الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْكَفَّارَةُ
وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنْ قُمْت فِيهِ بِمَا تَيَسَّرَ فَذَلِكَ مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ
وَالْقِيَامُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَمَنْ شَاءَ قَامَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ لِمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ وَحْدَهُ
وَكَانَ السَّلَفُ
ــ
[الفواكه الدواني]
عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى
، وَلَمَّا قَدَّمَ الصَّائِمَ يُنْهَى عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ وَلَوْ مَعَ عِلْمِ السَّلَامَةِ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهَا بِقَوْلِهِ:(وَمَنْ الْتَذَّ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِمُبَاشَرَةٍ) وَلَوْ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ كَرِجْلِهِ (أَوْ قُبْلَةٍ فَأَمْذَى لِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَلَوْ نَسِيَ كَوْنَهُ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْذِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْعَظَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْإِنْعَاظِ، وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِ الصَّوْمِ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَاعِدَةُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ تَقْدِيمُ مَا رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِهَا وَمِثْلُ الْإِمْذَاءِ بِالْمُبَاشَرَةِ الْإِمْذَاءُ بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَلَوْ لَمْ يُدِمْهُمَا عَلَى مَا فِي بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَفِي الْأُجْهُورِيِّ هُنَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ فِكْرٍ غَيْرِ مُسْتَدَامٍ أَوْ نَظَرٍ غَيْرِ مُسْتَدَامٍ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ.
قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَأَقُولُ ظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ لُزُومُ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْفِكْرِ وَالْقُبْلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إنْ أَمَذَى قَضَى مِنْ غَيْرِ شَرْطِ اسْتِدَامَةٍ.
(وَ) مَفْهُومُ أَمَذَى أَنَّهُ (إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ (حَتَّى أَمْنَى فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) مَعَ الْقَضَاءِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَتَعْبِيرُهُ بِحَتَّى يُوهِمُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ بِمُجَرَّدِ الْقُبْلَةِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الْمُعْتَمَدُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَمُّدِ إخْرَاجِ الْمَنِيِّ بِالْقُبْلَةِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ الْمُلَاعَبَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَادَةٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، وَأَمَّا تَعَمُّدُ إخْرَاجِهِ بِنَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِدَامَةِ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْإِنْزَالُ بِهِمَا أَوْ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السَّلَامَةُ مَعَ إدَامَتِهِمَا فَتَخَلَّفَتْ وَأَمْنَى فَقَوْلَانِ اسْتَظْهَرَ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمَا عَدَمَ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ عَامًّا فِي جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَأَمَّا مَنْ أَمْنَى بِتَعَمُّدِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمُقَابِلُهُ لِلْقَابِسِيِّ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَادَتُهُ الْإِمْنَاءُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ
[حُكْمِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ]
. ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ التَّرَاوِيحِ الْمَعْرُوفَةِ بِقِيَامِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ) أَيْ صَلَّى فِيهِ التَّرَاوِيحَ وَيُقَالُ لَهَا الْقِيَامُ (إيمَانًا) أَيْ مُصَدِّقًا بِالْأَجْرِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) أَيْ مُخْلِصًا فِي فِعْلِهِ وَمُحْتَسِبًا أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَفْعَلْهُ لِرِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) هَذَا جَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه:«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَالْمُرَادُ ذُنُوبُهُ الصَّغَائِرُ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ عَفْوُ اللَّهِ، وَأَمَّا تَبِعَاتُ الْعِبَادِ فَلَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَالِ أَرْبَابِهَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا يُقَالُ لَهَا ذُنُوبٌ إنَّمَا الذَّنْبُ إثْمُ الْجُرْأَةِ، فَهَذَا يُكَفَّرُ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْحَجِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، لَكِنَّ حَمْلَ الذُّنُوبِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لِأَنَّهَا الَّتِي تُكَفَّرُ بِالْقِيَامِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّغَائِرَ تُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ بِالْوُضُوءِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ، فَأَيْنَ الصَّغَائِرُ الَّتِي يُكَفِّرُهَا الْقِيَامُ؟ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْإِشْكَالُ بِعَيْنِهِ فِي بَحْثِ الْعَقِيدَةِ، وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: الذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْمُكَفِّرَاتُ كَالْأَدْوِيَةِ لَهَا، فَمِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الْوُضُوءُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الصَّوْمُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الْقِيَامُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْجَوَابِ حَدِيثُ:«إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ الصَّوْمُ وَلَا الصَّلَاةُ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهُ السَّعْيُ عَلَى الْعِيَالِ» وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الذُّنُوبِ يُرْفَعُ لَهُ بِهَا دَرَجَاتٌ، وَحُكْمُ الْقِيَامِ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ النَّدْبُ وَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ فِي رَمَضَانَ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ حُكْمَهُ السُّنِّيَّةُ، وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ النَّدْبُ حَيْثُ قَالَ: وَوَقْتُهُ وَقْتُ الْوِتْرِ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ، فَلَا يُصَلَّى قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ عِشَاءٍ مُقَدَّمَةٍ عَلَى مَحَلِّهَا الضَّرُورِيِّ، وَاخْتُلِفَ هَلْ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ أَوْ مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَفِعْلُهُ مُسْتَحَبٌّ قَوْلَانِ وَلَمَّا شَاعَ فِي الْأَمْصَارِ تَحْدِيدُهُ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً غَيْرِ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ حُصُولِ ذَلِكَ الثَّوَابِ بِأَقَلَّ مِنْهَا دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ:(وَإِنْ قُمْت فِيهِ) أَيْ فِي رَمَضَانَ (بِمَا تَيَسَّرَ) مِنْ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ رَكْعَةً (فَذَلِكَ) الَّذِي تَيَسَّرَ لَك (مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ) أَيْ ثَوَابُهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى قِيَامٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ: وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) وَرَجَاءُ الْفَضْلِ مِنْ الْقِيَامِ الْقَلِيلِ لَا يُنَافِي أَنَّ الْكَثِيرَ أَكْثَرُ ثَوَابًا (وَ) مَرْجُوٌّ (تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ) وَإِنَّمَا قَالَ: مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِحُصُولِهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِثَابَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، إذْ الْإِثَابَةُ عَلَيْهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْقَبُولِ، وَلِذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ
الصَّالِحُ يَقُومُونَ فِيهِ فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَيَفْصِلُونَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِسَلَامٍ ثُمَّ صَلَّوْا بَعْدَ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْعَاقِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ دَائِمًا فِي حَضِيضِ النُّقْصَانِ وَغَيْرَ بَالِغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ، لَعَلَّ الْبَارِيَ سبحانه وتعالى يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالْإِحْسَانِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُنْدَبُ فِعْلُ الْقِيَامِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ فِعْلُ صَلَاةِ (الْقِيَامِ فِيهِ) أَيْ فِي رَمَضَانَ (فِي) سَائِرِ (مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ) وَإِنْ كَانَتْ مَسَاجِدَ خُطَبٍ وَيَجُوزُ فِعْلُهُ (بِإِمَامٍ) فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَرَاهَةِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَمْعُ كَثِيرٍ لِنَفْلٍ أَوْ بِمَكَانٍ مُشْتَهِرٍ لِاسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ عَلَى الْجَمْعِ فِيهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ لِاسْتِحْبَابِ خَتْمِهِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ جَمِيعَهُ الْمَأْمُومُونَ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ قَالَ:(وَمَنْ شَاءَ قَامَ) أَيْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ (فِي بَيْتِهِ وَلَوْ بِإِمَامٍ وَهُوَ أَحْسَنُ) أَيْ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ (لِمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ وَحْدَهُ) وَمَعْنَى قَوِيَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَشَاطٌ فِي فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ الْمُتَأَكَّدِ: وَتَرَاوِيحُ وَانْفِرَادٌ فِيهَا إنْ لَمْ تُعَطَّلْ الْمَسَاجِدُ.
قَالَ شُرَّاحُهُ: وَنُدِبَ الِانْفِرَادُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَنْشَطُ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ، وَبِعَدَمِ تَعْطِيلِ الْمَسْجِدِ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ آفَاقِيًّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَإِلَّا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ مَعَ الْقُيُودِ أَفْضَلَ لِلسَّلَامَةِ مِنْ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَلْوَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْخَلْوَةِ، وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ:«أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى بِأَصْحَابِهِ التَّرَاوِيحَ لَيْلَتَيْنِ وَقِيلَ ثَلَاثًا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الثَّالِثَةِ وَقِيلَ فِي الرَّابِعَةِ لَمَّا بَلَغَهُ ازْدِحَامُهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا أَنِّي خَشِيت أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» كَمَا أَشَارَ الْأُجْهُورِيُّ بِقَوْلِهِ:
وَفِيهِ قَدْ صَلَّى نَبِيُّ الرَّحْمَهْ
…
قِيَامَهُ بِلَيْلَتَيْنِ فَاعْلَمْهُ
أَوْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ
…
خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ
ثَمَّةَ كَانَ الْجَمْعُ فِيهِ مِنْ عُمَرْ
…
لَمَّا وَعَاهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ خَبَرْ
مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْلَاكٌ كِرَامْ
…
بِرَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ لِلْقِيَامْ
فَمَنْ لَهُمْ قَدْ مَسَّ أَوْ مَسُّوهُ
…
يَسْعَدُ وَالشِّقْوَةُ لَا تَعْرُوهُ
