الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَدِينَةَ قَوْمٍ وَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُمْ وَلَا يُسْتَأْذَنُ الْأَبَوَانِ فِي مِثْلِ هَذَا.
ــ
[الفواكه الدواني]
مُطْلَقِ السَّفَرِ إذَا كَانَ يَحِلُّ فِي غَيْبَتِهِ، وَأَوْلَى الْحَالُ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يُؤَدِّيهِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ يَأْذَنُ لَهُ الدَّيِّنُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الدَّيْنِ شَدِيدٌ، فَقَدْ قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: الشَّهَادَةُ تُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ مَاتَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيْ مَاتَ عَلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَدَعَاهُ وَأَمَرَ مَنْ دَعَاهُ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَقَالَتَك، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ إلَّا مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ» . انْتَهَى.
لَكِنْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: قَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ عز وجل يَقْضِي عَنْ دِينِهِ، وَوَرَدَ أَيْضًا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ وَفَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ مِنْ الْغَزْوِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْغَزْوِ الْوَاجِبِ كِفَايَةً قَالَ:(إلَّا أَنْ يَفْجَأَ الْعَدُوُّ) أَيْ بِغَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ، وَإِنْ لَمْ يَغْزُ (مَدِينَةَ قَوْمٍ وَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ) تَفْسِيرٌ لِيَفْجَأَ، وَلِذَا كَانَ الْوَاجِبُ حَذْفَ النُّونِ مِنْ يُغِيرُونَ؛ لِأَنَّ مُفَسِّرَ الشَّيْءِ يُعْرَبُ بِإِعْرَابِهِ (فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (دَفْعُهُمْ) أَيْ الْعَدُوِّ (وَلَا) يَجِبُ أَنْ (يُسْتَأْذَنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الْأَبَوَانِ فِي مِثْلِ هَذَا) ، وَلَا الرِّجَالُ، وَلَا السَّادَاتُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ بِفَجْأِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ.
قَالَ شُرَّاحُهُ: أَوْ عَبْدٍ وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْجِهَادُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ، وَلَوْ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ مِدْيَانًا، وَعَلَى هَذَا فَيُسْهَمُ لِلْعَبْدِ لِخِطَابِهِ إذْ ذَاكَ، وَمَحَلُّ التَّعْيِينِ وَحُرْمَةُ الْفِرَارِ إنْ بَلَغَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ النِّصْفَ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِلَّا جَازَ الْفِرَارُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَالْقُيُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَأْتِي هُنَا، وَلَا يُقَالُ: إنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ، وَهَذَا عَيْنِيٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إذَا حَصَلَ الشُّرُوعُ فِي الْقِتَالِ صَارَ عَيْنًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الْفِرَارِ فَافْهَمْ. (خَاتِمَةٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ لِحُكْمِ مَا إذَا تَرَكَ النَّاسُ الْقِتَالَ مَعَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي فَجَأَ الْعَدُوُّ عَلَى أَهْلِهَا، هَلْ يَضْمَنُونَ لِتَرْكِهِمْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَيَصِيرُونَ مِنْ أَفْرَادِ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيصَ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَضَمِنَ مَارٌّ، إلَى قَوْلِهِ: كَتَرْكِ تَخْلِيصِ مُسْتَهْلَكٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَمْ لَا؟ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، حَيْثُ تَمَكَّنُوا مِنْ تَخْلِيصِهِمْ وَزَجْرِ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ.
[بَاب فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ ذِكْرَهُ مِنْ فُرُوعِ الْجِهَادِ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ بِقَوْلِهِ
بَابٌ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ «، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» .
وَيُؤَدَّبُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَيَلْزَمُهُ
وَلَا ثُنْيَا وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
(بَابٌ فِي) بَيَانِ (الْأَيْمَانِ) ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ يَمِينٍ مُؤَنَّثَةٍ، وَيُرَادِفُهَا الْحَلِفُ وَالْإِيلَاءُ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ الْقَسَمِ، وَسُمِّيَ الْحَلِفُ يَمِينًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إذَا حَلَفَ شَخْصٌ صَاحِبُهُ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِهِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَسَّمَهَا ابْنُ عَرَفَةَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ بِقَوْلِهِ: الْيَمِينُ قَسَمٌ أَوْ الْتِزَامُ مَنْدُوبِ غَيْرِهِ مَقْصُودٌ بِهِ الْقُرْبَةَ أَوْ مَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ لَا يَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ فَيَخْرُجُ نَحْوُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ طَلَاقُ فُلَانَةَ أَوْ عِتْقُ عَبْدِي فُلَانٍ، ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ، وَيَلْزَمُ الْعِتْقُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ لَا وَفَاءَ بِهِ إلَّا بِنِيَّتِهِ، وَمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْوِيٍّ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: النَّذْرُ كَيْفَ مَا صَدَقَتْ أَحْوَالُهُ لَا يُقْضَى بِهِ، وَإِنْ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ غَيْرُ يَمِينٍ، مَعَ أَنَّ التَّعْرِيفَ يَقْتَضِي أَنَّهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ قَائِلَهَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْقُرْبَةَ بَلْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِ النَّذْرِ: لَا لِامْتِنَاعِ مَنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ. وَصَرِيحُ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ الْأُجْهُورِيُّ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ يَمِينًا مَعَ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَلَى أَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا صِيغَةٌ صَرِيحَةٌ فِي النَّذْرِ لَا تَخْرُجُ عَنْهُ، وَلَوْ عُلِّقَتْ. إذَا عَلِمْت هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ مِنْ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّ الْقَسَمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَالْيَمِينُ تَشْمَلُ هَذَا وَتَشْمَلُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةٌ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَنْدُوبِ. وَتَشْمَلُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حُرٌّ مِنْ كُلِّ مَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ، وَعَلَّقَ عَلَى أَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ، وَلَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى نَحْوَ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَلَّقَ فِي الْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ الْعَدَمِ، وَعَدَمُ الْعَدَمِ إثْبَاتٌ، وَقَيَّدَ ابْنُ عَرَفَةَ الَّذِي يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ بِقَوْلِهِ: لَا يَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا يَجِبُ بِالْإِنْشَاءِ، وَيَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ نَحْوَ: بِعْت وَأَنْكَحْت وَوَهَبْت لِمُعَيَّنٍ وَسَائِرِ صِيَغِ الْعُقُودِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ: الْيَمِينُ تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ فَإِنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ الْيَمِينُ الَّتِي تُكَفَّرُ الَّتِي تُسَمَّى قَسَمًا، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ إفَادَةً لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَجِدَهَا عَلَى هَذَا الْإِيضَاحِ.
(وَ) بَابٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ (النُّذُورِ) جَمْعُ نَذْرٍ، وَهُوَ لُغَةً: الِالْتِزَامُ وَالْوُجُوبُ وَشَرْعًا.
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: النَّذْرُ الْأَعَمُّ مِنْ الْجَائِزِ إيجَابُ امْرِئٍ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ أَمْرٍ.
الْحَدِيثَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» فَأَطْلَقَ عَلَى الْمُحَرَّمِ نَذْرًا، وَالْأَخَصُّ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ الْتِزَامُ طَاعَةٍ بِنِيَّةِ قُرْبَةٍ لَا لِامْتِنَاعٍ مِنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ حَسْبَمَا مَرَّ، فَيَخْرُجُ بِطَاعَةٍ الْتِزَامُ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: بِنِيَّةِ قُرْبَةِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ لِأَجْلِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا نَحْوَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَإِطْلَاقُهُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِصِيغَتِهِ الصَّرِيحَةِ نَحْوَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ الْأُجْهُورِيِّ مَا يُعَيِّنُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ، وَلَوْ قَصَدَ بِهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ. وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا يَمِينٌ إذَا قَصَدَ بِهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ، فَانْظُرْ أَيَّ الْكَلَامَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحَدِ أَقْسَامِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْقَسَمُ بِقَوْلِهِ:(وَمَنْ كَانَ حَالِفًا) أَيْ مُرِيدَ الْحَلِفِ (فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ) أَيْ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ نَحْوَ: بِاَللَّهِ أَوْ الْعَلِيمِ أَوْ الْخَالِقِ أَوْ الرَّزَّاقِ أَوْ الصَّبُورِ مِنْ كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ بِذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، أَوْ بِذِكْرِ الصِّفَةِ الْجَامِعَةِ كَجَلَالِ اللَّهِ أَوْ عَظَمَتِهِ، وَالصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ كَالْوُجُودِ أَوْ السَّلْبِيَّةِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِدَمِ، وَنَظَرَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ (أَوْ لِيَصْمُتْ) أَيْ لَا يَحْلِفُ، إذْ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَحَيَاةِ الْأَبِ أَوْ تُرْبَتِهِ أَوْ نِعَمِهِ أَوْ رَأْسِ السُّلْطَانِ مِمَّا يَحْلِفُ بِهِ الْجَهَلَةُ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِخَبَرِ:«إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ، وَمُسْلِمٍ فَبَيَّنَ رحمه الله الدَّلِيلَ وَالْحُكْمَ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الصِّفَاتِ بِمَا مَرَّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا يَمِينٌ بِلَا خِلَافٍ لِرُجُوعِهَا لِلْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ.
الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عز وجل أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
، وَمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ اشْتِرَاطُ ذِكْرِ الِاسْمِ أَوْ الصِّفَةِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَاَلَّذِي لِصَاحِبِ الْوَقَارِ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَمَنْ حَلَفَ بِوَجْهِ اللَّهِ وَحَنِثَ كَفَّرَ، وَمَنْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: مِمَّا لَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِهِ الْحَلِفُ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ مُرَادًا بِهِ عِلْمَ الشَّرَائِعِ أَوْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، وَلَا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ.
الثَّالِثُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا بِلَفْظٍ مُبَايِنٍ مُرَادٌ بِهِ اسْمُ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: بِزَيْدٍ مَا فَعَلْت كَذَا يُرِيدُ بِهِ بِاَللَّهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ أَسْقَطَ الْهَاءَ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَيَظْهَرُ لِي إلَّا أَنْ يُسْقِطَهَا عَجْزًا وَحَرَّرَهُ.
الرَّابِعُ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُبَاحَةٍ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ. وَمَكْرُوهَةٍ كَالْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالْمَسْجِدِ وَالرَّسُولِ، وَمَكَّةَ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَمَحْظُورَةٍ كَالْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَإِنْ اعْتَقَدَ تَعْظِيمَ هَذِهِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، وَمَا قَالَ فِيهِ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ اسْتَظْهَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ حُرْمَتَهُ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام حَلَفَ بِالْمَخْلُوقِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ مَنْسُوخٌ «بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا» الْحَدِيثَ.
الْخَامِسُ: فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ عَلَى حَصْرِ الِاسْمِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ: وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَقْسَامٌ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثَ بِالنِّسْبَةِ إلَى إقْسَامَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ أَقْسَامٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ بِبَعْضِ مَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَهُ - تَعَالَى - أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَإِنْ أَجَابَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَرَبِّ النَّجْمِ أَوْ خَالِقِ النَّجْمِ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ.
ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَى حُرْمَةِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤَدَّبُ) بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ كُلُّ (مَنْ حَلَفَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ) لِخَبَرِ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَيْمَانِ الْفُسَّاقِ» وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَانَ الْحَالِفُ مُتَزَوِّجًا، وَمَالِكًا أَمْ لَا؟ أَكْثَرَ مِنْ الْحَلِفِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ . وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَزِّرَ كُلَّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً كَرَّرَهَا أَمْ لَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُنْهَى، وَلَا يُؤَدَّبُ، وَقَوْلُنَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ التَّعَازِيرَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْدِيبُهُ بِالضَّرْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعْزِيرُهُ بِقَلْعِ الْعِمَامَةِ، وَالْمَحْدُودُ بِحَدٍّ إنَّمَا هُوَ الْحَدُّ كَحَدِّ الزِّنَا لِلْبِكْرِ، وَكَحَدِّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ كِنَايَتُهُ كَالْحَلِفِ بِالْحَرَامِ أَوْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ، وَيَلْزَمُهُ فِي الْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ مَا نَوَاهُ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، وَحَيْثُ لَا نِيَّةَ، وَلَا عُرْفَ لِأَهْلِ بَلَدِهِ أَوْ لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْأَدَبُ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَدَبِ مَنْ حَلَفَ بِحَيَاةِ الْأَبِ أَوْ رَأْسِ السُّلْطَانِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَةِ الْحَلِفِ بِهَا لَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَحَرَّرَ الْحُكْمَ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَدَمُ اللُّزُومِ قَالَ:(وَيَلْزَمُهُ) أَيْ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ حَيْثُ حَنِثَ فِي الطَّلَاقِ وَاحِدَةً إلَّا بِنِيَّةِ أَكْثَرَ، وَفِي الْعِتْقِ عَتَقَ مَنْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، وَكَانَ ذَا عَبِيدٍ اخْتَارَ وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَبِيدٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَمْ يَلْزَمْهُ كَالْحَالِفِ بِالطَّلَاقِ، وَلَا زَوْجَةَ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الطَّلَاقِ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ لِلزَّوْجِ وَقْتَ الْحَلِفِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ حِينَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا ثُنْيَا، وَلَا كَفَّارَةَ) مُفِيدَتَانِ (إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عز وجل أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ) كَالْعَلِيمِ وَالسَّمِيعِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. (أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ) أَوْ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَاسْتَثْنَى بِأَنْ قَالَ بِأَثَرِ الْيَمِينِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَضَى اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ، أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ يَقْضِيَ أَوْ يُرِيدَ أَوْ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ نَذْرٍ مُبْهَمٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ النَّاذِرُ لَهُ مَخْرَجًا بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ الشَّيْءَ الْمَنْذُورَ، فَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرٌ وَفَعَلَ الشَّيْءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ قَالَ عَقِبَ يَمِينِهِ أَوْ نَذْرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ يُرِيدَ، أَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ، وَلَمْ يُفِدْهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ حَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ اسْتَثْنَى، وَالْمُنَجَّزُ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ
وَوَصَلَهَا بِيَمِينِهِ قَبْلَ أَنْ يَصْمُتَ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ
وَالْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ أَرْبَعَةٌ فَيَمِينَانِ تُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت أَوْ
ــ
[الفواكه الدواني]
طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يُفِدْهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يُنَجَّزُ فِيهِ الطَّلَاقُ: أَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ عَلَى مُعَلَّقٍ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَدْ عَرَفْت مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالثُّنْيَا الِاسْتِثْنَاءُ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ، أَوْ قَضَى، عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ مَجَازٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ بِقَوْلِنَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ مُخْرِجٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الشُّرُوطِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ.
الثَّانِي: شَرَطَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَوْنُهُ فِي أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ حَيْثُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِهِ: إنَّمَا اخْتَصَّتْ الْمَشِيئَةُ بِالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مَاضٍ إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ، وَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَضَّحَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَاضِي لَا تُكَفَّرُ؛ لِأَنَّهَا إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ صَادِقَةٌ، وَأَنَّ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمُسْتَقْبَلِ تُكَفَّرُ، وَلَوْ لَغْوًا أَوْ غَمُوسًا، وَأَنَّ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْحَالِ تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ غَمُوسًا، وَلَا تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ لَغْوًا.
الثَّالِثُ: قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاللَّغْوِ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ الشَّيْءُ الْمَنْذُورُ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا ثُنْيَا، وَلَا لَغْوَ فِي طَلَاقٍ، وَلَا مَشْيَ وَلَا صَدَقَةَ، وَلَا غَيْرَهَا إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ نَذْرٍ لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَزَادَ الْأُجْهُورِيُّ: كُلُّ مَا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَحَلِفِهِ بِالْكَفَّارَةِ.
ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَفْهُومِ، وَلَا ثُنْيَا، وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَقَوْلُهُ:(وَمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى) بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَوْ يُرِيدَ أَوْ يَقْضِيَ ثُمَّ فَعَلَهُ اخْتِيَارًا. (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِوُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ بِشُرُوطٍ أَحَدِهَا. (إذَا قَصَدَ) بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ (الِاسْتِثْنَاءَ) أَيْ حِلَّ الْيَمِينِ لَا إنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ بِأَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ.
(وَ) ثَانِيهَا إنْ تَلَفَّظَ بِهِ بِأَنْ (قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ) ، وَإِنْ سِرًّا بِحَرَكَةِ لِسَانِهِ فَلَا تَكْفِي النِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ. (وَ) ثَالِثِهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ (وَصَلَهَا) أَيْ كَلِمَةَ إنْ شَاءَ (اللَّهُ بِيَمِينِهِ قَبْلَ أَنْ يَصْمُتَ) ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الِاضْطِرَارِيُّ لِعُطَاسٍ أَوْ سُعَالٍ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَأَفَادَ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ بِكَإِلَّا فِي الْجَمِيعِ إنْ اتَّصَلَ إلَّا لِعَارِضٍ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ وَقَصَدَ وَنَطَقَ بِهِ، وَإِنْ سِرًّا بِحَرَكَةِ لِسَانِهِ. (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَقْصِدَ الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ أَوْ فَصَلَ اخْتِيَارًا بَيْنَ قَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ) الِاسْتِثْنَاءُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهُ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» .
فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُهُ بَعْدَ حِينٍ لَمَا كَانَ لِلْكَفَّارَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ الْمُخَالِفَ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ الْحَلِفِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْفَصْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَنْوِيَّ الْخُرُوجِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْيَمِينِ، بَلْ لَوْ طَرَأَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْيَمِينِ وَاتَّصَلَتْ بِاللَّفْظِ نَفَعَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ، بِخِلَافِ الْمُحَاشَاةِ فَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ نِيَّتِهَا قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فِي الْمُحَاشَاةِ لَا بُدَّ أَنْ تَسْبِقَ النِّيَّةُ لَفْظَهُ بِالْحَلِفِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَتَنْفَعُهُ النِّيَّةُ الْوَالِيَةُ لِتَمَامِ الْحَلِفِ، وَلَوْ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الِاضْطِرَارِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُحَاشَاةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ، وَأَمَّا الْمُحَاشَاةُ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى التَّلَفُّظِ بِمَا نَوَى إخْرَاجَهُ، فَلِذَا اشْتَرَطَ تَقَدُّمَ نِيَّةَ إخْرَاجِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا قَالَ الْحَلَالُ عَلَيْهِ حَرَامٌ بَعْدَ إخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْحَلَالِ بِنِيَّتِهِ لَمْ تُطْلَقْ عَلَيْهِ وَتُفِيدُهُ نِيَّتُهُ.
وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْحَلِفِ بِالْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمُحَاشَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّلَفُّظُ بِمَا حَاشَاهُ وَأَخْرَجَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ ابْتِدَاءً لَمْ يَدْخُلْ فِي لَفْظِ الْحَلَالِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى إخْرَاجِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُحَاشَاةَ تُخَالِفُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: اشْتِرَاطُ التَّلَفُّظِ بِالْمُسْتَثْنَى فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا بِخِلَافِ الْمُحَاشَاةِ. وَالثَّانِي: عَدَمُ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ إخْرَاجِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْمُحَاشَاةُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَإِيضَاحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصَ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ مُرَادًا بِهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَعُمُومُهُ لَمْ يُرَدْ تَنَاوُلًا، وَلَا حُكْمًا، بَلْ لَفْظُ الْكُلِّيِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ، بِخِلَافِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عُمُومُهُ مُرَادٌ تَنَاوُلًا أَيْ لَفْظًا لَا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالْحَلَالُ مِنْ قَوْلِ الْحَالِفِ الْحَلَالُ عَلَيْهِ حَرَامٌ مُحَاشِيًا الزَّوْجَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ، فَاللَّفْظُ الْعَامُّ فِي الْمُحَاشَاةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فَافْهَمْ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ الْيَمِينُ فِي وَثِيقَةِ حَقٍّ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: الِاسْتِثْنَاءُ فِي
يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ، وَيَمِينَانِ لَا تُكَفَّرَانِ إحْدَاهُمَا لَغْوُ الْيَمِينِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ فِي يَقِينِهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَثِيقَةِ الْحَقِّ لَا يَنْفَعُ، وَلَوْ جَهَرَ بِهِ.
وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا تُعْتَبَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَلِّفِ نِيَّةٌ تُخَالِفُهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ لِاشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الْمُحَاشَاةُ فَوَقَعَ خِلَافٌ فِي إفَادَتِهَا، إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي وَثِيقَةِ حَقٍّ فَقِيلَ تَنْفَعُ وَقِيلَ لَا تَنْفَعُ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ فِي شَامِلِهِ أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ إفَادَتِهَا.
الثَّانِي: وَقَعَ خِلَافٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، هَلْ هُوَ رَافِعٌ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ حَلٌّ لِلْيَمِينِ؟ وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ وَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِيهِمَا عَلَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي، بِخِلَافِ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَفِّرُ فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعِنْدِي وَقْفَةٌ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى إذْ قَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ انْحَلَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ لَحَنِثَ؟ فَتَأَمَّلْهُ مُنْصِفًا.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُكَفَّرُ مِنْ الْأَيْمَانِ، وَمَا لَا يُكَفَّرُ بِقَوْلِهِ:(وَالْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ) أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ (أَرْبَعَةٌ) وَفِي نُسْخَةٍ أَرْبَعٌ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ، بِخِلَافِ لَوْ ذُكِرَ لَوَجَبَ حَذْفُهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ الْيَمِينُ، وَإِنْ أَرَدْت تَفْصِيلَهَا. (فَيَمِينَانِ تُكَفَّرَانِ) بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُؤَنَّثَةٌ وَالتَّاءُ تَلْزَمُ الْمُضَارِعَ الْمُسْنَدَ إلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ الْغَائِبِ الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُثَنًّى وَجَمْعٍ. (وَهُوَ) أَيْ أَحَدُ الْيَمِينَيْنِ الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ. (أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا) أَيْ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا، فَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ لَهَا صِيغَتَانِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ بِأَنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ نَافِيَةٌ إنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهَا جَوَابٌ، وَشَرْطِيَّةٌ إنْ ذُكِرَ لَهَا جَوَابٌ نَحْوَ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا مَا جَلَسْت فِي الدَّارِ، أَوْ: وَاَللَّهِ إنْ قَامَ زَيْدٌ مَا قُمْت. (أَوْ) أَيْ وَالثَّانِي مِنْهُمَا (يَحْلِفُ) بِاَللَّهِ (لَيَفْعَلَنَّ) كَذَا أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْ، وَلَمْ يُؤَجِّلْ، وَهِيَ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى حِنْثٍ لَهَا صِيغَتَانِ أَيْضًا كَصِيغَتَيْ الْبِرِّ فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ تُكَفَّرَانِ هُمَا يَمِينُ الْبِرِّ وَيَمِينُ الْحِنْثِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ وَالْيَمِينِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى بِرٍّ بِأَنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت، أَوْ حَنِثَ بِلَأَفْعَلَنَّ، أَوْ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ إنْ لَمْ يُؤَجِّلْ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلٍّ مَدٌّ. وَأَمَّا لَوْ أَجَّلَ بِأَنْ قَالَ: بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمَنَّ زَيْدًا فِي هَذَا الشَّهْرِ مَثَلًا، أَوْ إنْ لَمْ أُكَلِّمْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى بِرٍّ، وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمُضِيِّ الْأَجَلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مَنَعَهُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرَكَهُ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عَادِيٍّ لَا عَقْلِيٍّ، مِثَالُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ: حَيْضُ مَنْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَوْ الْيَوْمِ، وَمِثَالُ الْمَانِعِ الْعَادِيِّ سَرِقَةُ مَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَثَلًا، وَمِثَالُ الْمَانِعِ الْعَقْلِيِّ مَوْتُ مَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَثَلًا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إنْ بَادَرَهُ إلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُفَرِّطْ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِحَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ الْفِعْلِ وَتَرَاخَى حَتَّى تَعَذَّرَ فِعْلُهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ بِالْعَقْلِيِّ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَحَنِثَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَلَا بِسَاطٌ بِفَوْتِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ لَا بِكَمَوْتِ حَمَامٍ فِي لَيَذْبَحَنَّهُ، فَلَوْ تَجَرَّأَ وَوَطِئَ الْحَائِضَ فَفِي بِرِّهِ قَوْلَانِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إذَا أَقَّتَ أَوْ لَمْ يُؤَقِّتْ وَبَادَرَ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّطَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ بِالْعَقْلِيِّ.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: لَكِنَّ الشَّرْعِيَّ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْيَمِينِ، بِخِلَافِ الْعَادِيِّ وَالْعَقْلِيِّ فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا إلَّا إذَا طَرَأَ عَلَى الْيَمِينِ، لَكِنَّ الْعَادِيَّ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ بَادَرَ سَوَاءٌ أَقَّتَ أَمْ لَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلِيًّا. فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ وَفَرَّطَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَانِعُ الْعَقْلِيُّ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ بِهِ حَيْثُ بَادَرَ بَعْدَ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَسُمِّيَتْ الْأُولَى يَمِينُ بِرٍّ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ اخْتِيَارًا.
