الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطريق التواتر لوقوع العلم به شيء اخترعته القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول. ولو أنصف الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد" (1).
- وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: "إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم يجري على ذلك كل فرقة .. حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك"(2).
- وقال صاحب "الروض الباسم": "قد انعقد إجماع المسلمين على وجوب قبول الثقات فيما لا يدخله النظر، وليس ذلك بتقليد بل عمل بمقتضى الأدلة القاطعة الموجبة لقبول أخبار الآحاد وهي محررة في موضعها من فن الأصول ولم يخالف في هذا إلا شرذمة يسيرة وهم متكلمو بغداد من المعتزلة والإجماع منطبق قبلهم وبعدهم على بطلان قولهم"(3).
- وللرد على عمارة ينظر إلى كتاب "الصواعق" لابن القيم، و"الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" و"وجوب الأخذ بأحاديث الآحاد" للشيخ الألباني، و"أصل الاعتقاد" للشيخ عمر سليمان الأشقر.
*
ما هكذا يا دكتور عمارة تُورد الإِبلُ:
- يقول في كتابه "المعتزلة ومشكلة الحرية"(5): "نحن في مواجهة
(1)"صون المنطق"(ص 160).
(2)
"الإحكام" لابن حزم (1/ 102).
(3)
"الروض الباسم" لابن الوزير (1/ 32).
خطر السلفية النصوصية الذي يتنكر للعقل والعقلانية ويتعبد بظواهر النصوص حتى ما تعلق منها بوقائع تاريخ السلف وتجاربهم البشرية واجتهاداتهم الإنسانية .. ونحن في مواجهة حركة التغريب التي تسعى إلى تغريب عقل الأمة وطرائق عيشها وأنماط سلوكها .. نواجه خطرًا تعني سيادته استلاب هوية الأمة وتميزها الحضاري وقطع سلسلة تواصلها المعرفي مع تراث الآباء والأجداد .. وبعض هذا الاستلاب متمثل في دعوة المتغربين إلى النمط الغربي في العقلانية تلك التي لا تقيم للنقل وزنًا ولا مكان للوحي فيها ولا التزام لها بشريعة السماء".
ويقول في كتابه "العلمانية"(6): "الذين ينظرون إلى واقعنا الفكري الراهن تزعجهم أبعاد هذا الانقسام بين: سلفية نصوصية تتعبد بظواهر نصوص لا قداسة لها .. وسلفية نصوصية هي الأخرى بظواهر نصوص لم يبدعها سلفنا وإنما أبدعها مفكرو الحضارة الغربية .. ".
ويقول في كتاب "الإسلام والمستقبل"(244): "عندما شرعت أمتنا في مغادرة إطار العصور المملوكية العثمانية إلى رحاب عصر يقظتها وإحيائها ونهضتها وتنويرها من خلف رواد مثل رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وخير الدين التونسي تصارعت على ساحتها واعتركت في أحشائها وتنازعت في عقلها ووجدانها تيارات رئيسية ثلاث: أولها: تيار الجمود الذي استعصم بفكرية العصور الوسطى واعتصم بعد أن أضفى على هذه الفكرية التي جسدت عصر تخلفنا الحضاري قداسة الدين وقدسيته .. وثانيها: تيار التغريب ذلك الذي انبهر أهله بتألق الحضارة الأوربية وإنجازاتها وانتصاراتها .. ".
- قلت: ولا يكاد يخلو كتاب للدكتور دون ذكر هذا التقسيم الثلاثي .. فالأمة عنده قد انقسمت إلى (متخلفين)(جامدين)(نصوصيين)(خرافيين) وإلى (متغربين)(علمانيين) .. وأما التيار الثالث (المنقذ! ) فهو تيار
الأفغاني (السوبرمان! ) أو تيار (السلفيين العقلانيين)(المتنورين)(المجتهدين)(تيار الوسط) .. ! وصفات تيار الجمود أنه يعيش في (خرافات) العصر المملوكي والعثماني وصفات أهل التغريب أنهم مولون ظهورهم للتراث .. وصفات المتنورين أنهم جمعوا الدين والعقل .. إلخ. لا يوجد طائفة أخرى في الأمة داخل هذه القسمة. فكأنه يريد أن يسوق الناس بعصاه إلى تيار الأفغاني كما تساق البهائم في المرعى! فهو يقول لهم: ليس أمامكم.
