الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السَّبَّابَةَ يُشِيرُ بِهَا، وَقَدْ نَصَبَ حَرْفَهَا إلَى وَجْهِهِ وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيكِهَا فَقِيلَ يَعْتَقِدُ بِالْإِشَارَةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَيَتَأَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُهَا أَنَّهَا مُقْمِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَأَحْسِبُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ مَا يَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ السَّهْوِ فِيهَا وَالشَّغْلِ عَنْهَا، وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يُحَرِّكُهَا وَلَا يُشِيرُ بِهَا
وَيُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ بِأَثَرِ الصَّلَوَاتِ
ــ
[الفواكه الدواني]
السَّابِقُ بِالسَّلَامِ هُوَ الْمَأْمُومُ كَأَهْلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَيُلْغَزُ بِهَا فَيُقَالُ: لَنَا مَأْمُومٌ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَلَا يُسَلِّم عَلَى إمَامِهِ؛ لِأَنَّ إمَامَهُ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ.
قَالَهُ عَلَّامَةُ الْعَصْرِ الْأُجْهُورِيُّ وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ مَعَ الْمَسْبُوقِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَسْبُوقِ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَعْلَمْ حُكْمَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ تَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ وَتَسْلِيمَةِ الرَّدِّ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَدَمُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى يَسَارِهِ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مَعَ نِيَّةِ الْإِتْيَانِ بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَتَى بِهَا عَنْ قُرْبٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَ السَّلَامَ عَلَى يَمِينِهِ حَتَّى انْصَرَفَ وَطَالَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا تَبْطُلُ مُطْلَقًا لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ لِقَصْدِ الرَّدِّ وَيَقْصِدُ السَّلَامَ عَلَى الْيَمِينِ لِلْفَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سَلَّمَ لِلتَّحْلِيلِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ فَإِنْ أَتَى بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ عَنْ قُرْبٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ.
الرَّابِعُ: يُسَنُّ الْجَهْرُ بِسَلَامِ التَّحْلِيلِ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ فَذًّا أَوْ مَأْمُومًا وَلَوْ امْرَأَةً، وَأَمَّا مَا عَدَا تَسْلِيمَ التَّحْلِيلِ فَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِسْرَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَيَنْدُبُ الْجَهْرُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَالْإِسْرَارُ بِمَا عَدَاهَا لِلْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالشَّأْنُ فِي حَقِّهِ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيعُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ الْمَأْمُومُ.
[صفة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ السَّلَامِ مِنْ كُلِّ مُصَلٍّ ذَكَرَ صِفَةَ وَضْعِ يَدَيْهِ فِي حَالِ تَشَهُّدِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ السَّلَامِ بَلْ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فَقَالَ: (وَ) يَنْدُبُ أَنْ (يَجْعَلَ يَدَيْهِ فِي) حَالِ (تَشَهُّدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) تَثْنِيَةُ فَخِذٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْبَةِ وَالْوَرِكِ أَوْ يَجْعَلَهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِقُرْبِهِمَا مِنْ فَخِذَيْهِ، وَقَوْلُهُ كَخَلِيلٍ فِي تَشَهُّدَيْهِ لَا مَفْهُومَ لِلتَّشَهُّدَيْنِ بَلْ مِثْلُهُمَا حَالَ الدُّعَاءِ أَيْضًا إلَى السَّلَامِ.
(وَ) يَنْدُبُ أَنْ (يَقْبِضَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ الْيُمْنَى) الْوُسْطَى وَالْبِنْصِرَ وَالْخِنْصَرَ (وَيَبْسُطَ) أَيْ يَمُدَّ (السَّبَّابَةَ) وَالْإِبْهَامَ يَمُدُّهَا أَيْضًا تَحْتَ السَّبَّابَةَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ عَقْدُهُ يُمْنَاهُ فِي تَشَهُّدَيْهِ الثَّلَاثَ مَادًّا السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ وَفِي حَالِ بَسْطِ السَّبَّابَةِ (يُشِيرُ بِهَا) أَيْ يَنْصِبُهَا مُحَرِّكًا لَهَا يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ مِنْ أَسْفَلَ إلَى أَعْلَى وَعَكْسُهُ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ نَصَبَ حَرْفَهَا) أَيْ السَّبَّابَةِ وَالْمُرَادُ جَنْبُهَا (إلَى وَجْهِهِ) أَيْ قُبَالَةَ وَجْهِهِ (وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيكِهَا) أَيْ فِي سَبَبِ تَحْرِيكِ السَّبَّابَةِ مَعَ نَصْبِهَا الَّذِي أَشَارَ لَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَحْرِيكُهَا دَائِمًا أَيْ إلَى آخِرِ التَّشَهُّدِ بَلْ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِلَّةُ تَحْرِيكِهَا أَنَّهُ إلَى السَّلَامِ (فَقِيلَ يَعْتَقِدُ بِالْإِشَارَةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَ) قِيلَ (يَتَأَوَّلُ) أَيْ يَقْصِدُ (مِنْ تَحَرُّكِهَا أَنَّهَا مُقْمِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ) لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَسْهُو أَحَدُكُمْ مَا دَامَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ» .
وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ: «تَحْرِيكُ الْأُصْبُعِ فِي الصَّلَاةِ مُذْعِرَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَمُقْمِعَةٌ» إنْ جُعِلَتْ مَحَلًّا لِلْقَمْعِ كَانَتْ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَإِنْ جُعِلَتْ آلَةً لَهُ كُسِرَتْ الْمِيمُ الثَّانِيَةُ وَضَمَّتْ الْأُولَى وَالْأَنْسَبُ الْمَعْنَى الثَّانِي. وَلَمَّا ذَكَرَ عِلَّةَ التَّحْرِيكِ عَنْ الشُّيُوخِ بَيَّنَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ فِي الْعِلَّةِ فَقَالَ:(وَأَحْسِبُ) أَيْ أَعْتَقِدُ (تَأْوِيلَ ذَلِكَ) أَيْ عِلَّةَ التَّحْرِيكِ الْمَذْكُورِ (أَنْ يَذْكُرَ) الْمُصَلِّي (بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ مَا يَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ السَّهْوِ فِيهَا وَالشَّغْلِ عَنْهَا) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيكِ السَّبَّابَةِ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ حُضُورُ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعُ، وَمَا دَامَ الْقَلْبُ حَاضِرًا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتُصَّتْ السَّبَّابَةُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عُرُوقَهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْقَلْبِ فَإِذَا حُرِّكَتْ يَنْزَعِجُ الْقَلْبُ فَيَنْتَبِهُ.
قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ فِي صَلَاتِهِ مَا يَمْنَعُهُ وَيَحْفَظُهُ عَنْ السَّهْوِ كَالْخَاتَمِ يَكُونُ فِي أُصْبُعٍ فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً يَنْزِعُهُ وَيَجْعَلُهُ فِي الْأُخْرَى، وَلَعَلَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ حَيْثُ لَا يَكْثُرُ وَإِلَّا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ.
(تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْأَصَابِعِ وَلَا كَيْفِيَّةُ حَالِ السَّبَّابَةِ مَعَ الْإِبْهَامِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُ إنَّهُ عَلَى هَيْئَةِ عَدَدِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ فَيَكُونُ الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ وَالْوُسْطَى أَطْرَافُهُنَّ عَلَى اللَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَ الْإِبْهَامِ، وَيَبْسُطُ الْمُسَبِّحَةَ وَيَجْعَلُ جَنْبَهَا إلَى السَّمَاءِ وَيَمُدُّ الْإِبْهَامَ بِجَنْبِهَا عَلَى الْوُسْطَى، فَقَبْضُ الثَّلَاثَةِ وَوَضْعُ أَطْرَافِهِنَّ عَلَى اللَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَ الْإِبْهَامِ هُوَ قَبْضُ تِسْعَةً، وَمَدُّ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ هُوَ الْعِشْرُونَ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي تَشَهُّدَيْهِ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ فِي رُكُوعِهِ وَلَا سُجُودِهِ بَلْ يَنْصِبُهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَوْ قُرْبَهُمَا فِي الرُّكُوعِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ مَبْسُوطَتَيْنِ.
(وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ) أَوْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (وَلَا يُحَرِّكُهَا وَلَا يُشِيرُ بِهَا) وَلَوْ قُطِعَتْ يُمْنَاهُ.
[مَا يُسْتَحَبُّ عَقِبَ الصَّلَاةِ]
وَقَدْ انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا وَأَشَارَ إلَى مَا يُسْتَحَبُّ عَقِبَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ بِأَثَرِ الصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِنَافِلَةٍ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: «أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ فَقَامَ لِيَتَنَقَّلَ فَجَذَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَأَجْلَسَهُ وَقَالَ لَهُ: لَا تُصَلِّ النَّافِلَةَ بِأَثَرِ الْفَرِيضَةِ، فَقَالَ لَهُ
يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَيُسْتَحَبُّ بِإِثْرِ صَلَاةِ الصُّبْحِ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ
ــ
[الفواكه الدواني]
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَصَبْت يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ اللَّهُ بِك» وَأَمَّا الْفَصْلُ بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ فَلَا يُكْرَهُ، وَكَذَا تَكْبِيرُ أَيَّامِ الضَّحَايَا؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ كَثِيرَةٌ وَالْمُخْتَارُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْهَا أَنْ (يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) تَسْبِيحَةً بِلَفْظِ سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُدُّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ مَدًّا طَبِيعِيًّا وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ أَلِفٍ (وَيَحْمَدُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (اللَّهَ) بِأَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ اللَّهَ) بِأَنْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ (وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ الْمُمْكِنَاتِ (قَدِيرٌ) فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ.
فِي الصَّحِيحَيْنِ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ عَلَى التَّكْبِيرِ كَمَا هُنَا، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْكِتَابِ بِتَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّحْمِيدِ كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ، أَيْ فَيُؤْخَذُ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ الْأَذْكَارِ الْمَسْمُوعَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ» زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: «وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَمِنْهَا: «أَنَّ مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ» .
وَمِنْهَا: «أَنَّ مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] فَقَدْ اكْتَالَ بِالْجَرِيبِ الْأَوْفَى» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» .
وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الصُّبْحِ خَاصَّةً: «أَنَّ مَنْ قَالَ بَعْدَ الْفَجْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ: «إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَقُلْ ثَلَاثًا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، تَعَافَى مِنْ الْعَمَى وَالْجُذَامِ وَالْفَالِجِ» .
وَالْأَذْكَارُ كَثِيرَةٌ وَثَوَابُهَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِهَا لُطْفًا وَامْتِنَانًا مِنْ مَوْلَى الثَّوَابِ حَيْثُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَى عَبْدِهِ فِي خُصُوصِ لَفْظٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ يُحْيِي وَيُمِيتُ عَقِبَ لَهُ الْمُلْكُ كَمَا يَزِيدُهَا بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَيُرْوَى زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، نَعَمْ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَالْأَحْوَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ كَذَلِكَ وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَخْ.
الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ دُونَ ثُمَّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَجْمُوعَةً، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ عَرَفَةَ وَجَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَ غَيْرُهُمْ الْإِتْيَانَ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى حِدَةٍ وَالتَّحْمِيدِ كَذَلِكَ وَالتَّكْبِيرِ كَذَلِكَ، وَأَقُولُ: فَيُسْتَفَادُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ.
الثَّالِثُ: الْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ الشَّارِعِ مَضْبُوطَةٌ هَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا؟ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: إنَّ الْأَعْدَادَ الْوَارِدَةَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ لِثَوَابٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِالْمِقْدَارِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ الثَّوَابُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لَهُ، وَرُبَّمَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْقَرَافِيِّ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى تَحْدِيدِ الشَّارِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ الْمُوهِمَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي الثَّوَابَ إلَّا بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ.
الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ هَلْ الْأَفْضَلُ فِي الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ السِّرُّ أَوْ الْجَهْرُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالتَّكْبِيرِ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ. «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ بِصَوْتِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ زَمَنًا يَسِيرًا حَتَّى عَلَّمَهُمْ صِفَةَ الذِّكْرِ لَا أَنَّهُ دَاوَمَ عَلَى الْجَهْرِ، فَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ إخْفَاءَ الذِّكْرِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ بِرَفْعِ صَوْتِهِ تَعْلِيمَ الْجَمَاعَةِ أَوْ إعْلَامَهُمْ، قُلْت: وَفِي كَلَامِ أَئِمَّتِنَا فِي التَّكْبِيرِ الْمَطْلُوبِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسُ: سَبَبُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ: «أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ.
قَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ كَمَا نَفْعَلُ وَلَهُمْ أَمْوَالٌ يَتَصَدَّقُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ مِنْهَا
وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبِ طُلُوعِهَا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الْفَجْرِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ يُسِرُّهَا
وَالْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ مِنْ الطِّوَالِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ قَلِيلًا
ــ
[الفواكه الدواني]
فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُونَهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُونَهُ كَذَلِكَ وَتَخْتِمُونَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلْنَا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] » فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا خُصُوصِيَّةَ لِلْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ: بَلْ قَوْلُهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إلَخْ يُرِيدُ هَذَا الْفَضْلُ مَخْصُوصٌ بِهِمْ لَا يَلْحَقُهُمْ غَيْرَهُمْ.
(وَيُسْتَحَبُّ) زِيَادَةٌ عَلَى الذِّكْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ غَيْرِهِ (بِإِثْرِ صَلَاةِ الصُّبْحِ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبِ طُلُوعِهَا) لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، وَجَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ ثَوَابُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ قَالَهُ ثَلَاثًا» وَوَرَدَ أَيْضًا: «أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَجَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرٍ إلَى أَنْ رَكَعَ سَجْدَةَ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَعَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ الصَّالِحُ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّمَا رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي إحْيَاءِ هَذَا الْوَقْتِ وَكَثَّرَ الثَّوَابَ فِي إحْيَائِهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ خُلُوِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَتَفَرُّغِهِ مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَانَ مَالِكٌ رحمه الله يُحَدِّثُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَإِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ تَرَكَ الْكَلَامَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَسَمِعْت مَنْ يَقُولُ: إنَّ زَمَانَ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ شَبِيهٌ بِزَمَنِ الْجَنَّةِ أَبَاحَهَا اللَّهُ لَنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَقَوْلُهُ: فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ تَرَدَّدَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي فَهْمِهَا فَقَالَ بَعْضٌ: التَّسْبِيحُ خِلَافُ الِاسْتِغْفَارِ وَخِلَافُ الدُّعَاءِ، وَقَالَ بَعْضٌ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَلِذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْقُرْآنُ أَفْضَلُ شَيْءٍ يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: يَدْعُو ابْتِدَاءً بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَهُ ثُمَّ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ثُمَّ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَأَفْضَلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ.
قَالَ التَّادَلِيُّ: وَبِأَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ أَفْتَى بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ الْحَامِلِينَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِهَذَا الْقَوْلِ أَقُولُ لِخَبَرِ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إحْدَاهَا عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ مِمَّا تَبْقَى فَائِدَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا تَرْكُ مَالِكٍ لَهُ بَعْدَ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ زَمَنَهُ لَمْ يَقِلَّ فِيهِ حَامِلُ الْعِلْمِ.
(تَنْبِيهٌ) : كَمَا يُسْتَحَبُّ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ بَعْدَ الصُّبْحِ يُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَ أَوَّلَ صَحِيفَتِهِ حَسَنَاتٌ وَفِي آخِرِهَا حَسَنَاتٌ مَحَا اللَّهُ مَا بَيْنَهُمَا» وَلِمَا وَرَدَ: «أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: يَا عَبْدِي اُذْكُرْنِي سَاعَةً بَعْدَ الصُّبْحِ وَسَاعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْفِرْ لَك مَا بَيْنَهُمَا أَوْ أَكْفِك مَا بَيْنَهُمَا» فَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ هِدَايَةِ الْمُرِيدِ: أَنَّ فَضْلَ هَذَا الْوَقْتِ كَفَضْلِ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِمَا قَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِ التَّسْبِيحِ بَعْدَ الصُّبْحِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى:{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه: 130] رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ) أَيْ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (بِوَاجِبٍ) وَلَوْلَا قَصْدُ الرَّدِّ لَاسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَيُسْتَحَبُّ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَمَا يَفْعَلُ بَعْدَهَا شَرَعَ فِيمَا هُوَ دُونَ الصُّبْحِ فِي الرُّتْبَةِ وَقَبْلَهَا فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَفَاءً بِمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الرَّغَائِبِ وَالسُّنَنِ فَقَالَ:(وَيَرْكَعُ) أَيْ يُصَلِّي (رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) لَكِنْ (بَعْدَ) تَحَقُّقِ طُلُوعِ (الْفَجْرِ) الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فَإِنْ رَكَعَهُمَا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تُجْزِي إنْ تَبَيَّنَّ تَقَدُّمُ إحْرَامِهَا لِلْفَجْرِ وَلَمْ يَتَحَرَّ.
وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ أَنَّهَا تُجْزِي، وَهُوَ كَذَلِكَ مَعَ التَّحَرِّي، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تُجْزِي وَلَوْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِ، فَ الْمُصَنِّفُ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ وَقْتُهَا وَلَمْ يَنُصَّ هُنَا عَلَى حُكْمِهَا لِمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ جَمَلَ فِي الْقَوْلَيْنِ بِالسُّنِّيَّةِ وَالرَّغِيبَةِ، وَاقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: وَهِيَ رَغِيبَةٌ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَفَاوُتُ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ السُّنَّةِ أَوْفَى مِنْ ثَوَابِ الرَّغِيبَةِ، وَفِعْلَ السُّنَّةِ فِي الْمَسْجِدِ
وَلَا يَجْهَرُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ سِرًّا وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا سِرًّا، وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجَلْسَةِ الْأُولَى إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَقُومُ فَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى
ــ
[الفواكه الدواني]
أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ بِخِلَافِ الرَّغِيبَةِ، وَكُلٌّ مِنْ السُّنَّةِ وَالرَّغِيبَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ تَخُصُّهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ) فَقَطْ (وَيُسِرُّهَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَاتِحَةِ سِرًّا لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ فِيهِمَا حَتَّى أَقُولَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟» رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَدَلِيلُ هَذَا أَظْهَرُ مِنْ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَصَّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ دَلِيلُهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ إنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، وَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْإِسْرَاعُ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسُّورَةِ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ (فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ أَنَّهُ مِمَّا جَرَّبَ لِدَفْعِ الْمَكَارِهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ " بِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَك " وَ " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ".
قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ وَسَائِلِ الْحَاجَاتِ وَآدَابِ الْمُنَاجَاةِ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِ " أَلَمْ نَشْرَحْ " وَ " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ " قَصُرَتْ عَنْهُ كُلُّ يَدٍ عَادِيَةٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلًا.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ اهـ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ لِسَيِّدِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّعَالِبِيِّ.
(خَاتِمَةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّاهُمَا بِبَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُعِيدُهُمَا وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّةً بَعْدَ الْفَجْرِ، وَإِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصُّبْحُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاتِهِمَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَقْضِيهِمَا بَعْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ وَلَا يَفْعَلُهُمَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُطَوِّلُ بِحَيْثُ يُحْرِمُ مَعَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِخَبَرِ:«إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لَفِعْلِهِمَا، بِخِلَافِ الْوِتْرِ تُقَامُ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ لِيَرْكَعَهَا حَيْثُ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَمِثْلُ الْمَأْمُومِ الْإِمَامُ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَيْهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ الْفَجْرَ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالصُّبْحِ وَلَا يَسْكُتُ الْمُؤَذِّنُ بِخِلَافِ الْوِتْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُتُ الْمُؤَذِّنُ حَتَّى يَفْعَلَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوِتْرِ أَنَّ الْفَجْرَ يُقْضَى بَعْدَ الصُّبْحِ بِخِلَافِ الْوِتْرِ، وَمِنْهَا: لَوْ أُقِيمَتْ الصُّبْحُ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ فِعْلِهِمَا فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُمَا خَارِجَهُ إنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ رَكْعَةٍ، وَمِنْهَا: لَوْ نَامَ عَنْ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ صَلَّاهُمَا بَعْدَ حَلِّ النَّافِلَةِ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يُصَلِّي الصُّبْحَ خَاصَّةً ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، وَمُقَابِلُهُ لِأَشْهَبَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ لَا يُصَلِّيهِمَا مَعَ الصُّبْحِ قَائِلًا: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَاهُنَّ يَوْمَ الْوَادِي، وَقَالَ أَشْهَبُ: بَلَغَنِي وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَرَى خِلَافٌ فِي قَضَائِهِمَا يَوْمَ الْوَادِي، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَضَاهُمَا فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَقْضِي غَيْرَ فَرْضٍ إلَّا هِيَ فَلِلزَّوَالِ، وَمِثْلُ مَنْ نَامَ عَنْهُمَا مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ نَاسِيًا لَهُمَا.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (الْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ مِنْ) جِهَةِ (الطِّوَالِ) بِنَاءً عَلَى تُسَاوِيهِمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَشْهَبَ (أَوْ) أَيْ وَقِيلَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ (دُونَ ذَلِكَ) الْمَقْرُوءِ فِي الصُّبْحِ (قَلِيلًا) أَيْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَتَطْوِيلُ قِرَاءَةِ صُبْحٍ وَالظُّهْرُ تَلِيهَا أَيْ تَقْرُبُ مِنْهَا فِي الطُّولِ، فَإِنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ مَثَلًا فِي الصُّبْحِ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْجُمُعَةِ وَالصَّفِّ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَفْهَمَ أَنَّهُ يَقْرَأُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّطْوِيلُ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ لِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ التَّطْوِيلَ لَا الْإِمَامُ لِغَيْرِ مَحْصُورِينَ أَوْ غَيْرِ مَحْصُورِينَ لَا يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ فَيُكْرَهُ لِخَبَرِ:«مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» .
(وَلَا يُجْهَرُ فِيهَا) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يُجْهَرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ (بِشَيْءٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ) لَا فِي الْفَاتِحَةِ وَلَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا (وَ) إنَّمَا (يَقْرَأُ فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ سِرًّا وَ) كَذَا يَقْرَأُ (فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا سِرًّا) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِسْرَارَ فِي الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا سُنَّةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَمِثْلُهَا السُّورَةُ إلَّا أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَسُنَّةٌ خَفِيفَةٌ فِي السُّورَةِ، فَلَوْ
يَسْتَوِيَ قَائِمًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ يَقُومُ الْمَأْمُومُ أَيْضًا فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا كَبَّرَ، وَيَفْعَلُ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الصُّبْحِ
وَيَتَنَفَّلُ بَعْدَهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ
وَيُسْتَحَبُّ مِثْلُ ذَلِكَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ
وَيَفْعَلُ فِي الْعَصْرِ
ــ
[الفواكه الدواني]
خَالَفَ وَأَبْدَلَ السِّرَّ بِأَعْلَى الْجَهْرِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ وَلَوْ مِنْ رَكْعَةٍ أَوْ فِي السُّورَةِ لَكِنْ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَا عَكْسُهُ لَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلُ لَكِنْ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَا وَقَعَتْ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ كَالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي السُّورَةِ فَقَطْ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَا سُجُودَ، وَهَذَا حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ سَهْوًا، وَفَاتَ التَّدَارُكُ بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ أَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ قَبْلَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَّتِهَا وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ حَيْثُ حَصَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ، وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَا لَوْ كَرَّرَ أُمَّ الْقُرْآنِ سَهْوًا، وَأَمَّا لَوْ خَالَفَ السُّنَّةَ عَمْدًا فَأَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: بُطْلَانُ الصَّلَاةِ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَالثَّالِثُ يُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ.
