِنْ لَا بِقَيْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ الْأَعَمُّ لِمَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ. فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِخْدَامُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِمَعْنًى وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وَقَالَ تَعَالَى:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وَإِنَّمَا طَلَبَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ لِمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّهُمْ وَضَّحُوا السَّبِيلَ.
قَالَ بَعْضٌ: وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ سَبَقَ بِالْإِيمَانِ، وَيَحْصُلُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِمَرَّةٍ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا إذَا أَتَى بِهَا مَعَ قَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِلَّا كَانَ عَاصِيًا حَيْثُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُؤْمِنِ.
تَنْبِيهٌ: تَفْسِيرُنَا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ بِالصَّحَابَةِ هُوَ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ السَّلَفَ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مُتَقَدِّمٍ وَسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ، وَالصَّالِحُ عُرْفًا وَشَرْعًا هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الْوَلِيِّ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء: 85]، إلَى قَوْلِهِ:{إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86] وَقَالَ فِي يَحْيَى: {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] .
وَلَمَّا كَانَتْ الشَّرَائِعُ لَا تَتَّضِحُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ الْجِدَالِ وَكَانَ مِنْهُ الْجَائِزُ وَهُوَ مَا كَانَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَوْ لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَالْحَرَامُ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ الْمِرَاءِ) فِي الدِّينِ وَهُوَ بِالْمَدِّ لُغَةً الِاسْتِخْرَاجُ، تَقُولُ: مَرَيْت الْفَرَسَ إذَا اسْتَخْرَجْت جَرْيَهُ، وَالْمُمَارِي يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَعُرْفًا مُنَازَعَةُ الْغَيْرِ مِمَّا يَدَّعِي صَوَابَهُ وَلَوْ ظَنًّا.
قَالَ تَعَالَى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ طَعْنُك فِي كَلَامِ الْغَيْرِ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَزِيَّتِكَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ (وَ) يَجِبُ أَيْضًا تَرْكُ (الْجِدَالِ) مَصْدَرُ جَادَلَ إذَا خَاصَمَ وَحَقِيقَتُهُ الْحُجَّةُ بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هُوَ تَعَارُضٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِتَحْقِيقِ حَقٍّ أَوْ إبْطَالِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الثَّانِي، وَقَالَ بَعْضٌ الْمِرَاءُ: وَالْجِدَالُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ قَالَ مَالِكٌ رضي الله عنه: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ذَاكَرْت أَحَدًا وَقَصَدْت إفْحَامَهُ وَإِنَّمَا أُذَاكِرُهُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي عُلَمَاءِ زَمَانِنَا فَلَا تُجَالِسْهُمْ وَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ تَرَكَ الْجِدَالَ وَهُوَ مُحِقٌّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ذَاكَرْت حَلِيمًا إلَّا وَحَقَّرَنِي وَلَا سَفِيهًا إلَّا وَأَخْزَانِي، وَقَالَ: مَا اسْتَكْمَلَ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ وَالْجِدَالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَقَوْلُهُ (فِي الدِّينِ) يَتَنَازَعُهُ الْمِرَاءُ، وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ هُوَ جِدَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ هِجْرَانَ ذِي الْبِدَعِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الدِّينِ أَنَّ الْجِدَالَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ وَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَتَرْكِ اللَّدَدِ وَالْإِيذَاءِ.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: لِلْمُنَاظَرَةِ الْجَائِزَةِ - وَيُقَالُ لَهَا الْمُذَاكَرَاتُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - شُرُوطٌ وَآدَابٌ، فَأَمَّا شُرُوطُهَا فَهِيَ ضَبْطُ قَوَانِينِ الْمُنَاظَرَةِ مِنْ كَيْفِيَّةِ إيرَادِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَالِاعْتِرَاضَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَالِمًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُنَاظَرَاتُ، وَصَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ كَلَامَهُ مِنْ الْفُحْشِ وَالْخَطَأِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالصِّدْقِ فِيمَا يَنْسُبُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ أَقْوَالِهِ مُطَابِقَةً لِاعْتِقَادِهِ، وَأَمَّا آدَابُهَا فَهِيَ تَجَنُّبُ اضْطِرَابِ مَا عَدَا اللِّسَانِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِدَالُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ، وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَجَعْلُ الْكَلَامِ مُنَاوَبَةً، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَةِ إنْ كَانَ مُجِيبًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ إنْ كَانَ سَائِلًا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ وَقَصْدِ الِانْتِقَامِ، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا فِي مَوْضِعِ مَهَانَةٍ وَلَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ تَشْهَدُ بِالزُّورِ لِخَصْمِهِ وَيَرُدُّونَ كَلَامَهُ، وَيَجْتَنِبُ الرِّيَاءَ وَالْمُبَاهَاةَ وَالضَّحِكَ، فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْآدَابُ أَفَادَتْ الْمُنَاظَرَةُ خَمْسَ خِصَالٍ: إيضَاحَ الْحُجَّةِ، وَإِبْطَالَ الشُّبْهَةِ، وَرَدَّ الْمُخْطِئِ لِلصَّوَابِ وَالضَّالِّ إلَى الرَّشَادِ، وَالزَّائِغِ إلَى صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ مَعَ الذَّهَابِ إلَى التَّعْلِيمِ، وَطَلَبِ التَّحْقِيقِ.
الثَّانِي: بَقِيَ بَعْدَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَلْفَاظٌ يَقَعُ الِالْتِبَاسُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ مَعْرِفَتُهَا وَهِيَ: الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَاكَرَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ وَالْمُشَاغَبَةُ وَالْمُغَالَطَةُ، فَالْمُكَابَرَةُ هِيَ الْإِقَامَةُ عَلَى إنْكَارِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُعَانَدَةُ هِيَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَالْمُجَادَلَةُ هِيَ الْفِكْرُ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ نَفْسِهِ دُونَ الْمُجَادَلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْغَيْرِ، وَالْمُنَاكَرَةُ لَا
وَتَرْكُ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ.
، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
ــ
[الفواكه الدواني]
تَكُونُ إلَّا مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ، وَالْمُشَاغَبَةُ هِيَ الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ وَلَا لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالْمُخَالَطَةُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ لَا لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ.
وَلَمَّا كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ قَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ) فِعْلِ (كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ) مِنْ الِابْتِدَاعَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» .
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَيْضًا: «إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» وَهِيَ ابْتِدَاعَاتُ الْخَلَفِ السَّيِّئِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمْ يَمُتْ حَتَّى مَهَّدَ الدِّينَ وَأَسَّسَ قَوَاعِدَهُ وَأَوْضَحَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ أَحَالَ بَعْدَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثُ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَوْ اسْتَنَدَ إلَى قِيَاسٍ أَوْ إلَى عَمَلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ دِينُ اللَّهِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَبِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَبِهَذَا لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا يَأْتِي فِي الْأَقْضِيَةِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا ضَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا اسْتَنَدَ إلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ بِإِيضَاحِ أَنَّ مَا يَأْتِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيه قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَلَوْ وُجِدَ سَبَبُهُ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم لِفِعْلِهِ، وَالْبِدْعَةُ الَّتِي هِيَ فِي ضَلَالَةٍ مَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم سَوَاءٌ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْبِدْعَةَ تَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا أَقْرَبُ لِمَعْنَاهَا لُغَةً مِنْ أَنَّهَا مَا فُعِلَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَقِيلَ: هِيَ مَا لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِهِ عليه الصلاة والسلام وَدَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَاهَا شَرْعًا، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . فَإِخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِدْعَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ، وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ، وَالتَّوَسُّعُ فِي لَذِيذِ الْمَآكِلِ، وَأَذَانُ جَمَاعَةٍ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه يَقُولُ: الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ فَهَذَا هُوَ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ. وَثَانِيهِمَا مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هِيَ يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ وَإِذَا كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ لُبْسَ الطَّيْلَسَانِ سُنَّةٌ، وَأَلَّفَ السُّيُوطِيّ فِي اسْتِحْبَابِ لُبْسِهِ كِتَابًا وَقَالَ: مَنْ أَنْكَرَ سَنَدَهُ فَهُوَ جَاهِلٌ.
