الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا معناهُ وجوبُ التفريقِ بين استغفارِنا واستغفارِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فاستغفارُنا بسببِ ذنوبِنا ومعاصينا الكثيرةِ المستمرة، وكلُّنا رجاءٌ في الله أَنْ يَغفَرها لنا..
أَمَّا استغفارُ رسولِنا صلى الله عليه وسلم فإِنه ذِكْرٌ منه لله، وقُرْبى يَتقربُ به إِليه.
وقد خَصَّ اللهُ حبيبَه محمداً صلى الله عليه وسلم بمقامِ الشفاعةِ المحمود، حيثُ يَأذَنُ له أَنْ يَشفعَ للناسِ يومَ القيامةِ الشفاعةَ العامَّةَ بفتح بابِ الحساب لهم، ثم يَأْذَنُ له أَنْ يَشفعَ لأَمَّتِه شفاعةً خاصةً بأَنْ يُدخِلَهم الجَنَّة، وشفاعتُه صلى الله عليه وسلم ثابتةٌ في الأَحاديثِ الصحيحةِ المتفقِ عليها، وكُلُّ مسلمٍ يَطمعُ في أَنْ يَسعدَ بتلكَ الشفاعة.
أَمّا الفادي الكافرُ المجرمُ فإِنه محرومٌ من الشفاعة، ولذلك يُنكرُها،
ويشتمُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ْ
***
حول موقف عبد الله بن سعد بن أبي السرح
اتَّهمَ الفادي المجرمُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بأَنَّه أَخَذَ القرآنَ من الناسِ من حولِه، حيث كانَ يُسجلُ أَقوالَهم، ومنهم كاتبُ الوحي عبدُ الله بنُ أَبي السَّرْح.
ذكَرَ تحتَ عنوان: " يُدَوِّنُ أَقوالَ كَتَبَتِه " قولَ اللهِ عز وجل: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ) .
ونقَل عن تفسيرِ البيضاويِّ أَنَّ الآيةَ نازلةٌ في عبدِ اللهِ بن سعدِ بنِ أَبي
السَّرْح، وأنه كان يكتبُ الوحْيَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وأوردَ روايةً عن تفسيرِ البيضاويِّ أَنَّ عبدَ اللهِ بنَ سعدِ بنِ أَبي السَّرْح كان
يكتبُ الوحْيَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأَنه استَدْعاهُ ليكتبَ الآياتِ الأُولى من سورةِ المؤمنون، وكانَ يُملي عليه ويَكتب، فأَملى عليه
قولَه تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) .
فقال ابنُ أَبي السَّرْحِ مُتَعَجِّباً من تفاصيلِ خَلْقِ الإِنسان: " تبارك الله
أحسن الخالقين ".
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكْتُبْهَا فهكذا أُنزلَتْ.
فشكَّ عبدُ الله بنُ أَبي السَّرْح، وقال: لئن كان محمدٌ صادقاً لقد أُوحيَ إِليَّ كما أُوحيَ إِليه، ولئن كانَ كاذباً لقد قُلْتُ كما قال.
ونقلَ الفادي أَنَّ عبدَ اللهِ بن سعدٍ كان يقول بعدما ارتَدَّ: كنتُ أَصْرِفُ
محمداً حيثُ أُريد.
كان يُملي عَلَيَّ: " عَلِيّ حكيم " فَأَكتبُ " عَزيز حكيم ".
فيقول لي: اكتبْ كيفَ شِئْتَ، فكلّ سواء.
قال الفادي المجرم: ولما فَضحَ هذا الكاتِبُ محمداً، أوردَ في القرآنِ قولَه:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) ؟.
صحيح أَنَّ عبدَ اللهَ بنَ أَبي السَّرْح ارتَدَّ عن الإِسلام، ولجأَ إِلى قريشِ
في مكة، لكنَّ الحادثةَ التي أَوردَها الفادي غيرُ صحيحة، وإِنما هي باطلَة
مردودة، فلم يَقُلْ:(تبارك الله أحسن الخالقين) .
ولمَ يأمُرْه الرسول صلى الله عليه وسلم بكتابتِها بعدَ أَنْ نَطَق بها.
ولقد كانَ الفادي الغبيُّ جاهِلاً عندما اعتمدَ على روايةٍ باطلةٍ مَرْدودةٍ،
وبَنى عليها عنوانَه: " يُدَوِّنُ أَقوال كَتَبَتِه".
ولم يَنزل قولُه تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) بشأن عبدِ اللهِ بنِ سعد، لأَنه لم يَدَّعِ النبوةَ ولا الإِتيانَ بمثْلِ القرآن، وكلُّ ما فعَلَ أَنه فُتِنَ فارتَدَّ عن الإِسلام، وعادَ إِلى الكفر، وهَرَبَ إِلى مَكَّة.
ولما فَتَحَ الرسول صلى الله عليه وسلم مكة أَهْدَرَ دمَ مجموعةٍ من الأَعداءِ شديدي
العداوة، الذين ارتكبوا جرائم يَستحقّونَ بها القَتْلَ، وأَمَرَ بقَتْلِهم، ومنهم
عبدُ اللهِ بنُ سعد.
ونَقَلَ الفادي هذه الحادثةَ بقوله: " ولما كان يومُ الفتحِ أَمَرَ محمدٌ بقَتْلِ
كاتبه، ففَرَّ إلى عثمانَ بنِ عفان، لأَنه كانَ أَخاه من الرَّضاعة، فغيَّبَه عثمانُ
عنه، ثم جاءَ به عثمانُ بعدما اطْمَأَنَّ الناس، واستأذَنَ له محمداً..
فصمَتَ محمدٌ طويلاً..
ثم قال: نَعَمْ..
فلما انصرفَ عثمانُ قالَ محمدٌ لمن حولَه:
ما صَمَتُّ عنه إِلّا لتَقْتُلوه.. ".
وعَلَّقَ الفادي المجرمُ الخبيثُ على ما رَواهُ بقولِه: " ونحنُ نَسأل: كيفَ
يكونُ محمدٌ نبياً وهو يستحسنُ أَقوالَ كَتَبَتهِ، ويأمرُ بتدوينِها على أَنَّها وحي؟!
وكيفَ يكونُ محمدٌ نبياً وهو يُؤَمِّنُ عبدَ اللهِ بنَ سعدٍ على حياتِه ثم يُحَرِّضُ
الناسَ على قَتْلِه؟! ".
والفادي مجرمٌ مُحَرِّفٌ، غيرُ أَمينٍ على ما يَنْقُلُهُ، يوردُ ما يتفقُ مع هَواه،
ويَحذفُ ما لا يَتفقُ مع هواه.
وقد روى سعدُ بنُ أَبي وَقّاص رضي الله عنه الحادثة، فقال: " لما كانَ يومُ فتْحِ مكةَ أَمَّنَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الناسَ إِلّا أَربعةَ نَفَرٍ وامرأتين، وقال: اقْتُلوهم، وإِنْ وجدتُموهم متعلِّقينَ بأَستارِ الكعبة: عكرمةُ بنُ أَبي جهل، وعبدُ الله بنُ خَطل، ومقيسُ بنُ صبابة، وعبدُ الله بن سعد بن أبي السرح
…
.
وأمّا عبدُ اللهِ بنُ سعد بن أَبي السَّرْحِ فإِنه اختبأَ عند عثمانَ بن عفان، فلما دَعا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ مكةَ إِلى البيعة، جاءَ بِه حتى أَوقفَه على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقال: بايعْ عبدَ الله..
فرفعَ إِليه رأْسَه، فنظرَ إِليه ثلاثاً، كلُّ ذلك يأبى.. فبايَعَه بعدَ ثلاثٍ
…
ثم أَقبلَ على أصحابه، فقال: أَما كانَ فيكم رجلٌ رشيد، يَقومُ إِلى هذا، حيتُ رآني كَفَفْتُ يدي عن بيعَتِه، فيقْتُلُه!..
فقالوا: وما يُدْرينا يا رسولَ الله ما في نفسِك، هلّا أَوماتَ إِلَيْنا برأسِك؟
قال: إِنه لا يَنْبَغي لنبي أَنْ يكونَ له خائنةُ أَعين!! "..
أخرجه أبو داود والنسائي والبيهقي والحاكم والبزار وأبو يعلى.
عفا الرسولُ صلى الله عليه وسلم عن أهل مكةَ الذين حارَبوه، ولم يأْمُرْ إِلّا بقَتْلِ أَربعةِ رجالٍ وامرأتين، لارتكابهم جرائمَ توجبُ قَتْلَهم.
ومنهم عبدُ الله بنُ سعدِ بنِ أَبي السَّرْح، والذي أوجبَ قتْلَه هو ارتدادُه، فقد كانَ مسلماً ثم كَفَر، وحُكْمُ المرتَدِّ في الإِسلامِ هو القتلُ، لقولِه صلى الله عليه وسلم:"مَنْ بَدَّلَ دينَه فاقْتُلوه ".
فالسببُ في إِهدارِ دَمِه والأمْرِ بقَتْلِه ليس مجردَ مخالفتِه للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما زَعَمَ الفادي المفتري؛ لأَنَّ الرسولَ عليه السلام عفا عن آلافِ الكُفّارِ الذين خالَفوهُ وحارَبوه.
وبسببِ الأُخُوَّةِ في الرَّضاعِ بينَ عبدِ الله بن سعد وبينَ عثمانَ رضي الله عنه، فقد رَقَّ له عثمانُ ولم يَقْتُلْه، وأَخفاهُ عن المسلمين.
ثم أَتَى به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وطَلَبَ منه أَنْ يُبايعَه، وكَلَّمه في ذلك ثَلاث مَرّات، والرسولُ صلى الله عليه وسلم ساكِت؟
لأَنه كارهٌ مبايعَتَه لارتدادِهِ.
وكان صلى الله عليه وسلم في سكوتِه يَنتظرُ قيامَ أَحَدِ الصَّحابَة بقَتْلِه، ولكنَّ ذلك لم يَحصل، فبايَعَه صلى الله عليه وسلم على الإِسلام! ثم لامَ الرسولُ أَصحابَه على عَدَمِ قَتْلِه، وأَخبرَهم أَنه بسكوتِه كان يُريدُ أَنْ يُعطيَهم الفرصةَ لقَتْلِه، لكن لم يَفْهَموا ذلك..
ولما أَخبروه أَنه كانَ يمكنُ أَنْ يومئَ لهم برأْسِه، بحركةٍ تَدُلُّ
على رغبتهِ في قَتْلِه، أَخبرهم أَنه لا يمكنُ أَنْ يفْعل ذلك؛ لأَنه لا يكونُ للنبيِّ
خائنةُ أَعين!!.
وقد حَسُنَ إِسلامُ عبدِ اللهِ بنِ سعد بن أَبي السَّرحِ رضي الله عنه بعد ذلك، وكان والياً على مِصرَ في خلافةِ عُثْمَانَ رضي الله عنه، وهو فاتحُ إفريقية، وخاضَ معاركَ عديدةً ظافرةً ضدَّ الكفارِ، في البَرِّ والبَحْر.
وهذا الموقفُ الأَخلاقيُّ العظيمُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم، حيثُ لم يَرْضَ بالإِشارةِ بحركةٍ غير مناسبة، واعتبرَها من خيانَةِ الأَعين، كانَتْ مثارَ انتقادِ واعتراضِ الفادي المجرم، واعتبرها تحريضاً منه على قَتْلِه:" وكيفَ يكونُ محمدٌ نبياً وهو يُؤَمِّنُ عبدَ الله بن سعد على حياتِه، ثم يُحرّضُ الناسَ على قَتْلِه؟! ".