الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكفر ملة واحدة عنوانها العداء للإِسلام
*
المعلم "يعقوب" أو الجنرال يعقوب الخائن لمصر:
في إطار المخادعة وإلباس التاج أو وضعه فوق رأس الخونة ومن لا يستحقون، يقدم لنا (لويس عوض) شخصًا نصرانيًّا اسمه (المعلم يعقوب) أو (الجنرال يعقوب) كما يسميه، علامة على نمو النزعة القومية لدى المصريين -كما يزعم- نتيجة للثورة الفرنسية وحملة نابليون على مصر، ويخصص لويس الباب الرابع من "الخلفية السياسية" في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث" للحديث عن يعقوب تحت عنوان "مشروع الاستقلال الأول"(1)، ويخبرنا أن (يعقوب) كان يحمل في جعبته مشروعًا خطيرًا كان في نيته عرضه على الإنجليز والفرنسيين، وهو مشروع استقلال مصر (2)، ويوحي كلامه بأن (يعقوب) كان يمثل المسلمين والنصارى (3)، ويربط بين الحركات الثورية التي قامت في أرجاء العالم العربي، وبخاصة الحركات الباطنية (الزنج والقرامطة والكورانية والنصيرية والشعشاعية وغيرها) وبين حركة المعلم يعقوب، كما يشير إلى تشابهها مع جمهورية همام التي قامت في الصعيد ويعدها نموذجًا لنظام الحكم الذي يقترح يعقوب قيامه في مصر (4).
والسؤال هو: استقلال مصر عن من؟ ولماذا؟ ومن الذي كان يحكم مصر؟ وهل لا بد من أن يأتي الاستقلال على يد الخائن يعقوب؟
إن لويس يقصد باستقلال مصر انفصالها عن الخلافة العثمانية أو الباب
(1) نفسه (80).
(2)
"تاريخ الفكر المصري الحديث" للويس عوض (ص 149) وما بعدها.
(3)
السابق (ص 151)، وانظر "مقالات في النقد والأدب"(ص 117).
(4)
"تاريخ الفكر المصري الحديث"(ص 155).
العالي؛ لأن ارتباط مصر بالشعوب الإسلامية، يجور على استقلالها، أما ارتباطها بالاستعمار الفرنسي، فهو بداية القومية المصرية والعصر الديمقراطي، وإذا كان المماليك والأتراك، يحكمون مصر، فلا بد من التخلص منهم أولاً -وليس من الحملة الفرنسية- ليكون نظام الحكم على غرار جمهورية الأمير همام في الصعيد الذي أعلن استقلاله بعد استنفار قواته لمواجهة الترك والمماليك جميعًا .. ومن ثم. فإن الاستقلال على يد الخائن يعقوب، يصبح هو طوق النجاة، الذي بشَّر به من خلال مشروعه الذي عرضه على الدول الأوربية ..
ترى ما الذي جعل المعلم يعقوب يبدو بطلاً لاستقلال مصر كما صوره لويس عوض؟
كان المعلم يعقوب يعمل في مجال الصرافة (تحصيل الأموال من المصريين)، وعندما جاءت الحملة الفرنسية استغلت نفرًا من طائفة النصارى المصريين والشوام، واستمالتهم إلى جانبها والقتال معها أو تأمين قواتها، ويشير (عبد الرحمن الرافعي) إلى أن نابليون أصدر أمره بتكليف كتيبة من الأروام المقيمين في ذلك العهد بالقاهرة ورشيد ودمياط وعهد إليها حراسة السفن الفرنسية أثناء مرورها بالنيل، وأراد نابليون من هذا الأمر أن يوفر بعض الجنود الفرنسيين، وأن يستخدم في هذه المهمة الأروام الذين أظهروا ولاءهم للجيش الفرنسي، لكن الأروام لم يتطوعوا لهذه المهمة بالعدد الذي كان ينتظره الفرنسيون (2).
ويلاحظ أن الرافعي لم يشر إلى تشكيل الفيلق القبطي بقيادة المعلم
(1) السابق (ص 26).
(2)
"تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر" لعبد الرحمن الرافعي (1/ 295).
يعقوب، الذي أسهب الجبرتي في الحديث عنه، وعن خيانته لوطنه .. يذكر الجبرتي في حوادث سنة 1521 هجرية (1800 - 1801 م) أن "يعقوب القبطي لما تظاهر مع الفرنساوية، وجعلوه ساري عسكر الضبطة، جمع شبان القبط وحلق لحاهم، وزياهم بزي مشابه لعسكر الفرنساوية، مميزين عنهم بقبع يلبسونه على رءوسهم، مشابه لشكل البرنيطة، وعليها قطعة فروة سوداء من جلد الغنم .. في غاية البشاعة! وصيرهم عسكره وعزوته، وجمعهم من أقصى الصعيد وهدم الأماكن المجاورة لحارة النصارى -التي هو ساكن بها- خلف الجامع الأحمر، ربنى له قلعة، وسورها بسور عظيم وأبراج، وباب كبير يحيط به بدنات عظام. وكذلك بنى أبراجًا في ظاهر الحارة جهة بركة الأزبكية، وفي جميع السور المحيط والأبراج طيقانًا للمدافع وبنادق على هيئة سور مصر الذي رمّه الفرنساوية، ورتب على باب القلعة -الخارج والداخل- عدة من العسكر الملازبين للوقوف ليلاً ونهارًا، وبأيديهم البنادق على طريقة الفرنساوية"(1).
هذا هو المعلم يعقوب الذي أعدّ أول مشروع استقلال لمصر كما يرى لويس عوض أنه يكوّن فيلقًا عسكريًّا على الطريقة الفرنسية يتكون من شباب النصارى ويشيّد التحصينات والقلاع ليحارب!! يحارب من؟ يحارب الفرنسيّين أم غيرهم؟ لو حارب الفرنسيّين، فإن مشروعه الاستقلالي يصبح ذا موضوع، ولكن الجبرتي يقول إنه:"تظاهر مع الفرنساوية"، أي صار ظهيرًا لهم، أي واحدًا منهم، أي عدوًّا لشعبه ووطنه الذي يزعم لويس أنه يريد أن يحقق له الاستقلال!.
والجبرتي -كما يصفه عبد الرحمن الرافعي- كان يتحرى الصدق والدقة
(1)"المختار من تاريخ الجبرتي" اختيار محمد قنديل (ص 424) - دار الشعب.
ويتوخى الحق، ولم يكن يتحيز لطائفة أو دولة، أو لأي إنسان مهما عظم نفوذه، ثم يقول الرافعي:"وإنك لتستطيع أن تتحق نزاهة الجبرتي من مطالعة كتابه وإمعان النظر فيه"(1).
والجبرتي هو الذي يصف لنا ما أنزله يعقوب -تحت ظلال حملة نابليون- بالشعب المصري، من خلال نزعته الطائفية التعصبية، فقد "كرنك في داره بالدرب الواسع جبهة الرويعي، واستعدّ استعدادًا كبيرًا بالسلاح والعسكر المحاربين، وتحصّن بقلعته التي كان قد شيدها بعد الواقعة الأولى (أي ثورة القاهرة الأولى ضد بونابرت وجيشه). فكان معظم حرب حسن بك الجداوي (من زعماء المماليك) معه"(2).
- ويذكر الجبرتي في حوادث سنة 1216 هجرية (20 من المحرم = يونيه 1801 م):
"توكل رجل قبطي يقال له عبد الله -من طرف يعقوب- بجمع طائفة من الناس لعمل المتاريس، فتعدّى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم، وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه .. فتشكى الناس من ذلك القبطي، وأنهوا شكواهم إلى "بليار" قائمقام، فأمر بالقبض على ذلك القبطي، وحبسه بالقلعة، ثم فردوا -لعلها فرضوا- على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة"(3).
ويشير الجبرتي في حوادث سنة 1214 هـ (20 من ذي الحجة = 15
(1)"تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر"(ص 417) وما بعدها - ط 5 طبع دار المعارف.
(2)
"المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة" لأحمد حسين الصاوي (ص 26) - دار الفكر - القاهرة.
(3)
"المختار من تاريخ الجبرتي"(ص 436).
مايو 1800 م) إلى التعنّت الذي مارسه الفرنسيون بإرشاد القبطة وطوائف البلاد (أي بمساعدتهم)"لأنهم هم الذين تقلّدوا المناصب الجليلة، وتقاسموا الأقاليم، والتزموا بجمع الأموال، ويضيف "وانضم إليهم الأسافل من القبط والأراذل من المنافقين" (1).
ويتحدث الجبرتي في حوادث السنة ذاتها إلى تطاول النصارى القبط والشوام على المسلمين بالسب والضرب والنيل منهم وإظهار الحقد عليهم "ولم يبقوا للصلح مكانًا، وصرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحّدين"(2).
هذا هو المعلم يعقوب أو الجنرال يعقوب وجماعته الذين كوّنوا جيشًا يتحالف مع نابليون لإذلال المصريين، فهل يمكن لعاقل أن يفهم بعد ذلك طبيعة المشروع الاستقلالي الذي يتحدث عنه لويس عوض؟
لقد تناول عدد من الكتاب مسألة المعلم يعقوب بالشرح والتحليل، منهم محمد جلال كشك، في كتابيه "ودخلت الخيل الأزهر" الذي أشرنا إليه من قبل، و"الغزو الفكري" حيث خصص له فصلاً كاملاً (من صفحة 84 إلى ص 130)، ويردّ فيهما على مزاعم لويس حول يعقوب وبطولاته، واستشهد بما قاله "محمد شفيق غربال" الذي نقل عنه لويس ما قاله في يعقوب، واستشهد أيضًا بالجبرتي لدحض هذه المزاعم، ويعترف محمد جلال كشك أنه شارك في خطيئة الإشادة بالجنرال يعقوب عندما كتب مؤلفه "مصريون لا طوائف"، ويرجع ذلك إلى أنه كان صغير السن آنئذٍ" (3).
ويخصص (أحمد حسين الصاوي) كتابًا كاملاً عن يعقوب، ويتناول الآراء التي قيلت فيه، ويصل إلى نتيجة تقول: "إنه لم يكن مجرد خائن
(1) السابق (ص 370، 372).
(2)
نفسه (ص 368، 396، 445).
(3)
"الغزو الفكري"(ص 106).
لقومه وبلاده، فوصفه بذلك من قبيل إطلاق الأحكام العامة التي تفتقر إلى التحديد، والأدق أن يوصف بأنه منشق على نظام الحكم القائم وبنيته رافض له، ولكن ما أساء إلى موقفه أبعد الإساءة أن هذا الانشقاق والرفض اتخذ من البداية بُعْدًا طائفيًّا مذمومًا، فضلاً عما امتزج به من طموحات شخصية" (1).
ولا أدري بم نصف مواطنًا انحاز لعدوّ البلاد الذي قتل أبناءها واغتصب نساءها ونهب أموالها وخيراتها وأهلك قراها ومدنها .. ثم حارب إلى جانبه، وأسفر عن وجهه الطائفي المتعصّب، وآذى -كما أخبرنا الجبرتي- مواطنيه وشعبه؟ هل يكفي أن نصفه بالمنشق على نظام الحكم؟ أليست القرائن الدالة والسلوكيات التي مارسها يعقوب خير برهان على خيانته وعمالته؟
إن الصاوي نفسه يزيد هذه القرائن والسلوكيات توضيحًا عندما يقول: "لقد رفض يعقوب إذ واتته الفرصة أن يستمر في الخضوع لنظام الحكم الإسلامي، الذي كان في رأيه يمثل طغيان الأغلبية على الأقلية، وفي ظلّه تضطهد طائفته القبطية وتمتهن حقوقها، وانشق يعقوب على أمته، فصانع -كما رأينا- الحاكم الفرنسي منذ البداية، وذهب في مصانعته إلى أبعد مدى، وكان له من رفضه وانشقاقه موقف لم يحد عنه، بل راح ينتهز كل فرصة لإثباته وتأكيده، وهو موقف اتسم بنظرة طائفية متطرفة كانت لها مظاهرها التعصبية الحادة"(2).
والصاوي نفسه هو الذي يصفه يعقوب بالشذوذ عن مألوف طائفته، وارتداء الزيّ المخالف، واتخاذ امرأة من غير جنسه بطريقة غير شرعية (كانت سورية)، ولم يكن رجال الدين راضين عن غروره وخروج تصرفاته معهم
ْ (1)"المعلم يعقوب بين الأسطورة والحقيقة"(ص 81).
(2)
السابق، الصفحة نفسها.
ومع الكنيسة عما تنبغي مراعاته من الأصول والتقاليد (1).
لقد كان يعقوب خائنًا بكل المقاييس، والأمر. ينطبق على أي مسلم ينضم إلى قوات العدو الغازية، أيًّا كانت الأسباب وراء هذا الانضمام، فما بالك برجل باع نفسه تمامًا للحملة الفرنسية، وقَبِلَ من أحد قادتها (كليبر) رتبة الجنرال، وبعد انهزام الحملة هرب معها؟
إن يعقوب ليس مجرد منشق، وإنما كان خائنًا، ألبسه (لويس عوض) تاج الوطنية، وأسند إليه شرف البطولة في البحث عن استقلال مصر عن الباب العالي ودولة الخلافة، وفضّله على واحد من أعظم أبطال مصر الحقيقيين وهو السيد (عمر مكرم) نقيب الأشراف الذي عزل (خورشيد باشا) وولّى (محمد علي) وألبسه الكرك ونزل الخليفة العثماني على رأيه ورأي علماء الإسلام، وإن كانت نتيجة بطولته أن نفي إلى دمياط!
ومع أن الذين ناقشوا آراء لويس حول يعقوب، قد اعتمدوا الأسلوب العلمي في مناقشة، وبيان تهافت ما ذهب إليه مع تفاوت آرائهم في الحكم على يعقوب، ألا أنه يكتفي بوصفهم بالرجعية والتعصب الديني، ويتوعدهم بحساب التاريخ، ويقول: وسوف يحاسب التاريخ الرجعية العربية حسابًا عسيرًا، لأنها سجدت أمام التمثال الذي أقامه شفيق غربال للجنرال يعقوب، ثم مزقتني إربًا لمجرد أنني رددت آراءه وترجمت وثائقه. ونقادي لا يستطيعون ادعاء الجهل؛ لأني أصلت لهم كل شيء قلته عن الجنرال يعقوب في شفيق غربال، فإذا كانوا قد رجعوا إليه، ومع ذلك تعمّدوا تمزيقي لطرق قضيّة (يعقوب اللعين) بهذه الحيدة أو بشيء من التعاطف، فإن هذا يثبت سوء نيتهم، وإذا كانوا لم يهتموا بالرجوع فهذا يثبت انحطاطهم لإصرارهم على
(1) السابق أيضًا (ص 18).