1 -
(خَاتِمَةٌ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْأَصْحَابُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ الْخَمْسَةِ بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَتَدْوِينِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ فَإِنَّ تَبْلِيغَهَا لِمَنْ بَعْدَنَا وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَإِهْمَالَهُ حَرَامٌ إجْمَاعًا، الثَّانِي: بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ إجْمَاعًا وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَقَوَاعِدُهُ كَالْمُكُوسِ وَتَقْدِيمِ الْجُهَلَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ بِالتَّوَارُثِ لِمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا، الثَّالِثُ: بِدْعَةٌ مَنْدُوبَةٌ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانَ بِالدِّينِ فَلَمَّا اخْتَلَّ النِّظَامُ وَصَارَ النَّاسُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ كَانَ مَنْدُوبًا حِفْظُهَا لِظُلْمِ الْخَلْقِ، الرَّابِعُ: بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ الْكَرَاهَةِ كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقُرَبِ الْمَنْدُوبَةِ كَالصَّاعِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَالتَّسْبِيحِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ فَيَفْعَلُ أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّهُ الشَّارِعُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ حَيْثُ أَتَى بِهِ لَا لِشَكٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، فَإِنَّ الْعُظَمَاءَ إذَا حَدَثَ شَيْئًا تُعِدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ قِلَّةَ أَدَبٍ، وَمِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَذَانُ جَمَاعَةٍ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ الْخَامِسُ: بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْإِبَاحَةِ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِإِصْلَاحِ الْأَقْوَاتِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ وَالْمَسْكَنِ الْحَسَنِ وَكَالتَّوْسِعَةِ فِي لَذِيذِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعِزُّ، وَمِنْ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ اتِّخَاذُ الْمَلَاعِقِ وَالضَّابِطُ لِمَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم عَرْضُهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فَأَيَّ الْقَوَاعِدِ اقْتَضَتْهُ أُلْحِقَ بِهَا، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ صلى الله عليه وسلم:«وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مَحْمُولٌ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
وَلَمَّا كَانَ الْبَابُ كَالْكِتَابِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ كَالْفَرَاغِ مِنْ الْكِتَابِ خَتَمَهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ) وَرَسُولِهِ وَأَفْضَلِ خَلْقِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى السَّيِّدِ الْكَامِلُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
اللَّهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَازِ كَ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَكَ «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» وَهُوَ سَعْدٌ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ السَّيِّدِ فِي اللَّهِ فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ بِالْمَنْعِ وَالْكَرَاهَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ التَّتَّائِيِّ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ كَلَامِ مَالِكٍ رضي الله عنه مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ مَنْعِ إطْلَاقِ مَا لَمْ يَرِدْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى، (وَعَلَى آلِهِ) أَيْ أَتْقِيَاءِ أُمَّتِهِ فَتَنَاوَلَ الصَّحَابَةَ، (وَأَزْوَاجِهِ) الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ خَدِيجَةَ وَقِيلَ عَائِشَةُ، (وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ) بِلَفْظِ الْمَاضِي لِعَطْفِهِ عَلَى صَلَّى الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ (تَسْلِيمًا كَثِيرًا) قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: هَذِهِ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَةُ وَرُوِيَ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْجَرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا عَلَى الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام، وَقَوْلُنَا خَتَمَهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَحَلَّ نَدْبِهِ الْإِتْيَانُ بِهِمَا إذَا كَانَ الرَّجَاءُ حُصُولَ بَرَكَتِهَا بِحَيْثُ يُقْبَلُ الْفِعْلُ الْمَبْدُوءُ وَالْمَخْتُومُ بِهِمَا لَا لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْإِخْبَارِ بِتَمَامِ الْبَابِ أَوْ الْكِتَابِ عَلَى حَدِّ مَا قِيلَ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ إلَّا وَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا لِقَصْدِ الْإِعْلَامِ بِالْفَرَاغِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِتُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنًى لَا يَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةٌ وَتُسَنُّ أَوْ تُنْدَبُ فِي الصَّلَاةِ وَتُسْتَحَبُّ خَارِجُهَا؛ لِأَنَّهَا تُفَرِّجُ الْكُرَبَ وَتُحِلُّ الْعُقَدَ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ فَقَالَ