الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حول الناسخ والمنسوخ في القرآن
خَصصَ الفادي المفترِي حَيِّزاً كبيراً من كتابِه للاعتراضِ على النسخِ في
القرآن، وإِثارةِ الشبهاتِ والإِشكالاتِ عليه.
وجَعَلَ تلك الاعتراضاتِ في المباحثِ التالية: عُيوبُ الناسخِ والمنسوخ..
وأَمثلةٌ للناسخِ والمنسوخ..
والأَسبابُ الحقيقيةُ للناسخِ والمنسوخ.
وبدأَ كلامَه بذكرِ أَربعةِ آياتٍ أَخبرتْ
عن النسخِ في القرآن، هي: سورة البقرة: 106.
وسورة النحل: 151.
وسورة الرعد: 39.
وسورة الحج: 52.
وتحتَ عنوان: " عُيوب الناسخِ والمنسوخ " سَجَّلَ ستةَ عيوبٍ لوجودِ
النسخ في القرآن! وادَّعى أَنَّ القرآنَ وحْدَه الذي فيه ناسخٌ ومنسوخ، من بينِ سائرِ الكتبِ الدينية، ووجودُ النسخ في القرآن دَليلٌ على أَنه ليس كلامَ الله، لأَنَّ " كَلامَ اللهِ الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه الناسخُ والمنسوخ ".
ولا يهمُّنا البحثُ عن الناسخِ والمنسوخِ في التوراةِ والإِنجيل، وإِنما
يهمُّنا ثقريرُ الأَساسِ المنطقيِّ المنهجيِّ للنظرِ إِلى النسخِ في القرآن، فالنسخُ في
القرآنِ ليس مشكلة، ولا يَتناقَضُ مع العقلِ والمنطق، فاللهُ هو الحاكمُ المشرعُ سبحانه، يُشَرِّعُ ما شاءَ من الأَحكام وفقَ حكمَتِه سبحانه، ويَجعلُ بعضَ تلك الأَحكامِ موقوتةً بزمنٍ محدَّد، وفقَ حكمتِه سبحانه، وعندما يَنتهي ذلك الزمنُ ويُحقِّقُ ذلك الحكمُ هَدَفَه يَنسخُه اللهُ ويُلْغيه، وفقَ حكمتِه سبحانه..
فالحكْمُ السابقُ شَرَعَه الله، والحكمُ الناسخُ له فيما بعد شَرَعَه الله، وبما أَنَّ الناسخَ والمنسوخَ من عندِ الله، فاللهُ الحكيمُ العليمُ يَفعلُ ما يشاء، لا رادَّ لأَمْرِه، ولا مُعَقِّبَ لحكْمِه..
وهذا معناه أَنَّ الفادي المفترِي كاذبٌ في زعمِه أَنَّ كلامَ اللهِ
الحقيقيَّ لا يَجوزُ فيه النسخ.
وبعد هذه المقدمةِ العقليةِ المنهجيةِ نَبحثُ عن النسخ في القرآن، هل
تَحَدَّثَ القرآنُ عن النسخ؟
فإذا وردتْ آيةٌ واحدةٌ في القرآن، فإِنها كافيةٌ لإِثباتِ النسخِ وإِيمانِنا به، لأَنَ القرآنَ يُعلِّمُنا المنهجيةَ العلمية، ويَجعَلُ عُقولَنا تَابعةً لكلامِ الله، فاهمةً متدبِّرَةً له، تَدورُ معه حيثُ دار، وتَقولُ بما قالَ به، وتُؤمِنُ
بما وردَ فيه، ولا يَجوزُ لأَيِّ عقلٍ أَن يكونَ فوقَ كلامِ الله، وأَنْ يكونَ هو
الحَكَمَ والمهيمنَ على كَلامِ الله.
أَكثرُ من آيةٍ قَررت النسخ، وجعلَتْه بيدِ الله، منها قولُه تعالى:(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) ، فاللهُ هو الذي يَنسخُ
الآيةَ أَو يُنْسِيْهَا، واللهُ هو الذي يأْتي بخيرٍ منها أَو مثلِها، واللهُ على كل شيء
قديرٌ، وهو الحكيمُ الخبير.
ومنها قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
إِننا نعتمدُ على هاتيْن الآيتيْن في إِيمانِنا بالنسخِ في القرآن، وفي فهمِنا للناسخِ والمَنسوخِ أولاً: لا عيوب في النسخ في القرآن:
سَجَّلَ الفادي الجاهلُ ستةَ عيوبِ للنسخِ في القرآن..
وهي لا تَصمدُ أَمامَ النظرِ والبحث، ولا تَثبتُ أَمامَ المنَهجيةِ والعلمية:
1 -
اعتبرَ الجاهلُ النسخَ مُتَناقِضاً مع الحكمةِ والصدقِ والعلم، فقال:
" لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ في كلام الله ضدّ حكمتِه وصدْقِه وعلْمِه، فالإِنسانُ
القصيرُ النظرِ هو الذي يَضعُ قوانين، ويُغَيّرُها ويُبدلُها بحسبِ ما يَبدو له من
أَحوالٍ وظروف..
لكنَّ اللهَ يَعلمُ بكلِّ شيء قبلَ حدوثِه، فكيفَ يُقالُ: إِنَّ اللهَ
يُغيرُ كلامَه ويبدلُه وينسخُه ويُزيلُه؟
أَليسَ من الأَوفقِ أَنْ ئنزهَ اللهَ فنقولَ: ليس اللهُ إِنْساناً فيكذب، ولا ابنَ إِنسانٍ فيندم؟! " (1) .
(1) جاء في كتاب شبهات المشككين ما نصه:
9-
الكلام المنسوخ
النسخ فى اللغة هو الإزالة والمحو، يقال: نسخت الشمسُ الظلَّ، يعنى أزالته ومحته، وأحلت الضوء محله.
ثم تطورت هذه الدلالة فأصبح النسخ يطلق على الكتابة، سواء كانت نقلاً عن مكتوب، أو ابتدأها الكاتب بلا نقل.
والنُّساخ أو الوراقون هم جماعة من محترفى الكتابة كانوا ينسخون كتب العلماء (ينقلون ما كتب فيها فى أوراق جديدة فى عدة نسخ، مثل طبع الكتب الآن) .
أما النسخ فى الشرع فله عدة تعريفات أو ضوابط، يمكن التعبيرعنها بالعبارة الآتية:
" النسخ هو وقْفُ العمل بِِحُكْمٍٍ أَفَادَه نص شرعى سابق من القرآن أو من السنة، وإحلال حكم آخر محله أفاده نص شرعى آخر لاحق من الكتاب أو السنة، لِحكمة قصدها الشرع، مع صحة العمل بحكم النص السابق، قبل ورود النص اللاحق (1) والنسخ موجود بقلة فى القرآن الكريم، مثل نسخ حبس الزانيات فى البيوت حتى الموت، وإحلال الحكم بالجلد مائة، والرجم حتى الموت محل ذلك الحبس (2) .