(تَنْبِيهٌ) إنَّمَا قَالَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا مَعَ عَدَمِ تَوَهُّمِهِ لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ السُّورَةَ تُزَادُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ كَالْأُولَيَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مَعَ الرُّبَاعِيَّة كَالثَّالِثَةِ مِنْ الثُّلَاثِيَّةِ، وَحُجَّةُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَتَيْنِ وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» .
(وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي الْجَلْسَةِ الْأُولَى) بِأَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ (إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ نَدْبِ التَّقْصِيرِ وَكَرَاهَةِ التَّطْوِيلِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ. (ثُمَّ يَقُومُ) بَعْدَ فَرَاغِ التَّشَهُّدِ (فَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا) ؛ لِأَنَّهُ فِي قِيَامِهِ مِنْ اثْنَتَيْنِ كَالْمُفْتَتِحِ لِصَلَاةٍ بِخِلَافِ الْقِيَامِ بَعْدَ الْأُولَى أَوْ الثَّالِثَةِ يُسْتَحَبُّ تَعْمِيرُ الرُّكْنِ بِالتَّكْبِيرِ، فَيُكَبِّرُ فِي الشُّرُوعِ كَمَا قَدَّمْنَا.
(هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ) الْمُرَادُ الْمُصَلِّي (وَحْدَهُ وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ) بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ (يَقُومُ الْمَأْمُومُ أَيْضًا) سَاكِتًا (فَإِذَا اسْتَوَى) أَيْ اسْتَقَلَّ (قَائِمًا كَبَّرَ) ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَلِذَا يَقُومُ بَعْدَ اسْتِقْلَالِ إمَامِهِ، وَلَوْ قَامَ فِي أَثْنَاءِ تَشَهُّدِهِ بِتَرْكِهِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ إلَخْ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجِلْسَةِ الْأُولَى إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (وَيَفْعَلُ فِي بَقِيَّةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَحَالَ تَشَهُّدِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ وَتَقْدِيمِهَا عِنْدَ هَوِيِّهِ لِلسُّجُودِ (نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي) صِفَةِ صَلَاةِ (الصُّبْحِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ.
ثُمَّ انْتَقَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالظُّهْرِ مِنْ النَّوَافِلِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا) أَيْ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الْفَصْلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَرَدَ التَّحْدِيدُ بِأَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ إمَامَنَا فَرَضَهُ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّ وَلَوْ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فَلَا إشْكَالَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ» .
(وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ) قَبْلَهَا أَيْ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ (يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا جَاءَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَيْضًا:«مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ يَوْمِهِ ذَلِكَ» وَإِنَّمَا قَالَ: يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ عَدَمُ الْفَصْلِ بِالسَّلَامِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى» وَلَفْظُ الْمُوَطَّإِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ.
قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» الْحَدِيثُ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ نَدْبِ السَّلَامِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ لَوْ سَهَا وَقَامَ لِثَالِثَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ قَبْلَ عَقْدِ الثَّالِثَةِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهَا، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ عَقْدِهَا تَمَادَى وَصَلَّاهَا أَرْبَعًا كَانَتْ نَافِلَةَ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالتَّمَادِي وَالسُّجُودِ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: إنَّمَا ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ لِمَا فِي التَّمَادِي مِنْ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَالسُّجُودُ مُرَاعَاةٌ لِمَذْهَبِنَا، وَأَمَّا لَوْ قَامَ لِخَامِسَةٍ فِي النَّفْلِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا يُقَالُ: الصَّلَاةُ تَبْطُلُ بِزِيَادَةِ مِثْلِهَا سَهْوًا فَكَيْفَ يَرْجِعُ مُطْلَقًا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّفَلِ الْمَحْدُودِ.
(وَيُسْتَحَبُّ لَهُ) أَيْ لِمُرِيدِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَنْ يَفْعَلَ (مِثْلَ ذَلِكَ) النَّفْلِ الْكَائِنِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ (قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) لِخَبَرِ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» وَدُعَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم -
كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ سَوَاءً، إلَّا أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ وَالتَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا فَكَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
مُسْتَجَابٌ، فَإِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي دُعَائِهِ عليه الصلاة والسلام.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَشْغُولٌ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَتَنْفِرُ نَفْسُهُ مِنْ الْعِبَادَةِ أَشَدَّ نُفُورٍ، فَأَمَرَ بِصَلَاةِ أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ لِتَتَأَنَّسَ نَفْسُهُ وَيَحْضُرَ قَلْبُهُ فَيَأْلَفَ الْعِبَادَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَائِضِ فَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ نَقَصَ مِنْهَا، وَمَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَفَّلَ الْإِنْسَانُ بِقَصْدِ إنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ يَكُونُ هَذَا جَابِرًا لَهُ لِكَرَاهَةِ تِلْكَ النِّيَّةِ.
قَالَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ أَنْ يَتَنَفَّلَ وَيَقُولَ أَخَافُ أَنِّي نَقَصْت مِنْ الْفَرِيضَةِ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ يَفْعَلُهُ.
(وَيَفْعَلُ فِي) صَلَاةِ (الْعَصْرِ كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ) حَالَةَ كَوْنِهِمَا (سَوَاءً) أَيْ مُسْتَوِيَتَيْنِ فِي الْإِسْرَارِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَكُلِّ مَا تَقَدَّمَ (إلَّا أَنَّهُ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) مَعَ الْعَصْرِ (مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ) الْمُشَارِ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا) إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ بِسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ تَرَكَهَا وَقَرَأَ قَصِيرَةً، وَسَكَتَ عَنْ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا لِكَرَاهَتِهِ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَحُرْمَتِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ،
وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُخَالِفَةً لِصِفَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ أَتَى بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ فَقَالَ: (وَأَمَّا) صَلَاةُ (الْمَغْرِبِ فَيَجْهَرُ) اسْتِنَانًا (بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا) وَيُسِرُّ فِي الثَّالِثَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْأُولَيَيْنِ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ) لِضِيقِ وَقْتِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ يَقْرَأُ فِيهِمَا مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْصِيرُهَا بِمَغْرِبٍ وَعَصْرٍ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِآلِ عِمْرَانَ» فَقِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَرَفَ مِمَّنْ خَلْفَهُ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ التَّخْفِيفُ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قِرَاءَتِهِ عليه السلام بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: مِنْ أَنَّ التَّضْيِيقَ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلشُّرُوعِ فِيهَا فَقَطْ.
(وَ) يَقْرَأُ (فِي الثَّالِثَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ) أَيْ فَحَسْبُ زَادَهُ لِلرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِزِيَادَةِ سُورَةٍ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الثَّالِثَةِ كَالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] فَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ يُحْفَظُ وَلَا يُتَّبَعُ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: يُسَنُّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِارْتِدَادِ فِي زَمَنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْبَاجِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقِرَاءَةَ فَغَيْرُ صَوَابٍ لِكَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ (وَيَتَشَهَّدُ) وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدْعُو كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَشَهُّدِ الصُّبْحِ (وَيُسَلِّمُ) عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى قُبَالَةِ وَجْهِهِ وَتَيَامُنِهِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا فَيُسَلِّمُهَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ.
(وَ) إذَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ بَعْدَ سَلَامِهَا (يُسْتَحَبُّ) لَهُ (أَنْ) هـ (يَتَنَفَّلَهُ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ) لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ «أَنَّهُ كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ كُتِبَتَا فِي عِلِّيِّينَ» وَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ بِهِمَا لِمَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَرَزِينٌ فِي جَامِعِهِ: «تَعَجَّلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمَا يُرْفَعَانِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ» .
(وَمَا زَادَ) عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ (فَهُوَ خَيْرٌ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، فَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ:«مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (وَإِنْ تَنَفَّلَ) بَعْدَهَا (بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» قِيلَ مِنْ عِبَادَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَوَرَدَ:«مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَوَرَدَ: «مَنْ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ غُفِرَتْ لَهُ بِهَا ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً» .
(تَنْبِيهٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْدُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ ذِكْرُ الْمَحْدُودِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ أَنَّ التَّحْدِيدَ غَيْرُ شَرْطٍ إلَّا فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ كَمَا قَدَّمْنَا.
(وَ) بِالْجُمْلَةِ (التَّنَفُّلُ
غَيْرِهَا
وَأَمَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَاسْمُ الْعِشَاءِ أَخَصُّ بِهَا وَأَوْلَى فَيَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِرَاءَتُهَا أَطْوَلُ قَلِيلًا مِنْ قِرَاءَةِ الْعَصْرِ وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي سَائِرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ
وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ
وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي يُسِرُّ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا هِيَ
ــ
[الفواكه الدواني]
بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُرَغَّبٌ فِيهِ) أَيْ حَضَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ وَصَلَاةُ الْغَفْلَةِ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام:«عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِمُلَاغَاةِ النَّهَارِ وَتُهَذِّبُ آخِرَهُ» أَيْ تَطْرَحُ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْبَاطِلِ وَاللَّهْوِ وَتُصَفِّي آخِرَهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَعَمْ سَاعَةُ الْغَفْلَةِ يَعْنِي الصَّلَاةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، قَالَ حُذَيْفَةُ:«أَتَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّيْت مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى إلَى الْعِشَاءِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. (وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْ الْقِصَارِ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ التَّنَفُّلِ مِمَّا هُوَ (مِنْ شَأْنِهَا) أَيْ الْمَغْرِبِ كَالتَّكْبِيرِ وَالْجُلُوسِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ فِيهَا (فَ) حُكْمُهَا فِيهِ (كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِهَا) مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ،
وَلَمَّا كَانَتْ الْعِشَاءُ تُخَالِفُ الْمَغْرِبَ فِي الْقِرَاءَةِ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ أَتَى بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ فَقَالَ: (وَأَمَّا الْعِشَاءُ) بِالْمَدِّ (الْأَخِيرَةُ) احْتِرَازٌ مِنْ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْعِشَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُسَمَّ بِهِ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا (وَهِيَ الْعَتَمَةِ) فَلَهَا اسْمَانِ (وَ) لَكِنْ (اسْمُ الْعِشَاءِ أَخَصُّ) وَفِي نُسْخَةٍ أَحَقُّ (بِهَا وَأَوْلَى) ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ تَسْمِيَتِهَا بِالْعَتَمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ وَهُمَا ضَعِيفَانِ بَلْ لَا وَجْهَ لِلْحُرْمَةِ، كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَتَمَةِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى فَرْضِ وُرُودِ التَّسْمِيَةِ بِهَا أَيْ مَحْظُورٌ تَرَتَّبَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ وَجُمْلَةٌ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَكَذَا جُمْلَةٌ وَاسْمُ الْعِشَاءِ أَحَقُّ بِهَا اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْعِشَاءُ وَجَوَابُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَيَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ) مِنْهَا (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا لِفِعْلِهِ عليه الصلاة والسلام الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَسَرَّ أَعَادَ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَّتِهَا إنْ لَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ إنْ أَعَادَ الْفَاتِحَةَ لَا السُّورَةَ فَقَطْ إلَّا مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ فَاتَ التَّدَارُكُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ إنْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ كَمَا يَأْتِي فِي السَّهْوِ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (قِرَاءَتُهَا) أَيْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِسُورَةٍ (أَطْوَلُ) طُولًا (قَلِيلًا مِنْ قِرَاءَةِ الْعَصْرِ) فَتَكُونُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ قِرَاءَةِ الظُّهْرِ وَقِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ، فَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِ " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى "" وَالشَّمْسِ " وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَطْوَلَ الصَّلَاةِ قِرَاءَةً الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي الطُّولِ، وَأَقْصُرَهَا الْمَغْرِبُ وَيَقْرُبُ مِنْهَا فِي الْقِصَرِ الْعَصْرُ، وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فَيَقْرَأُ فِيهَا: بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَسُورَةِ وَالشَّمْسِ، هَذَا هُوَ التَّحْرِيرُ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَتَطْوِيلُ قِرَاءَةِ صُبْحٍ وَالظُّهْرُ تَلِيهَا وَتَقْصِيرُهَا لِمَغْرِبٍ وَعَصْرٍ كَتَوَسُّطٍ بِعِشَاءٍ، تَقَدَّمَ أَنَّ مَحَلَّ النَّدْبِ التَّطْوِيلُ لِلْفَذِّ وَالْإِمَامِ لِمَنْ يَرْضَى بِالتَّطْوِيلِ.
(وَ) يَقْرَأُ (فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَحْدَهَا (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا (سِرًّا) وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ، خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي زِيَادَةِ سُورَةٍ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ (ثُمَّ يَفْعَلُ فِي سَائِرِهَا) أَيْ فِي بَاقِي أَفْعَالِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ (كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ) فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنَبِّهُ عَلَى مَا تُخَالِفُ فِيهِ إحْدَى الصَّلَوَاتِ غَيْرَهَا، فَأَمَّا مَا تَتَوَافَقُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ فَقَدْ عُلِمَ بَيَانُهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَخْلَصَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ صِفَةَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا كَمَالَ بَعْدَهُ، وَلِذَا نَصَّ بَعْضُ شُرَّاحِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى صِفَةِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ فَرْضَهَا مِنْ سُنَّتِهَا، وَهَا هُنَا قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ.
(وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا) أَيْ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ إبَّانَ النَّوْمِ، فَإِذَا نَامَ قَبْلَ فِعْلِهَا رُبَّمَا يُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا (وَ) يُكْرَهُ (الْحَدِيثُ) الْمُبَاحُ (بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ صَلَاتِهَا (لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ) وَإِنَّمَا كُرِهَ الْحَدِيثُ بَعْدَهَا مَخَافَةَ النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَقَبْلَ صَلَاتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْشَى مَعَهُ فَوَاتُهَا كَالنَّوْمِ قَبْلَهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بَعْدَهَا إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ كَالْعِلْمِ أَوْ مَعَ الضَّيْفِ أَوْ الْعَرُوسِ، وَكَذَا كُلُّ مَا خَفَّ، وَكَذَا يُكْرَهُ السَّهَرُ بِلَا كَلَامٍ خَوْفَ تَفْوِيتِ الصُّبْحِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ لِمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ النَّوْمِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُهُ حَرَامًا، نَعَمْ وَرَدَ أَنَّ الْأَرْضَ عَجَّتْ مِنْ نَوْمِ الْعُلَمَاءِ بِالضُّحَى مَخَافَةَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الصُّبْحَةُ تَمْنَعُ بَعْضَ الرِّزْقِ» فَحَدِيثٌ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ
بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالتَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَهْرُ فَأَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ إنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَالْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُلِ فِي الْجَهْرِ
وَهِيَ فِي هَيْئَةِ صَلَاتِهَا مِثْلُهُ غَيْرَ أَنَّهَا تَنْضَمُّ وَلَا تَفْرُجُ فَخِذَيْهَا وَلَا عَضُدَيْهَا وَتَكُونُ مُنْضَمَّةً مُنْزَوِيَةً فِي جُلُوسِهَا وَسُجُودِهَا وَأَمْرِهَا كُلِّهِ
ثُمَّ يُصَلِّي الشَّفْعَ وَالْوِتْرَ جَهْرًا
وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ الْإِجْهَارُ وَفِي نَوَافِلِ النَّهَارِ
ــ
[الفواكه الدواني]
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: النَّوْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: نَوْمُ خُرْقٍ وَنَوْمُ خُلْقٍ وَنَوْمُ حُمْقٍ، فَالْخُرْقُ نَوْمَةُ الصَّبْحَى يَقْضِي النَّاسُ حَوَائِجَهُمْ وَهُوَ نَائِمٌ، وَنَوْمَةُ خُلْقٍ نَوْمَةُ الْقَائِلَةِ، وَنَوْمَةُ حُمْقٍ النَّوْمُ حِينَ تَحْضُرُ الصَّلَاةُ،
وَلَمَّا بَيَّنَ مَا يُقْرَأُ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِرًّا وَمَا يُقْرَأُ فِيهَا جَهْرًا بَيَّنَ حَقِيقَةَ كُلٍّ بِقَوْلِهِ: (وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي يُسِرُّ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا) بِالرَّفْعِ تَوْكِيدٌ لِلْقِرَاءَةِ الْوَاقِعَةِ مُبْتَدَأً (هِيَ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالتَّكَلُّمِ) أَيْ فِي التَّلَفُّظِ (بِالْقُرْآنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتِحَةٌ بِحَرَكَةِ لِسَانٍ وَهَذَا أَقَلُّ السِّرِّ وَأَعْلَاهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا إجْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ إذْ لَا يُعَدُّ قِرَاءَةً، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ لَا يَقْرَأُ بِهِ كَمَا لَا يَبَرُّ الْحَالِفُ لَيَقْرَأَنَّ السُّورَةَ الْفُلَانِيَّةَ بِإِجْرَائِهَا عَلَى قَلْبِهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بِالتَّكَلُّمِ الْقُرْآنُ عَمَّا لَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ بِنَحْوِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَلَا يَكْفِيهِ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِنَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّهَا غُيِّرَتْ وَبُدِّلَتْ، أَوْ لِمُخَالَفَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ قَالَ:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلَمْ يُصَلِّ إلَّا بِالْقُرْآنِ، لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ بِالتَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ وَالْقَدِيمُ مَدْلُولُهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَةِ ذَاتِهِ.