وَالثَّانِيَةُ تُسَمَّى يَمِينُ حِنْثٍ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَيَفْعَلَنَّ أَوْ إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا عَلَى حِنْثٍ، وَلَا يَبَرُّ إلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ: لَيُكَلِّمَنَّ زَيْدًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فِيهِ لِمَانِعٍ حَصَلَ أَوْ عَزَمَ عَلَى عَدَمِ كَلَامِهِ حَنِثَ. .
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْحِنْثَ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ لَا مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ شَرْعِيًّا، كَوَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْحَبْسَ فَيُحْبَسُ لِغَرِيمِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، وَلَا يُعْذَرُ عِنْدَنَا بِالنِّسْيَانِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا الْغَلَطِ، وَلَا الْجَهْلِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالنِّسْيَانِ إنْ أَطْلَقَ، وَأَمَّا فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَيَحْصُلُ بِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَانِعُ عَادِيٌّ، وَلَوْ بَادَرَ أَوْ عَقْلِيٌّ لَكِنْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ كَشَرْعِيٍّ، وَلَوْ كَانَ سَابِقًا مِنْ الْيَمِينِ.
الثَّانِي: قَدَّمْنَا أَنْ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ كَشَرْطِيَّةِ إنْ ذُكِرَ لَهَا جَوَابٌ، وَإِلَّا كَانَتْ نَافِيَةً لَهَا، بِخِلَافِهَا فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَهِيَ شَرْطِيَّةٌ دَائِمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهَا يَكُونُ مُقَدَّرًا، فَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ مَثَلًا، فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: يَلْزَمُنِي الْكَفَّارَةُ.
وَأَشَارَ إلَى بَقِيَّةِ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ: (وَيَمِينَانِ لَا تُكَفَّرَانِ أَحَدُهُمَا) الْأَوَّلُ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُؤَنَّثَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا فَرْدَانِ. (لَغْوُ الْيَمِينِ) أَيْ الْيَمِينُ اللَّغْوُ (وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ) الْمُكَلَّفُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ بِنَذْرٍ مُبْهَمٌ (عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ) أَيْ يَتَيَقَّنُهُ (كَذَا) مُعْتَمِدًا عَلَى مَا (فِي يَقِينِهِ ثُمَّ) بَعْدَ الْحَلِفِ (يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ) أَيْ خِلَافُ مَا كَانَ
فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا إثْمَ وَالْأُخْرَى الْحَالِفُ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ أَوْ شَاكًّا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا تُكَفِّرُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ سبحانه وتعالى.
وَالْكَفَّارَةُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
يَعْتَقِدُهُ. (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ.
قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ: وَلَا لَغْوَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، فَظَهَرَ نَفْيُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فَمَنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ مَجِيءِ زَيْدٍ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ مَا جَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ قَادِرًا عَلَى الْكَشْفِ وَعَلِمَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
(تَنْبِيهٌ) إنَّمَا حَمَلْنَا الْحَلِفَ عَلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّ اللَّغْوَ لَا يُفِيدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ غَيْرِ مُبْهَمٍ، وَفَسَّرْنَا الظَّنَّ فِي كَلَامِهِ بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ غَيْرِ الْقَوِيِّ، أَوْ عَلَى الشَّكِّ مِنْ قَبِيلِ الْغَمُوسِ كَمَا يَأْتِي.
وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ عَدَمِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ يُعَلِّقُهَا بِالْمَاضِي أَوْ الْحَالِ لَا بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ (وَ) الْيَمِينُ (الْآخَرُ) الْأَوْلَى الْأُخْرَى مِمَّا لَا يُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ (الْحَالِفُ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ أَوْ شَاكًّا) فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ مَا نَظَرَ زَيْدًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُ نَظَرَهُ أَوْ شَاكٌّ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَغَمُوسٌ بِأَنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَحَلَفَ بِلَا تَبَيُّنٍ صَدَقَ بِأَنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، وَأَمَّا لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ غَمُوسًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَلِفُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ حَرَامًا قَالَ:(فَهُوَ) أَيْ الْحَالِفُ عَلَى شَكٍّ أَوْ مُتَعَمِّدِ الْكَذِبِ (آثِمٌ) إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُهُ (وَلَا يُكَفِّرُ ذَلِكَ) الْإِثْمَ (الْكَفَّارَةُ) فَاعِلُ يُكَفِّرُ لِعِظَمِ أَمْرِهَا وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا.
قَالَ ابْنُ يُونُسَ: الْغَمُوسُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام:«مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ؟ قَالَ وَإِنْ سِوَاكًا» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ.
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَيْ خَالِيَةً. (وَلْيَتُبْ) وُجُوبًا الْحَالِفُ يَمِينَ الْغَمُوسِ (مِنْ ذَلِكَ) الْحَلِفِ (إلَى رَبِّهِ سبحانه وتعالى) ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى خَالِقِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِغَمْسِهَا صَاحِبِهَا فِي الْإِثْمِ أَوْ فِي النَّارِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَحَلَّ إثْمِ الْحَالِفِ عَلَى ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ إذْ لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُهُ، وَإِلَّا فَلَا إثْمَ.
قَالَ مَالِكٌ:، وَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَقِيتُ فُلَانًا أَمْسِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَلَقِيَهُ أَمْ لَا ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ بَرَّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ أَثِمَ، وَكَانَ كَتَعَمُّدِ الْكَذِبِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ بَرَّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الثَّانِي: مَحَلُّ كَوْنِ الظَّنِّ كَالشَّكِّ مَا لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ غَمُوسًا، وَلَا إثْمَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَاعْتَمَدَ الْبَابُ عَلَى ظَنٍّ قَوِيٍّ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا أَطْلَقَ فِي يَمِينِهِ، وَأَمَّا إنْ قَيَّدَهَا بِأَنْ يَقُولَ فِي ظَنِّيِّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ الْيَمِينَ اللَّغْوَ وَالْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالْمَاضِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ صَادِقَةٌ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَقْبَلِ تُكَفَّرُ، وَلَوْ لَغْوًا أَوْ غَمُوسًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالْحَالِ لَمْ تُكَفَّرْ إنْ كَانَتْ لَغْوًا.
وَفِي تَكْفِيرِ الْغَمُوسِ إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ خِلَافٌ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ مَا يُفِيدُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، وَفَائِدَةُ عَدَمِ التَّعَلُّقِ التَّكْفِيرُ.
قَالَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ وَنَظَمَهُ بِقَوْلِهِ:
كَفِّرْ غَمُوسًا بِلَا مَاضٍ تَكُونُ كَذَا
…
لَغْوٌ بِمُسْتَقْبَلٍ لَا غَيْرُ فَامْتَثِلَا
(فَإِنْ قِيلَ) الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ بِإِنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت مَاضٍ، وَالْيَمِينُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاضِي قُلْتُمْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا إمَّا صَادِقَةٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ لَغْوٌ فَمَا الْجَوَابُ؟ . (وَالْجَوَابُ) أَنْ يُقَالَ: الْحَلِفُ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ فَفِعْلٌ، وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا إنْشَاءً فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَالْكَفَّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ جُعِلَتْ إنْ شَرْطِيَّةً بِذِكْرِ الْجَوَابِ، وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا، وَإِنْ جُعِلَتْ نَافِيَةً الصَّارِفُ لَهَا إلَى الِاسْتِقْبَالِ الْحَلِفُ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ، وَقَدْ جَعَلَ النُّحَاةُ مِنْ صَوَارِفِ الْمَاضِي إلَى الِاسْتِقْبَالِ الْإِنْشَاءَ، فَإِذَا قَالَ الْحَالِفُ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت فُلَانًا، فَمَعْنَاهُ لَأَتْرُكَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ، فَمَعْنَاهُ اُتْرُكِي دُخُولَهَا، وَهَكَذَا. هَذَا إيضَاحُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ. وَأَقُولُ: الْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ الْمَشْرُوطُ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا مُتَعَلِّقُ
لَوْ زَادَ عَلَى الْمُدِّ مِثْلَ ثُلُثِ مُدٍّ أَوْ نِصْفِ مُدٍّ.
وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ مِنْ وَسَطِ عَيْشِهِمْ فِي غَلَاءٍ أَوْ رُخْصٍ، وَمَنْ أَخْرَجَ مُدًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَجْزَأَهُ.
وَإِنْ كَسَاهُمْ كَسَاهُمْ لِلرَّجُلِ قَمِيصٌ وَلِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ.
أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ.
فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ وَلَا
ــ
[الفواكه الدواني]
الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ يَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْيَمِينِ إذْ قَدْ يَكُونُ لَفْظُهَا مَاضِيًا، وَمُتَعَلِّقُهَا وَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَافْهَمْ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْكَفَّارَةُ) اللَّازِمَةُ بِالْحِنْثِ أَوْ بِنَذْرِهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهِيَ الْإِطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالْعِتْقُ، وَالرَّابِعُ مُرَتَّبٌ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الثَّلَاثِ، وَهُوَ الصَّوْمُ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ ابْتِدَاءً مُرَتَّبَةٌ انْتِهَاءً وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، وَجُزْءُ الْكَفَّارَةِ (إطْعَامُ) أَيْ تَمْلِيكُ الْمُكَفِّرِ أَوْ نَائِبِهِ بِإِذْنِهِ (عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مُدًّا) مَفْعُولُ إطْعَامِ الثَّانِي (لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَمِقْدَارُهُ بِالْكَيْلِ حَفْنَتَانِ بِكَفَّيْ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ، وَلَا صَغِيرِهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُتَوَسِّطِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ الْعَدَدُ، فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا دَفْعُ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ إلَّا أَنْ يُكْمِلَ الْعَدَدَ فِي الْأَوَّلِ، وَالْمُدَّ فِي الثَّانِي، وَلَا لِغِنًى، وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِهِ إنْ دَفَعَهُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِغِنَاهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِغِنَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ فَاتَ رَجَعَ عَلَيْهِ إنْ غَرَّهُ بِأَنْ أَوْهَمَهُ أَنَّهُ مِسْكِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَغُرَّهُ فَقِيلَ يُجْزِئُهُ وَقِيلَ لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَى الْإِجْزَاءِ فَيَلْزَمُ الْآخِذَ دَفْعُ مَا أَخَذَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَعَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ يَلْزَمُ الْمُكَفِّرَ دَفْعُهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَهَلْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْمَدْفُوعِ لَهُ أَوْ لَا؟ . قَوْلَانِ، وَلَا تُدْفَعُ لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا لِلْأَرِقَّاءِ لِغِنَائِهِمْ بِالسَّادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ مِمَّنْ يَلْزَمُ الْمُكَفِّرَ نَفَقَتُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا لَهُ كَالزَّكَاةِ.
(وَأَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ (أَنْ لَوْ زَادَ) الْمُكَفِّرُ (عَلَى الْمُدِّ) وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ أَشْهَبَ تَحْدِيدُهَا بِكَوْنِهَا (مِثْلَ ثُلُثِ مُدٍّ) وَحَدَّهَا ابْنُ وَهْبٍ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ نِصْفِ مُدٍّ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ زِيَادَةُ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَا تُنْدَبُ الزِّيَادَةُ لِقَنَاعَةِ أَهْلِهَا وَقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا، وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ مُسَاوَاةُ مَكَّةَ لِلْمَدِينَةِ فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ الْمُخْرَجَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) أَيْ الْمُخْرَجُ فِي الْكَفَّارَةِ يَكُونُ (بِقَدْرِ) أَيْ بِحَسَبِ (مَا يَكُونُ مِنْ وَسَطِ عَيْشِهِمْ) أَيْ الْمُكَفِّرِينَ فَلَا يُخْرِجُ أَدْنَى مِنْ الْوَسَطِ (فِي غَلَاءٍ أَوْ) أَيْ، وَلَا يُكَلَّفُ أَعْلَى لِأَجْلِ (رُخْصٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَالْمُرَادُ بِوَسَطِ عَيْشِهِمْ الْحَبُّ الْمُعْتَادُ غَالِبًا، فَتَخْرُجُ الْكَفَّارَةُ مِمَّا تَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْمُعْتَبَرُ عَيْشُ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمُقَابِلُهُ اعْتِبَارُ عَيْشِ الْمُكَفِّرِ، وَهُوَ لِابْنِ حَبِيبٍ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَيْضًا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَهْلِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ لَا يُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ زَيْدٍ مَثَلًا، وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ تِسْعَةُ أَنْوَاعٍ، فَلَا تَخْرُجُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهَا، أَمَّا إذَا عُدِمَتْ التِّسْعَةُ فَيَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ غَالِبِ الْمُقْتَاتِ، وَلَوْ لَبَنًا أَوْ لَحْمًا.
(تَنْبِيهٌ) يَقُومُ مَقَامَ الْمُدِّ شَيْئَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، أَحَدُهُمَا رَطْلَانِ مِنْ الْخُبْزِ بِالرَّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْإِدَامِ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ قُطْنِيَّةٍ أَوْ بَقْلٍ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَانِيهِمَا إشْبَاعُ الْعَشَرَةِ مَرَّتَيْنِ كَغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءَيْنِ أَوْ عَشَاءَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ الْمُدِّ وَسَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْكَفَّارَةُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مُدٍّ، وَنُدِبَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ زِيَادَةُ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ أَوْ رَطْلَانِ خُبْزٍ بِإِدَامٍ كَشِبَعِهِمْ أَوْ كِسْوَتِهِمْ الرَّجُلَ ثَوْبًا وَالْمَرْأَةَ دِرْعًا وَخِمَارًا، وَلَوْ غَيْرَ وَسَطِ أَهْلِهِ، وَالرَّضِيعُ كَالْكَبِيرِ فِيهِمَا، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالظِّهَارِ، ثُمَّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةٌ، وَلَا مُكَرَّرٌ، وَلِمِسْكِينٍ، وَلَا نَاقِصٌ كَعِشْرِينَ لِكُلٍّ نِصْفٌ إلَّا أَنْ يُكْمِلَ، وَهَلْ إنْ بَقِيَ تَأْوِيلَانِ، وَلَهُ نَزْعُهُ إنْ بَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ وَقَوْلُهُ:(وَإِنْ أَخْرَجَ) مَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ (مُدًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ، وَلَوْ فِي زَمَنِ الرُّخْصِ (أَجْزَأَهُ) ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ مَحْضُ تَكْرَارٍ.
وَلَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُخَيَّرَةً ابْتِدَاءً بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَقَدَّمَ وَاحِدًا مِنْهَا ذَكَرَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَسَاهُمْ) أَيْ الْعَشَرَةِ مَسَاكِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْمُرَادُ أَرَادَ كِسْوَتَهُمْ (كَسَاهُمْ لِلرَّجُلِ قَمِيصٌ) أَوْ إزَارٌ تَحِلُّ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ (وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ) أَيْ قَمِيصٌ (وَخِمَارٌ) ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ وَسَطِ كِسْوَةِ أَهْلِهِ، وَلَوْ عَتِيقًا وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ الذَّكَرُ وَبِالْمَرْأَةِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي إعْطَاءِ الْكِسْوَةِ وَالْأَمْدَادِ وَالْأَرْطَالِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إعْطَاءِ الْأَمْدَادِ وَالْأَرْطَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْلُ الْكَبِيرِ، وَأَمَّا فِي الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ لَمْ يُسَاوِ الْكَبِيرَ فِي الْأَكْلِ وَفِي الْكِسْوَةِ يُعْطَى كِسْوَةَ كَبِيرٍ مِنْ أَوْسَاطِ الرِّجَالِ، وَلَوْ كَانَ رَضِيعًا.
وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا الْمُكَفِّرُ الْحُرُّ بِقَوْلِهِ: (أَوْ عِتْقٌ) بِالرَّفْعِ لِعَطْفِهِ عَلَى إطْعَامٌ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) سَلِيمَةٍ مِنْ بَيْنِ عَيْبٍ يَمْنَعُ
إطْعَامًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُتَابِعُهُنَّ فَإِنْ فَرَّقَهُنَّ أَجْزَأَهُ.
وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا.
، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
الْكَسْبَ كَعَمًى وَجُنُونٍ، وَهَرَمٍ وَعَرَجٍ شَدِيدَيْنِ لَا مَا خَفَّ كَقَطْعِ ظُفُرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ خَفِيفَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا سَلَامَتُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ مُكَاتَبٍ، وَلَا مُدَبَّرٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ احْتِرَازًا مِمَّنْ تُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً لَا الرَّقَبَةَ الْمُشْتَرَكَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ كِبَرُهَا لِإِجْزَاءِ الرَّضِيعِ، وَقَوْلُنَا الْمُكَفِّرُ الْحُرُّ لِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْإِطْعَامِ فَيُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَحَبَّ إلَى مَالِكٍ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْعِتْقُ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ إنَّمَا وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا يُعْتَقُ إلَّا مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْوَلَاءُ.
(تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إخْرَاجُ دَرَاهِمَ، وَلَا عُرُوضَ، كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِطْعَامَ قِيمَةُ الطَّعَامِ أَوْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ شَرَعَ فِيمَا يَجِبُ تَرَتُّبُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (فَإِنْ فَرَّقَهُنَّ أَجْزَأَهُ) فَلَا يَصِحُّ صِيَامٌ مِنْ حُرٍّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّوْمِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي عَجْزِهِ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنْ لَا يَجِدَ إلَّا قُوتَهُ أَوْ كِسْوَتَهُ بِبَلَدٍ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَخَافُ الْجُوعَ، وَهَكَذَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعَجْزُ حَالَ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ مَلِيًّا حِينَ الْحَلِفِ أَوْ الْحِنْثِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ لِعَجْزِهِ عَنْ أَقَلِّ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلتَّكْفِيرِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ كَمَالِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ كَمَالِ الثَّالِثِ نُدِبَ لَهُ الرُّجُوعُ لِلتَّكْفِيرِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ.
(تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ إتْيَانِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ التَّنْوِيعِيَّةِ أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةً، قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةً بِأَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيُكْسِيَ خَمْسَةً مَثَلًا، وَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْخِلَافِ لَكِنْ بَعْدَ الْحِنْثِ.
وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إجْزَائِهَا إنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ الْحِنْثِ قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَ) لَكِنَّ التَّكْفِيرَ (بَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَأَجْزَأَتْ قَبْلَ حِنْثِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ يَمِينَ بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَكِنْ تَقَيَّدَ يَمِينُ الْحِنْثِ بِأَنْ لَا تَكُونَ مُؤَجَّلَةً فَلَا تُكَفِّرُهَا حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَنَّ الْيَمِينَ مِمَّا يُمْكِنُ تَكْفِيرُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، وَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَنَظِيرُهَا فِي الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ تَكْفِيرَ الطَّلَاقِ الْبَالِغِ الْغَايَةِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِصَدَقَةِ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ بِعِتْقٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ بِطَلَاقٍ لَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ، فَلَا يُجْزِئُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا زِيَادَةً عَلَى مَا عَجَّلَهُ.
الثَّانِي: اسْتَشْكَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَبَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا، مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَتَجِبُ بِالْحِنْثِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَحَبِّيَّةِ وَالْوُجُوبِ، إذْ قَدْ تُحْمَلُ الْأَحَبِّيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ أَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَاجِبٌ.
الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ مَا يُوجِبُ الْحِنْثَ، وَلَهُ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ: الْوُجُوبُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ كَصِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ صَلَاةِ فَرْضٍ يَحْلِفُ لَا يَفْعَلُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ خُرُوجًا مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالنَّدْبُ كَحَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ كَصَلَاةِ الضُّحَى أَوْ زِيَارَةِ صَالِحٍ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ بِالْجَوَازِ، كَحَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ مُبَاحٍ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ فَيُبَاحُ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ بِتَرْكِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ، وَالْحُرْمَةُ كَأَنْ يَحْلِفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْهُ، وَيُحْنِثُ نَفْسَهُ عِنْدَ حَلِفِهِ لَيَشْرَبَنَّهُ وَيُكَفِّرُ فَإِنْ تَجَرَّأَ وَشَرِبَهُ أَثِمَ، وَلَا كَفَّارَةَ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْقِسْمُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ.
الرَّابِعُ: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ يَمِينَ الْبِرِّ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِيهَا إلَّا لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ اخْتِيَارًا، وَلَوْ فَعَلَهُ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ أَوْ الْغَلَطِ أَوْ مُكْرَهًا إكْرَاهًا شَرْعِيًّا لَا إنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ إكْرَاهًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْحَالِفَ، كَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَأَكْرَهَهُ الْحَالِفُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يُكْرِهُهُ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، رَاجِعْ شَرْحَ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ. وَأَمَّا الْبِرُّ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَيَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى فِعْلِهِ طَوْعًا، وَأَمَّا لَوْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا فَفِي عِتْقِهَا لَا يَبَرُّ، وَتُحْمَلُ يَمِينُهُ عَلَى الطَّوْعِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ نِيَّةَ فِعْلِهِ، وَلَوْ مُكْرَهًا فَيُصَدَّقُ فِي الْفَتْوَى، وَهَذَا فِي حَلِفِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَلِفُهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ كَحَلِفِهِ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ ثُمَّ أَكْرَهَهُ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ قِيَامٌ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا فَيَبَرُّ وَتَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِي الْفَتْوَى فَقَطْ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تُحْمَلُ عَلَى قَصْدِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ.
يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ.
وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ نَذَرَ صَدَقَةَ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ عِتْقَ عَبْدِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّذْرِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى تَعْرِيفِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ) بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ زِيَارَةُ صَالِحٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. (فَلْيُطِعْهُ) وُجُوبًا بِفِعْلِ مَا نَذَرَهُ، وَلَوْ نَذَرَهُ فِي حَالِ غَضَبٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِنَذْرِ اللَّجَاجِ أَوْ قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِنَذْرِ التَّبَرُّمِ بِالْمِيمِ، كَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ لِكَرَاهَةِ إقَامَتِهِ عِنْدَهُ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِ مَثَلًا، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَةِ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا ذُكِرَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: النَّذْرُ الْتِزَامُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلَوْ غَضْبَانَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ إنْ أَسْلَمَ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ لَهُ فَقَطْ، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْوَفَاءُ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَدَخَلَ فِي الْمُكَلَّفِ السَّكْرَانُ بِحَرَامٍ وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَكَالْمَجْنُونِ، كَمَا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ حَيْثُ كَانَ نَذَرُهُمَا بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ، كَمَا يَدْخُلُ الرَّقِيقُ سَوَاءٌ نَذَرَ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ، لَكِنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ إنْ عَتَقَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ الْآنَ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ سَيِّدُهُ لِإِضْرَارِهِ بِهِ فِي عَمَلِهِ حَيْثُ نَذَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ، وَكَانَ مَضْمُونًا، وَيَدْخُلُ السَّفِيهُ أَيْضًا، وَلَوْ نَذَرَ مَالًا حَيْثُ اسْتَمَرَّ بِيَدِهِ حَتَّى رَشَدَ، وَلَمْ يُبْطِلْهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي حَالِ سَفَهِهِ، وَإِلَّا يَسْقُطْ عَنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ لِفِعْلِهِ إبْطَالٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّاعَةِ فِي كَلَامِهِ كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ غَيْرِ وَاجِبٍ بِالْأَصَالَةِ، فَيَدْخُلُ الْمَنْدُوبُ وَالْمَسْنُونُ، وَلَوْ نَذَرَ بَعْضَ الْعِبَادَةِ كَلِلَّهِ عَلَيَّ بَعْضُ صَلَاةٍ أَوْ رَكْعَةٌ أَوْ صَوْمُ بَعْضِ يَوْمٍ، يَلْزَمُهُ الْإِكْمَالُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خِلَافًا لِسَحْنُونٍ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ، وَلَا يُقَالُ: كَمَا يُتَوَهَّمُ خُرُوجُ السُّنَّةِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ يُتَوَهَّمُ دُخُولُ الْوَاجِبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الطَّاعَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْفَرْضِيَّةِ فَافْهَمْ.