النسخ ووروده فى القرآن، على أن القرآن ليس وحياً من عند الله. ونذكر هنا عبارة لهم صوَّروا فيها هذه الشبهة:
" القرآن وحده من دون سائر الكتب الدينية، يتميز بوجود الناسخ والمنسوخ فيه، مع أن كلام الله الحقيقى لا يجوز فيه الناسخ والمنسوخ؛ لأن الناسخ والمنسوخ فى كلام الله هو ضد حكمته وصدقه وعلمه، فالإنسان القصير النظر هو الذى يضع قوانين ويغيرها ويبدلها بحسب ما يبدو له من أحوال وظروف.
لكن الله يعلم بكل شئ قبل حدوثه. فكيف يقال إن الله يغير كلامه ويبدله وينسخه ويزيله؟
ليس الله إنساناً فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم؟!
* الرد على هذه الشبهة:
نحن لا ننكر أن فى القرآن نسخاً، فالنسخ موجود فى القرآن بين ندرة من الآيات، وبعض العلماء المسلمين يحصرها فيما يقل عن أصابع اليد الواحدة، وبعضهم ينفى نفياً قاطعاً ورود النسخ فى القرآن (3) .
أما جمهور الفقهاء، وعلماء الأصول فيقرونه بلا حرج، وقد خصصوا للنسخ فصولاً مسهبة فى مؤلفاتهم فى أصول الفقه، قل من لم يذكره منهم قدماء ومحدثين. والذى ننكره كذلك أن يكون وجود النسخ فى القرآن عيباً أو قدحاً فى كونه كتاباً منزلاً من عند الله. ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النار.
إن الناسخ والمنسوخ فى القرآن، كان إحدى السمات التربوية والتشريعية، فى فترة نزول القرآن، الذى ظل يربى الأمة، وينتقل بها من طور إلى طور، وفق إرادة الله الحكيم، الذى يعلم المفسد من المصلح، وهو العزيز الحكيم.
أما ما ذكرتموه من آيات القرآن، ساخرين من مبدأ الناسخ والمنسوخ فيه فتعالوا اسمعوا الآيات التى ذكرتموها فى جداول المنسوخ والناسخ وهى قسمان:
أحدهما فيه نسخ فعلاً (منسوخ وناسخ) .
وثانيهما لا ناسخ فيه ولا منسوخ فيه، ونحن نلتمس لكم العذر فى هذا " الخلط " لأنكم سرتم فى طريق لا تعرفون كيفية السير فيه.
القسم الأول: ما فيه نسخ:
من الآيات التى فيها نسخ، وذكروها فى جدول الناسخ والمنسوخ الآيتان التاليتان:(واللاتى يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن فى البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا)(4) .
ثم قوله تعالى: (الزانية والزانى فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة فى دين الله 000)(5) .
هاتان الآيتان فيهما نسخ فعلاً، والمنسوخ هو حكم الحبس فى البيوت للزانيات حتى يَمُتْنَ، أو يجعل الله لَهُنَّ حكماً آخر.
وكان ذلك فى أول الإسلام. فهذا الحكم حكم حبس الزانية فى البيت، حين شرعه الله عز وجل أومأ فى الآية نفسها إلى أنه حكم مؤقت، له زمان محدد فى علم الله أزلاً. والدليل على أن هذا الحكم كان فى علم الله مؤقتاً، وأنه سيحل حكم آخر محله فى الزمن الذى قدره الله عز وجل هو قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلاً (. هذا هو الحكم المنسوخ الآن وإن كانت الآية التى تضمنته باقية قرآناً يتلى إلى يوم القيامة.
أما الناسخ فهو قوله تعالى فى سورة "النور" فى الآية التى تقدمت، وبين الله أن حكم الزانية والزانى هو مائة جلدة، وهذا الحكم ليس عامّا فى جميع الزناة. بل فى الزانية والزانى غير المحصنين. أما المحصنان، وهما اللذان سبق لهما الزواج فقد بينت السنة قوليًّا وعمليًّا أن حكمهما الرجم حتى الموت.
وليس فى ذلك غرابة، فتطور الأحكام التشريعية، ووقف العمل بحكم سابق، وإحلال حكم آخر لاحق محله مما اقتضاه منهج التربية فى الإسلام.
ولا نزاع فى أن حكم الجلد فى غير المحصنين، والرجم فى الزناة المحصنين، أحسم للأمر، وأقطع لمادة الفساد.
وليس معنى هذا أن الله حين أنزل عقوبة حبس الزانيات لم يكن يعلم أنه سينزل حكماً آخر يحل محله، وهو الجلد والرجم حاشا لله.
والنسخ بوجه عام مما يناسب حكمة الله وحسن تدبيره، أمَّا أن يكون فيه مساس بكمال الله. فهذا لا يتصوره إلا مرضى العقول أو المعاندين للحق الأبلج الذى أنزله الله وهذا النسخ كان معمولاً به فى الشرائع السابقة على شريعة الإسلام.
ومن أقطع الأدلة على ذلك ما حكاه الله عن عيسى عليه السلام فى قوله لبنى إسرائيل: (ولأحل لكم بعض الذى حُرِّم عليكم)(6) .
وفى أناجيل النصارى طائفة من الأحكام التى ذكروها وفيها نسخ لأحكام كان معمولاً بها فى العهد القديم.
ومثيروهذه الشبهات ضد القرآن يعرفون جيداً وقوع النسخ بين بعض مسائل العهد القديم والعهد الجديد. ومع هذا يدعون بإصرار أن التوراة والأناجيل الآن متطابقان تمام الانطباق (7) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(يا أيها النبى حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)(8) .
وقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)(9) .
والآيتان فيهما نسخ واضح. فالآية الأولى توجب مواجهة المؤمنين لعدوهم بنسبة (1: 10)، والآية الثانية توجب مواجهة المؤمنين للعدو بنسبة (1: 2) .
وهذا التطور التشريعى قد بين الله الحكمة التشريعية فيه، وهى التخفيف على جماعة المؤمنين فى الأعباء القتالية فما الذى يراه عيباً فيه خصوم الإسلام؟
لو كان هؤلاء الحسدة طلاب حق مخلصين لاهتدوا إليه من أقصر طريق، لأن الله عزوجل لم يدع مجالاً لريبة يرتابها مرتاب فى هاتين الآيتين. لكنهم يبحثون عن " العورات " فى دين أكمله الله وأتم النعمة فيه، ثم ارتضاه للناس ديناً.
وقد قال الله فى أمثالهم:
(ولو نزلنا عليك كتاباً فى قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين)(10) .
ومن هذا القسم أيضاً الآيتان الآتيتان:
(والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصيةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج
…
) (11) .
وقوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً
…
) (12) .
أجل، هاتان الآيتان فيهما نسخ؛ لأن موضوعهما واحد، هو عدة المتوفى عنها زوجها.
الآية الأولى: حددت العدة بعام كامل.
والآية الثانية: حددت العدة بأربعة أشهر وعشر ليال.
والمنسوخ حكماً لا تلاوة هو الآية الأولى، وإن كان ترتيبها فى السورة بعد الآية الثانية.
والناسخ هو الآية الثانية، التى حددت عدة المتوفى عنها زوجها بأربعة أشهر وعشر ليال، وإن كان ترتيبها فى السورة قبل الآية المنسوخ حكمها.
وحكمة التشريع من هذا النسخ ظاهرة هى التخفيف، فقد استبعدت الآية الناسخة من مدة العدة المنصوص عليها فى الآية المنسوخ حكمها ثمانية أشهر تقريباً، والمعروف أن الانتقال من الأشد إلى الأخف، أدعى لامتثال الأمر، وطاعة المحكوم به.. وفيه بيان لرحمة الله عز وجل لعباده. وهو هدف تربوى عظيم عند أولى الألباب.
القسم الثانى:
أما القسم الثانى، فقد ذكروا فيه آيات على أن فيها نسخاً وهى لا نسخ فيها، وإنما كانوا فيها حاطبى ليل، لا يفرقون بين الحطب، وبين الثعابين، وكفى بذلك حماقة.
وها نحن نعرض نموذجين مما حسبوه نسخاً، وهو أبعد ما يكون عن النسخ.
النموذج الأول:
(لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى)(13) .
(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)(14) .
زعموا أن بين هاتين الآيتين تناسخاً، إحدى الآيتين تمنع الإكراه فى الدين، والأخرى تأمر بالقتال والإكراه فى الدين وهذا خطأ فاحش، لأن قوله تعالى (لا إكراه فى الدين) سلوك دائم إلى يوم القيامة.
والآية الثانية لم ولن تنسخ هذا المبدأ الإسلامى العظيم؛ لأن موضوع هذه الآية " قاتلوا " غير موضوع الآية الأولى: (لا إكراه فى الدين) .
لأن قوله تعالى: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) له سبب نزول خاص. فقد كان اليهود قد نقضوا العهود التى أبرمها معهم المسلمون. وتآمروا مع أعداء المسلمين للقضاء على الدولة الإسلامية فى المدينة، وأصبح وجودهم فيها خطراً على أمنها واستقرارها. فأمر الله المسلمين بقتالهم حتى يكفوا عن أذاهم بالخضوع لسلطان الدولة، ويعطوا الجزية فى غير استعلاء.
أجل: إن هذه الآية لم تأمر بقتال اليهود لإدخالهم فى الإسلام. ولو كان الأمر كذلك ما جعل الله إعطاءهم الجزية سبباً فى الكف عن قتالهم، ولاستمر الأمر بقتالهم سواء أعطوا الجزية أم لم يعطوها، حتى يُسلموا أو يُقتلوا وهذا غير مراد ولم يثبت فى تاريخ الإسلام أنه قاتل غير المسلمين لإجبارهم على اعتناق الإسلام.
ومثيرو هذه الشبهات يعلمون جيداً أن الإسلام أقر اليهود بعد الهجرة إلى المدينة على عقائدهم، وكفل لهم حرية ممارسة شعائرهم، فلما نقضوا العهود، وأظهروا خبث نياتهم قاتلهم المسلمون وأجلوهم عن المدينة.
ويعلمون كذلك أن النبى (عقد صلحاً سِلْمِيًّا مع نصارى تغلب ونجران، وكانوا يعيشون فى شبه الجزيرة العربية، ثم أقرهم عقائدهم النصرانية وكفل لهم حرياتهم الاجتماعية والدينية.
وفعل ذلك مع بعض نصارى الشام. هذه الوقائع كلها تعلن عن سماحة الإسلام، ورحابة صدره، وأنه لم يضق بمخالفيه فى الدين والاعتقاد.
فكيف ساغ لهؤلاء الخصوم أن يفتروا على الإسلام ما هو برئ منه؟
إنه الحقد والحسد. ولا شىء غيرهما، إلا أن يكون العناد.
النموذج الثانى:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما)(15) .
(إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه)(16) .
والآيتان لا ناسخ ولا منسوخ فيهما. بل إن فى الآية الثانية توكيداً لما فى الآية الأولى، فقد جاء فى الآية الأولى:" فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "
ثم أكدت الآية الثانية هذا المعنى: (رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فأين النسخ إذن؟.
أما المنافع فى الخمر والميسر، فهى: أثمان بيع الخمر، وعائد التجارة فيها، وحيازة الأموال فى لعب الميسر " القمار " وهى منافع خبيثة لم يقرها الشرع من أول الأمر، ولكنه هادنها قليلاً لما كان فيها من قيمة فى حياة الإنسان قبل الإسلام، ثم أخذ القرآن يخطو نحو تحريمها خطوات حكيمة قبل أن يحرمها تحريماً حاسماً، حتى لا يضر بمصالح الناس.
وبعد أن تدرج فى تضئيل دورها فى حياة الناس الاقتصادية وسد منافذ رواجها، ونبه الناس على أن حسم الأمر بتحريمها آتٍ لا محالة وأخذوا يتحولون إلى أنشطة اقتصادية أخرى، جاءت آية التحريم النهائى فى سورة المائدة هذه:(رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) هذه هى حقيقة النسخ وحكمته التشريعية، وقيمته التربوية ومع هذا فإنه نادر فى القرآن. اهـ (شبهات المشككين) .
_________
(1)
هذا التعريف راعينا فيه جمع ما تفرق فى غيره من تعريفات الأصوليين مع مراعاة الدقائق والوضوح.
(2)
الجلد ورد فى القرآن كما سيأتى. أما الرجم فقد ورد قوليا وعمليا فى السنة، فخصصت الجلد بغير المحصنين.
(3)
منهم الدكتور عبد المتعال الجبرى وله فيه مؤلف خاص نشرته مكتبة وهبة بالقاهرة، والدكتور محمد البهى ومنهم الشيخ محمد الغزالى.
(4)
النساء: 15.
(5)
النور: 2.
(6)
آل عمران: 50.
(7)
انظر كتابنا " الإسلام فى مواجهة الاستشراق العالمى " طبعة دار الوفاء.
(8)
الأنفال: 65.
(9)
الأنفال: 66.
(10)
الأنعام: 7.
(11)
البقرة: 240
(12)
البقرة: 234.
(13)
البقرة: 256.
(14)
التوبة: 29.
(15)
البقرة: 219.
(16)
المائدة: 90.
اعتبرَ الجاهلُ النسخَ ثمرةً للبَداء، وهو ظهورُ الشيء بعدَ خَفائِه، واللهُ
منزَّهٌ عن البَداء، لأَنه سبحانه أَحاطَ بكلِّ شيء علْماً، وهو يعلمُ الشيءَ قبلَ
حُدوثِه..
ومن جهلِ الفادي قياسُه فعْلَ اللهِ على فعْل الإِنسان، وعدمُ ملاحظتِه
الفرق بينَ مَقامِ اللهِ وضَعْفِ الإِنسان.
فالإِنسانُ جاهلٌ قَصيرُ النظر، ولذلك يُغَيِّرُ ويُبَدّلُ في قوانينِه، بحسَب ما يَبدو له من علمٍ جَديد.
ونسخُ اللهِ لبعضِ أحكامِه ليس من هذا الباب، فلا بَداءَ في علْمِ الله،
وهو سبحانه يَجعلُ بعضَ أَحكامِه موقوتةً بزمنٍ مُحَدَّد، لتحقيق مصلحةِ
المسلمين، فإِذا انتهى زَمَنُها نَسَخها وأَتى بأَحكامِ أُخْرى بَدَلَها.
وهو العليمُ الخبيرُ الحكيم.
ويُشيرُ إِلى هذه الحقيقةِ قولُه تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) .
فالآيةُ صريحةٌ في تَقريرِ حقيقةِ علْمِ اللهِ بما يُنزل، وجاءَ هذا التقريرُ في جملةٍ معترضةٍ للاستدراك (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) ..
فالنسخُ والتبديلُ في الآياتِ مبنيّ على علْمِ اللهِ بما يُنزلُ قبلَ أَنْ يُنزلَه، فلا بِداءَ فيه.
2 -
ادَّعى الجاهلُ المفترِي أَنه لا يوجَدُ نَسخ في اليهوديةِ والنصرانية،
ونَقَلَ كَلاماً منسوباً لعيسى عليه السلام في نفيِه.
قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ ليس له وُجود في اليهوديةِ ولا في المسيحية.
قالَ المسيح: لا تَظنوا أَنِّي جئتُ لأَنقضَ الناموسَ أَو الأنبياء، ما جئتُ لأنقضَ بل لأُكملَ، فإِنِّي الحقَّ أَقولُ لكم: إلى أنْ تزولَ السمواتُ والأرضُ لا يَزولُ حرفٌ واحدٌ أَو نقطة واحدةٌ من الناموس، حتى يكونَ الكُلّ ".
وادّعاءُ الجاهلِ باطلٌ مردودٌ عليه، وهو مُفْتَرٍ في نفيِه النسخَ بين اليهوديةِ
والنصرانيةِ، وقد نَسَخَ اللهُ برسالةِ عيسى عليه السلام بعضَ الأَحكامِ التي جعلَها على اليهود، وجاءَ هذا المعنى صريحاً في قولِه تعالى:(وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) .
لقد جمعَتْ هذه الآيةُ الحكيمةُ بينَ " الإِحكامِ والنسخ " في رسالةِ
عيسى عليه السلام.
- الإِحكامُ في قوله: ((وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ) .
لقد كانَ عيسى عليه السلام مُصدِّقاً للتوراةِ ومُؤَيّداً لها في الجانبِ المحكَمِ منها الذي لا نَسخَ فيه، وهو الجانبُ الإِيمانى والأَخلاقيُّ والإِخْبارِيّ.
ومعلوم أَنه لا نَسخَ في العقائدِ أَو الأَخلاقِ أَو الأَخبارِ، فالإِنجيلُ موافقٌ تَماماً للتوراةِ النازلةِ على موسى عليه السلام في ذلك وهو لا يَعترفُ بأَسفارِ العهدِ القديمِ التي كَتبها الأَحبارُ ونَسبوها إِلى الله زوراً.
على هذا الجانبِ المحْكَم من التوراة نَحملُ الكلامَ الذي نَسَبَه الفادي
إِلى عيسى عليه السلام إِنْ صَحَّتْ نسبتُه له -! فهو لا يَنقضُ الناموسَ أَو الأَنبياء، وما جاءَ لينقضَ ما وردَ في التوراةِ بل ليُكَمّلَه ويُصَدّقَه، أَيْ: مسائلُ الإِيمانِ المذكورةُ في التوراةِ ثابتةٌ محكَمَة، لا نَسخَ لها، لا في الإِنجيلِ ولا في القرآن.
- والنسخُ في رسالةِ عيسى عليه السلام الموجهةِ إِلى بني إِسرائيلَ في قوله في الآية: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) .
إِنَّ هذه الجملةَ صَريحةٌ في نَسْخِ الإِنجيلِ لبعضِ أَحكامِ التوراة، فقد
كانت بعض الأَشياءِ محرمةً على اليهود، وجاءَ عيسى عليه السلام ليُحِلَّ لهم تلك الأَشياءَ المُحرَّمة، وإِذا كانَ هذا لا يُسَمّى نَسْخاً فماذا يُسَمّى؟!.
ومن الدليلِ على وُقوعِ النسخِ في الشريعةِ اليهوديةِ نفسِها أَنَّ بعضَ
الأَشياءِ كانت مُباحةً لليهود، وشرعَ اللهُ إِباحتَها في التوراةِ النازلةِ على
موسى عليه السلام، ثم حَرَّمَ اللهُ عليهم تلك المباحات، عِقاباً لهم على ظُلمِهم وعُدوانِهم.
قال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) .
كانت بعضُ الطيباتِ مُباحةً لليهود، وبعدما ظَلَموا وبَغَوا عاقَبَهم الله، فنسخَ إِباحتَها، وحَرَّمَها عليهم!.
لقد مَرَّتْ بعضُ الأَحكامِ التىِ شَرَعَها اللهُ لليهودِ بالمراحلِ التالية:
الإِباحةُ، ثم الحرمَةُ عِقاباً لهم، ثم الحِلُّ والإِباحةُ على لسان عيسى عليه السلام.
فكيفَ يتجرأُ الفادي المدَّعي بعدَ ذلك ليقول: لا نَسخَ في اليهوديةِ ولا
في النصرانية؟!.
3 -
من عيوبِ النسخِ في نَظَرِ الفادي أَنه يفتحُ بابَ الكذبِ والادّعاء،
ولذلك لا بُدَّ من منعِه! قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ يَفتحُ بابَ الكذبِ
والادِّعاء، فإِذا قالَ مُدَّعي النبوةِ قَوْلاً وظَهَرَ خَطَؤُه، أَو إِذا اعترضَ عليه
سامِعوه، قال: إِنه منسوخ، ويَأتي بقولي آخَرَ..
فينسخ الله ما يلقي الشيطان، كما يَنسخُ إِلهُ محمدٍ ما يُلقيهِ عليه من قرآن ".
وهذه الشبهةُ مردودةٌ على الجاهل، ولا تُوَجَّهُ إِلى النسخِ في القرآن،
فالأَمْرُ ليس من بابِ الادِّعاءِ والتقوُّل والافتراء، وليسَ كما يفعلُه ويقولُه
الكَذّابون المدَّعون، وإِنما هو من فعْلِ اللهِ سبحانه، ولذلك أُسندَ إِلى اللهِ وليس إِلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم:(مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) .
و (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ..)
وكَلامُ مُدَّعي النبوةِ باطلٌ مردودٌ عليه، سواء ادَّعى النسخَ أَم لا!!.
4 -
تساءلَ الفادي بخبثٍ عن مصيرِ الآياتِ المنسوخة؟
قال: " لأَنَّ محمداً اعتبرَ الناسخَ والمنسوخَ من نفسِ كلامِ الله، فهل كانَ المنسوخُ كَلاماً إِلهيّاً مكتوباً في اللوحِ المحفوظ؟
وهل يَترتبُ على نسخِه في القرآن نسخُه أَيْضاً في اللوحِ المحفوظ؟
وكيفَ يَسمحُ اللهُ لكلامِه العزيزِ بالزوال والإِهمال؟
وإِلّا فلماذا كُتِبَ؟ ".
وهذه الأَسئلَةُ مردودةٌ ومتهافتةٌ ولا وَزْنَ لها، لأَنَّ الراجحَ هو أَنَّ النسخَ
في أَحكامِ القرآنِ وليسَ في آياتِه وكلماتِه، ولم يَثبتْ عندنا آياتٌ منسوخةٌ
بكلماتِها، حتى تُوَجَّهَ لها أَسئلةُ الفادي التشكيكية! فلم تُنْسَخْ كلمةٌ أو آيةٌ
من القراَن، والآياتُ التي أَنزلَها اللهُ على رسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم بَقيتْ كما هي، لم تُنسخْ أَو تُغيّرْ أَو تُبدّلْ، هذا ما نقولُ به، وكلُّ كلام غير هذا مرجوحٌ مردودٌ عندنا.
5 -
ادَّعى الفادي المفترِي أَنه يتعذرُ حصرُ المنسوخِ في القرآن، مما
يجعلُ القرآنَ مُبْهَماً مُلْتبساً مشكوكاً فيه، وإِذا جُرِّدَ القرآنُ من الناسخِ والمنسوخِ لم يبقَ منه شيء!!.
قال: " لأَنَّ الناسخَ والمنسوخَ متغلغلٌ في جميعِ أَجزاءِ القرآن، بحيثُ يتعذَّرُ على الراسخين في العلمِ معرفةُ الناسخِ والمنسوخِ بطريقَةٍ
لا تقبلُ الشك، مما يَجعلُ أَقوالَ القرآنِ مبهمةً ملتبسة ".
وادَّعى أَنَّ السورَ التي فيها منسوخٌ وليسَ فيها ناسخ أَربعونَ سورة،
والسورَ التي فيها ناسخٌ وليس فيها منسوخٌ سِتُّ سُور، والسورَ التي فيها ناسخٌ ومنسوخٌ خمس وعشرون سورة، والسورَ التي ليسَ فيها ناسخٌ ولا مَنسوخ ثلاثٌ وأَربعون سورة.
وخَتَمَ كلامَه بعبارةٍ فاجرةٍ خبجثة، قالَ فيها: " فإِذا جُرِّدَ
القرآنُ من الناسخ والمنسوخ كان كراسةً صغيرة! ومع ذلك ادَّعوا أَنه المعجزةُ
الكبرى "!.
إِنَّ المنسوخَ غيرُ متغلغلٍ في جميعِ أَجزاءِ القرآنِ وسورِه المكيةِ والمدنيَّة،
والأَرقامُ التي ذَكرها المفترِي لأَعدادِ السورِ التي فيها ناسخٌ أَو منسوخٌ مردودة، لأَنه مُبالَغٌ فيها.
والآياتُ التي فيها نسخٌ حَصرَها العلماءُ، والراجحُ أَن هذه
الآياتِ لا تَتجاوزُ عَدَدَ أَصابعِ اليدَيْن!.
ويُصِرّ المفترِي على القولِ بالنسخِ بالتلاوة، أَيْ إِلغاءِ كثيرٍ من آياتِ
القرآن، وهذا رأيٌ مرجوحٌ ومردودٌ عندنا، رغمَ أَنه قالَ به بعضُ علماءِ
المسلمين، والراجحُ عندنا أَنَّ النسخَ إِنما هو في الأَحكامِ فقط، والأَحكامُ
المنسوخةُ في القرآنِ لا تتجاوزُ عشرةَ أَحكام!!.
ومن غباءِ وسخفِ الفادي دعوتُه إِلى تجريدِ القرآنِ من الناسخ
والمنسوخ، وادّعاؤُه أَنه لو حصلَ ذلك لما بقيَ من القرآنِ إِلّا " كراسة صغيرة"!!.
فإذا كانَ " نسخُ التلاوةِ " غيرَ موجودٍ في القرآن، وإِذا كانت الآياتُ
التي نُسختْ أَحكامُها لا تَزيدُ على عشرِ آيات، ولا تَكادُ تملأ صفحةً واحدة، فكيفَ يقولُ هذا الغبيُّ المفترِي ما قال؟!
إِننا نوقنُ أَنّه لم تنسخْ آيةٌ واحدةٌ من القرآن بكلماتِها وصياغتِها، وأَنه لا يمكنُ إِلغاءُ آيةٍ واحدةٍ من القرآن، كما أَننا نوقنُ أَنَّ القرآنَ هو المعجزةُ الكبرى حَقّاً، وأَنه كلامُ اللهِ المحفوظ، لم يُغَيَّرْ منه كلمةٌ واحدة.
6 -
العيبُ السادسُ الذي سَجَّلَه الفادي على النسخِ قَسَّمَ فيه النسخ إِلى
ثلاثةِ أَقسام، وكُلُّها في نظرِه مردودة.
قال: " لأَنَّ النسخَ في القرآنِ عند علماءِ المسلمين ثلاثةُ أَنواع:
فالنوعُ الأَولُ ما نُسِخَ تلاوتُه وحكْمُه، أَيْ: بعدَ كتابتِه وقراءَتِه لم يَكتُبوه ولم يَقرؤوه..
والنوعُ الثاني: ما نُسِخَ حُكمُه وبَقيتْ تلاوتُه، وهو مقدار كبيرٌ من آياتِ القرآن، يَقْرؤونها ويَعتقدون أَنَّ أَحْكامَها ملغِيَّة، فلا يَعملونَ بها..
والنوعُ الثالث: ما نُسخَتْ تلاوَتُه وبقيَ حُكْمُه..
وأَمامَ هذا النوعِ نتساءَل: لماذا يُكلفُنا اللهُ أَنْ نَعملَ بآيةٍ غيرِ موجودة؟
أَلَم يَكن الأَوْلى أَنْ تَبْقى في كتابِه حتى يُحاسِبَنا بمقتضاها؟! ".
صحيحٌ أَنه لم يأتِ بأَقسامِ النسخِ الثلاثةِ من عنده، وأَنه نَقَلَها من بعضِ
المراجعِ الإِسلامية، وأَنه قال بها كثيرٌ من العلماءِ المسلمين، لكنَّ تعليقاتِ
المفتري واستنتاجاتِه مرذولةٌ باطلة.
النوعُ الأَول: ما نُسختْ تِلاوتُه وحُكْمُه.
وفَسَّرَهُ المفترِي بأَنَّ المسلمينَ لم يَكتبوه ولم يَقرؤوه، بعدَ كتابتِه وقراءتِه.