(تَنْبِيهٌ) : مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْقِرَاءَةُ إلَى قَوْلِهِ. هِيَ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ مَا يُطْلَبُ بِهِ الْإِسْرَارُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ كَتَسْلِيمِ الْمَأْمُومِ لِلرَّدِّ وَكَتَكْبِيرِ غَيْرِ الْإِمَامِ لِغَيْرِ الْإِحْرَامِ لَيْسَ كَالْقُرْآنِ اهـ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ عَلَى مَا يَظْهَرُ، إذْ مُجَرَّدُ الْإِجْرَاءِ عَلَى الْقَلْبِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا أَدْعِيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(وَأَمَّا الْجَهْرُ) أَيْ أَقَلُّهُ الَّذِي يُسَنُّ فِعْلُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَأُولَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (فَ) هُوَ (أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ) أَنْ لَوْ كَانَ (إنْ كَانَ) صَلَّى (وَحْدَهُ) وَأَمَّا أَعْلَاهُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالْمَطْلُوبُ فِي حَقِّهِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَأْمُومِ لِإِسْمَاعِ الْمَأْمُومِينَ لَا خُصُوصَ مَنْ يَلِيهِ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى عَنْ الْمُسْمِعِ، وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فَفِي الْمُوَطَّإِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه تُسْمَعُ قِرَاءَتُهُ فِي دَارِ أَبِي جَهْمٍ بِالْبَلَاطِ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ إنْ طَلَبَ مَحَلَّ الْجَهْرِ حَيْثُ كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَخْلِيطٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِلَّا نَهَى عَمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّخْلِيطُ وَلَوْ أَدَّى إلَى إسْقَاطِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْتَكَبُ مُحَرَّمٌ لِتَحْصِيلِ سُنَّةٍ (وَ) أَمَّا (الْمَرْأَةُ) فَهِيَ (دُونَ الرَّجُلِ فِي الْجَهْرِ) بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا تُسْمِعُ مَنْ يَلِيهَا فَيَكْفِيهَا حَرَكَةُ لِسَانِهَا، فَالْجَهْرُ فِي حَقِّهَا كَالسِّرِّ فَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهَا الْجَهْرُ بَلْ تُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، وَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ حَالَتِهَا فِي الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ طُرُوَّ أَحَدٍ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَذَانِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لِلضَّرُورَةِ.
(وَهِيَ فِي هَيْئَةِ) أَيْ صِفَةِ (صَلَاتِهَا) مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ الرَّجُلِ (غَيْرَ أَنَّهَا) يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ (تَنْضَمَّ) أَيْ تَنْكَمِشَ (وَلَا تَفْرُجُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِتَنْضَمَّ، فَكَانَ الْأَنْسَبُ إسْقَاطَ الْوَاوِ وَيَقُولُ بَعْدَ تَنْضَمُّ لَا تَفْرُجُ (فَخِذَيْهَا وَلَا عَضُدَيْهَا وَ) إنَّمَا (تَكُونُ مُنْضَمَّةً مُنْزَوِيَةً) تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحَالَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ فِيهَا بِقَوْلِهِ:(فِي جُلُوسِهَا وَسُجُودِهَا وَأَمْرِهَا كُلِّهِ) يَدْخُلُ فِيهِ الرُّكُوعُ فَلَا تَجْنَحُ كَالرَّجُلِ، وَكَلَامُهُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ: وَتُجَافِي ضَبْعَيْك عَنْ جَنْبَيْك فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَأَمْرُهَا كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَجْلِسُ عَلَى وَرِكِهَا الْأَيْسَرِ وَفَخِذِهَا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، تَضُمُّ بَعْضَهُمَا لِبَعْضٍ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ جُلُوسُهَا كَالرَّجُلِ فَسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْجُلُوسِ بِإِفْضَاءِ الْيُسْرَى لِلْأَرْضِ وَالْيُمْنَى عَلَيْهَا فَيَصِيرُ قُعُودُهَا عَلَى أَلْيَتِهَا الْيُسْرَى وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِهَا الْيُسْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
(ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ (يُصَلِّي الشَّفْعَ) وَأَقَلُّ مَا يَنْدُبُ مِنْهُ رَكْعَتَانِ (وَ) يُصَلِّي (الْوَتْرِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ آكَدُ السُّنَنِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوَتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ ثُمَّ عِيدٌ ثُمَّ كُسُوفٌ ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ وَوَقْتُهُ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ، إنَّمَا كَانَ آكَدَ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ مُسْتَدِلِّينَ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى السُّنِّيَّةِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ:«أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْإِسْلَامِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فَنَفَى الْوُجُوبَ عَنْ غَيْرِ الْخَمْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَالْمَنْدُوبُ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ شَفْعٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ بِسَلَامٍ إلَّا لِاقْتِدَاءٍ بِوَاصِلٍ فَلَا كَرَاهَةَ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الشَّفْعَ وَبِالْأَخِيرَةِ الْوَتْرَ، وَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ بِالْجَمِيعِ الْوَتْرَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ابْتِدَاءً أَنَّهُ وَاصِلٌ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ نِيَّةَ الْوِتْرِ عِنْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ لَهَا