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَوْلُ عُمَرَ فِيهَا: نِعْمَةُ الْبِدْعَةِ هَذِهِ لَيْسَ رَاجِعًا لِأَصْلِهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ جَمْعُهُمْ عَلَى إمَامٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ امْتَنَعَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخُرُوجِ صَارُوا يُصَلُّونَهَا فُرَادَى فِي بُيُوتِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَتَيْنِ حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ خَشْيَةِ فَرْضِيَّتِهَا لِعَدَمِ تَجْدِيدِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام أَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفِعْلِهَا جَمَاعَةً، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إشْهَارَهَا وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا وَإِحْيَاءَ الْمَسَاجِدِ بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّ إخْفَاءَهَا ذَرِيعَةٌ لِإِهْمَالِهَا وَتَضْيِيعِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ الرَّسُولُ عليه الصلاة والسلام: «إنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ خَشْيَةُ فَرْضِهَا عَلَيْكُمْ» مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ حِينَ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: " هُنَّ خَمْسٌ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلَخْ " فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ خَشْيَةُ فَرْضِهَا فِي خُصُوصِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَمَفْرُوضَةٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ خَشْيَةُ فَرْضِهَا عَلَيْكُمْ فِي جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ خَشْيَةُ فَرْضِهَا» يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، فَكَيْفَ تَقُولُونَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام قَدْ يَفْعَلُ الْمَفْضُولَ لِلتَّشْرِيعِ، فَفِعْلُهُ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْوَاجِبِ عليه الصلاة والسلام، وَخِلَافُ الْأَفْضَلِ فِي حَقِّنَا.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا الْمُصْطَفَى وَوَاظَبَ عَلَيْهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (يَقُومُونَ فِيهِ) فِي زَمَنِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه وَبِأَمْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً) وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ الْآنَ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ. (ثُمَّ) بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشْرِينَ (يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ) مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْأَشْرَفِ لَا أَنَّ الثَّلَاثَ وِتْرٌ؛ لِأَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا مَرَّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ:(وَيَفْصِلُونَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِسَلَامٍ) اسْتِحْبَابًا وَيُكْرَهُ الْوَصْلُ إلَّا لِاقْتِدَاءٍ بِوَاصِلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، وَخُيِّرَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ النَّاسِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا. (ثُمَّ) بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ بِالْمَدِينَةِ (صَلَّوْا) أَيْ السَّلَفُ غَيْرَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ هُنَا مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (بَعْدَ ذَلِكَ) الْعَدَدِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ
ذَلِكَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها «مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَعْدَهَا الْوِتْرُ» .
ــ
[الفواكه الدواني]
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ) وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا كَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه لَمَّا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ، فَأَمَرَهُمْ بِتَقْصِيرِ الْقِرَاءَةِ وَزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ، وَالسُّلْطَانُ إذَا نَهَجَ مَنْهَجًا لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ وَلَا سِيَّمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه، وَهَذَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ الْأَوَّلَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَيْهَا لِاسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ صَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ بِالشَّفْعِ وَالْوِتْرِ. (وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ الْعَدَدِ مِنْ الْعِشْرِينَ أَوْ السِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ (وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ وَهَذَا غَيْرُ ضَرُورِيِّ الذِّكْرِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السَّلَامِ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَفْضَلُ لَهُ السَّلَامُ بَعْدَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمَّا بَيَّنَ قَدْرَ مَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
شَرَعَ فِي بَيَانِ عَدَدِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً بَعْدَهَا الْوِتْرُ» قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ هُوَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَا يُعَارِضُ مَا رُوِيَ عَنْهَا بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ، وَرَوَى غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِهِ «أَنَّهُ رَجَعَ إلَى تِسْعٍ ثُمَّ إلَى سَبْعٍ» ، وَلَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا بَلْ اخْتِلَافٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارَاتٍ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ افْتَتَحَ وِرْدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِيَنْشَطَ، وَإِذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَتَارَةً عَدَّهَا بِفِعْلِهِ فِي لَيْلِهِ وَهُوَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتَارَةً أَسْقَطَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَعَدَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ كَثِيرٍ مِمَّا وَرَدَ.
(خَاتِمَةٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّإِ: هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي تَقُومُهُ النَّاسُ بِرَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا يُوقِعُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ بِرَمَضَانَ لِكَيْ يَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ فَضْلُ الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَ رَبِّهِمْ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ اهـ، وَنَحْوُ هَذَا لِابْنِ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّتَّائِيُّ: وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذِهِ الْفَائِدَةَ أَنْكَرَهَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ حَتَّى أَوْقَفْنَاهُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ الْبَاجِيِّ وَابْنِ الْحَاجِّ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الصِّيَامِ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ فَقَالَ: