الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ وَالْإِحْرَامُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يُجْزِئُ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتَرْفَعُ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ
ثُمَّ
ــ
[الفواكه الدواني]
[بَاب صفة الْعَمَل فِي الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة]
ِ (وَ) صِفَةُ الْعَمَلِ فِي (مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْفَرْضِ مَا يَلِيهِ فِي الطَّلَبِ لِيَشْمَلَ مَا كَانَ مِنْ النَّوَافِلِ سَابِقًا عَلَى فِعْلِ الْفَرْضِ كَأَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَيَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ السُّنَنِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِفِعْلِ فَرْضٍ كَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ، وَمُرَادُهُ بِالْعَمَلِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ لِيَشْمَلَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَاةِ سَبْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً: النِّيَّةُ وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامُ لَهَا وَالْفَاتِحَةُ وَالْقِيَامُ لَهَا وَالرُّكُوعُ وَالْقِيَامُ لَهُ وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسُّجُودُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْجُلُوسُ بِقَدْرِ السَّلَامِ وَالسَّلَامُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالِاعْتِدَالُ وَتَرْتِيبُ الْأَدَاءِ وَنِيَّةُ اقْتِدَاءِ الْمَأْمُومِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّيَّةِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً أَوْ سُنَّةً أَوْ رَغِيبَةً لِافْتِقَارِ الْجَمِيعِ إلَى نِيَّةٍ خَاصَّةٍ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ فَرِيضَةً وَلَا سُنَّةً وَلَا رَغِيبَةً فَيَكْفِي نِيَّةُ فِعْلِ مَا قَصَدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُلَاحِظْ كَوْنَهَا صَلَاةَ ضُحًى أَوْ تَرَاوِيحَ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي نَحْوِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ.
قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: فِي تَحْرِيرِهِ أَقْوَالَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا إلَّا ثَلَاثَةً: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْفَاتِحَةُ وَالسَّلَامُ، وَأَفْعَالُهَا كُلُّهَا فَرَائِضُ إلَّا ثَلَاثَةً: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْجِلْسَةُ الْوُسْطَى وَالتَّيَامُنُ عِنْدَ السَّلَامِ، زَادَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَالِاعْتِدَالُ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ اهـ.
وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا اهْتَمَّ بِبَيَانِ الصِّفَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَرْكَانِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: يُؤْخَذُ مِنْ اقْتِصَارِ الْمُصَنِّفِ عَلَى بَيَانِ الصِّفَةِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِصَلَاةٍ عَلَى صِفَةِ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ تُجْزِيهِ، وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ فَرْضَهَا مِنْ سُنَّتِهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ أَخَذَ وَصْفَهَا مِنْ فِعْلِ عَالِمٍ، وَلَمَّا كَانَ مِفْتَاحُهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَالَ:(وَالْإِحْرَامُ فِي الصَّلَاةِ) وَلَوْ نَافِلَةً رُكْنٌ وَصِفَتُهُ (أَنْ تَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ) بِالْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ قَدْرَ أَلِفٍ فَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ، كَمَا أَنَّ الذَّاكِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَيُحْذَرُ مِنْ مَدِّ هَمْزَةِ اللَّهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَفْهِمًا، وَمِنْ مَدِّ بَاءِ أَكْبَرُ، وَمِنْ تَشْدِيدِ رَائِهِ، وَمِنْ الْفَصْلِ الطَّوِيلِ بَيْنَ اللَّهُ وَأَكْبَرُ، وَمِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ إشْبَاعِ الْهَاءِ مِنْ اللَّهِ، وَزِيَادَةِ وَاوٍ مَعَ هَمْزَةِ أَكْبَرُ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلتَّكْبِيرِ، كَمَا يُبْطِلُ مَا وَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِدُخُولِ وَقْتِ مَا أُحْرِمْ لَهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَأَمَّا زِيَادَةُ وَاوٍ قَبْلَ هَمْزَةِ أَكْبَرُ أَوْ قَلْبُ الْهَمْزَةِ وَاوًا أَوْ إشْبَاعُ الْهَاءِ مِنْ اللَّهِ أَوْ وَقْفَةٌ يَسِيرَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَأَكْبَرُ، أَوْ تَحْرِيكُ الرَّاءِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَامُ، وَخَبَرُ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَعَلَى صِحَّتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، فَلَوْ أَبْدَلَ اللَّهُ أَكْبَرُ بِالْعَظِيمِ أَوْ الْجَلِيلِ أَوْ أَبْدَلَ اللَّهُ بِالْعَزِيزِ لَا يَجْزِيهِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، حَيْثُ قَدَّرَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ:(لَا يُجْزِئُ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ) بِشُرُوطِهَا الَّتِي مَرَّتْ، وَأَمَّا لَوْ عَجَزَ عَنْهَا أَوْ قَدَّرَ مِنْهَا عَلَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ فَيَكْفِيهِ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الدُّخُولَ بِغَيْرِهَا كَاَللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ أَعْجَمِيًّا عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ اقْتِصَارِهِمْ عَلَى كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ دُونَ قَوْلِهِمْ بِالْبُطْلَانِ.
وَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا مِنْ الْبُطْلَانِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى كَلَامِ الْقَرَافِيِّ مِنْ بُطْلَانِهَا بِالدُّعَاءِ أَوْ التَّسْبِيحِ أَوْ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَكْرُوهَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ بِعَجَمِيَّةٍ لِقَادِرٍ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ الْعَمَلُ وَخَبَرُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَخَبَرُ:«صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَتَجِبُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ إلَّا الْقِيَامَ لَهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ وَالْمَأْمُومِ غَيْرِ
تَقْرَأُ فَإِنْ كُنْت فِي الصُّبْحِ قَرَأَتْ جَهْرًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، لَا تَسْتَفْتِحُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِذَا قُلْت وَلَا الضَّالِّينَ فَقُلْ آمِينَ إنْ كُنْت وَحْدَكَ أَوْ خَلْفَ إمَامٍ وَتُخْفِيهَا وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْمَسْبُوقِ، وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ وَهُوَ مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ فَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ تَأْوِيلَانِ فِي فَهْمِ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَنَوَى بِهِ الْعَقْدَ أَجْزَأَهُ الْبَاجِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ التَّكْبِيرُ لَهُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الِانْحِنَاءِ قَالَا: وَهُوَ ظَاهِرُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مَعْنَاهَا كَبَّرَ قَائِمًا.
ابْنُ الْمَوَّازِ: لَوْ كَبَّرَ مُنْحَنِيًا لَمْ تَصِحَّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ، وَشَهَرَهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا وَجَدَ إمَامَهُ رَاكِعًا، وَابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ قَائِمًا، وَأَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِ انْحِطَاطِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ يَعْتَدُّ بِهَا، وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَنْوِي بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَالْإِحْرَامِ أَوْ الْإِحْرَامِ فَقَطْ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ لِلْإِحْرَامِ، وَأَمَّا لَوْ ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ أَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ تَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ، وَمَا لَوْ فَصَلَ بَيْنَ أَجْزَاءِ التَّكْبِيرِ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ افْتَتَحَهُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ انْحِطَاطٍ، فَالصُّوَرُ سِتٌّ: صُورَتَانِ مَحَلُّ التَّأْوِيلَيْنِ، وَصُورَتَانِ تَبْطُلُ فِيهِمَا الرَّكْعَةُ فَقَطْ، وَصُورَتَانِ تَبْطُلُ فِيهِمَا الصَّلَاةُ.
الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ التَّكْبِيرَ نَفْسُ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَفْسُ الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ إضَافَةَ التَّكْبِيرِ لِلْإِحْرَامِ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَأَجَابَ بَعْضٌ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْإِحْرَامُ النِّيَّةُ.
وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِحْرَامَ مُرَكَّبٌ مِنْ عَقْدٍ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَوْلٍ هُوَ التَّكْبِيرُ، وَفِعْلٍ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ، فَإِضَافَةُ التَّكْبِيرِ إلَى الْإِحْرَامِ مِنْ إضَافَةِ الْجُزْءِ إلَى الْكُلِّ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: الْإِحْرَامُ ابْتِدَاؤُهَا بِالتَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لِنِيَّتِهَا.
(فَرْعٌ) وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَ شَكُّهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ بِغَيْرِ سَلَامٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ رَكَعَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَقْطَعُ وَيَبْتَدِئُ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ شَكِّهِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ جَرَى عَلَى مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الطُّهْرُ، وَلَوْ كَانَ الشَّاكُّ إمَامًا فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، وَإِذَا سَلَّمَ سَأَلَهُمْ فَإِنْ قَالُوا: أَحْرَمْت رَجَعَ قَوْلُهُمْ، وَإِنْ شَكُّوا أَعَادَ جَمِيعُهُمْ، اُنْظُرْ تَبْصِرَةَ اللَّخْمِيِّ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ لَك فِي إحْرَامِكَ أَنْ (تَرْفَعَ يَدَيْك) حِينَ شُرُوعِكَ بِحَيْثُ تَجْعَلُهَا (حَذْوَ مَنْكِبَيْك) بِفَتْحِ الْمِيمِ تَثْنِيَةُ مَنْكِبٍ وَهُوَ مَجْمَعُ عَظْمِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ.
(أَوْ) تَجْعَلُهُمَا (دُونَ ذَلِكَ) أَيْ بِحَيْثُ يُحَاذِيَانِ الصَّدْرَ، وَبَقِيَ قَوْلٌ ثَالِثٌ يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ الْأُذُنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَاخْتَارَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَصِفَةُ رَفْعِهِمَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ الْيَدَانِ قَائِمَتَيْنِ بِحَيْثُ تُحَاذِي كَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ وَأَصَابِعُهُ أُذُنَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ صِفَةُ الرَّاغِبِ؛ لِأَنَّ الرَّاغِبَ لِلشَّيْءِ يَبْسُطُ لَهُ يَدَيْهِ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ يَرْفَعُهُمَا صِفَةُ الرَّاهِبِ بِأَنْ يَجْعَلَ ظُهُورَهُمَا إلَى السَّمَاءِ وَبُطُونَهُمَا إلَى الْأَرْضِ، وَفِي تت نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا فَإِنَّهُ قَالَ: الرَّاغِبُ يَجْعَلُ بُطُونَ يَدَيْهِ لِلسَّمَاءِ، وَالرَّاهِبُ يَجْعَلُ بُطُونَهُمَا لِلْأَرْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمُ قِيَامِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَدَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْكَفَّيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبِهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ» وَدَلِيلُ الثَّالِثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا أُذُنَيْهِ» .
وَدَلِيلُ الثَّانِي مَا فِي أَبِي دَاوُد وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: " رَأَيْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى صُدُورِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ " وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي رَفْعِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُهُمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا يُسْتَحَبُّ إرْسَالُهُمَا بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِكَرَاهَةِ الْقَبْضِ فِي الْمَفْرُوضَةِ، وَيَكُونُ إرْسَالُهُمَا بِرِفْقٍ وَلَا يَرْفَعُهُمَا إلَى قُدَّامُ، وَحِكْمَةُ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إمَّا لِمُخَالَفَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَمِّ أَذْرُعِهِمْ إلَى أَجْنَابِهِمْ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ أَصْنَامِهِمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَأُمِرْنَا بِالرَّفْعِ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ رَفَضَ الدُّنْيَا وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ.
(ثُمَّ) بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ (تَقْرَأُ) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِتَسْبِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ هُنَا، فَثُمَّ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى الْفَاءِ لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الْقِرَاءَةِ عَنْ التَّكْبِيرِ.
(فَإِنْ كُنْت فِي) صَلَاةِ (الصُّبْحِ) أَوْ الْجُمُعَةِ أَوْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ (قَرَأْت جَهْرًا) بِحَيْثُ تُسْمِعُ مَنْ يَلِيكَ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَسُمِّيَتْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ لِجَمْعِهَا لِمَعَانِيهِ وَلَكِنْ (لَا تَسْتَفْتِحُ) قِرَاءَتَك (بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّورَةِ) أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا تَقْرَؤُهُ (الَّتِي بَعْدَهَا) سِرًّا وَلَا جَهْرًا إمَامًا كُنْت أَوْ فَذًّا أَوْ مَأْمُومًا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَيُنْهَى الْمُصَلِّي عَنْ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَرِيضَةِ نَهْيَ كَرَاهَةٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلِابْنِ نَافِعٍ قَوْلٌ بِوُجُوبِهَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ إبَاحَتُهَا وَعُزِيَ لِابْنِ مَسْلَمَةَ نَدْبُهَا، وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالْعَمَلُ، وَكَانَ الْمَازِرِيُّ يَأْتِي بِهَا سِرًّا فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ كُلُّهُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ يُبَسْمِلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ تَارِكِهَا، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ
وَيَقُولُهَا فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ إيَّاهَا فِي الْجَهْرِ اخْتِلَافٌ، ثُمَّ تَقْرَأُ سُورَةً مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْقَرَافِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ مِنْ الْوَرَعِ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ بِقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَ إحْدَى التَّكْبِيرَاتِ، لَكِنْ مَعَ بَعْضِ دُعَاءٍ لِتَصِيرَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَنَا رُكْنٌ وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرِيضَةِ إذَا أَتَى بِهَا عَلَى وَجْهِ أَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا، وَأَمَّا إذَا أَتَى بِهَا مُقَلِّدًا لَهُ أَوْ بِقَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِفَرِيضَةٍ وَلَا نَفْلِيَّةٍ فَلَا كَرَاهَةَ، بَلْ وَاجِبَةٌ إذَا قَلَّدَ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ وَمُسْتَحَبَّةٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَالتَّعَوُّذُ فِي النَّافِلَةِ فَالْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: ثُمَّ تَقْرَأُ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتِحَةٌ بِحَرَكَةِ لِسَانٍ عَلَى إمَامٍ وَفَذٍّ فَيَجِبُ تَعَلُّمُهَا إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا ائْتَمَّ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنَا فَالْمُخْتَارُ سُقُوطُهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالرُّكُوعِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِرَاءَتِهِ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ تَجِبُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ الْجُلِّ خِلَافٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ أُمِّ الْقُرْآنِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ:«لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» .
وَخَبَرُ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ خِدَاجٌ خِدَاجٌ قَالَهُ ثَلَاثًا» أَيْ غَيْرُ تَمَامٍ، وَهَذَا شَامِلٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا.
الثَّانِي: حُكْمُ الْجَهْرِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ، وَحُكْمُ السِّرِّ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ السُّنِّيَّةِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ حَقِيقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا قَرَأَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ جَهْرًا وَفِي مَحَلِّ الْجَهْرِ سِرًّا فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِي الْأُولَى بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِزِيَادَةٍ وَفِي الثَّانِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِنَقْصٍ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْمُخَالَفَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَإِلَّا أَعَادَ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَنِهَا، وَهَلْ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ لَهُ بِأَلْ كَالْفَاتِحَةِ أَوْ جُلِّهَا، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً وَإِلَّا فَلَا سُجُودَ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَأَمَّا لَوْ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ أَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ عَمْدًا فَقِيلَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ أَوَّلًا وَلَا سُجُودَ خِلَافٌ.
الثَّالِثُ: لَوْ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ سِرًّا، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقُلْنَا لَا يَرْجِعْ فَلَوْ خَالَفَ رَجَعَ لِأَجْلِ الْجَهْرِ فَقِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرُجُوعِهِ مِنْ فَرْضٍ إلَى سُنَّةٍ، وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا فِي تَارِكِ الْجُلُوسِ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ يَرْجِعُ لَهُ بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا تَبْطُلُ إنْ رَجَعَ وَلَوْ اسْتَقَلَّ.
(فَإِذَا) قَرَأْت أُمَّ الْقُرْآنِ وَ (قُلْت وَلَا الضَّالِّينَ فَقُلْ) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (آمِينَ) بِالْمَدِّ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلَ، وَبِالْقَصْرِ مَعَ تَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَ، وَبِالْمَدِّ مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالنُّونُ مَفْتُوحَةً عَلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمَشْهُورُ لُغَةُ وَسُنَّةُ الْمَدِّ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ فَقِيلَ: إنَّهُ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَاعِيلَ، وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ لِطَلَبِ الْإِجَابَةِ مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ وَاسْمَعْ وَأَمِّنَّا خَيْبَةَ دُعَائِنَا، وَقِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَتَكُونُ نُونُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ مُنَادًى وَالتَّقْدِيرُ: يَا آمِينْ اسْتَجِبْ دُعَاءَنَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ، وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ يَرِدْ مِنْهَا آمِينَ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ فَقُلْ إنَّ آمِينَ لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ إجْمَاعًا وَمَحَلُّ نَدْبِ التَّأْمِينِ (إنْ كُنْت وَحْدَك) سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً (أَوْ خَلْفَ إمَامٍ) فِي السِّرِّيَّةِ أَوْ الْجَهْرِيَّةِ إنْ سَمِعَ قَوْلَ الْإِمَامِ وَلَا الضَّالِّينَ (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تُخْفِيَهَا) أَيْ لَفْظَ آمِينَ؛ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ وَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ.
(وَلَا يَقُولُهَا) أَيْ لَفْظَةَ آمِينَ (الْإِمَامُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ وَيَقُولُهَا فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ إلَخْ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهَا قَالَ: (وَفِي قَوْلِهِ) أَيْ الْإِمَامِ (إيَّاهَا فِي الْجَهْرِ اخْتِلَافٌ) وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأْمِينُ فَذٍّ مُطْلَقًا وَإِمَامٍ بِسِرٍّ وَمَأْمُومٍ بِسِرٍّ أَوْ جَهْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَإِسْرَارُهُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعَهُ لِلْجَهْرِ بِآخِرِ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَفْظُ وَلَا الضَّالِّينَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مَا قَبْلَهَا لَا إنْ لَمْ يَسْمَعْ آخِرَهَا وَإِنْ سَمِعَ مَا قَبْلَهُ.
(ثُمَّ) بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ (تَقْرَأُ) بَعْدَهَا عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَوْ آيَةً قَصِيرَةً كَذَوَاتَا أَفْنَانٍ أَوْ {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] أَوْ بَعْضَ آيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الدَّيْنِ، وَالْأَفْضَلُ (سُورَةٌ) كَامِلَةٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ) الَّذِي أَوَّلُهُ الْحُجُرَاتُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَمُنْتَهَاهُ النَّازِعَاتُ، وَمِنْ عَبَسَ إلَى الضُّحَى وَسَطٌ، وَمِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ قِصَارٌ، فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ السُّورَةِ إذْ كَمَالُهَا مُسْتَحَبٌّ، وَيُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَقْرَأُ أَنَّ السُّورَةَ مُؤَخَّرَةٌ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ قِيلَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَقِيلَ إنَّهُ شَرْطٌ فِي حُصُولِ السُّنِّيَّةِ فَلَوْ قَرَأَهَا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ أَعَادَهَا إلَّا أَنْ يَرْكَعَ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَكَإِسْقَاطِهَا فَتَفُوتُ وَيَسْجُدُ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِذَا أَعَادَهَا فَإِنَّهُ
فَحَسَنٌ بِقَدْرِ التَّغْلِيسِ وَتَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهَا
فَإِذَا تَمَّتْ السُّورَةُ كَبَّرْتَ فِي انْحِطَاطِكَ لِلرُّكُوعِ فَتُمَكِّنُ يَدَيْكَ مِنْ رُكْبَتَيْكَ وَتُسَوِّي ظَهْرَكَ مُسْتَوِيًا وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَكَ وَلَا تُطَأْطِئُهُ وَتُجَافِي بَضْعَيْكَ عَنْ جَنْبَيْكَ وَتَعْتَقِدُ الْخُضُوعَ بِذَلِكَ بِرُكُوعِكَ
ــ
[الفواكه الدواني]
يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا؟ فَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَأَعَادَ السُّورَةَ فَإِنَّهُ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ.
وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: سُورَةً أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ سُورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْفَذِّ وَالْإِمَامِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فِي السِّرِّيَّةِ فَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهِ سُورَةً ثَانِيَةً إذَا طَوَّلَ إمَامُهُ.
(تَنْبِيهٌ) : قَوْلُهُ: مِنْ طِوَالٍ، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: رَوَيْنَاهُ طِوَالٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ طُوَلٌ بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ جَمْع طُولَى كَأُولَى وَأُوَلٌ وَأُخْرَى وَأُخَرٌ وَقُرْبَى وَقُرَبٌ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ:«السَّبْعُ الطُّوَالُ» وَهُوَ جَمْعُ طَوِيلٍ كَقَصِيرٍ وَقِصَارٍ.
قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الطُّوَلُ بِضَمِّ الطَّاءِ الطَّوِيلُ يُقَالُ فِيهِ طَوِيلٌ وَطُوَلٌ فَإِذَا أَفْرَطَ فِي الطُّولِ قِيلَ طَوَّالٌ مُشَدَّدًا، وَالطِّوَالُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ طَوِيلٍ، وَأَمَّا الطَّوَالُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، يُقَالُ: لَا أُكَلِّمُهُ طُوَالَ الدَّهْرِ وَطُولَ الدَّهْرِ، أَيْ لَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، فَطُوَالُ وَطُولُ الدَّهْرِ بِمَعْنًى.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ بَعْدَ قَوْلِ الْفَاكِهَانِيِّ: لِأَنَّهُ جَمْعُ طُولَى، قَدْ يُقَالُ إنَّهُ جَمْعُ طَوِيلٍ فَلَا إشْكَالَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ طُولٌ، قُلْت: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ طِوَالٌ جَمْعُ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ السُّوَرِ، وَوَصْفُ الْمُؤَنَّثِ طُولَى وَجَمْعُهَا طُوَلٌ وَطِوَالٌ جَمْعُ طَوِيلٍ وَصْفُ الْمُذَكَّرِ، فَكَلَامُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي مَحَلِّهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْأُجْهُورِيِّ كَالْمُصَنِّفِ طِوَالُ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ.
(وَإِنْ كَانَتْ) السُّورَةُ الَّتِي تَقْرَؤُهَا فِي الصُّبْحِ (أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ) بِأَنْ تَقْرَأَ سُورَةً قَرِيبَةً مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ (فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ (بِقَدْرِ) زَمَانِ (التَّغْلِيسِ) بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ إسْفَارٌ، وَالتَّغْلِيسُ اخْتِلَاطُ الظُّلْمَةِ بِالضِّيَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى رضي الله عنهما: صَلِّ الصُّبْحَ وَالنُّجُومُ مُشْتَبِكَةٌ وَاقْرَأْ فِيهَا بِسُورَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ مِنْ الْمُفَصَّلِ، وَإِنَّمَا نُدِبَ التَّطْوِيلُ فِي الصُّبْحِ لِإِدْرَاكِ النَّاسِ جَمَاعَتَهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ عَدَمُ الِاجْتِمَاعِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَهَذَا التَّطْوِيلُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ إمَامٍ لِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ، أَوْ شَخْصٌ مُنْفَرِدٌ يَقْوَى عَلَى التَّطْوِيلِ، وَإِمَّا مُنْفَرِدٌ لَا يَقْوَى عَلَى التَّطْوِيلِ، أَوْ إمَامُ قَوْمٍ غَيْرِ مَحْصُورِينَ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ عَدَمُ التَّطْوِيلِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ أَيْ إمَامًا لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» .
(وَ) يُسَنُّ أَنْ (نَجْهَرَ بِقِرَاءَتِهَا) كَمَا يُسَنُّ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ.
(فَإِذَا تَمَّتْ السُّورَةُ) الْمُرَادُ مَا قَرَأْته بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ (كَبَّرْت) اسْتِنَانًا (فِي) حَالِ (انْحِطَاطِك لِلرُّكُوعِ) .
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَكْبِيرُهُ فِي الشُّرُوعِ إلَّا فِي قِيَامِهِ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَلِاسْتِقْلَالِهِ فَأُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: طَلَبُ التَّكْبِيرِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَمُقَارَنَتُهُ لِلشُّرُوعِ فِيهِ وَالرُّكُوعُ، أَمَّا التَّكْبِيرُ فَسُنَّةٌ لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ كُلُّ تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ خَلَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً غَيْرَ تَكْبِيرِ الْعِيدِ سَهْوًا لَا يَسْجُدُ، وَإِنْ سَجَدَ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ سُنَّةٍ وَلَوْ جَمِيعَهُ يَسْجُدُ، فَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَطَالَ فَيَفْتَرِقُ الْقَوْلَانِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجَمِيع سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ، وَعَلَى الْآخَرِ تَبْطُلُ بِتَرْكِ السُّجُودِ، لِثَلَاثٍ فَأَكْثَرَ لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى مَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَبِتَرْكِ قَبْلِي عَنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَطَالَ، وَأَمَّا مُقَارَنَتُهُ لِأَفْعَالِهَا فَمُسْتَحَبَّةٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَفَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ارْكَعُوا} [الحج: 77] وَلِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» وَالرُّكُوعُ لُغَةً انْحِنَاءُ الظَّهْرِ، وَشَرْعًا فَأَقَلُّهُ الَّذِي لَا يُسَمَّى رُكُوعًا إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: انْحِنَاءٌ مَعَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى آخِرِ فَخِذَيْهِ بِحَيْثُ تَقْرُبُ بَطْنَا كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، فَلَوْ قَصُرَتَا لَمْ يَزِدْ عَلَى تَسْوِيَةِ ظَهْرِهِ. وَلَوْ قُطِعَتْ إحْدَاهُمَا وَضَعَ الْأُخْرَى عَلَى رُكْبَتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْرُبْ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ رُكُوعًا، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ سَدَّ لَهُمَا فِي حَالِ رُكُوعِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلِلْوَضْعِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ أَشَارَ لِأَفْضَلِهَا بِقَوْلِهِ:(فَتُمَكِّنُ يَدَيْك) أَيْ كَفَّيْكَ مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُمَا فِي حَالِ رُكُوعِك (مِنْ رُكْبَتَيْك) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (وَتُسَوِّي ظَهْرَكَ) حَالَ كَوْنِكَ (مُسْتَوِيًا) أَيْ مُعْتَدِلًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ «أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكَعَ يُسَوِّي ظَهْرَهُ بِحَيْثُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَوُضِعَ الْقَدَحُ عَلَيْهِ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ» . (وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَك وَلَا تُطَأْطِئُهُ) بِأَنْ تُخْفِضَهُ إلَى أَسْفَلَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ.
(وَ) إذَا مَكَّنْت يَدَيْك مِنْ رُكْبَتَيْك (تُجَافِي) أَيْ تَجْنَحُ وَتُبَاعِدُ مُتَوَسِّطًا (بَضْعَيْك) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ جَنْبَيْك) فَأَطْلَقَ الْمُجَافَاةَ وَأَرَادَ بِهَا التَّجَنُّحَ الْمُتَوَسِّطَ كَمَا يَأْتِي، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهَا الِانْضِمَامُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِرُكُوعِهِ وَنَدْبُ تَمْكِينِهِمَا مِنْهُمَا وَنَصْبُهُمَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ وَضْعً الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ لَمْ يَضَعْهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَالَ رُكُوعِهِ بَلْ سَدَّ لَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَسْوِيَةِ الرُّكْبَتَيْنِ فَلَا يُبَالِغُ فِي الِانْحِنَاءِ فَيَجْعَلُهُمَا قَائِمَتَيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَصْبُهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ
وَسُجُودِكَ، وَلَا تَدْعُو فِي رُكُوعِكَ وَقُلْ إنْ شِئْت: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمَ وَبِحَمْدِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوْقِيتُ قَوْلٍ وَلَا حَدَّ فِي اللُّبْثِ
ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَك وَأَنْتَ قَائِلٌ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ إنْ كُنْت وَحْدَكَ وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ
وَتَسْتَوِي قَائِمًا مُطْمَئِنًّا مُتَرَسِّلًا
ثُمَّ تَهْوِي
ــ
[الفواكه الدواني]
تَسْوِيَةُ الْقَدَمَيْنِ فَلَا يَقْرِنُهُمَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الصِّفَةُ الْكَامِلَةُ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ، وَبَقِيَ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا وَضْعُ الْيَدَيْنِ قُرْبَ الرُّكْبَتَيْنِ وَهَذِهِ أَدْنَى، وَيَلِيهَا صِفَةٌ أُخْرَى وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَمْكِينٍ فَ الْمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَفْضَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الْوَضْعِ وَالتَّمْكِينِ وَالْمُجَافَاةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَسْوِيَةَ الظَّهْرِ وَعَدَمَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَعَدَمَ خَفْضِهِ الِاسْتِحْبَابُ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يُكْرَهُ فَقَطْ.
(وَ) يُطْلَبُ مِنْك أَنْ (تَعْتَقِدَ) بِقَلْبِك (الْخُضُوعَ بِذَلِكَ) أَيْ (بِرُكُوعِك وَسُجُودِك) فَقَوْلُهُ بِرُكُوعِك بَيَانٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ
، وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ وَالْخُشُوعُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ وُقُوعُ الْخَوْفِ فِي الْقَلْبِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ طَلَبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ النَّدْبُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ مَنْ تَفَكَّرَ بِدُنْيَوِيٍّ إذْ لَمْ يَقُولُوا بِبُطْلَانِهَا مَعَ ضَبْطِهِ أَفْعَالَهَا، وَإِنَّمَا ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا، وَقِيلَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ كَمَا عَدَّهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّهُ مِنْ فَرَائِضِهَا الَّتِي لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، عَنْ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَاطِرَ الرَّدِيئَةَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْخَلَّاقِ الْفَعَّالِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19]{وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20](وَلَا نَدْعُو) بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ أَيْ يُكْرَهُ أَنْ تَدْعُوَ (فِي رُكُوعِك) وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّعْظِيمُ لِذَلِكَ قَالَ: (وَقُلْ) نَدْبًا فِي حَالِ رُكُوعِك (إنْ شِئْت سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) وَإِنْ شِئْت سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، فَقَوْلُهُ: إنْ شِئْت لَيْسَ الْمُرَادُ التَّخْيِيرَ فِي الْقَوْلِ وَعَدَمِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَنَحْوَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ سُنَّةٌ فَلَا يُكْرَهُ تَرْكُهُ سَوِيًّا لِفِعْلِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ وَنَدْبِ غَيْرِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَادْعُوا فِيهِ بِمَا شِئْتُمْ أَوْ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ» فَقَمِنٌ أَيْ حَقِيقٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازٍ، وَالْأَوَّلُ لِبَيَانِ الْأَوْلَى، وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي تَبَعٌ لِلتَّسْبِيحِ الَّذِي قَبْلَهُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِالتَّسْبِيحِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» .
وَلَمَّا نَزَلَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ»
(تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَرَاهَةُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَهُوَ أَحَدُ مَوَاضِعِ الْكَرَاهَةِ، وَمِنْهَا الدُّعَاءُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْهَا عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا أَثْنَاءَ الْفَاتِحَةِ وَأَثْنَاءَ السُّورَةِ فِي الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ، وَمِنْهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ السُّورَةِ، وَمِنْهَا بَعْدَ الْجُلُوسِ وَقَبْلَ التَّشَهُّدِ، وَمِنْهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَقَبْلَ سَلَامِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مِنْهَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ إمَامُنَا يَفِرُّ مِنْ التَّحْدِيدِ فِي النَّوَافِلِ وَالْأَذْكَارِ قَالَ:(لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوْقِيتُ قَوْلٍ) أَيْ أَنَّ التَّسْبِيحَ لَا يَتَحَدَّدُ بِعَدَدٍ بِحَيْثُ إذَا نَقَضَ عَنْهُ يَفُوتُهُ الثَّوَابُ، بَلْ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ يُزَادُ فِي الثَّوَابِ بِزِيَادَتِهِ. (وَلَا حَدَّ فِي اللُّبْثِ) أَيْ أَنَّ الرُّكُوعَ لَا حَدَّ لِزَمَنِ الْمُكْثِ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَطْلُبُ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ فَرْضَهُ بِمُطْلَقِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ مَعَ الِاعْتِدَالِ، إذْ الطُّمَأْنِينَةُ فَرْضٌ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَيْهَا فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَا حَدَّ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْهَى عَنْ الطُّولِ الْمُفْرِطِ فِي الْفَرِيضَةِ بِخِلَافِ النَّافِلَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْفَذِّ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالْمَطْلُوبُ فِي حَقِّهِ التَّخْفِيفُ.
(ثُمَّ) إذَا فَرَغْت مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ (تَرْفَعُ رَأْسَك) مِنْهُ وُجُوبًا حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا (وَأَنْتَ) أَيْ وَالْحَالُ (أَنَّك قَائِلٌ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) إنْ كُنْت إمَامًا أَوْ فَذًّا، (ثُمَّ تَقُولُ) مَعَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ:(اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ) بِالْوَاوِ (إنْ كُنْت وَحْدَك وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ) بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ.
(وَإِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ)، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْفَذَّ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، وَالْإِمَامُ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّسْمِيعِ وَالْمَأْمُومُ عَلَى التَّحْمِيدِ، وَإِنَّمَا الْفَذُّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ
سَاجِدًا لَا تَجْلِسُ، ثُمَّ تَسْجُدُ وَتُكَبِّرُ فِي انْحِطَاطِكَ لِلسُّجُودِ فَتُمَكِّنُ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنْ الْأَرْضِ وَتُبَاشِرُ بِكَفَّيْكَ الْأَرْضَ
ــ
[الفواكه الدواني]
بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ، وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْمِينِ، وَفِي جَمْعِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ فِي رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اتِّبَاعٌ لِمَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُمَا أَرْبَعُ جُمَلٍ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فَقَطْ، وَرَابِعَةٌ بِنَقْصِ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ بِأَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا جُمْلَتَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَصِرُ عَلَى سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْمَأْمُومُ إنَّمَا يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَأَمَّا الْفَذُّ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ «أَنَّ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه لَمْ تَفُتْهُ صَلَاةٌ خَلْفَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ يَوْمًا وَقْتَ الْعَصْرِ فَظَنَّ أَنَّهَا فَاتَتْهُ مَعَهُ عليه الصلاة والسلام فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ وَهَرْوَلَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُ صلى الله عليه وسلم مُكَبِّرًا فِي الرُّكُوعِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَبَّرَ خَلْفَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام فِي الرُّكُوعِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُلْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَالَهَا عِنْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرْكَعُ بِالتَّكْبِيرِ، وَيَرْفَعُ بِهِ» فَصَارَتْ سُنَّةً مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَرَكَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْوَلَةِ الْإِسْرَاعُ مِنْ غَيْرِ خَبَبٍ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى السَّكِينَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ:.
(تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ وَسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ السُّنَنِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ جَمِيعُ التَّسْمِيعِ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كُلُّ مَرَّةٍ سُنَّةٌ؟ الْخِلَافُ فِي التَّكْبِيرِ يَأْتِي هُنَا وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مِنْ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ جَمِيعِهِ أَوْ ثَلَاثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ وَعَدَمُ الْبُطْلَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ سُنَّةٌ.
(وَ) يَجِبُ عَلَيْك بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ الرُّكُوعِ أَنْ (تَسْتَوِيَ) أَيْ تَعْتَدِلَ حَالَةَ كَوْنِك (قَائِمًا مُطْمَئِنًّا) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَطُمَأْنِينَةٌ وَاعْتِدَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ أَنَّ الِاعْتِدَالَ نَصْبُ الْقَامَةِ وَالطُّمَأْنِينَةَ اسْتِقْرَارُ الْأَعْضَاءِ زَمَنًا مَا، وَيُطْلَبُ مِنْك زِيَادَةٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ أَنْ تَكُونَ (مُتَرَسِّلًا) أَيْ مُتَمَهِّلًا زِيَادَةً عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَرَسِّلًا تَفْسِيرًا لِمُطْمَئِنًّا
(ثُمَّ) بَعْدَ اعْتِدَالِك فِي رَفْعِك (تَهْوِي) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ (سَاجِدًا لَا تَجْلِسُ) فِي هَوِيِّك (ثُمَّ تَسْجُدُ) فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ جَعَلَهُ سُنَّةً مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَنَا مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا كَبِرَ سَنَةً وَثَقُلَتْ أَعْضَاؤُهُ» ، ثُمَّ إنْ خَالَفَ الْمَطْلُوبَ وَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ فَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَلَا بُطْلَانَ إنْ لَمْ يَفْحُشْ، وَأَمَّا إنْ كَانَ سَهْوًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُطَوِّلَ فَيَسْجُدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ.
(وَ) يُسَنُّ أَنْ (تُكَبِّرَ فِي انْحِطَاطِك لِلسُّجُودِ) لِتَعُمَّ الرُّكْنَ بِالتَّكْبِيرِ وَتُقَدِّمَ يَدَيْك عَلَى رُكْبَتَيْك فِي هَوِيِّكَ لِلسُّجُودِ وَتُؤَخِّرَهُمَا عَنْ الرُّكْبَتَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ وَتَأْخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ لِأَمْرِهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ: مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا سَجَدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» فَمُتَكَلَّمٌ فِيهِ بِالنَّسْخِ أَوْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ السُّجُودِ (فَتُمَكِّنُ جَبْهَتَك) وَهِيَ مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إلَى النَّاصِيَةِ، وَالْفَرْضُ يَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِأَدْنَى جُزْءٍ مِنْهَا.
(وَ) تُمَكِّنُ أَيْضًا (أَنْفَك مِنْ الْأَرْضِ) أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَهَذَا بَيَانٌ لِصِفَةِ السُّجُودِ الْكَامِلَةِ، وَأَمَّا أَصْلُ الْفَرْضِ فَيَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِالْجَبْهَةِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ تَمْكِينٍ، وَلِذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ: وَالسُّجُودُ شَرْعًا أَقَلُّهُ الْوَاجِبُ لُصُوقُ الْأَرْضِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ سَطْحِ غُرْفَةٍ أَوْ سَرِيرِ خَشَبٍ أَوْ شَرِيطٍ لِلْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ النُّزُولِ إلَى الْأَرْضِ كَائِنًا ذَلِكَ، وَاللُّصُوقُ عَلَى أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَهِيَ مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إلَى النَّاصِيَةِ، فَالْفَرْضُ يَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِأَدْنَى جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِلْصَاقِ جَمِيعِهَا بِحَيْثُ تَسْتَقِرُّ مُنْبَسِطَةً مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، كَمَا يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ، وَقِيلَ: يَجِبُ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَيُعِيدُ الصَّلَاةَ لِتَرْكِهِ فِي الْوَقْتِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَسُجُودٌ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَعَادَ لِتَرْكِ أَنْفِهِ بِوَقْتٍ، وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ كَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْفَرْضَ السُّجُودُ بِالْجَبْهَةِ لَا بِالْأَنْفِ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْحَشِيشِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ تَحْتَ جَبْهَةِ السَّاجِدِ فَلَا يَصِحُّ كَالسُّجُودِ عَلَى الْعِمَامَةِ إلَّا مَا كَانَ قَدْرَ الطَّاقَةِ وَالطَّاقَتَيْنِ اللَّطِيفَتَيْنِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى السَّرِيرِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْخَشَبِ فَهُوَ كَسَقْفِ الْبَيْتِ يَصِحُّ السُّجُودُ عَلَيْهِ لِتَنَزُّلِهِ مَنْزِلَةَ الْأَرْضِ وَلَوْ لِلصَّحِيحِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ
بَاسِطًا يَدَيْكَ مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ تَجْعَلُهُمَا حَذْوَ أُذُنَيْكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ غَيْرُ أَنَّكَ لَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْكَ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَضُمُّ عَضُدَيْكَ إلَى جَنْبَيْكَ، وَلَكِنْ تُجَنِّحُ بِهِمَا تَجْنِيحًا وَسَطًا، وَتَكُونُ رِجْلَاكَ فِي سُجُودِكَ قَائِمَتَيْنِ، وَبُطُونُ إبْهَامَيْهِمَا إلَى الْأَرْضِ وَتَقُولُ إنْ شِئْت فِي سُجُودِكَ سُبْحَانَكَ رَبِّي ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ إنْ شِئْت، وَتَدْعُو فِي السُّجُودِ إنْ شِئْت، وَلَيْسَ لِطُولِ ذَلِكَ وَقْتٌ وَأَقَلُّهُ أَنْ تُطَمْئِنَ مَفَاصِلُكَ مُتَمَكِّنًا
ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَك
ــ
[الفواكه الدواني]
شَرِيطٍ أَوْ حَبْلٍ فَلَا يَصِحُّ السُّجُودُ عَلَيْهِ إلَّا لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ وَلَوْ عَلَى سَرِيرٍ فَيَكْفِيهِ الْإِيمَاءُ، وَلَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ عَلَى أَنْفِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ إنَّمَا يُطْلَبُ تَبَعًا لِلسُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ فَحَيْثُ سَقَطَ فَرْضُهَا سَقَطَ تَابِعُهَا.
(وَتُبَاشِرُ) نَدْبًا (بِكَفَّيْك الْأَرْضَ) فِي سُجُودِك وَكَذَا بِجَبْهَتِك؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ رَفَاهِيَةٌ إلَّا لِنَجَاسَةِ الْأَرْضِ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ لِكَوْنِهَا مَفْرُوشَةً فِي الْمَسْجِدِ فَلَا كَرَاهَةَ، وَتَكُونُ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ (بَاسِطًا يَدَيْك) أَيْ مَادًّا لَهُمَا حَالَةَ كَوْنِهِمَا (مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ) فَإِلَى الْقِبْلَةِ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِبَاسِطًا، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَيْهِمَا مَقْبُوضَتَيْنِ أَوْ مَادًّا لَهُمَا لِغَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَ (تَجْعَلُهُمَا) عِنْدَ وَضْعِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ مَبْسُوطَتَيْنِ مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ (حَذْوَ أُذُنَيْك أَوْ دُونَ ذَلِكَ) بِأَنْ تَضَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، فَلَوْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَك يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِعَمْدِهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ فَسُنَّةٌ كَالسُّجُودِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَسُنَّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ كَيَدَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ لِخَبَرِ: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى السُّنِّيَّةِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَلَا أَكْفِتَ الشَّعْرَ» فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِكَفْتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُقَالُ: إذًا لَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: السُّجُودُ أُخِذَتْ فَرِيضَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَضْعُ الْمَذْكُورُ لَا مَزِيَّةَ فِيهِ لِبَعْضِ الْوُجُوهِ قَالَ:(وَذَلِكَ) الْجَعْلُ (كُلُّهُ وَاسِعٌ) إذْ لَيْسَ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ بِالْكَفَّيْنِ وَبَسْطِهِمَا وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ (غَيْرُ أَنَّك لَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْك فِي الْأَرْضِ) بَلْ الْمُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ كَافْتِرَاشِ الْكَلْبِ» ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَمَا يُكْرَهُ افْتِرَاشُهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ.
(وَلَا تَضُمَّ عَضُدَيْك) تَثْنِيَةُ عَضُدٍ وَهُوَ الْمِفْصَلُ مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الْكَتِفِ (إلَى جَنْبَيْك وَلَكِنْ تَجْنَحُ) أَيْ تَمِيلُ (بِهِمَا تَجْنِيحًا وَسَطًا) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ «كَانَ إذَا سَجَدَ جَنَحَ بِيَدَيْهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إبْطَيْهِ أَيْ بَيَاضُ إبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ» وَالْمَعْنَى كَمَا فِي رِوَايَةِ: «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُفَرِّجُ يَدَيْهِ عَنْ إبْطَيْهِ» قَالَ خَلِيلٌ: وَمُجَافَاةُ رِجْلٍ فِيهِ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ الَّتِي لَمْ يُطَوِّلْ فِيهَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ بَطْنِهِ وَفَخِذَيْهِ، وَبَيْنَ مِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَبَيْنَ ذِرَاعَيْهِ وَفَخِذَيْهِ، وَبَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا تَكُونُ فِي سُجُودِهَا مُنْضَمَّةً.
(وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تَكُونَ رِجْلَاك) أَيْ صُدُورُ قَدَمَيْك (فِي) حَالِ (سُجُودِك قَائِمَتَيْنِ) بِأَنْ تَجْعَلَ كَعْبَيْك أَعْلَى (وَبُطُونُ إبْهَامَيْهِمَا إلَى الْأَرْضِ) وَكَذَا بُطُونُ سَائِرِ الْأَصَابِعِ، فَالنَّدْبُ مُتَعَلِّقٌ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْقَدَمَيْنِ سُنَّةٌ (وَتَقُولُ) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (إنْ شِئْت فِي سُجُودِك سُبْحَانَك رَبِّي ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي) ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ رَبِّهِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى ظَلَمْت نَفْسِي أَطَعْتهَا فِي فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَمَعْنَى اغْفِرْ لِي اُسْتُرْ مَا وَقَعَ مِنِّي عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَلَا تُؤَاخِذُنِي بِهِ، وَسُبْحَانَ مِنْ الْمَصَادِرِ الْمُلَازِمَةِ لِلنَّصْبِ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ سَبَّحْت أَوْ ذَكَرْت.
(أَوْ) تَقُولُ (غَيْرَ ذَلِكَ) اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ (إنْ شِئْت) ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفِرُّ مِنْ التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ التَّصْرِيحَ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنْ آدَمَ عليه الصلاة والسلام قَالَهُ حِينَ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ وَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ فَابْيَضَّ وَجْهُهُ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ التَّسْبِيحِ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تَدْعُوَ فِي سُجُودِك) بَدَلَ التَّسْبِيحِ (بِمَا شِئْت) مِنْ الْأَدْعِيَةِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ وَإِنْ لِدُنْيَا، لَكِنْ لَا تَدْعُو إلَّا بِأَمْرٍ جَائِزٍ وَمُمْكِنٍ عَادَةً وَشَرْعًا، فَلَا تَدْعُو بِمُمْتَنِعٍ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُك عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَا شِئْت إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ دُعَاءٍ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] .
بِالتَّكْبِيرِ فَتَجْلِسُ فَتُثْنِي رِجْلَكَ الْيُسْرَى فِي جُلُوسِك بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَتَنْصِبُ الْيُمْنَى وَبُطُونُ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ. وَتَرْفَعُ يَدَيْك عَنْ الْأَرْضِ عَلَى رُكْبَتَيْك.
ثُمَّ تَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَمَا فَعَلْت أَوَّلًا
(ثُمَّ) تَقُومُ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا أَنْتَ مُعْتَمِدًا عَلَى
ــ
[الفواكه الدواني]
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا نَدْبُ الدُّعَاءِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، سَوَاءً كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، سَوَاءً كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنِّي لِأَدْعُوَ اللَّهَ فِي حَوَائِجِي كُلِّهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى بِالْمِلْحِ لَوْ سَمَّى الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَلَوْ قَالَ: يَا فُلَانُ فَعَلَ اللَّهُ بِك كَذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتَهُ حَيْثُ كَانَ غَائِبًا مُطْلَقًا أَوْ حَاضِرًا، وَلَمْ يَقْصِدْ مُخَاطَبَتَهُ وَإِلَّا بَطَلَتْ.
الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاصِي بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: أَفْتَى بَعْضُ شُيُوخِنَا بِالْجَوَازِ مُحْتَجًّا بِدُعَاءِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الْآيَةَ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْكَافِرِ الْمَأْيُوسِ مِنْ إيمَانِهِ كَفِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي الْمَقْطُوعِ لَهُ بِالْجَنَّةِ إمَّا ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ عَذَابٍ، وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ:«لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ» إنَّهُ حُجَّةٌ لِلَعْنِ مَنْ لَمْ يُسَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَعْنٌ لِلْجِنْسِ وَلَعْنُ الْجِنْسِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْعَدَهُمْ وَيُنَفِّذُ الْوَعِيدَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ لَهُ أَحْوَالٌ: إمَّا بِعَزْلِهِ لِزَوَالِ ظُلْمِهِ فَقَطْ وَهَذَا حَسَنٌ، وَثَانِيهَا بِذَهَابِ أَوْلَادِهِ وَهَلَاكِ أَهْلِهِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، وَلَمْ يَحْصُلُ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ وَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ لِأَذِيَّتِهِ مَنْ لَمْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَثَالِثُهَا الدُّعَاءُ بِالْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَةٍ كَابْتِلَائِهِ بِالشُّرْبِ أَوْ الْغِيبَةِ أَوْ الْقَذْفِ فَيُنْهَى عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ لِلْغَيْرِ مَعْصِيَةٌ، وَرَابِعُهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِحُصُولِ مُؤْلِمَاتٍ فِي جِسْمِهِ أَعْظَمَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ فِي عُقُوبَتِهِ، فَهَذَا لَا يُتَّجَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَيَخُصُّ تَرْكُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] فَفِعْلُهُ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ أَحْسَنُ.
(وَلَيْسَ لِطُولِ ذَلِكَ) السُّجُودِ (وَقْتٌ) ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِيهِ غَايَةٌ لِطُولِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ الْعُرْفِ.
(وَ) أَمَّا (أَقَلُّهُ) الْوَاجِبُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ فَهُوَ (أَنْ تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُك) بِالْأَرْضِ حَالَةَ كَوْنِك (مُتَمَكِّنًا) أَيْ مُعْتَدِلًا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فَرْضٌ وَكَذَا الِاعْتِدَالُ عَلَى الْأَصَحِّ
(ثُمَّ) إذَا فَرَغْت مِنْ سُجُودِك وَتَسْبِيحِك أَوْ دُعَائِك (تَرْفَعُ رَأْسَك) مِنْ سُجُودِك عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِيَّةِ حَالَ كَوْنِك مُتَلَبِّسًا (بِالتَّكْبِيرِ فَتَجْلِسُ) وُجُوبًا حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضٌ (فَتُثْنِي رِجْلَك الْيُسْرَى) بِأَنْ تَجْعَلَهَا عَلَى الْأَرْضِ (فِي جُلُوسِك بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَتَنْصِبُ) أَيْ تُقِيمُ قَدَمَ (رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَ) تَجْعَلُ (بُطُونَ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ) وَالْمُرَادُ بَطْنُ بَعْضِ أَصَابِعِهَا وَهُوَ الْإِبْهَامُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجُلُوسُ كُلُّهُ بِإِفْضَاءِ وَرِكِ الْيُسْرَى لِلْأَرْضِ وَالْيُمْنَى عَلَيْهَا وَإِبْهَامُهَا لِلْأَرْضِ، وَبِجَعْلِنَا الْيُسْرَى صِفَةً لِلْوَرِكِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَلْيَتَهُ الْيُسْرَى مُبَاشِرَةٌ لِلْأَرْضِ، وَيَنْصِبُ جَانِبَ قَدَمِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَصِيرُ الْوَرِكُ الْأَيْمَنُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْأَرْضِ، وَيُفْضِي بِبَاطِنِ إبْهَامِ الْيُمْنَى وَبَعْضِ أَصَابِعِهَا لِلْأَرْضِ فَتَصِيرُ رِجْلَاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَقَاعِدًا عَلَى أَلْيَتِهِ الْيُسْرَى وَلَا يَقْعُدُ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ بَدَلَ الْقِيَامِ لِمَنْ يُصَلِّي جَالِسًا فَإِنَّ جُلُوسَهُ حَالَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ التَّرَبُّعُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَعِنْدَ السُّجُودِ بِغَيْرِ جِلْسَتِهِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ، وَتَرَبَّعَ كَالْمُتَنَفِّلِ وَغَيْرِ جَلْسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ.
(وَ) يُسْتَحَبُّ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ السُّجُودِ وَجُلُوسِك عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَنْ (تَرْفَعَ يَدَيْك عَنْ الْأَرْضِ) وَتَضَعَهُمَا (عَلَى رُكْبَتَيْك) وَهَذَا قَوْلُ خَلِيلٍ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الْجُلُوسِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى رُكْبَتَيْك وَضْعُهُمَا بِالْقُرْبِ مِنْ الرُّكْبَتَيْنِ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ بَعْدُ عَلَى فَخِذَيْك، وَقَوْلَ الْجَوَاهِرِ: وَيَضَعُ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاسِعٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ رَفْعُهُمَا عَنْ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ وَضَعَهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَوْ عَلَى الْفَخِذَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَلَا حُكْمَ الرَّفْعِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: أَمَّا وَضْعُهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا رَفْعُهُمَا عَنْ الْأَرْضِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ يَرْفَعْهُمَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِبُطْلَانِهَا وَشُهِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَلَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ سَنَدٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ الصِّحَّةُ، وَأَنَّ رَفْعَهُمَا عَنْ الْأَرْضِ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ: وَعَنْ سُنَّةِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي النَّوَادِرِ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ سَنَدٌ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ خَفِيفٌ لَا يَضُرُّ تَرْكُهُ.
يَدَيْك لَا تَرْجِعُ جَالِسًا لِتَقُومَ مِنْ جُلُوسٍ، وَلَكِنْ كَمَا ذَكَرْت لَك وَتُكَبِّرُ فِي حَالِ قِيَامِكَ
ثُمَّ تَقْرَأُ كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً
غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَإِنْ شِئْت قَنَتَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتُ
ــ
[الفواكه الدواني]
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ هَلْ يُطْلَبُ أَمْ لَا؟ وَاقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ حَيْثُ قَالَ لَا بَيْنَ سَجْدَتَيْهِ.
قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ فَلَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَاسْتِحْبَابِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ: لَا دُعَاءَ وَلَا تَسْبِيحَ وَمَنْ دَعَا فَلْيُخَفِّفْ.
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي وَعَافَنِي وَاعْفُ عَنِّي» .
وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: قِيلَ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ نَدْبُ فِعْلِهِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ شَرْحِ خَلِيلٍ لِلْحَدِيثِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَإِنْ فُرِضَ ضَعْفُهَا.
الثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ نَدْبِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فِي الْجُلُوسِ كَرَاهَةُ مَا خَالَفَهَا كَالْإِقْعَاءِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام لِعَلِيٍّ: «إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَك مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي» لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَهُوَ الْجُلُوسُ بِأَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِيبِهِ أَوْ الرُّجُوعُ عَلَى صُدُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَأَمَّا جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ مَعَ نَصْبِ فَخِذَيْهِ وَوَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ فَمَمْنُوعٌ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ.
(ثُمَّ) بَعْدَ رَفْعِك مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى (تَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَمَا فَعَلْت فِي) السَّجْدَةِ (الْأُولَى) مِنْ تَمْكِينِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَقِيَامِ قَدَمَيْك وَمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ بِكَفَّيْك، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: كَمَا فَعَلْت فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يُطَوِّلُ الثَّانِيَةَ عَنْ الْأُولَى.
(ثُمَّ) بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ (تَقُومُ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا أَنْتَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْك) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ وَتَأْخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ نُدِبَ عَكْسُهُ وَتَقَدَّمَ دَلِيلُنَا، وَالْجَوَابُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ، (وَلَا نَرْجِعُ) مِنْ سُجُودِك (جَالِسًا لِتَقُومَ) لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (مِنْ جُلُوسٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي رُجُوعِهِ جَالِسًا جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، فَلَوْ جَلَسَ غَيْرَ مُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَقِيلَ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ.
(وَلَكِنَّ) الْمَنْدُوبَ الرُّجُوعُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ. (كَمَا ذَكَرْت لَك) فِي الْهَوِيِّ مِنْ الْقِيَامِ إلَى السُّجُودِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّك كَمَا تَنْزِلُ إلَى السُّجُودِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا تَجْلِسُ تَقُومُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الرَّكْعَةِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ.
(وَتُكَبِّرُ) اسْتِنَانًا (فِي حَالِ قِيَامِك) اسْتِحْبَابًا لِشَغْلِ الرُّكْنِ بِالتَّكْبِيرِ إلَّا فِي قِيَامِك مِنْ اثْنَتَيْنِ فَتُؤَخِّرُهُ إلَى اسْتِقْلَالِك.
(ثُمَّ) بَعْدَ انْتِهَاءِ قِيَامِك لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (تَقْرَأُ) فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ (كَمَا قَرَأْت فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى) بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ (أَوْ دُونَ ذَلِكَ) أَيْ بِيَسِيرٍ إذْ تُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَطْوِيلِ الْأُولَى، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْصِيرِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ تَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِيُوسُفَ وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْكَوْثَرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى نَظْمِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ فَلَا يُنَكِّسُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ تَقْصِيرُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْصِيرُ ثَانِيَةٍ عَنْ أُولَى الْمُرَادُ زَمَنًا، قَالَ الْفَقِيهُ رَاشِدٌ: وَيُكْرَهُ كَوْنُ الثَّانِيَةِ أَطْوَلُ مِنْ الْأُولَى.
قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ قِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ فِي النَّافِلَةِ إذَا وَجَدَ الْحَلَاوَةَ، وَمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ وَخَلِيلٌ مِنْ نَدْبِ تَقْصِيرِ زَمَنِ الثَّانِيَةِ فِي الْفَرِيضَةِ عَنْ الْأُولَى نَسَبَهُ الْقَرَافِيُّ وَالْأَكْثَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَدَلِيلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ:«كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» فَقَوْلُهُ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ إضْرَارٌ، فَأَوْ بِمَعْنَى عَلَى حَدِّ:{وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أَيْ بَلْ يَزِيدُونَ، وَالْمَعْنَى: يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ زَمَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الثَّانِيَةِ عَنْ زَمَنِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ حِينَئِذٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشْكَالٌ بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَقْرَأُ كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى ظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمَوْجُودُ فِي النَّصِّ لَا يُوَافِقُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: لَا بَأْسَ بِطُولِ قِرَاءَةِ ثَانِيَةِ الْفَرِيضَةِ عَنْ الْأُولَى، وَفِي الْوَاضِحَةِ اسْتِحْبَابُ تَطْوِيلُ الْأُولَى وَتَقْصِيرُ الثَّانِيَةِ عَكْسُ مَا لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَوْلُهُ: كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى لَا يُوَافِقُ قَوْلًا مِنْهُمَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ كَلَامُ الْوَاضِحَةِ فِي نَدْبِ تَقْصِيرِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَحَمْلٌ لَا بَأْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى مَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحَمْلُ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى كَوْنِ الْمَقْرُوءِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ مُسَاوَاةُ زَمَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِلْأُولَى قَالَ: كَالْمُسْتَدْرِكِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يُخَالِفْ الْمُصَنِّفُ الْمَنْصُوصَ وَرَجَعَ الْخِلَافُ لِقَوْلٍ وَاحِدٍ.
(وَتَفْعَلُ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (مِثْلَ ذَلِكَ) الَّذِي فَعَلْته فِي الْأُولَى مِنْ جَهْرِ قِرَاءَتِهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَالتَّعْظِيمِ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّسْبِيحِ أَوْ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ حَالَةَ كَوْنِهِمَا (سَوَاءً) أَيْ مُسْتَوِيَتَيْنِ: سِوَى نَدْبِ تَقْصِيرِ زَمَنِ قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ
اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُك وَنُؤْمِنُ بِك وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك، وَنَخْشَعُ لَك وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجِدَّ إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ
ثُمَّ تَفْعَلُ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
عَنْ الْأُولَى كَمَا ذَكَرْنَا،
وَسِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ) نَدْبًا فِي الثَّانِيَةِ (بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَإِنْ شِئْت قَنَتَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ) لَكِنْ (بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ) وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَفْضَلِيَّتُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ: مِنْ «أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَهُوَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: قَبْلَ» . قِيلَ لِأَنَسٍ: إنَّ فُلَانًا يُحَدِّثُ عَنْك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: كَذَبَ فُلَانٌ، وَلِمَا فِي كَوْنِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ مِنْ الرِّفْقِ بِالْمَسْبُوقِ فَإِذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُكَبِّرُ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ كَمَا لَا يَرْفَعُ فِي التَّأْمِينِ وَلَا فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُطْلَبُ إخْفَاؤُهُ.
وَإِذَا نَسِيَ وَرَكَعَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُكَمِّلُ رُجُوعَهُ وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَبْطُلُ الرُّكُوعُ وَيَرْجِعُ لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ فَرْضٍ لِمَا هُوَ دُونَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ فَقِيلَ: يَقْنُتُ فِي رَكْعَةِ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: لَا يَقْنُتُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَقْنُتُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَقَضَى الْقَوْلَ وَبَنَى الْفِعْلَ الْمُوهِمَ عَدَمَ الْقُنُوتِ مِنْ قَوْلِهِ قَضَى الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ خُصُوصُ الْقِرَاءَةِ وَمَا عَدَا الْقِرَاءَةَ يَكُونُ بَانِيًا فِيهِ، فَيَنْدُبُ لَهُ الْقُنُوتُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ عِنْدَنَا فِي الصُّبْحِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَتْ فَائِتَةً لَا فِي وِتْرٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِوَى الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلٌ فَتُلَخَّصُ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ خَمْسُ مُسْتَحَبَّاتٍ: كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَكَوْنُهُ سِرًّا وَكَوْنُهُ فِي الصُّبْحِ وَمُطْلَقٌ مُسْتَحَبٌّ وَكَوْنُهُ بِخُصُوصِ اللَّفْظِ الْآتِي.
قَالَ خَلِيلٌ: وَقُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحِ فَقَطْ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَفْظُهُ، وَلَمَّا قَالَ غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ نَاسَبَ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ:(وَالْقُنُوتُ) لُغَةً الطَّاعَةُ وَالسُّكُوتُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاءُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ الْمَقْصُودُ مُطْلَقُ دُعَاءٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ خُصُوصُ هَذَا وَهُوَ:(اللَّهُمَّ) أَيْ يَا اللَّهُ فَحُذِفَتْ يَاءُ النِّدَاءِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ وَشُدِّدَتْ؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ يَاءٍ وَهِيَ حَرْفَانِ وَلِذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ.
(إنَّا نَسْتَعِينُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَتِك أَوْ عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الْمُؤْذِنِ بِالْعُمُومِ عَلَى حَدِّ:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أَيْ جَمِيعَ عِبَادِهِ (وَنَسْتَغْفِرُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْمَغْفِرَةَ، وَهِيَ سِتْرُ ذُنُوبِنَا وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِنَا عَلَيْهَا.
(وَنُؤْمِنُ بِك) أَيْ نُصَدِّقُ بِوُجُوبِ وُجُودِك وَجَمِيعِ مَا يَجِبُ لَك عَلَيْنَا. (وَنَتَوَكَّلُ) أَيْ نَعْتَمِدُ (عَلَيْك) فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا فَإِنَّا لَا حَوْلَ لَنَا وَلَا قُوَّةَ.
قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَفْظَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك لَيْسَ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَرُبَّمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. (وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ) وَالصَّوَابُ عَدَمُ زِيَادَتِهَا (وَنَخْشَعُ) أَيْ وَنَخْضَعُ وَنَذِلُّ وَنَلْجَأُ (لَك) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْك (وَنَخْلَعُ) أَيْ وَنُزِيلُ رِبْقَةَ الْكُفْرِ مِنْ أَعْنَاقِنَا بِمَعْنَى نَتْرُكُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ لِاتِّبَاعِ دِينِك وَطَرِيقَةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
(وَنَتْرُكُ) أَيْ نَطْرَحُ مَوَدَّةَ كُلِّ (مَنْ يَكْفُرُك) وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا عَدَمُ حُرْمَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ أَنَّ فِي نِكَاحِهَا مَوَدَّةً؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ عَدَمُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي مَعَهَا مَحَبَّةٌ لِدِينِهِمْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ، وَالنِّكَاحُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحَبَّةُ الدِّينِ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ كَرَاهَةِ دِينِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. (اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ) أَيْ نَخُصُّك بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِك كُفْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ نَحْوَ إيَّاكَ نَعْبُدُ (وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ) أَيْ لَا نُصَلِّي وَلَا نَسْجُدُ إلَّا لَك، وَذَكَرَهُمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِمَا. (وَإِلَيْك نَسْعَى) أَيْ لَا نَعْمَلُ طَاعَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إلَّا لَك (وَ) إلَيْك (نَحْفِدُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَالدَّالُ الْمُهْمَلَةُ أَيْ نَخْدِمُ وَنُسْرِعُ فِي طَاعَتِك، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْخِدْمَةِ حِفْدَةً لِسُرْعَتِهِمْ فِي خِدْمَةِ السَّادَاتِ. (نَرْجُو رَحْمَتَك) أَيْ نَطْلُبُ وَنَطْمَعُ فِي نَيْلِ إحْسَانِك، إذْ الرَّجَاءُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِمَرْغُوبٍ فِيهِ مَعَ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِهِ.
(وَنَخَافُ عَذَابَك) فَنَتَجَنَّبُ جَمِيعَ مُنْهَيَاتِك (الْجِدَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْأَشْهُرِ أَيْ الثَّابِتَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْهَزْلِ وَيُرْوَى وَالْجَدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَدَّ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْقَادِرِ أَنْ يُرْجَى فَضْلُهُ وَيُخَافُ عَذَابُهُ وَهِيَ أَحْسَنُ الْحَالَاتِ إلَّا فِي حَالِ الْمَرَضِ فَتَغَلُّبُ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ أَفْضَلُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُوهُ وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ» إلَّا أَنَّهُ فِي حَالِ الشُّبُوبِيَّةِ وَالْكُهُولَةِ يَغْلِبُ الْخَوْفُ، وَفِي حَالِ الشُّيُوخَةِ وَالْمَرَضِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ (إنَّ عَذَابَك) الْجِدَّ (بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى لَاحِقٌ وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُلْحِقُهُ بِالْكَافِرِينَ، وَهَذَا الْقُنُوتُ اخْتَارَهُ فِي
السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ فَإِذَا جَلَسْت بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ نَصَبْت رِجْلَك الْيُمْنَى وَبُطُونُ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ وَثَنَيْت الْيُسْرَى وَأَفْضَيْت بِأَلْيَتِكَ إلَى الْأَرْضِ وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِك الْيُسْرَى، وَإِنْ شِئْت حَنَيْت الْيُمْنَى فِي انْتِصَابِهَا فَجَعَلْت جَنْبَ بُهْمِهَا إلَى الْأَرْضِ فَوَاسِعٌ
ثُمَّ تَتَشَهَّدُ وَالتَّشَهُّدُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْمُدَوَّنَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَذَكَرَهُ فِي التَّلْقِينِ إلَى نَحْفِدُ وَزَادَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْت وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْت إنَّك تَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت.
وَاخْتَارَ ابْنُ شَعْبَانَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعَ زِيَادَةِ الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ: وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْت مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالْمُمْكِنِ، وَالْمَقْضِيُّ لَا يَقَعُ غَيْرُهُ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ الْمَكْرُوهَ بَعْدَ دُعَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْتَجَابِ فَإِذَا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ لَمْ يَقَعْ الْمَقْضِيُّ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْضِيَّ قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ مُعَلَّقًا عَلَى دُعَاءٍ أَوْ نُزُولُهُ مُعَلَّقًا عَلَى دُعَاءٍ، وَلَيْسَ هَذَا رَدًّا لِلْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ، وَمِنْ هَذَا صِلَةُ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ.
(تَنْبِيهٌ) قَالَ الْحَطَّابُ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: فَإِنْ صَلَّى مَالِكِيٌّ خَلْفَ شَافِعِيٍّ يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الْقُنُوتِ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ وَلَا يَقْنُتُ مَعَهُ وَالْقُنُوتُ مَعَهُ مِنْ فِعْلِ الْجُهَّالِ، اُنْظُرْ مُخْتَصَرَ الْوَاضِحَةِ فِي الْقُنُوتِ فِي رَمَضَانَ، وَمِنْ إمْلَاءِ الْأُجْهُورِيِّ لِبَعْضِ التَّلَامِذَةِ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْنُتُ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْقُنُوتِ، وَادَّعَى أَنَّ كَلَامَ الْوَاضِحَةِ قَاصِرٌ عَلَى قُنُوتِ رَمَضَانَ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا. (خَاتِمَةٌ) قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْإِحْكَامِ: سَبَبُ الْقُنُوتِ خَبَرُ أَبِي دَاوُد: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو عَلَى مُضَرَ فِي صَلَاتِهِ إذْ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ فَسَكَتَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْك سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا وَإِنَّمَا بَعَثَك رَحْمَةً وَلَمْ يَبْعَثْك عَذَابًا، لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» وَعَلَّمَهُ هَذَا الْقُنُوتَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ، وَلِذَا اسْتَحَبَّهُ الْإِمَامُ دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّهُ كَانَ سُورَتَيْنِ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه ثُمَّ نُسِخَتَا.
(ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقُنُوتِ وَالرُّكُوعِ تَهْوِي سَاجِدًا وَ (تَفْعَلُ فِي السُّجُودِ) مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَ) فِي (الْجُلُوسِ) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ (كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (فَإِذَا جَلَسْت بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ) لِلتَّشَهُّدِ (نَصَبْت رِجْلَك الْيُمْنَى) أَيْ قَدَمَهَا (وَ) جَعَلْت (بُطُونَ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ وَثَنَيْت) أَيْ عَطَفْت رِجْلَك (الْيُسْرَى وَأَفْضَيْت) أَيْ دَنَوْت (بِأَلْيَتِك) بِالْإِفْرَادِ مَقْعَدَتُك الْيُسْرَى (إلَى الْأَرْضِ) وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ تَثْنِيَةِ أَلْيَتِك فَخَطَأٌ.
قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: لِأَنَّهُ إذَا جَلَسَ عَلَيْهِمَا كَانَ إقْعَاءً وَهُوَ مَكْرُوهٌ. (وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِك الْيُسْرَى) هَذَا مَفْهُومٌ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، وَإِذَا جَلَسَ عَلَى قَدَمِهِ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى وَرِكِهِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجُلُوسِ مِثْلُهَا فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي جَمِيعِ جُلُوسِ الصَّلَاةِ وَنَصُّهَا عَلَى مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَهْرَامُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ قَالَ فِيهَا: وَالْجُلُوسُ كُلُّهُ سَوَاءٌ يُفْضِي بِأَلْيَتِهِ إلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَظَاهِرَ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ قَالَ: قَالَ فِي الرِّسَالَةِ (إنْ شِئْت حَنَيْت الْيُمْنَى فِي انْتِصَابِهَا فَجَعَلْت جَنْبَ بُهْمِهَا إلَى الْأَرْضِ) وَتَرَكْت الْقَدَمَ قَائِمًا، وَحَنَيْت الْإِبْهَامَ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْقَدَمِ (فَ) إنَّ ذَلِكَ (وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّخْيِيرِ فِي جَنْبِ الْبُهْمِ هُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْبَاجِيِّ: يَكُونُ بَطْنُ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ لَا جَنْبُهَا اهـ، وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْجُلُوسِ جَعْلُ الْوَرِكِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَرْضِ وَرِجْلَاهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ نَاصِبًا قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَبَاطِنَ إبْهَامِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَكَفَّاهُ مَفْرُوجَتَانِ عَلَى فَخِذَيْهِ اهـ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ أَنَّ ظَاهِرَ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ لَا بَاطِنَ الْإِبْهَامِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْجُلُوسِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَوْ تَعَدَّدَ فِي الصَّلَاةِ سِوَى مَا كَانَ مِنْهُ ظَرْفًا لِلسَّلَامِ الْمَفْرُوضِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجُلُوسُ الْأَوَّلُ وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ السَّلَامِ مِنْ الثَّانِي، وَسِوَى مَا كَانَ طَرَفًا لِلدُّعَاءِ فَإِنَّ الظَّرْفَ يُعْطَى حُكْمَ مَظْرُوفِهِ.
الثَّانِي: لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَا مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَلَا مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ مَوْضِعُ جَعْلِ قَدَمِ الْيُسْرَى، وَاَلَّذِي فِي الْجَلَّابِ يَضَعُهُ تَحْتَ سَاقِ الْيُمْنَى فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْجُلُوسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يُفْضِيَ بِوَرِكِهِ الْأَيْسَرِ إلَى الْأَرْضِ، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِهَا، وَيَجْعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى تَحْتَ سَاقِهِ الْأَيْمَنِ اهـ، وَنَقَلَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ يَجْعَلُهُ تَحْتَ فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ قِيلَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ.
الثَّالِثُ: قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: كَأَنَّ الشَّيْخَ رحمه الله وَهِمَ فِي قَوْلِهِ بُهْمِهَا وَإِنَّمَا يُقَالُ إبْهَامٌ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ.
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِبْهَامُ الْأُصْبُعُ الْعُظْمَى وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا الْإِبْهَامُ، وَأَمَّا الْبَهْمُ فَقَالَ ابْنُ الْعِمَادِ الْبَهْمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ وَاحِدَةُ بَهْمَةٍ بِالْفَتْحِ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ
لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَإِنْ سَلَّمْت بَعْدَ هَذَا أَجُزْأَك وَمِمَّا تَزِيدُهُ إنْ شِئْت وَأَشْهَدُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَأَمَّا الْبُهَمُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ بُهْمَةٍ فَهُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ.
(ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ جُلُوسِك عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصُّبْحِ (تَتَشَهَّدُ) أَيْ تَشْرَعُ فِي التَّشَهُّدِ عَلَى جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِمُطْلَقِ تَشَهُّدٍ سَوَاءٌ الْوَارِدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ الْوَارِدُ عَنْ عُمَرَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَ مَالِكٍ اللَّفْظُ الْوَارِدُ عَنْ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَّمَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ بَلْ قُبِلَ خُصُوصِهِ سُنَّةً، وَلِذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالتَّشَهُّدُ) الَّذِي ارْتَضَاهُ مَالِكٌ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) جَمْعُ تَحِيَّةٍ وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا الْمُلْكُ وَقِيلَ الْعَظَمَةُ وَقِيلَ السَّلَامُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى السَّلَامِ فَالتَّقْدِيرُ جَمِيعُ التَّحِيَّاتِ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا الْمُلُوكُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ، وَعَلَى تَفْسِيرِهَا بِالْمُلْكِ فَيَكُونُ جَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الَّذِي هُوَ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ. (الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَزْكُو وَتَنْمُو بِكَثْرَةِ الْإِخْلَاصِ.
(الطَّيِّبَاتُ) أَيْ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ. (الصَّلَوَاتُ) الْخَمْسُ وَقِيلَ كُلُّ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا وَالْأَدْعِيَةُ وَهُوَ الْأَوْلَى. (لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك) أَيْ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (أَيُّهَا النَّبِيُّ) أَيْ أَخُصُّ النَّبِيَّ وَهُوَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَيَنْبَغِي إذَا قَالَهُ الْمُصَلِّي أَنْ يَقْصِدَ الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ. (وَرَحْمَةُ اللَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا مَا تَجَدَّدَ مِنْ نَفَحَاتِ إحْسَانِهِ، وَلِهَذَا أَظْهَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ بِالْإِرَادَةِ، وَإِنْ صَحَّ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ.
(وَبَرَكَاتُهُ) أَيْ خَيْرَاتُهُ الْمُتَزَايِدَةُ. (السَّلَامُ عَلَيْنَا) أَيْ اللَّهُ شَهِيدٌ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْنَا أَوْ أَمَانُهُ وَحِفْظُهُ عَلَيْنَا. (وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) أَيْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام: «إذَا قَالَهَا الْعَبْدُ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» قَالَ ابْنُ نَاجِي: أُقِيمُ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ إذَا لَقِيَ آخَرَ فَقَالَ لَهُ فُلَانٌ يُسَلِّمُ عَلَيْك وَلَمْ يَكُنْ فُلَانٌ أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ أَنَّهُ غَيْرُ كَاذِبٍ لِقَوْلِ الْمُصَلِّي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذِهِ إقَامَةٌ ظَاهِرَةٌ حَيْثُ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ مَدْلُولَ مَا هُوَ مُتَكَلَّمٌ بِهِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى مَا يَقُولُ أَوْ شَكَّ فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا.
(أَشْهَدُ) أَيْ أَعْتَرِفُ (أَنْ لَا إلَهَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ (إلَّا اللَّهُ) زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ (وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالضَّمِيرِ وَفِي بَعْضِهَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.
وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّيَغِ التَّوْسِعَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، وَأَمَّا نَبِيُّنَا عليه الصلاة والسلام لَمَّا كَانَ يَتَشَهَّدُ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ بَلْ أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» فَالْكَلَامُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ حَجَرٍ مَا يُخَالِفُ هَذَا.
(تَنْبِيهٌ) هَذَا آخِرُ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّشَهُّدِ عَلَمٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ تَشَهُّدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي خُصُوصِ هَذَا فَقِيلَ فَضِيلَةٌ وَقِيلَ سُنَّةٌ، فَالْآتِي بِهَذَا اللَّفْظِ آتٍ بِسُنَّتَيْنِ وَقِيلَ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ، وَالْآتِي بِغَيْرِهِ آتٍ بِالسُّنَّةِ فَقَطْ.
قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَيْسَ جَمِيعُهُ سُنَّةً بَلْ إتْمَامُهُ مُسْتَحَبٌّ وَالسُّنَّةُ تَحْصُلُ بِبَعْضِهِ قِيَاسًا عَلَى السُّورَةِ، فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَدَّى السُّنَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا يَشْمَلُ نَحْوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَشَهُّدٌ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَسُمِّيَ هَذَا اللَّفْظُ تَشَهُّدًا لِتَضَمُّنِهِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَبَحَثَ بَعْضُ شُيُوخِنَا فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَائِلًا: الْمَسْنُونُ التَّشَهُّدُ وَهُوَ اسْمٌ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْمَسْنُونُ قِرَاءَةُ مَا زَادَ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِبَعْضِ سُورَةٍ، وَرُبَّمَا يُقَوِّي بَحْثَ بَعْضِ شُيُوخِنَا قَوْلُهُ:(فَإِنْ سَلَّمْت بَعْدَ هَذَا) أَيْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (أَجْزَأَك) الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَجْزَأَك فِي أَدَاءِ السُّنَّةِ وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَجْزِهِ فَيُخَالِفُ قِيَاسَهُ عَلَى السُّورَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِالْإِجْزَاءِ الَّذِي لَا سُجُودَ مَعَهُ وَلَا إثْمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِجْزَاءَ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ، فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي التَّشَهُّدِ أَجْزَأَهُ أَيْ لِصِدْقِ التَّشَهُّدِ عَلَيْهِ.
(وَمِمَّا تَزِيدُهُ) بَعْدَ التَّشَهُّدِ (إنْ شِئْت) لِكَمَالِ الْمُوجِبِ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي الزِّيَادَةِ وَعَدَمِهَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، أَوْ أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: إنْ شِئْت الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ أَرَادَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذَا الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَمَّا عَلَّمَهُمْ التَّشَهُّدَ قَالَ: وَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ
مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ وَعَلَى أَنْبِيَائِكَ
ــ
[الفواكه الدواني]
مَا أَحَبَّ» وَأَمَّا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ فَالْمَطْلُوبُ تَقْصِيرُهُ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم دُعَاءٌ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجِلْسَةِ الْأُولَى، إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشَارَ إلَى مَا يَزِيدُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَشَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ وَشَيْءٍ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، إشَارَةً إلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ:(وَأَشْهَدُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ) صلى الله عليه وسلم (حَقٌّ) أَيْ ثَابِتٌ إذْ الْحَقُّ هُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ يُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَقَدْ شَاعَ فِي الْأَقْوَالِ خَاصَّةً وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ وَحَقِيقَتُهُ مُطَابَقَةُ حُكْمِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ (وَأَنَّ الْجَنَّةَ) وَهِيَ دَارُ الثَّوَابِ (حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ) وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ (حَقٌّ) وَأَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ الْيَوْمَ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ. (وَأَنَّ السَّاعَةَ) وَهِيَ الْقِيَامَةُ وَانْقِرَاضُ الدُّنْيَا (آتِيَةٌ) أَيْ جَائِيَةٌ (لَا رَيْبَ فِيهَا) الْخَبَرُ هُنَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهَا أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ، وَنَزَلَ رَيْبُ الْمُرْتَابِينَ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لَمَّا أَنَّ مَعَهُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إنْ نَظَرُوا فِيهِ لَمْ يَرْتَابُوا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا رَيْبَ فِيهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
(وَ) أَشْهَدُ (أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ) أَيْ يُحْيِي (مَنْ فِي الْقُبُورِ) وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَاتِ، فَذِكْرُ الْقُبُورِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومُهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَمَجِيءِ الْقِيَامَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِدُخُولِهَا فِيمَا جَاءَ بِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعَادَهَا اهْتِمَامًا بِهَا. (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالرَّحْمَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ تِلْمِيذِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَتَشْنِيعِهِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وُهِمَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَهْمًا قَبِيحًا خَفِيَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ فَزَادَ: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَمِمَّا رَدَّ بِهِ عَلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ:«إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُؤَلِّفَ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحَّ عِنْدَهُ، وَمِمَّا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ بِمَعْنَى ارْحَمْهُ، وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَيْضًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالرَّحْمَةِ وَعَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ، وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَلِّي فِي التَّحِيَّاتِ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي جَمِيعِ صَلَوَاتِهِ وَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مُصَلٍّ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِدِ وَانْتَهَرَهُ النَّاسُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ حَجَرْت، فَأَقَرَّهُ عَلَى مَا قَالَ مِنْ دُعَائِهِ لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكِرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ إقْرَارَهُ صلى الله عليه وسلم إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْجَوَازِ إذَا كَانَ الَّذِي أَقَرَّهُ مُسْلِمًا كَوَاقِعَةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ صلى الله عليه وسلم بِالرَّحْمَةِ إذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعْظِيمِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً رَحْمَةُ اللَّهِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضٌ وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ مَعَ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ (وَ) ارْحَمْ (آلَ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ) أَيْ وَانْشُرْ رَحْمَتَك (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت) الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ:(وَرَحِمْت) تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلِاعْتِنَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم.
(وَبَارَكْت) أَيْ نَشَرْت رَحْمَتَك (عَلَى إبْرَاهِيمَ) تُنَازِعُهُ الْعَوَامِلُ الثَّلَاثَةُ، وَلَفْظُ إبْرَاهِيمَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَعْنَاهُ أَبٌ رَحِيمٌ. (وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ) بِمَعْنَى مَحْمُودٍ (مَجِيدٌ) بِمَعْنَى كَرِيمٍ أَوْ شَرِيفٍ، وَقِيلَ وَاسِعُ الْكَرْمِ وَالْجَمِيعُ فِيهِ سُبْحَانَهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الصَّلَاةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هِيَ الصَّلَاةُ الْكَامِلَةُ وَحُكْمُهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ سُنَّةٌ وَقِيلَ فَضِيلَةٌ وَمَحَلُّهَا كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَشَهُّدِ السَّلَامِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ.
(تَتِمَّةٌ) إنْ قِيلَ: كَيْفَ يُشَبِّهُ الصَّلَاةَ عَلَى أَفْضَلِ الْخَلْقِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ مَفْضُولٌ بِقَوْلِهِ: كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَشْبِيهُ الضَّعِيفِ بِالْقَوِيِّ أَوْ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ عَكْسُ مَا هُنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِشَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ تَوَاضُعًا مِنْهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَدِّ مَا قِيلَ فِي حَدِيثِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالتَّشْبِيهُ بَيْنَ آلِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ زِيَادَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ أَوْ شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَهِيَ:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73]
وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى أَهْلِ طَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِأَئِمَّتِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ سَأَلَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ اسْتَعَاذَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ السَّلَامُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَإِنَّمَا خُصَّ إبْرَاهِيمُ بِالذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ كُلُّ نَبِيٍّ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَاحِدٌ مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ غَيْرُ إبْرَاهِيمَ، فَأَمَرَنَا مَعَاشِرَ الْأُمَّةِ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُجَازَاةً لِإِحْسَانِهِ.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَلَسَ مَعَ أَهْلِهِ فَبَكَى وَدَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ شُيُوخِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ فَقَالَ أَهْلُ بَيْتِهِ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ كُهُولِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، فَقَالَ إسْمَاعِيلُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ شَبَابِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، ثُمَّ قَالَتْ سَارَةُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ نِسَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، ثُمَّ قَالَتْ هَاجَرُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْمَوَالِي وَالْمُوَالِيَاتِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، لَمَّا سَبَقَ مِنْهُمْ السَّلَامُ قَابَلْنَاهُمْ فِي الصَّلَاةِ مُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام وَلَمْ نُصَلِّ نَحْنُ بِأَنْفُسِنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَمَرَنَا سبحانه وتعالى أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِهِ صلى الله عليه وسلم لِتَقَعَ الصَّلَاةُ مِنْ كَامِلٍ عَلَى كَامِلٍ.
(اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِك) جَمْعُ مَلَكٍ (وَ) صَلِّ عَلَى عِبَادِك (الْمُقَرَّبِينَ) كَذَا رُوِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فَتَكُونُ شَامِلَةً لِغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَرُوِيَ بِحَذْفِ الْوَاوِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ خَاصَّةً بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ تَشْرِيفًا لَهُمْ. (عَلَى أَنْبِيَائِك وَالْمُرْسَلِينَ) رُوِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. (وَعَلَى أَهْلِ طَاعَتِك أَجْمَعِينَ) الْمُرَادُ بِهِمْ الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا عُصَاةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُوا مِنْ طَاعَةٍ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ اُسْتُرْ ذُنُوبِي (وَ) اغْفِرْ (لِوَالِدَيَّ) يُرِيدُ الْمُؤْمِنِينَ يَصِحُّ بِفَتْحِ الدَّالِ فَيَكُونُ مُثَنًّى، وَيُحْتَمَلُ بِكَسْرِهَا فَيَكُونُ جَمْعًا قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَفِي كَلَامِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِمَّنْ أَرَادَ قَبُولَ دُعَائِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَالِدَيْهِ ثُمَّ بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَبْدَأُ بِمُعَلِّمِهِ قَبْلَ أَبَوَيْهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْمُعَلِّمَ تَسَبَّبَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى شَرَفِ الْوَالِدَيْنِ.
(وَ) اغْفِرْ اللَّهُمَّ (لِأَئِمَّتِنَا) وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ (وَ) اغْفِرْ (لِمَنْ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ. (مَغْفِرَةً عَزْمًا) أَيْ عَاجِلَةً وَقِيلَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَزْمُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي إنْ شِئْت لِإِيهَامِهِ الِاسْتِغْنَاءَ. (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ سَأَلَك مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك صلى الله عليه وسلم) مِمَّا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ فَلَا تَرُدَّ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ. (وَأَعُوذُ بِك) أَيْ أَتَحَصَّنُ بِك يَا اللَّهُ (مِنْ كُلِّ شَرٍّ اسْتَعَاذَك) أَيْ اسْتَعَاذَ بِك (مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك) صلى الله عليه وسلم، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ
وَالدُّعَاءُ بِهِ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْمِيمٌ فِي الدُّعَاءِ، وَسَبَبُ قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم هَذَا الدُّعَاءَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا، وَأَخَذَ يُكْثِرُ مِنْ الْمَسَائِلِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قُلْ اللَّهُمَّ إلَخْ، ثُمَّ قَالَ: وَيُكْرَهُ الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ وَالدُّعَاءُ بِالْمُحَالِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَرُدُّ الدُّعَاءُ مِنْ الْقَدْرِ شَيْئًا أَوْ لَا يَرُدُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ؟ قَالَ الشَّاذِلِيُّ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ يَرُدُّ الْقَدْرَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها:«إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» .
وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَرْفُوعًا: «وَأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ: «إنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ يَتَصَارَعَانِ وَيَتَدَافَعَانِ
(اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا) مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَخَّرْنَا) مِنْ الطَّاعَاتِ عَنْ أَوْقَاتِهَا. (وَ) اغْفِرْ لَنَا (مَا أَسْرَرْنَا) وَهُوَ مَا أَخْفَيْنَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي (وَمَا أَعْلَنَّا) أَيْ أَظْهَرْنَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي.
(وَ) اغْفِرْ لَنَا (مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا) وَهُوَ مَا أَقَرَفْنَاهُ عَمْدًا أَوْ نَسِينَاهُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ حَالَ النِّسْيَانِ لَا إثْمَ فِيهِ لِخَبَرِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَفْعَلْ» قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ حِينَئِذٍ، وَمِنْ الدُّعَاءِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ:{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] قِيلَ الْعِلْمُ، وَقِيلَ الْمَالُ الْحَلَالُ، وَقِيلَ الزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ، وَقِيلَ الْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا.
{وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] وَهِيَ الْعَاقِبَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ الْمَغْفِرَةُ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] أَيْ اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا وِقَايَةً، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْفَاكِهَانِيُّ: عَذَابُ النَّارِ الْمَرْأَةُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعَ الْأَدْعِيَةِ بِمَا فِي السُّنَّةِ:(وَأَعُوذُ) أَيْ أَتَحَصَّنُ (بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا) قِيلَ الْكُفْرُ، وَقِيلَ الْعِصْيَانُ، وَقِيلَ الْمَالُ
عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ
ثُمَّ تَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِكَ تَقْصِدُ بِهَا قُبَالَةَ وَجْهِكَ وَتَتَيَامَنُ بِرَأْسِك قَلِيلًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسَلِّمُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْوَلَدُ، وَالْأَحْسَنُ كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنْ اللَّهِ فِتْنَةُ الْمَحْيَا.
(وَ) أَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ (الْمَمَاتِ) وَهِيَ التَّبْدِيلُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ خُرُوجِ رَوْحِهِ بِصِفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَيَقُولُ لَهُ: قَدْ سَبَقْتُك إلَى الْآخِرَةِ فَأَحْسَنُ الْأَدْيَانِ دِينُ كَذَا لِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمُتْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَك مَا كَانَ لِي مِنْ الْخَيْرِ، فَيَتَحَيَّرُ الْمَيِّتُ فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ بَعَثَ إلَيْهِ مَلَكًا يَطْرُدُهُ، اللَّهُمَّ نَجِّنَا مِنْ كَيَدِهِ.
(وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ) وَهِيَ عَدَمُ الثَّبَاتِ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ.
(وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْقَدَمَيْنِ، وَقِيلَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ أَيْ طَوَافِهِ فِيهَا فِي أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ يُخَافُ مِنْهَا إذْ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ وَتَتَبُّعَهُ الْأَرْزَاقَ فَمَنْ تَبِعَهُ كَفَرَ، وَيَسْلُكُ الدُّنْيَا كُلَّهَا إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَيَمْكُثُ فِي الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَضَعُ رِجْلَهُ حَيْثُ يَنْتَهِي بَصَرُهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ الْيَوْمَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُهُ أَطْلَقَهُ اللَّهُ وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ:(الدَّجَّالُ) ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليه السلام؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِالْمَسِيحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَا مَسَحَ عَلَى ذِي عَاهَةٍ إلَّا وَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ لِسِيَاحَتِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ بِالدُّهْنِ، فَعِيسَى عليه الصلاة والسلام مَسِيحُ الْهُدَى، وَالدَّجَّالُ مَسِيحُ الضَّلَالِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ، رُبَّمَا قِيلَ فِيهِ مَسِيخٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لَكِنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الضَّبْطِ.
(وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ) وَنَاقَشَ ابْنُ نَاجِي الْمُصَنِّفَ قَائِلًا: إنْ أَرَادَ بِسُوءِ الْمَصِيرِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ فَقَدْ قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ وَالْمَمَاتِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ أَيْ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمُمْكِنُ الْجَوَابِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ.
(السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) أَيْ خَيْرَاتُهُ الْمُتَكَاثِرَةُ (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى) سَائِرِ (عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) أَيْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ زِيَادَةِ هَذَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ خِلَافًا لِابْنِ عُمَرَ، وَعَلَى نَدْبِ زِيَادَتِهِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، هَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الدُّعَاةِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ إلَخْ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مَا مَرَّ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ.
(ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ تُوقِعُ تَسْلِيمَةً بِأَنْ (تَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّرْتِيبِ وَصِيغَةِ الْجَمْعِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَسَلَامٌ عُرِّفَ بِأَلْ، فَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَوْ سَلَامِي عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَوْ أَسْقَطَ أَلْ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْوِينِ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا الصِّحَّةُ تَخْرِيجًا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ اللَّاحِنِ فِي الْفَاتِحَةِ عَجْزًا عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ ضِيقِ وَقْتٍ مَعَ قَبُولِ التَّعَلُّمِ لَهُ وَإِلَّا اتَّفَقَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَكْفِي أَمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِلُغَةِ حِمْيَرَ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِهِ حَيْثُ كَانَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَهُ مَعْنَى، وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ جُمْلَةً خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِنِيَّتِهِ، وَيَنْبَغِي الْجَزْمُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَوْ سَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ عَجْزًا عَنْ الْعَرَبِيَّةِ فَيَظْهَرُ لَنَا عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَوْ أَتَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِيهِ عَدَمُ بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ لَحَنَ فِيهِ أَوْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّحْنَ فِيهِمَا عَجْزًا عَنْ الصَّوَابِ لَيْسَ بِأَقْبَحَ مِنْ اللَّحْنِ فِي الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لِلْقَوْلِ لَا لِلْقَائِلِ، وَتَسْلِيمَةُ التَّحْلِيلِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ مَأْمُومًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِكُلِّ مُنَافٍ حَتَّى عَمْدُ الْحَدَثِ دَلِيلُنَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِزِيَادَةِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ حُسْنِ الدُّعَاءِ فَهِيَ خَارِجُ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهَا، وَجَرَى خِلَافٌ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ السَّلَامِ، شَهَرَ الْفَاكِهَانِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا وَعَلَيْهِ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَدِمِهَا وَتَبْطُلُ مُقَابِلُهُ، وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى الِاشْتِرَاطِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ إمَامًا يَقْصِدُ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَأْمُومُ يَنْوِي بِالْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَبِالثَّانِيَةِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَالْفَذُّ يَنْوِي بِهَا التَّحْلِيلَ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ فَقِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ الَّتِي لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ نِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بَيْنَ سَلَامِ التَّحْلِيلِ مَعَ أَنَّهُ فَرْضٌ أَيْضًا؟ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ مُتَعَدِّدٌ يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَاحْتَاجَتْ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لِمُصَاحَبَتِهَا النِّيَّةَ وَرَفْعَ الْيَدَيْنِ مَعَهَا لَيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ، وَثَانِيهِمَا ضَعْفُ أَمْرِ التَّسْلِيمِ وَعِظَمُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ يَكْتَفِي بِكُلِّ مُنَافٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ.
وَأَيْضًا نِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةُ وَاجِبَةٌ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ إيقَاعِ السَّلَامِ مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ بَيْنَ مَفْعُولِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ:(تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً) عَلَى هَيْئَتِهَا السَّابِقَةِ (عَنْ يَمِينِك تَقْصِدُ بِهَا) أَيْ
وَاحِدَةً يَتَيَامَنُ بِهَا قَلِيلًا، وَيَرُدُّ أُخْرَى عَلَى الْإِمَامِ قُبَالَتَهُ يُشِيرُ بِهَا إلَيْهِ وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ كَانَ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ لَمْ يَرُدَّ عَلَى يَسَارِهِ شَيْئًا
وَيَجْعَلُ يَدَيْهِ فِي تَشَهُّدِهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَبْسُطُ
ــ
[الفواكه الدواني]
تَبْتَدِئُهَا (قُبَالَةَ وَجْهِك) أَيْ جِهَةَ الْقِبْلَةِ (وَتَتَيَامَنُ بِرَأْسِك قَلِيلًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ) قَالَ خَلِيلٌ فِي الْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَيَامُنٌ بِالسَّلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سَلَامُ غَيْرِ الْمَأْمُومِ قُبَالَتُهُ مُتَيَامِنًا قَلِيلًا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَبْتَدِئُهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَكِنْ يَلْتَفِتُ إلَى جِهَةِ الْيُمْنَى قَلِيلًا بِحَسَبِ الِانْتِهَاءِ، فَلَا إشْكَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ يَمِينِك الْمُوهِمِ أَنَّهُ يُوقِعُ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى الْيَمِينِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُبَالَةَ وَجْهِك لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بِهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّيَامُنِ قَلِيلًا بِحَسَبِ الِانْتِهَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ الِابْتِدَاءَ بِهَا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ نُدِبَ انْحِرَافُهُ فِي أَثْنَائِهِ إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ الِانْحِرَافُ دَلِيلًا لِنَحْوِ الْأَصَمِّ أَوْ التَّنْبِيهُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَالتَّيَامُنُ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حَدَّ الْقَلِيلِ وَبَيَّنَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ، فَلَوْ أَوْقَعَ الْإِمَامُ أَوْ الْفَذُّ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَا لَوْ أَوْقَعَهَا عَلَى جِهَةِ الْيَسَارِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ ثُمَّ تَكَلَّمَ لَمْ تَبْطُلْ وَفَاعِلُ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَالْفَذُّ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ السَّلَامُ عَلَى الْيَسَارِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَقَوْلُهُ: وَاحِدَةً هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ لِلْإِمَامِ وَالْفَذِّ مِنْ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ كَانَ صلى الله عليه وسلم يَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ؟ وَاَلَّذِي رَأَى مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدَةً، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ مِنْ الْوَرَعِ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ فَالْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ.
(وَأَمَّا الْمَأْمُومُ) الَّذِي أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ (فَ) صِفَةُ سَلَامِهِ أَنْ (يُسَلِّمَ) تَسْلِيمَتَيْنِ (وَاحِدَةٌ) بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ سَلَامِهِ وَلَوْ الثَّانِيَةُ كَأَنْ يَرَى الثَّانِيَةَ وَيَنْدُبُ لَهُ أَنْ (يَتَيَامَنَ بِهَا قَلِيلًا) أَيْ يَرْفَعَ جَمِيعَهَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَا، وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لِأَنَّهَا تَسْلِيمَةُ التَّحْلِيلِ (وَ) يُسَنُّ أَنْ (يُزَادَ أُخْرَى) أَيْ يُسَلِّمُ الْأُخْرَى (عَلَى الْإِمَامِ قُبَالَتَهُ) أَيْ يُوقِعُهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَتَيَامَنُ وَلَا يَتَيَاسَرُ بِهَا حَالَةَ كَوْنِهِ (يُشِيرُ بِهَا إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِمَامِ بِقَلْبِهِ لَا بِرَأْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ أَمَامَهُ أَوْ كَانَ خَلْفَهُ أَوْ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ وَيُجْزِئُهُ فِي تَسْلِيمَةِ الرَّدِّ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْك السَّلَامُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُوقِعُ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى يَمِينِهِ هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَرُدَّ عَلَى مَنْ كَانَ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً (لَمْ يَرُدَّ عَلَى يَسَارِهِ شَيْئًا) وَيَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَتَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَأْمُومَ الَّذِي يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ لَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ مَسْبُوقٌ لَا يُسَنُّ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٌ مِنْ الْمَأْمُومِ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى السُّنَنِ وَرَدُّ مُقْتَدٍ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ يَسَارِهِ وَبِهِ أَحَدٌ، فَيَشْمَلُ كَلَامُهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيًا حَتَّى أَتَمَّ هَذَا الْمُسْلِمُ صَلَاتَهُ، أَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ وَسَلَّمَ مَعَ إمَامِهِ وَذَهَبَ وَأَتَمَّ هَذَا صَلَاتَهُ بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَرُدُّ عَلَى إمَامِهِ وَلَوْ انْصَرَفَ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَأْمُومَ الَّذِي يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَسْبُوقِ الَّذِي تَأَخَّرَ سَلَامُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَلَى الْيَسَارِ كَوْنُهُ سَلَّمَ عَلَى هَذَا الرَّادِّ، خِلَافًا الظَّاهِرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ سَلَامِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَهَا السُّنِّيَّةُ.
قَالَ خَلِيلٌ فِي السُّنَنِ: وَرَدُّ مُقْتَدٍ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ يَسَارِهِ وَبِهِ أَحَدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ " وَفِي الْحَدِيثِ: «أُمِرْنَا صلى الله عليه وسلم أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» .
الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، فَمَنْ لَمْ يُحَصِّلُ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ أَدْرَكَ دُونَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَرُدُّ عَلَى إمَامِهِ وَلَا عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ لِرَدِّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ سَلَّمَ قَبْلَ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