وهذا يَعني أَنهم هم الذين تَصَرَّفوا بالنسخِ في القرآنِ على هواهم، وأَنهم أَهملوا الاهتمامَ بالقرآن، وأَنهم أَسْقَطوا منه كثيراً من آياتِه، وأَضاعوا كثيراً من أَحكامِه.
ورغم أَنَّ كثيراً من السابقين قالوا بهذا النوعِ من النسخِ، إِلّا أَننا لا نقولُ
به، ونَعتبرُه مَرْدوداً، لأَنه لم يثبتْ عندَنا نَسْخُ شيء من أَلفاظِ وكلماتِ القرآن!
النوعُ الثاني: ما نُسِخَ حكْمُه وبقيتْ تلاوتُه.
وعَلَّقَ عليه المفترِي بقولِه: " وهو مقدارٌ كبيرٌ من آياتِ القرآن، يَقرؤونَها ويَعتقدونَ أَنَّ أَحكامها ملغيةٌ فلا يَعملونَ بها ".
وهذا النوعُ هو الوحيدُ في القرآن، فالمنسوخ في القرآنِ هو بعضُ
الأَحكامِ فقط، مع أَنَّ الآياتِ التي عرضَتْ تلك الأَحكام المنسوخة بقيَتْ في
القرآن.
لكن هذه الآياتِ المنسوخة ليستْ كثيرةً كما زعمَ المفترِي، وإنما هي
- آياتٌ قليلة، لا تَتجاوزُ عَشْرَ آيات.
النوع الثالث: ما نُسختْ تلاوتُه وبَقيَ حُكْمُه.
وعَلَّقَ عليه المفترِي بأَنه كانَ الأَوْلى أَنْ تبقى تلك الآياتُ المنسوخةُ في القرآن، وأَنْ لا تُرفَعَ منه.
ومَثَّلَ العلماءُ لهذا النوع من النسخ برجْمِ الزاني والزانية إِذا كانا محصنَيْن
متزوجَيْن، ويَزعمونَ أَنه كانَتْ آيةٌ في القرآن، نَصُّها:" الشيخُ والشيخةُ إِذا زنيا فارجُموهما ألبتة "، فنَسخَها اللهُ من القرآنِ وأَبْقى حكمَها!.
ونحنُ لا نقولُ بهذا النوعِ من النسخ، ونَرى أَنَّ رجمَ الزاني المحصَنِ
ثبتَ بالسُّنَّة وليس بالقرآن، وثبوتُه بالسنة يكفي لاعتمادِه حُكْماً شرعياً.
والخلاصةُ أَنَّ النسخَ الوحيدَ في القرآنِ هو نسخُ الحكمِ مع بقاءِ التلاوة،
والآياتُ التي نُسِخَ حكمُها في القرآنِ قليلةٌ لا تَتجاوزُ عَشْرَ آيات.
ثانياً: أمثلة الناسخ والمنسوخ في القرآن:
عرضَ الفادي الجاهلُ خمسةَ أَمثلةٍ اعتبرَها من " الناسخِ والمنسوخ " في
القرآن، كان يَذكرُ الآيةَ المنسوخة، وبجانبها الآيةَ الناسخة، والحكمَ المنسوخ والحكمَ الناسخ، ومعظمُ هذه الأَمثلةِ لا نسخَ فيها.
ولْننظرْ في الأَمثلةِ التي ذكرها:
1 -
الحكمُ المنسوخُ هو: السِّلْمُ في سبيلِ الدعوة، الذي قَرَّرَه قولُه
تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) .
وقولُه تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) .
وادَّعى المفترِي أَنَّ الحكمَ الناسخَ هو: القتالُ في سبيلِ الدعوة.
وأَنَّ النصَّ الناسخَ هو قولُه تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) .
وقولُه تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) .
وكلامُ المفترِي دليلُ جهْلِه، فالدعوةُ إِلى اللهِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة
أمر مُحْكَم وليس منسوخاً، وهو باقٍ حتى قيامِ الساعة، ودليلُه الآيةُ
المحكمةُ: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) .
وآيةُ سورةِ البقرةِ التي ذَكَرَها الفادي محكمةٌ وليستْ منسوخَة: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا) إِنها تنهى عن إِكراهِ الكافرين من اليهودِ والنصارى وغيرهم على الدخولِ في الإِسلام، وإِجبارهم عليه، لأَنَّ الدينَ لا يَقبلُ الإِجبارَ والإِكراه، وإِنما يقومُ على الرضا والاختيار والاقتناع..
ولكنَّ عدمَ إِكراهِهم على الإِسلام لا يَعْني عدمَ دعوتِهم إِليه، فيجبُ على المسلمينَ أَن يَدْعوهم إِلى الإِسلامِ، ويُقيموا عليهم الحجة، وأَنْ تَكونَ دعوتُهم بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، فإن استجابوا - للدعوةِ أَفْلَحوا، وإِلّا كانوا خاسِرين..
فلا نسخَ في قولِه تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)، ولا نسخ في قوله تعالى:(أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) .
والآياتُ التي تأمُر بقتالِ وجهادِ الكفارِ والمنافقين ليستْ ناسخةً لآياتِ
وجوبِ الدعوةِ إِلى الله، كقولِه تعالى:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) .
وقوله تعالى: (جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) .
لأَنه لا تَعارُضَ بين الآيات ِ الآمرةِ بالجهادِ والقتالِ والآياتِ الآمرةِ بالدعوةِ بالحكمةِ والموعظةِ الحسنة، لأَنَّ القتالَ موجَّهٌ إِلى الأَعداءِ المحاربين، الطامِعين في بلادِ المسلمين، أَو الذينَ يَمنعونَ الدعاةَ من تبليغِ الدعوة، والهدفُ من قتالِهم هو إِيقافُ عدوانِهم، وتحطيمُ قوتِهم، وليس إِكراهَهم على الدخولِ في الإِسلام.
فإِذا تَوقَّفَ الأَعداءُ عن العدوان، قام الدعاةُ بدعوتِهم إِلى هذا
الدين، فإِنْ رَفضوا الدعوةَ وأَصَرّوا على كفرهم، تُرِكوا وشأنهم، وعذابُهم
عندالله!!.
2 -
الحكمُ المنسوخ: هو حبسُ الزانيات، الذي قَرَّرَه قولُه تعالى:(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) .
إذا ارتكبت امرأة فاحشةَ الزنى، وثَبَتَ زِناها بشهادةِ أَربعةِ شهود، وَجَبَ
حبسُها في بيتِ أَهْلِها حتى تَموت، أَو يأتيَ اللهُ بحكْمٍ جديد.
والحكمُ الناسخُ هو جلْدُ الزانيةِ والزاني المحصنَيْن مئةَ جلدة، الذي قَرَّرَه
قولُه تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) .
وهذا المثالُ للنسخ في القرآنِ صَحيح، فآيةُ سورةِ النساء أَمَرَتْ بحبسِ
النساءِ الزانيات، ولكنَّ اللهَ نَسَخَ هذا الحكمَ بآيةِ سورةِ النور، حيثُ أَمَرَ بضربِ الزانيَيْن مئةَ جلدة.
وَأَكَّدَ هذا النسخَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
روى مسلم عن عبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: " خُذوا عَنّي، خُذوا عَنّي، قد جعلَ اللهُ لهنَّ سبيلاً.
البِكْرُ بالبِكْرِ جَلْدُ مئةٍ ونَفْيُ سَنَة، والثَّيّبُ بالثيبِ جلدُ مئةٍ والرجمُ ".
3 -
الحكمُ المنسوخ: ثَباتُ الواحدِ لعشرةٍ من الكفار في القتال، الذي
قرره قوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) .
أَمَرَ اللهُ المؤمنين بقتالِ الكفار، والثباتِ في قتالِهم، وعدمِ الفرارِ
منهم، وأَوجبَ على المسلمِ أَنْ يَثبتَ أَمامَ عشرةِ كفار.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) .
والحكمُ الناسخ هو ثباتُ الواحدِ لاثنين من الكفارِ في القتال، والذي قَرَّرَهُ
قولُه تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ) .
وهذا المثالُ صحيحٌ للنسخِ في القرآن، ويبدو أَنَّ وُجوبَ ثباتِ المؤمنِ
أَمامَ عشرةٍ من الكفارِ كانَ في بدايةِ الدعوةِ الإِسلامية، حيثُ كان عددُ
المسلمين قليلاً، وكانَ إِيمانُهم كبيراً، وكانتْ حماستُهم للقتالِ عالية، ويمكنُ
للمؤمنِ أَنْ يُقاتِلَ عشرةً، وأَنْ يَصمدَ أَمامَهم.
وفيما بعدُ انتشرَ الإِسلام، وازدادَ عددُ المسلمين، ولعلَّه تَدَنّى مستوى
حماسِهم، ودَبَّ فيهم الضعف، فخفَّفَ الله عنهم، ونَسَخَ الحكمَ السابق بحكْمٍ جديد، هو أَنْ يثبتَ المؤمنُ أَمامَ اثنيْن من الكفار.
4 -
الحكمُ المنسوخُ هو: اعتدادُ المتوفّى عنها زوجُها سنةً كاملة،
والذي قَرَّرَهُ قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) .
والحكمُ الناسِخُ هو اعتدادُ المتوفّى عنها زوجُها أَربعةَ أَشهرٍ وعشرةَ أَيام،
الذي قَرَّرَه قولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) .
والراجحُ أَنه لا نَسْخَ في عدةِ المتوفّى عنها زوجُها، وأَنَّ الآيةَ (234)
من سورةِ البقرة التي تأمرُ المرأةَ المتوفّى عنها زوجُها بالعدةِ أَربعةَ أَشهرٍ وعشرةَ
أَيام ليستْ ناسخةً للآية (240) ، التي تتحدثُ عن الإِقامةِ حَوْلاً كاملاً، ولا
تَعارُضَ بين الآيتَيْن حتى نَلجأَ إِلى النسخ.
عِدَّةُ المرأةِ المتوفّى عنها زوجُها هي أَربعةُ أَشهرٍ وعشرةُ أَيام: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
ويَحرمُ عليها أَثناءَ العدةِ أَنْ تُخْطَبَ أَوْ تَتزوج، ويَجبُ عليها أَنْ تقضيَ هذه المدةَ في بيتِ زوجِها المتوفّى.
وقولُه تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) يَجعلُ للمرأةِ المتوفّى عنها زوجُها الحَقَّ في أَنْ تُقيمَ في
بيتِ زوجِها المتوفّى حولاً كاملاً، وذلكَ بأَنْ تزيدَ على مدةِ العِدَّةِ الواجبةِ
عليها، وعلى أَهْلِ زوجِها المتوفّى أَنْ لا يَمنعوها من ذلك، ولكنَّ هذا الحَقَّ
ليس واجباً عليها، فإِنْ خرجَتْ قبلَ انقضاءِ الحولِ جازَ لها ذلك:(فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) .
الآيةُ (234) تتحدَّث عن العِدَّةِ الواجبةِ على المتوفّى عنها زوجُها،
والآيةُ (240) تتحدث عن المدَّةِ الزائدةِ التي يمكِنُ لها أَنْ تُقيمَها المعتدَّةُ في
بيتِ زوجِها المتوفّى، ويَجوزُ لها أَنْ تُقَلِّلَ مدةَ الإِقامةِ عن الحَوْل، لكنَّه لا
يجوزُ لها أَنْ تُنقصَ أَيامَ العِدَّةِ يوماً واحداً.
5 -
الحكمُ المنسوخ: في الخمرِ والميسرِ إِثمٌ وَمنافعُ للناس، الذي قررَه
قولُه تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) .
والحكمُ الناسخ هو تحريمُ الخمرِ والميسرِ لأَنهما رجسٌ من عملِ
الشيطان، والذي قَرَّرَهُ قولُه تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) .
والراجحُ أَنه لا نسخَ في الأَمْرِ، ولا تَعارُضَ بين آيةِ سورةِ البقرة وآيةِ سورةِ المائدة.
فآيةُ سورةِ المائدة نَصتْ على تَحريمِ الخمرِ والميسر، وأَمَرت
المسلمين باجتنابهما، ووصفَتْهما بأَنهما رجسٌ من عملِ الشيطان، وهي الدليلُ القرآنيُّ على حرمةِ الخَمرِ والميسر، حيثُ استقرَّتْ حرمَتُهما حتى قيامِ الساعة.
وآيةُ سورةِ البقرة لا تَتعارضُ معها، حتى نقولَ: إِنها منسوخة، لأَنها
نَزَلَتْ جواباً على سؤالٍ للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وأَخبرتْ أَنّ في الخمرِ والميسر إِثماً كبيراً ومنافعَ للناس:(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) .
فيهما إِثم كبيرٌ لأَنهما رجسٌ من عملِ الشيطان، ولذلك حَرَّمَهما اللهُ في
سورةِ المائدة.
لكن فيهما منافعُ للناس، وتلك موجودةٌ فيهما حتى بعدَ
تحريمِهما، وتتمثَّلُ هذه المنافعُ في المتاجرةِ فيهما صناعةً وبيعاً واكتساباً،
حيثُ تُشادُ مصانعُ للخمر، وتُفتحُ محلاتٌ لبيعِ الخمر، وهذه المصانعُ
والمتاجرُ تَدرُّ رِبحاً ومالاً لأَصحابِها، وهي منافعُ مالية مادية لهم..
لكنَّ هذه المنافعَ لبعضِ الناس مفاسدُ لمعظمِ الناس، ولذلك حَرَّمَ اللهُ الخمرَ رغم هذه المنافعِ للبعض، وجعَلَها أُمَّ الخبائث، للمضارِّ والمفاسدِ التي تُوقِعُها بالناس!.
ثالثاً: الأسباب الحقيقية للناسخ والمنسوخ:
حَشَرَ الفادي المفترِي نفسَه في الناسخِ والمنسوخِ في القرآن، وتعامَلَ معه
بجهْلِهِ وغَبائِه، وفَسَّرَهُ على أَساسِ تَحامُلِه على القرآن، وسوءِ ظَنِّهِ به، واتِّهامِه له، وجَزْمِه بأَنه من كلامِ البَشَر وليس من كلامِ الله.
وحاوَلَ الوقوفَ على الأَسبابِ الحقيقية للنسخِ، وهو بهذهِ النفسيةِ الحاقدةِ العدائية، وزَعَمَ أَنه عَرَفَ الأَسبابَ الحقيقيةَ لسبعةِ أمثلةٍ من النسخِ في القرآن.
ونَنظرُ في الأَسبابِ التي ذَكَرَها لنقفَ على جَهْلِه وتحامُلِه وحِقْدِه:
1 -
لماذا نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام؟ :
زَعَمَ الفادي الجاهلُ أَنَّ القرآنَ حَرَّمَ القتالَ في الشهرِ الحرام.
ولم يَذْكُر الآيةَ التي حَرَّمَتْ ذلك.
ثم زَعَمَ أَن هذه الحُرمةَ نُسخَتْ بالإِباحة، وذلك بآية:
(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) .
والسببُ الحقيقيُّ للنسخِ في نظرِه هو رغبةُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم في السَّلْبِ والنهبِ والقتل، وتبريرُه لذلك، قالَ فَضَّ اللهُ فاه: " جاءت هذه الآية ُ الناسخةُ بعد القتالِ الذي قامَ به عبدُ اللهِ بنُ جحش الأَسديُّ في الشهرِ الحرام، وإِعطائِه خُمس السَّلْبِ لمحمد، وتعييرِ قريشٍ لمحمدٍ بِسببِ ارتكابِ المسلمين القتالَ في الشهرِ الحرام.
فلكَي يُسكتَهم ويُرضي أَصحابَه ويُبررَ سَلَبَه قالَ بهذه الآيةِ الناسخة! ".
محمدٌ صلى الله عليه وسلم في نظره - هو الذي يُؤَلِّفُ آياتِ القرآن، ويَنسبُها إِلى الله، وذلك ليُبررَ بها أَعمالَه ويُرضيَ أَصحابَه!!
هذا هو السببُ الحقيقيُّ عند المجرمِ لنسخِ حرمةِ القتالِ في الشهرِ الحرام.
فقد أَرسلَ عبدَ الله بنَ جحش، ومعه مجموعةٌ من أَصحابِه، فأَغَاروا على تجارةٍ لقريشٍ في الشهرِ الحرام، وقَتَلوا مَنْ فيها، وصادَروها، وأَعْطوا ما فيها للرسولِ صلى الله عليه وسلم فأَلَّفَ آيةً نَسَخَ فيها حرمةَ
القتالِ في الشهرِ الحرام، ليُبررَ فِعْلَه، ويُرضيَ أَصحابَه!!.
وكلامُ الفادي المجرمِ خَطَأ وباطل، وهو دَليلُ جهْلِه وغَبائِه.
لقد كانتْ حادثةُ سريةِ عبد اللهِ بنِ جحش رضي الله عنه في منتصفِ السنةِ الثانيةِ للهجرة، قبلَ غزوةِ بدر، وهي لم تَنسخْ حُرمةَ القتالِ في الشهرِ الحرامِ، ولم تَجعلْ ذلك القتالَ مباحاً، بل اعتبرَتْه مُحَرَّماً، لكنَّ جرائمَ قريشٍ كانت أَكبر.
وخلاصةُ حادثةِ تلك السَّرِيَّةِ أَنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم "شَكَّلَ " سريةً مجاهدةً بقيادةِ عبدِ الله بن جحش رضي الله عنه، وأَمرهم أَنْ يَتَوَجَّهوا إِلى منطقةِ " نَخْلَة "، على طريقِ مكة، وأَنْ يَرْصُدوا فيها قافلةً تجارية لقريش..
ولما كَمَنوا في المنطقةِ مَرَّتْ بهم القافلةُ المرصودة، واخْتلفَ أَصحابُ السريَّةِ في التاريخ: هل هذا اليومُ هو آخرُ أَيامِ شهرِ جمادى الثانية، الذي يَجوزُ القتالُ فيه، أَم هو أَولُ أَيامِ شهرِ رجب المحَرّم الذي يَحرمُ القتالُ فيه؟
ورجَّحوا أَنه آخرُ أَيامِ شهرِ جمادى،
وهاجموا القافلةَ، فَقَتلوا أَحَدَ المشركين، وأَسَروا اثنَيْن، وهربَ الرابعُ إِلى
مكة، ليُخبرَ قُرَيْشاً بما جَرى، وأَتَوا بالقافلةِ والأَموالِ والأَسيرَيْن إِلى
رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وأَثارَتْ قريشٌ حرباً إِعلاميةً ضخمةً ضدَّ المسلمين، وقالَتْ لقبائلِ
العرب: انْظُروا إِلى محمد الذي يَزعمُ أَنه رسولُ الله، وأَنه يحترمُ الحُرُمات،
ها هو ينتهكُ حرمةَ الشهرِ الحرام، الذي أَجمعَ العربُ على تحريمِ القتالِ فيه،
ويَقتلُ أَحَدَ رجالِنا في رجب الحرام!.
فأَنزلَ اللهُ آيةً محكمةً تَرُدُّ على إشاعاتِ قريش، وتُدينُ قتْلَ الرجلِ في
الشهرِ الحرام، وتَذكرُ جرائمَ قريشٍ الكبيرةَ الفظيعةَ بجانبِ قَتْلِ ذلك الرجل!
وهي قولُ اللهِ عز وجل: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا) .
والمعنى: يَسألُ الكفارُ عن حكمِ القتالِ في الشهرِ الحرام، وعن حكمِ
القَتْلِ في الشهرِ الحرام، والجوابُ على سؤالهم أَنَّ القتالَ والقَتْلَ فيه كبيرٌ.
وهذا معناهُ: أَنَّ الصحابةَ الذين قَتَلوا الرجلَ في الشهرِ الحرام كانوا مُخطئين
في اجتهادِهم، لأَنه لا يَجوزُ القتالُ والقتلُ في الشهرِ الحرام.
لكنَّ خطأَ الصحابة في قَتْلِ الرجلِ في الشهرِ الحرام لا يَكادُ يُذْكَرُ أَمامَ
سلسلةِ الجرائمِ التي ارتكبَتْها قريشٌ ضدَّ المسلمين، وذَكرت الآيةُ تلك الجرائمَ بقولها:(وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) .
والمعنى: إِذا أَخطأَ المسلمون بقَتْلِ رجلٍ كافرٍ في الشهرِ الحرام، فإِنَّ
كُفارَ قريشٍ قد ارتكبوا سلسلةً فاحشةً من الجرائم، منها: صَدُّهم عن سبيلِ الله، والكفرُ بالله، والكفرُ والشركُ وعبادةُ غيرِ الله في المسجدِ الحرام، وإِخراجُ أَهْلِ