إلا أن تتغربوا .. فيقولون: أعوذ بالله!
أو أن تتخلفوا .. فيقولون: أعوذ بالله!
إذن فالزموا -حفظكم الله- نهج الأفغاني فالعدو من أمامكم والبحر من خلفكم! دعوة مغطاة إلى مذهب الباطل يتنبه لها كل فطن وهو في هذا الفعل يخون الأمة إذ لم يعرض لها المنهج الصحيح الذي يعرفه .. وهو المنهج السلفي الذي يجمع بين الدين كما عاشه الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة وبين الدنيا التي يحاول أن يبلغ فيها القمة -ولكن تعوقه عوائق يعلمها الدكتور! - فإذا كان الدكتور جاهلاً في المنهج فهو في تفصيلاته أجهل كما سيأتي.
ثم إن الباحث في كتبه -هداه الله- لا يدري هل يجعلنا من المتخلفين أم من المتغربين؟ أما المتغربون فلا أظنه يفعلها لبعد ما بيننا ولأني لم أعثر له على نص واحد في ذلك. وأما المتخلفون فإن الدكتور (يتخبط) في ذلك فتارة تراه يثني على (السلفيين) أو أحد أعلامهم وأنهم ضد التخلف .. وتارة يصمنا بالتخلف! فتعجب أهم ضد أنفسهم مثلاً؛ فهو يقول في كتاب "الطريق إلى اليقظة"(156): "المهام الأولى لليقظة الإسلامية مجابهة الجمود بالاجتهاد والتجديد .. والتصدي للغزوة الاستعمارية بالجهاد والتحرير"، ويجعل (الوهابية) أي (السلفية) كما هو معلوم في مقدمة هذه التيارات
اليَقِظَة .. فهو إذن قد أخرجنا من أهل الجمود والتخلف.
وفي كتاب "التراث في ضوء العقل"(236) يقول: "مصطلح السلفية من المصطلحات التي يحيط بمضمونها الغموض في عدد من الدوائر الفكرية والسياسية في واقعنا العربي والإسلامي والمعاصر فهناك من يرون (السلفية) و (السلفيين) التيار المحافظ والجامد في حياتنا الفكرية وفي الجانب الديني من هذه الحياة على وجه الخصوص .. وهناك من يرون في (السلفية) وأهلها التيار الأكثر تحررًا من الخرافة والبدع ومن ثم الأكثر استنارة في مجال الفكر الديني بالذات"، فهو هنا يصفنا بالجمود! لأنه يعني بالفريقين السابقين نحن والأفغاني! وقد قال عن أهل الجمود في هذا الكتاب (10):"لم يكن في التراث الذي يبشرون به العروبة التي غدت قيمة أعلى الإسلام الحضاري والحضارة العربية الإسلامية مكانها بحكم ما للعرب من مكان الريادة والقيادة في الدين والدنيا بهذا المحيط الذي نعيش فيه .. بل بشروا بالتبعية للعثمانيين في عصر غدت فيه الدولة العثمانية ثوبًا مليئًا بالثغرات التي تسلل منها الغرب الاستعماري في صورة امتيازات وتسهيلات وحماية للأقليات .. إلخ حتى أصبح يلتهم ديار العروبة والإسلام إقليمًا وراء إقليم هكذا كان تراثهم الذي له يدعون وبه يبشرون" فهم مع العثمانيين .. ثم يقول في كتابه: "معارك العرب"(164) عن نهضة محمد علي: "وكان لا بد لهذه الصحوة بأن تصطدم بأعداء هذه الأمة التقليديين التخلف الممثل في السلطنة العثمانية والاستعمار الأوربي .. "، ومن المعلوم أن محمد علي قاتل (الوهابيين).
فكيف يكون ذلك؟ أم أنه التناقض والتخبط الذي اعتدناه منك. لا مخرج لك إلا بأن تقول: أنا ضد الجميع فالعثمانيون والترك (متخلفون) .. والوهابيون (متخلفون)، ولكن تخلف الوهابيين أقل من تخلف العثمانيين؛ لأنهم شاركوا ولو بقليل في اليقظة الإسلامية! وهذا ما أرجحه وسيأتي
دفعه. ولكن كان الأولى بالدكتور (الثوري) -والثورية تعني الشجاعة- أن يجهر بقوله ويقول: أعني بالمتخلفين والجاحدين السلفيين الذين يعيشون في مكان كذا! ومن أئمتهم فلان وفلان ومن المعاصرين فلان وفلان؛ والسبب أنهم قالوا كذا وكذا وهذا تخلف .. والصواب كذا وكذا. هذا هو المنهج السليم إذا أردت أن تنقد طائفة ما أن تذكر أقوالهم "الصحيحة" وتفندها وتدلي بقولك الذي تراه لينظر فيه .. أما الكلمات الرنانة وتخويف الأمة من السلفيين (المرعبين)! فهذا منهج (المهرجين).
2 -
مثال ثان على القسمة الثلاثية عند الدكتور: قال في كتاب "المعتزلة"(6) بعد أن حذرنا كالعادة من النصوصيين السلفيين ومن المغتربين (فالسلفية النصوصية تشل بالجبر والجبرية فعاليات الإنسان فتسهم في تأييد وتأبيد التخلف السائد في عالم الإنسان ومذاهب الغرب في الحرية قد أفقدت الإنسان توازنه واتزانه وذلك عندما حولته إلى حيوان مادي أو فرد متعال أو متغرب بسبب المادية والإلحاد عن الكون الذي يعيش فيه وليس سوى مذهب الإسلام! في الحرية الإنسانية سبيلاً للخروج من هذا المأزق الذي دفعنا إليه السلفيون النصوصيون! والمتغربون". ويعني بمذهب الإسلام .. مذهب القدرية كما علمنا في مبحث "المعتزلة" فالقسمة ثلاثية: جبريون .. وغربيون متحررون .. ثم يأتي الفريق الوسط أو (المنقذ! ) كما أسميناه. فهل حقًّا مذهب السلف الجبر؟ أم أن الدكتور يجهل (أو يتجاهل) ذلك كما قال شيخ الإسلام: "إذا كان الله قد ذم هؤلاء الذين لا يعرفون الكتاب إلا تلاوة دون فهم معانيه كما ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون دل على أن كلا النوعين مذموم الجاهل الذي لا يفهم معاني النصوص والكاذب الذي يحرف الكلم عن مواضعه وهذا حال أهل البدع (1).
(1)"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 439).
لم يكن مذهب السلف الجبر أبدًا بل شنعوا على أهله وذموهم أكثر مما ذمهم الدكتور وشيوخه. قال صاحب "الطحاوية" في بيان مذهب أهل السنة في القدر: "منشأ الضلال: من التسوية بين: المشيئة، والإرادة، وبين: المحبة، والرضا، فسوّى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا.
فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوبًا مرضيًا. وقال القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدَّرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دل على الفرق بين: المشيئة، والمحبة. الكتابُ والسنةُ والفطرةُ الصحيحة. أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها.
وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ، {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} .
* وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} .
• وفي "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
• وفي "المسند": إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتي معصيته وكان من دعائه:"اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك". فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره، فما أعوذ منه فى واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن
شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضًا، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته" (1).
فالقسمة عندنا ثلاثية كما هي عندك ولكنها عندك كاذبة وعندنا صادقة، فهي عندنا: جبريون .. قدريون! .. أهل سنة.
3 -
مثال ثالث على القسمة الثلاثية عند الدكتور: قال في كتاب "الإسلام والعروبة"(86): "الأمر الذي يجعل الأمة تواجه الخطر القديم الجديد .. خطر التشرذم والانقسام الحاد في قوى الأصالة الممثلة لذاتها الحقيقية: قوميون يديرون ظهرهم للإسلام .. وإسلاميون ينفرون من العروبة كل النفور" فالقسمة عنده: قوميون ملحدون .. أو إسلاميون شعوبيون .. ثم التيار (المنقذ! ) كالعادة. وقد سبق في مبحث (القومية) أن هذه القسمة باطلة وأن أحدًا من العلماء والدعاة المعاصرين لم ينفر من العروبة كل النفور كما يزعم الدكتور بل هم يتبعون النصوص الواردة في فضل العرب ولكن لا يغلون فيهم .. وكأن الإسلام لن يمضي دونهم وقد سبق بيان ذلك وبيان أن مذهب الدكتور الحقيقي في هذه القضية هو (القومية المستترة).
4 -
مثال رابع على القسمة الثلاثية عند الدكتور: قال في كتابه "العلمانية"(5): "في فكرنا السياسي الحديث يلعب الخلاف حول طبيعة
(1)"الطحاوية"(ص 251).