(تَنْبِيهٌ) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِطَاعَةِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ الْقَضَاءُ لِمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ كَيْفَ مَا صَدَقَتْ أَحْوَالُهُ لَا يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ كَانَ بِعِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِنِيَّتِهِ، وَلَا نِيَّةَ مَعَ الْقَضَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِبَتٍّ مُعَيَّنٍ كَأَنْ يَقُولَ الرَّشِيدُ: ابْتِدَاءً عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ، وَمِثْلُ النَّذْرِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ وَعَدَمِ الْقَضَاءِ الْهِبَةُ وَالْوَقْفُ إذَا كَانَتْ فِي يَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا لِغَيْرِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ هِبَةٌ فِي يَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ فِي غَيْرِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ يَمِينٍ فَيُقْضَى بِهِ كَقَوْلِهِ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ وَقْفٌ عَلَى زَيْدٍ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ يَمِينٍ فَقَوْلَانِ.
(وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ) سبحانه وتعالى بِشَيْءٍ كَسَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ قَتْلٍ (فَلَا يَعْصِهِ) بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَفْظُ حَدِيثٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ:(وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لَيْسَ مِنْ الْحَدِيثِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَاذِرَ الْمَعْصِيَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ضَعَّفَهَا غَيْرُهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَحْرُ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا أَوْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ وَذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ وَلَدِهِ أَوْ لَفَظَ بِالْهَدْيِ أَوْ نَوَاهُ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ مَعَ أَنَّ نَذْرَ مَا ذَكَرَ مَعْصِيَةٌ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ خَرَجَتْ عَنْ الْأَصْلِ، فَهِيَ كَالْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْمَنْعِ، وَبِأَنَّ النَّاذِرَ أَوْ الْحَالِفَ لَمَّا لَفَظَ بِالْهَدْيِ أَوْ نَوَاهُ أَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ إبْرَاهِيمَ مَعَ وَلَدِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْصِيَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ بِنَحْرِ فُلَانٍ قَتْلَهُ حَقِيقَةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَا يَلْزَمُ نَاذِرِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ تَالِيَيْ عِيدِ النَّحْرِ إلَّا لِمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَقْصٌ فِي حَجٍّ.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نَذْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ حُكْمُ نَذْرِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، لِمَا أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بِأَنَّ نَذْرَ كُلِّ وَاحِدٍ تَابِعٌ لِحُكْمِهِ وَبِالْحُرْمَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْجَارِي فِي نَذْرِهِ الْخِلَافُ نَذْرُ صَوْمِ رَابِعِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَنَذْرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَنَذْرُ مَا يَشُقُّ فِعْلُهُ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهَا؛ لِأَنَّ كَرَاهَتَهَا لَا لِذَاتِهَا، بِخِلَافِ نَذْرِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِمَا، وَإِنْ كُرِهَا، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّاذِرُ بِفِعْلِهِمَا إلَى إيقَاعِهِمَا فِي وَقْتِ الطُّلُوعِ أَوْ الْغُرُوبِ، وَمِنْ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ نَذْرُ يَوْمٍ مُكَرَّرٍ كَكُلِّ خَمِيسٍ، وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ نَحْوَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إنْ زَنَيْت أَوْ قَتَلْت فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَفِي كَرَاهَتِهِ تَرَدُّدٌ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إذَا فَعَلَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُحَرَّمًا.
وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً، وَالتَّصَدُّقُ بِمَالِ الْغَيْرِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ قَالَ:(وَمَنْ نَذَرَ) أَيْ الْتَزَمَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (صَدَقَةَ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ) نَذَرَ (عِتْقَ عَبْدِ غَيْرِهِ) ، وَلَمْ يَقْصِدْ إنْ مَلَكَهُ (لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ)، وَلَوْ مَلَكَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ لِخَبَرِ: «لَيْسَ
شَيْءٌ.
وَمَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ مِنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَدَقَةِ شَيْءٍ سَمَّاهُ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ إنْ حَنِثَ كَمَا يَلْزَمُهُ لَوْ نَذَرَهُ مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ.
، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ
، وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ شِبْهِهِ أَوْ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ.
ــ
[الفواكه الدواني]
عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» أَيْ حِينَ نَذَرَهُ، وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ التَّصَدُّقَ بِهِ أَوْ عِتْقَهُ عَلَى تَقْدِيرِ إنْ مَلَكَهُ لَلَزِمَهُ إنْ مَلَكَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ أَوْ عِتْقُهُ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْإِقْدَامِ عَلَى نَذْرِ التَّصَدُّقِ بِمَالِ الْغَيْرِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِ الْغَيْرِ.
وَفِي الشَّاذِلِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبَحَثَ فِيهِ الْأُجْهُورِيُّ وَارْتَضَى حُرْمَتَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا كُلَّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِمِلْكِهِ، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ إنْ مَلَكَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ.
وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ يَنْقَسِمُ إلَى يَمِينٍ وَغَيْرِ يَمِينٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ أَمْرٍ أَوْ لَا قَالَ: (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (إنْ فَعَلْت نَذْرَ كَذَا، وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ) بِلِسَانِهِ أَوْ يَنْوِيهِ بِقَلْبِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ) أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ زِيَارَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ، وَلَوْ مَيِّتًا (أَوْ) مِنْ تَطَوُّعِ (حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَدَقَةِ شَيْءٍ سَمَّاهُ) مِنْ مَالِهِ كَدِينَارٍ أَوْ شَاةٍ مَثَلًا (فَذَلِكَ) الَّذِي نَذَرَهُ وَسَمَّاهُ، وَإِنْ مُعَيَّنًا اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ (يَلْزَمُهُ إنْ حَنِثَ) بِفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَلَوْ مُحَرَّمًا (كَمَا يَلْزَمُهُ) مَا سَمَّاهُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (لَوْ نَذَرَهُ مُجَرَّدًا) أَيْ (مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ) بِأَنْ اقْتَصَرَ عَلَى صِيغَةِ النَّذْرِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ هَذَا الدِّينَارُ أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّذْرَ إنْ عُلِّقَ عَلَى أَمْرٍ لِقَصْدِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: لَا لِامْتِنَاعٍ مِنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ مِنْهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: النَّاذِرُ لِشَيْءٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ تَارَةً يُعَيِّنُ قَدْرًا فَيَلْزَمُ، وَتَارَةً يُعَيِّنُ مَا مِنْهُ النَّذْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَيَلْزَمُ أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّوْعِ الْمُسَمَّى مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نَذْرٍ، كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الصَّوْمِ،، وَهَكَذَا الصَّدَقَةُ أَقَلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا، وَلَوْ رُبُعَ دِرْهَمٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مَالِي، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ مَالِي فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُهُ كَمَا يَأْتِي. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِدَارِي أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُسَمِّيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ سِوَى الدَّارَ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا سَمَّى، وَإِنْ مُعَيَّنًا أَتَى عَلَى الْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ شَيْئًا أَوْ تَلَفَّظَ بِغَيْرِهِ فَالْمُعْتَبَرُ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ لَا مَا تَلَفَّظَ بِهِ بِلِسَانِهِ كَالْمُخَالَفَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِصَلَاةٍ أَوْ حَجٍّ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تَخَالَفَا فَالْعَقْدُ وَفِي الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا لَفْظُهُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَنْ سَمَّى دَارًا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا قَالَ التَّتَّائِيُّ: وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَتَهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ مِنْ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ.
الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّذْرَ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَصَدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ أَوْ لَا، وَإِنْ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يُقْضَى بِهِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَفَاءَ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَمَعَ الْقَضَاءِ لَا نِيَّةَ، وَمِثْلُ النَّذْرِ فِي عَدَمِ الْقَضَاءِ لَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فِي يَمِينٍ وَحَنِثَ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِبَتٍّ مُعَيَّنٍ نَحْوَ: عَبْدِي مَرْزُوقٌ حُرٌّ.
قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ بَتَّ عِتْقَ عَبْدٍ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَهُ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِدَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيُؤْمَرُ بِهَا، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، اُنْظُرْ التَّتَّائِيَّ وَغَيْرَهُ.
الثَّالِثُ: إذَا نَذَرَ حَجًّا أَوْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَشْيُ إلَّا مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَأَمَّا لَوْ عَجَزَ عَنْ التَّوَجُّهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ لَا مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِنَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَذْرِ غَيْرِ الْمَنْدُوبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حُكْمِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ شَرَعَ فِي حُكْمِ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ) النَّاذِرُ (لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا (مِنْ الْأَعْمَالِ) الْمَعْدُودَةِ لِلْبِرِّ، وَلَا مِنْ الذَّوَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرٌ ثُمَّ فَعَلَهُ (فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ عِنْدَ مَالِكٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ كَفَّارَةً، وَلَغْوًا وَاسْتِثْنَاءً، فَمَحِلُّ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَثْنِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا.
قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَاللَّغْوِ وَالْغَمُوسِ وَالْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا يَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَ النَّذْرِ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الِاتِّحَادَ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَقَدْ سَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْحَلِفِ بِعِشْرِينَ نَذْرًا عِشْرِينَ كَفَّارَةً، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا بِأَنْ عَيَّنَ مَا نَذَرَهُ بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا عَيَّنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا هُنَا مَفْهُومُ مَا سَبَقَ. (فَرْعٌ) قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ لَا يُكَفِّرُهُ صِيَامٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَيُكَفِّرْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ لَا كَفَّارَةَ لَهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَيُخْرِجَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ.
وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ) يَحْرُمُ قَتْلُهَا، وَلَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (أَوْ) مِنْ (شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ شِبْهِهِ) مِنْ كُلِّ مُغَيِّبٍ لِلْعَقْلِ (أَوْ) نَذَرَ فِعْلَ (مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ
وَإِنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَجَرَّأَ وَفَعَلَهُ أَثِمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِيَمِينِهِ.
وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، وَمِيثَاقُهُ فِي يَمِينٍ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ.
وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَكَّدَ الْيَمِينَ فَكَرَّرَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ غَيْرُ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَمَنْ قَالَ أَشْرَكْت بِاَللَّهِ وَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ الِاسْتِغْفَارِ.
وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا
ــ
[الفواكه الدواني]
وَلَا مَعْصِيَةٍ) كَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ مِثَالُ الْمُبَاحِ عَلَيَّ نَذْرُ بَيْعِ هَذِهِ السِّلْعَةِ أَوْ لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ، وَمِثَالُ الْمَكْرُوهِ نَذْرُ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مَنْدُوبًا وَطَاعَةً فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كُرِهَ لِعَارِضٍ فَيَدْخُلُ نَذْرُ يَوْمٍ مُكَرَّرٍ وَرَابِعِ النَّحْرِ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا لِأَجْلِ قَوْلِهِ:(وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ) أَيْ يَتُوبُ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِصَدَقَةٍ بِفَلْسٍ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ رُجُوعُ الِاسْتِغْفَارِ إلَى كُلِّ مَا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ حَتَّى الْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى حُرْمَةِ نَذْرِهِمَا، وَفَسَّرْنَا الِاسْتِغْفَارَ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ إذَا أَطْلَقَتْهُ تُرِيدُ بِهِ التَّوْبَةَ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُهَا إنْ كَانَ مَا اقْتَرَفَهُ مَعْصِيَةً، وَنَدْبُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَحَرَّرَهُ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ حَلَفَ) الْمُكَلَّفُ (بِاَللَّهِ) أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ (لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ زَيْدًا (فَلْيُكَفِّرْ) وُجُوبًا (عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَنْ (يَفْعَلَ ذَلِكَ) الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ. وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِمَّا لَا تُكَفَّرُ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَاقُ الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ الْعَبْدِ لَكِنْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَبَرَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ:(وَإِنْ تَجَرَّأَ وَفَعَلَهُ) أَيْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي (أَثِمَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِيَمِينِهِ) إنْ كَانَتْ يَمِينُهُ مِمَّا تُكَفَّرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ، وَلَا عِتْقٌ لِفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
(وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ) بِشَدِّ الْيَاءِ (عَهْدُ اللَّهِ) أَيْ بَقَاؤُهُ (وَمِيثَاقُهُ فِي يَمِينٍ) وَاحِدَةٍ أَيْ فِي الْحَلِفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا (فَحَنِثَ) بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ (فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ) ؛ لِأَنَّ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ يَمِينٌ، وَمِيثَاقُهُ يَمِينٌ أُخْرَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الصِّيَغِ الْمَحْلُوفِ بِهَا سَوَاءٌ تَرَادَفَ مَعْنَاهَا كَمَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ يَرْجِعَانِ لِكَلَامِ اللَّهِ وَإِلْزَامِهِ، وَكَالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ وَالْكِتَابِ، أَوْ اخْتَلَفَ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي أَوْ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، سَوَاءٌ قَصَدَ الْحَالِفُ بِتَعَدُّدِهَا التَّأْكِيدَ أَوْ الْإِنْشَاءَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَفَّارَاتٍ فَتَتَعَدَّدُ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى مَا تَعَدَّدَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَتَكَرَّرَتْ إنْ قَصَدَ تَكَرُّرَ الْحِنْثِ أَوْ كَانَ الْعُرْفُ كَعَدَمِ تَرْكِ الْوِتْرِ أَوْ نَوَى كَفَّارَاتٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ وَحْدَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَمَّا لَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ مَا أُكَلِّمُ زَيْدًا، وَعَلَيَّ مِيثَاقٌ أَوْ عَهْدٌ لَا أُكَلِّمُ عَمْرًا فَيَفْعَلُ الْجَمِيعَ وَيُكَلِّمُهُمَا فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ.
(وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَكَّدَ) أَيْ قَوَّى (الْيَمِينَ فَكَرَّرَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ) أَيْ فِي الْحَلِفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ (غَيْرُ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَفَعَلَهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّأْسِيسَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَصَدَ التَّأْسِيسَ وَالْإِنْشَاءَ وَأَوْلَى إنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ: وَوَاللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ، وَإِنْ قَصَدَهُ أَيْ التَّأْسِيسَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَالظِّهَارُ مِثْلُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّأْكِيدَ إذَا كَرَّرَهَا بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَكَانَ فِسْقًا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ يُشَدَّدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاق الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ يَحْصُلُ بِهِ مَا لَا يَحْصُلُ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَفْهُومٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا الْيَمِينُ.
الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ إلَّا فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عِنْدَ تَعَدُّدِهِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ وَنَذْرٌ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الِاتِّحَادَ، وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلَا يَلْزَمُ عِنْدَ التَّعَدُّدِ إلَّا كَفَّارَةٌ إلَّا فِي مَسَائِلَ أَشَارَ إلَيْهَا الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَكَرَّرَتْ إنْ قَصَدَ تَكَرُّرَ الْحِنْثِ أَوْ كَانَ الْعُرْفُ كَعَدَمِ تَرْكِ الْوِتْرِ أَوْ نَوَى كَفَّارَاتٍ بِحَلِفِهِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَكَرَّرَ الْيَمِينَ وَنَوَى إنْ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ، أَوْ قَالَ لَا، وَلَا عَلَيَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكَرَّرَ لَفْظَ الْقَسَمِ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْنَثَ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي أَلْفَاظٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْعَوَامُّ عِنْدَ قَصْدِهَا الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ:(وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ (أَشْرَكْت بِاَللَّهِ) أَوْ كَفَرْت بِاَللَّهِ (أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ) قَاصِدًا نَفْسَهُ (أَوْ) قَالَ هُوَ (نَصْرَانِيٌّ) أَوْ يَكُونُ عَابِدَ صَنَمٍ أَوْ يَكُونُ خِنْزِيرًا (إنْ فَعَلَ كَذَا) أَيْ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَفَعَلَهُ (فَلَا يَلْزَمُهُ) شَيْءٌ (غَيْرُ الِاسْتِغْفَارِ) ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ، وَمَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا فِي زَوْجَتِهِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ.
وَمَنْ جَعَلَ مَالَهُ صَدَقَةً أَوْ هَدْيًا أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ.
وَمَنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
ذَكَرَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ يَمِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ لِارْتِكَابِهِ أَمْرًا مُحَرَّمًا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى التَّوْبَةِ التَّقَرُّبَ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ كَعِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلَ كَذَا يَكُونُ مُرْتَدًّا أَوْ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَكُونُ وَاقِعًا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَنْ حَلَفَ بِنَحْوِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى مَعَ قَصْدِ تَعْظِيمِهَا فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَصَدَ بِكَالْعُزَّى التَّعْظِيمَ فَكَفَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ إتْيَانِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ مِنْ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلَ كَذَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَى أَهْلِهِ زَانِيًا فَاسِقًا وَيَفْعَلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ زَانِيًا بِمَنْ كَانَتْ زَوْجَةً إذَا كَانَ طَلَاقُهَا ثَلَاثًا، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ هَذَا بَحْثٌ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا.
(تَنْبِيهٌ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ ارْتِدَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْيَمِينِ يَقْتَضِي بِحَسَبِ مَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْرَكَ بِاَللَّهِ أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَكُونُ مُرْتَدًّا يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يَحْصُلُ بِهَا الِارْتِدَادُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ فِي بَابِ الرِّدَّةِ.
(وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ) مِنْ طَعَامٍ أَوْ مِنْ شَرَابٍ أَوْ لُبْسِ ثَوْبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِإِثْمِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ وَالْمُحَلِّلَ إنَّمَا هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وَقَالَ - تَعَالَى -: وَ {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، وَإِنَّمَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَائِلِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا لَيْسَ لَغْوًا قَالَ:(إلَّا) التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ مِنْ الْمُكَلَّفِ (فِي زَوْجَتِهِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا طَلَاقُهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ الطَّلَاقَ فَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ثَلَاثًا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ (إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ) ، وَلَا يَنْوِي فِي الدُّخُولِ بِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَمَةِ فَكَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يَلْزَمُ بِتَحْرِيمِهِ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِتَحْرِيمِ الْأَمَةِ عِتْقَهَا فَتُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا وَبِصَدَاقٍ وَشُهُودٍ كَالْأَجْنَبِيَّةِ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ لَغْوٌ، وَمَا يُقَالُ مِنْ لُزُومِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ فِي الْأَمَةِ؛ «لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَفَّرَ فِي الْأَمَةِ» فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام إنَّمَا كَفَّرَ لِحَلِفِهِ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَقْرَبَ أُمَّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهَا.
(تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: مَنْ قَالَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُهُ أَوْ الْأَيْمَانَ تَلْزَمُهُ أَوْ كُلَّ الْأَيْمَانِ تَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْأَيْمَانِ أَنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا وَحَنِثَ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ حَتَّى صَوْمِ سَنَةٍ إنْ اُعْتِيدَ الْحَلِفُ بِهِ، وَيَلْزَمُهُ فِي الزَّوْجَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَزِيدَ فِي الْأَيْمَانِ تَلْزَمُنِي صَوْمُ سَنَةٍ إنْ اُعْتِيدَ حَلِفٌ بِهِ، وَهَذَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: يَلْزَمُهُ فِي الزَّوْجَةِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْثَرَ.
الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ: عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إنْ فَعَلْت كَذَا وَفَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَتَاتُ فِي الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ مَنْ يَمْلِكُهُ يَوْمَ يَمِينِهِ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَالْحَجُّ مَاشِيًا، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ مَا ذُكِرَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِالطَّلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمَشْيِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَاحْتِيطَ وَأُلْزِمَ الْحَالِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي اُعْتِيدَ الْحَلِفُ بِهَا، إمَّا لِلْحَالِفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بَشِيرٍ، أَوْ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، لَا مَا لَا يُعْرَفُ الْحَلِفُ بِهِ لِأَحَدٍ كَمَشْيٍ لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ اعْتِكَافٍ أَوْ تَرْبِيَةِ أَيْتَامٍ فَلَا يَلْزَمُ قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ الْعَادَةِ فِي الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ فَرْحُونٍ وَالْجَمِيعُ تَابِعُونَ لِلْقَرَافِيِّ حَتَّى قَالَ: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِمَا فِي الْكُتُبِ حَيْثُ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ؛ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعَادَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ حَيْثُ تَغَيَّرَتْ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي السُّؤَالُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِ الْحَالِفِ، وَيَعْمَلُ بِعُرْفِ بَلَدِهِ، وَلَوْ خَالَفَ الْمُسَطَّرَ فِي الْكُتُبِ.
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ الشَّارِعِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْظُرُ إلَّا لِمَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ، وَلَوْ خَالَفَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَوَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْعُرْفُ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَافْهَمْ فَإِنَّهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حَلَلْت حُرِّمْت فَهَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا؟ . فِي جَوَابِهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ إنْ قَصَدَ كُلَّمَا حَلَّ لِي الْعَقْدُ عَلَيْك فَهُوَ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ حَرَامٌ، وَلَمْ يَقْصِدْ بَعْدَ نِكَاحِهَا، وَإِنْ قَصَدَ كُلَّمَا حَلَلْت وَتَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ حَرَامٌ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ فَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي لِكَثْرَةِ قَصْدِ النَّاسِ لَهُ.
(وَمَنْ جَعَلَ) أَيْ صَيَّرَ (مَا لَهُ صَدَقَةً أَوْ) جَعَلَهُ (هَدْيًا) إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ جَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ أَوْ الْحَلِفِ وَحَنِثَ
حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ فَإِنْ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ أَهْدَى هَدْيًا يُذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ حَلِفِهِ فَلْيَمْشِ إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ رَكِبَ
ــ
[الفواكه الدواني]
(أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ) حِينَ يَمِينِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَثُلُثُهُ حِينَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِيَ بِمَا لِي فِي كَسَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ وَالرِّبَاطُ بِمَحَلٍّ خِيفَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ الْمُوَطَّإِ:«أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت الذَّنْبَ فِيهَا وَأُجَاوِرُك وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ؟ فَقَالَ لَهُ عليه الصلاة والسلام: يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» فَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام: يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ فَرْعُ شُغْلِ الذِّمَّةِ، وَمَالُهُ يَشْمَلُ عَرَضَهُ وَدَيْنَهُ وَقِيمَةَ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ مِنْهُ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ثُلُثُ مَالِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ دُيُونَهُ وَمَهْرَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّمَا الثُّلُثُ بِحِينِ يَمِينِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ وَعِنْدَهُ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَحْنَثْ حَتَّى نَقَصَ فَالْمُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْبَاقِي، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِخْرَاجُ حَتَّى ضَاعَ الْمَالُ، وَلَوْ جَمِيعُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِتَفْرِيطٍ عَلَى مَا فِي هِبَاتِ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِشَارِحِهَا أَبِي الْحَسَنِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ جَعَلَ مَالَهُ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى شَيْئًا كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ كَبَيْتٍ أَوْ سِلْعَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ، وَلَوْ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا سَمَّى، وَإِنْ مُعَيَّنًا أَتَى عَلَى الْجَمِيعِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِمَالِي إلَّا كَذَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ، وَلَوْ قَلَّ الْفَرْقُ بَيْنَ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ وَبَيْنَ مَنْ سَمَّى يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا سَمَّاهُ، إنَّ مَنْ سَمَّى لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَبْقَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَلَوْ ثِيَابَ ظَهْرِهِ، وَمَنْ قَالَ مَالِي، وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مَالِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَخَفَّفَ عَنْهُ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِثُلُثِهِ.
الثَّانِي: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَجْزَأَهُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ، وَلَوْ لِمُعَيَّنٍ لَا يُقْضَى بِهِ، وَمِثْلُهُ الصَّدَقَةُ أَوْ الْحَبْسُ إذَا كَانَتْ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَلِمُعَيَّنٍ لَقَضَى بِهَا؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رضي الله عنه: مَنْ الْتَزَمَ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، فَالْهِبَةُ وَنَحْوُهَا إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ يَمِينٍ يُقْضَى بِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ خَلِيلٍ.
الثَّالِثُ: لَوْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَا يَسْتَفِيدُهُ أَبَدًا أَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا أَسْتَفِيدُهُ صَدَقَةٌ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَيَّنَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ مَا يَكْتَسِبُهُ أَوْ يَسْتَفِيدُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ يَدْفَعُهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا.
(وَمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَحَنِثَ أَوْ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ. (فَإِنْ ذَكَرَ) الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ أَوْ نَوَى فِي قَلْبِهِ (مَقَامَ إبْرَاهِيمَ) الْخَلِيلِ أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ وَلَدِهِ فِي الْتِزَامِهِ ذَبْحِهِ وَفَدَاهُ بِالْهَدْيِ لَا مَقَامَ الصَّلَاةِ. (أَهْدَى) أَيْ أَخْرَجَ وُجُوبًا (هَدْيًا) يُجْزِئُ ضَحِيَّةً (يَذْبَحُ) أَوْ يَنْحَرُ (بِمَكَّةَ) إنْ لَمْ يَسُقْ فِي حَجٍّ وَيُوقَفُ بِهِ فِي عَرَفَةَ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِلَّا ذُكِّيَ فِي مِنًى، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْأَعْلَى كَبَدَنَةٍ، وَإِلَّا فَبَقَرَةٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ:(وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ) لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ قَدَرَ عَلَى أَعْلَى مِنْهَا.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بَلْ مِثْلُهُ لَوْ نَوَى أَوْ ذَكَرَ مَوْضِعَ النَّحْرِ كَمَكَّةَ أَوْ مِنًى أَوْ مَوْضِعًا مِنْ مَوَاضِعِهَا أَوْ لَفَظَ بِالْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ فِي الْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْهَدْيِ أَوْ ذِكْرَهُ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقُرْبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْحَلِفِ. (وَ) مَفْهُومُ مَا تَقَدَّمَ (إنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ) ، وَلَا نَوَاهُ، وَلَا لَفَظَ بِالْهَدْيِ، وَلَا ذَكَرَ مَوْضِعَ الذَّبْحِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْقُرْبَةَ بَلْ قَصَدَ قَتْلَ وَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ هَدْيٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نَذَرَ نَحْرَهُ أَوْ حَلَفَ بِنَحْرِهِ عَبْدَهُ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَلَا يَلْزَمُ فِي مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِهَا أَوْ كُلِّ مَا أَكْتَسِبُهُ أَوْ هَدْيٍ لِغَيْرِ مَكَّةَ أَوْ مَالِ غَيْرٍ إنْ لَمْ يُرِدْ إنْ مَلَكَهُ أَوْ عَلَى نَحْرِ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا إنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْهَدْيِ أَوْ يَنْوِهِ أَوْ يَذْكُرْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ، فَالْأَحَبُّ حِينَئِذٍ بَدَنَةٌ كَنَذْرِ الْهَدْيِ ثُمَّ بَقَرَةٌ.
(وَمَنْ حَلَفَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ) ، وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صِيَامًا بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ إلَى جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ كَالْحَجَرِ وَالْمُلْتَزَمِ وَالرُّكْنِ وَالْبَابِ (فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ)، وَمِثْلُ الْحَلِفِ لَوْ نَذَرَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ يَمْشِي (مِنْ مَوْضِعٍ) نَوَاهُ فِي النَّذْرِ وَالْحَلِفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ نَذْرِهِ، وَفِي الْحَلِفِ مِنْ مَوْضِعِ (حَلِفِهِ) فَإِنْ حَنِثَ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَلِفِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ إنْ كَانَ مِثْلَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ فِي الْبُعْدِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَلَوْ يَسِيرًا رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَمَشَى مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَشْيَ جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِهِ وَيُهْدِي، وَقَوْلُنَا فِي الْبُعْدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمَسَافَةِ لَا فِي الصُّعُوبَةِ وَالسُّهُولَةِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا لِمَشْيِهِ الْمَشْيُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ لِلْحَالِفِينَ، وَلِغَيْرِهِمْ أَوْ لِلْحَالِفِينَ فَقَطْ، وَإِنْ اخْتَلَفَ طَرِيقُ الْحَالِفِينَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فَيَجُوزُ الْمَشْيُ، وَلَوْ مِنْ الْقَرِيبَةِ حَيْثُ اُعْتِيدَ الْمَشْيُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِينَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِ
ثُمَّ يَرْجِعُ ثَانِيَةً إنْ قَدَرَ فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ قَعَدَ، وَأَهْدَى وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَرْجِعُ ثَانِيَةً، وَإِنْ قَدَرَ وَيُجْزِئُهُ الْهَدْيُ، وَإِذَا كَانَ صَرُورَةً جَعَلَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةٍ فَإِذَا طَافَ وَسَعَى وَقَصَّرَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ بِفَرِيضَةٍ، وَكَانَ مُتَمَتِّعًا وَالْحِلَاقُ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
نَذْرِهِ أَوْ حَلِفِهِ. وَإِذَا خَرَجَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (فَلْيَمْشِ) أَيْ يَجْعَلْ مَشْيَهُ (إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ اُعْتِيدَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ إلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُجَاوَزَتُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا الْمُصْطَفَى عليه الصلاة والسلام وَالْمُتَرَدِّدُ عَلَيْهَا كَالْحَطَّابِ وَالْفَكَّاهِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا لَوْ عَيَّنَ نَذْرَهُ حِينَ حَلِفِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ.
قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَلْزَمُ: وَمَشَى لِمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَلَوْ لِصَلَاةٍ وَلَوْ نَافِلَةً.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ نَاذِرَ الْمَشْيِ أَوْ الْحَالِفَ بِهِ غَيْرُنَا وَشَيْئًا يُخَيَّرُ فِي إحْرَامِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَيَّدَهُ اللَّخْمِيُّ بِمَنْ كَانَ مَحَلُّهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِمَشْيِهِ إلَّا الْحَجَّ فَهَذَا يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِي حَجٍّ فَقَطْ لَا عُمْرَةٍ.
الثَّانِي: الْمُصَنِّفُ بَيَّنَ مَبْدَأَ الْمَشْيِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَايَتِهِ، وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لِتَمَامِ الْإِفَاضَةِ وَسَعْيِهَا أَيْ فَيَمْشِي لِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إنْ جَعَلَ مَشْيَهُ فِي حَجٍّ، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ يَمْشِي حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سَعْيِهَا.
الثَّالِثُ: مَفْهُومُ قَوْلِهِ: حَلَفَ بِالْمَشْيِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ بِالْمَسِيرِ أَوْ الذَّهَابِ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، أَيْ لَا يَلْزَمُهُ مَشْيٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَاشِيًا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَلَغَى عَلَى الْمَسِيرِ وَالذَّهَابِ وَالرُّكُوبِ لِمَكَّةَ، وَمُطْلَقِ الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَكَّةَ، وَلَا الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ رَاكِبًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَشْيَ. (فَإِنْ قِيلَ) الْمَسِيرُ وَالذَّهَابُ كَالْمَشْيِ فَلِمَ لَزِمَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ فِي الْمَشْيِ دُونَ غَيْرِهِ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُرْفَ اُشْتُهِرَ فِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمَشْيِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ لَفْظِ نَحْوِ الْمَسِيرِ أَوْ الرُّكُوبِ، وَأَيْضًا السُّنَّةُ جَاءَتْ بِذَلِكَ.
الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ تَسْمِيَةِ مَكَّةَ تَسْمِيَةُ الْبَيْتِ أَوْ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ أَوْ عَرَفَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ أَوْ يَنْوِيَ الْحَجَّ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَى عَرَفَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ.
الْخَامِسُ: كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ الرُّكُوبَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا رُكُوبُ الْبَحْرِ، وَلَوْ اُعْتِيدَ لِسَفَرِ الْحَجِّ إلَّا لِضَرُورَةٍ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَبَحْرٌ اُضْطُرَّ لَهُ لَا اُعْتِيدَ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَصُورَةُ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَنْذُرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ مَثَلًا.
السَّادِسُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ النَّاذِرِ مِنْ بَلَدِهِ وَسَكَتَ عَمَّا لَوْ كَانَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ بِالْمَشْيِ قَاطِنًا بِمَكَّةَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَخَرَجَ مَنْ بِهَا وَأَتَى بِعُمْرَةٍ، فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ، وَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ قَصْدَ النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ الْإِتْيَانُ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا وَأَوَّلُ ذَلِكَ الْحِلُّ.
السَّابِعُ: يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَلْيَمْشِ إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حَجَّةَ الصَّرُورَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي أَوْ أَنَّ مَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الصَّرُورَةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي وَعَلَى الصَّرُورَةِ جَعَلَ مَشْيَهُ فِي عُمْرَةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ التَّحْقِيقِ.
(فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ) النَّاذِرُ أَوْ الْحَالِفُ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُعْتَقِدًا الْقُدْرَةَ عَلَى مَشْيِ جَمِيعِ الطَّرِيقِ (رَكِبَ) فِي بَقِيَّةِ الْمَسَافَةِ وَيَمْضِي عَلَى فِعْلِهِ (ثُمَّ يَرْجِعُ) مَرَّةً (ثَانِيَةً إنْ قَدَرَ فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ) بِشَرْطَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ رَكِبَ كَثِيرًا أَوْ يَكُونَ رَكِبَ الْمَنَاسِكَ فَقَطْ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى وَالْكَثْرَةُ بِحَسَبِ مَسَافَتِهِ. وَالشَّرْطِ الثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ حِينَ رُجُوعِهِ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ يَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لَهُ وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ بَلْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ أَنْ يَمْشِيَ الْجَمِيعَ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ إنْ قَدَرَ بِقَوْلِهِ:(فَإِذَا عَلِمَ) مَنْ أَلْزَمْنَاهُ الرُّجُوعَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ (أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ) عَلَى الْمَشْيِ إذَا رَجَعَ سَقَطَ عَنْهُ الرُّجُوعُ، وَ (قَعَدَ وَأَهْدَى) كَمَا لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ مَعَ عَجْزِهِ فَإِنَّهُ يَرْكَبُ وَيُهْدِي، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ نَوَى أَنَّهُ لَا يَمْشِي إلَّا مَا لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ مَشْيُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَرْكَبُ، وَلَوْ كَانَ شَابًّا وَيُهْدِي وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ. (وَقَالَ عَطَاءُ) بْنُ أَبِي رَبَاحٍ الْفَقِيهُ لَا الْمُحَدِّثُ (لَا يَرْجِعُ ثَانِيَةً، وَإِنْ قَدَرَ) عَلَى الْمَشْيِ فِي رُجُوعِهِ (وَيُجْزِئُهُ الْهَدْيُ) عَنْ الْمَشْيِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَرَجَعَ وَأَهْدَى إنْ رَكِبَ كَثِيرًا، وَإِذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِي مِثْلِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَيَّنَ شَيْئًا لَا بِلَفْظٍ، وَلَا نِيَّةٍ فَلَهُ الْمُخَالَفَةُ.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ عَجَزَ إلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَرْجِعُ ثَانِيَةً وُجُوبُ الرُّجُوعِ، وَلَوْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعِيدًا جِدًّا كَإِفْرِيقِيَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَحَلُّ لُزُومِ الرُّجُوعِ ثَانِيَةً إنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ كَالْمِصْرِيِّ، وَمَنْ قَارَبَهُ لَا مَنْ بَعُدَ جِدًّا كَالْإِفْرِيقِيِّ، وَمَنْ يُقَارِبُهُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْ الْمِصْرِيِّ فَلَا يَلْزَمُهُ رُجُوعٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْهَدْيُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مَنْ رَكِبَ قَلِيلًا كَالْإِفَاضَةِ أَوْ كَانَ الْعَامَّ مُعَيِّنًا وَرَكِبَ جَمِيعَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُهْدِي، وَلَا
غَيْرِ هَذَا أَفْضَلُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّقْصِيرُ فِي هَذَا اسْتِبْقَاءً لِلشَّعَثِ فِي الْحَجِّ.
وَمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُمَا رَاكِبًا إنْ نَوَى الصَّلَاةَ بِمَسْجِدَيْهِمَا، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
، وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَسَاجِدَ فَلَا يَأْتِيهَا مَاشِيًا وَلَا
ــ
[الفواكه الدواني]
يَرْجِعُ، وَكَذَا لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِعُذْرٍ، بِخِلَافِ لَوْ عَيَّنَ الْعَامَ وَتَرَكَ الْمَشْيَ فِيهِ اخْتِيَارًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي ثَانِي عَامٍ. (وَإِذَا كَانَ) الْحَالِفُ بِالْمَشْيِ الْمُبْهَمِ أَوْ النَّاذِرُ (صَرُورَةً) أَيْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ (جَعَلَ ذَلِكَ) الْمَشْيَ (فِي عُمْرَةٍ) يُوَفِّي بِهَا نَذْرَهُ (فَإِذَا طَافَ وَسَعَى) لَهَا (وَقَصَّرَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ) وُجُوبًا (مِنْ مَكَّةَ بِفَرْضِهِ) لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ النَّذْرِ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الصَّرُورَةِ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْفَوْرِ، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ عَلَى جِهَةِ الْإِبْهَامِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِيمَا عَيَّنَهُ، وَمَفْهُومُ صَرُورَةٍ أَنَّ غَيْرَ الصَّرُورَةِ يَجْعَلُ مَشْيَهُ الْمُبْهَمَ فِيمَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ.
(تَنْبِيهٌ) أَشْعَرَ قَوْلُهُ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ وَبَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ وَتَقْصِيرِهِ يُحْرِمُ بِحَجٍّ أَنَّهُ لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ نَاوِيًا نَذْرَهُ وَفَرْضَهُ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ عَنْ النَّذْرِ، وَهَلْ إجْزَاؤُهُ عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ حَجًّا بِأَنْ نَذَرَ عُمْرَةً أَوْ مَشْيًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ حَجًّا فَلَا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ إجْزَاؤُهُ عَنْ النَّذْرِ فَقَطْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ حَجّ نَاوِيًا نَذْرَهُ وَفَرْضَهُ قَارِنًا أَجْزَأَ عَنْ النَّذْرِ، وَهَلْ إنْ لَمْ يَنْذِرْ حَجًّا تَأْوِيلَانِ.
(وَ) حَيْثُ جَعَلَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ مَشْيَهُ الْمُبْهَمَ فِي عُمْرَةٍ (كَانَ مُتَمَتِّعًا) أَيْ صَارَ مُتَمَتِّعًا لِإِتْمَامِ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجِّهِ فِي عَامِهِ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ حَيْثُ كَانَ آفَاقِيًّا. (وَالْحِلَاقُ فِي) حَقِّ (غَيْرِ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّقْصِيرُ فِي هَذَا) الَّذِي جَعَلَ مَشْيَهُ فِي عُمْرَةٍ (اسْتِبْقَاءً لِلشَّعَثِ فِي الْحَجِّ) الْوَاجِبِ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي عَامِهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَمَامِ عُمْرَتِهِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُطْلَبُ مِنْهُ بَقَاءُ شَعَثِهِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» وَغَيْرُ النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ الْمَذْكُورِ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ الْحِلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ بَقَاءُ الشَّعَثِ (تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ نَذَرَهُ، مِنْهَا: مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ أَوْ نَذَرَهُ وَنَوَى الرُّجُوعَ مِنْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَفِي هَذَا خِلَافٌ قِيلَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِغْفَارُ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إنْ مَشَى فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ بِعُمْرَةٍ إنْ مَشَى قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمِنْهَا: مَنْ نَوَى عِنْدَ نَذْرِهِ أَوْ حَلِفِهِ فِعْلَ خُصُوصِ الطَّوَافِ فَقِيلَ إنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِلَا إحْرَامٍ، وَأَيْضًا الطَّوَافُ عِبَادَةٌ يَجُوزُ انْفِرَادُهَا، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ هَذَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ. وَأَمَّا لَوْ نَوَى السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خَاصَّةً فَيَنْبَنِي عَلَى نَاذِرِ طَاعَةٍ نَاقِصَةٍ، فَمَنْ أَلْزَمَ نَذْرَ الطَّاعَةِ النَّاقِصَةِ يَقُولُ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إلَّا أَثَرَ طَوَافٍ، وَمُقَابِلُهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَالِفِ أَوْ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ شَرَعَ فِي النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ) نَذَرَ الْمَشْيَ (إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُمَا) ، وَلَوْ (رَاكِبًا) ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَشْيِ إنَّمَا يَجِبُ فِي نَذْرِهِ إلَى مَكَّةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ، وَلَوْ كَانَ حِينَ النَّذْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهَلَّ وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِهَا أَوْ إلَّا لِكَوْنِهِ بِأَفْضَلَ خِلَافٌ، ثُمَّ بَيَّنَ شَرْطَ لُزُومِ الْإِتْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَوْلِهِ:(إنْ نَوَى) بِمَشْيِهِ أَيْ سَيْرِهِ إلَيْهِمَا (الصَّلَاةَ) ، وَلَوْ نَفْلًا، وَمِثْلُ الصَّلَاةِ الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ (بِمَسْجِدَيْهِمَا) وَيَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ تَسْمِيَتُهُمَا.
قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَلْزَمُ: وَمَشَى لِلْمَدِينَةِ أَوْ إيلْيَاءَ إنْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةً بِمَسْجِدَيْهِمَا أَوْ يُسَمِّهِمَا فَيَرْكَبُ (، وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَنْوِ الصَّلَاةَ، وَمَا مَعَهَا بِمَسْجِدَيْهِمَا، وَلَا سَمَّاهُمَا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ هَدْيٍ، وَلَا غَيْرِهِ؛ لِتَرْكِهِ الْإِتْيَانِ إلَيْهِمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْمَشْيِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ نَاذِرِهِ إلَى مَكَّةَ فَإِنَّهُ اُشْتُهِرَ فِي الْإِتْيَانِ إلَيْهَا لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ، وَلَوْ لِصَلَاةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَاذِرَ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةً، وَلَا صَوْمًا، وَلَا غَيْرَهُمَا وَيَجْعَلُهُ عِنْدَ التَّعْيِينِ فِيمَا عَيَّنَهُ، وَعِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا نَاذِرُ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِهَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إيلْيَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ فِيهِمَا.
وَشَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ فِي غَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا) نَاذِرُ الْمَشْيِ إلَى أَحَدِ الْمَسَاجِدِ (غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَسَاجِدَ) مَسْجِدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَإِيلْيَاءَ (فَلَا) يَلْزَمُهُ أَنْ (يَأْتِيَهَا) مِنْ مَوْضِعِ نَذْرِهِ لَا (مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا لِصَلَاةٍ نَذَرَهَا) فِيهَا، وَلَا لِاعْتِكَافٍ، وَلَا لِصَوْمٍ. (وَلْيُصَلِّ) أَوْ يَعْتَكِفْ أَوْ يَصُمْ (بِمَوْضِعِهِ) ، وَلَا يَتْرُكُ فِعْلَ مَا نَذَرَهُ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَيَسْقُطُ عَنْهُ السَّعْيُ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلْيُصَلِّ بِمَوْضِعِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهِ قَرِيبًا لِمَوْضِعِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ وَمُقَابِلُهُ يُحْكَى الْخِلَافُ فِي الْقَرِيبِ جِدًّا، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ إلَيْهِ، وَقِيلَ: يَفْعَلُ مَا نَذَرَهُ بِمَوْضِعِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَرُبَ جِدًّا كَالْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ.
قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يُلْغَى:
رَاكِبًا لِصَلَاةٍ نَذَرَهَا وَلْيُصَلِّ بِمَوْضِعِهِ.
وَمَنْ نَذَرَ رِبَاطًا بِمَوْضِعٍ مِنْ الثُّغُورِ فَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ.
ــ
[الفواكه الدواني]
وَمَشْيٌ لِمَسْجِدٍ، وَإِنْ لِاعْتِكَافٍ إلَّا الْقَرِيبَ جِدًّا فَقَوْلَانِ.
قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ إنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَلَوْ لِاعْتِكَافٍ أَوْ صَلَاةٍ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِمَوْضِعِ نَذْرِهِ إلَّا الْقَرِيبُ جِدًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ بِالْإِتْيَانِ إلَيْهِ وَعَدَمِهِ وَيَفْعَلُ مَنْذُورَهُ بِمَوْضِعِهِ كَالْبَعِيدِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ خَبَرُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ خَبَرُ:«مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ وَخُصَّتْ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ بِهَا فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرَهَا.
(تَنْبِيهٌ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ نَاذِرَ زِيَارَةَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم أَوْ زِيَارَةَ رَجُلٍ صَالِحٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْ النَّاذِرِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ؛ لِتَوَقُّفِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَلَى السَّعْيِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ نَاذِرِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَفَاضُلَهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ.
وَلَكِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ دُونَهُمَا فِي الْفَضْلِ، فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ، ثُمَّ مَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْمَنْسُوبَةِ لَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ، وَمَسْجِدِ الْعِيدِ، وَمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَغَيْرِهَا، اُنْظُرْ التَّتَّائِيَّ وَالْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالتَّفْضِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِمَا، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي غَيْرِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَعَلَى الْكَعْبَةِ وَعَلَى الْعَرْشِ كَمَا نَقَلَهُ السُّبْكِيُّ لِضَمِّهِ أَجْزَاءِ الْمُصْطَفَى الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَعَلَّ مَعْنَى فَضْلِ الْقَبْرِ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِهِ، لَا لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَفْضِيلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى بَعْضِهَا فَافْهَمْ.
وَلَمَّا كَانَ الرِّبَاطُ كَالْجِهَادِ فِي الثَّوَابِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ رِبَاطًا) أَيْ إقَامَةً (بِمَوْضِعٍ مِنْ الثُّغُورِ) بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَغْرٍ مَحَلُّ الْخَوْفِ كَدِمْيَاطَ وَعَسْقَلَانَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّة (فَذَلِكَ) الرِّبَاطُ الْمَذْكُورُ (عَلَيْهِ) أَيْ النَّاذِرِ (أَنْ يَأْتِيَهُ) ؛ لِأَنَّ الرِّبَاطَ قُرْبَةٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهَا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ نَذَرَ الرِّبَاطَ بِمَحَلٍّ، وَهُوَ بِثَغْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ مَا نَذَرَ الرِّبَاطَ فِيهِ مُسَاوِيًا لِمَا هُوَ بِهِ فِي الْخَوْفِ أَوْ أَقَلَّ رَابَطَ بِمَحَلِّ نَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا نَذَرَ الرِّبَاطَ فِيهِ أَشَدَّ خَوْفًا انْتَقَلَ إلَيْهِ لِفَضْلِ الرِّبَاطِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْخَوْفُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْخَوْفِ، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ.
(تَنْبِيهٌ) كَمَا يَلْزَمُ الْإِتْيَانُ لِلثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ فِيهِ، يَلْزَمُ الْإِتْيَانُ لِنَذْرِ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حِينَ النَّذْرِ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ لَا لِنَذْرِ اعْتِكَافٍ، لِأَنَّ مَحَلَّ الرِّبَاطِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلِاعْتِكَافِ، وَأَيْضًا الْمُرَابَطَةُ تُنَافِي الِاعْتِكَافَ؛ لِقِصَرِهِ عَلَى مُلَازَمَةِ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، بِخِلَافِ نَذْرِهِ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَيَلْزَمُ كَلُزُومِ الْإِتْيَانِ إلَيْهَا لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِهَا.