الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى هذا فالنار، كما يصورها القرآن، ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم. بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية المتحجرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله. وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة.
فالحياة واحدة ومتصلة، والإنسان يسير دائمًا قدمًا، فيتلقى على الدوام نورًا جديدًا من الحق غير المتناهي الذي هو {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29].
ومن يتلقى نور الهداية الإلهية ليس متلقيًا سلبيًّا فحسب؛ لأن كل فعل لنفس حرة، يخلق موقفًا جديدًا، وبذلك يتيح فرصًا جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد" (1).
- لقد جانب إقبال الحقيقة الدينية المتعارف عليها في البعث والخلود في بعض الجزئيات، فهو مثلاً قد جعل من البعث فترة "لجرد البضائع"، وجعل الدار الآخرة موصولة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، وأنه يمكن للمرء بعد موته أن يواصل عمله لمزيد من استكمال نموه النفسي وكماله الروحي، وهذا ما لا يقرّ به الإسلام الذي يرى الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وهي وحدها دار فرصة للعمل، وبموت الإنسان ينقطع عمله. والآخرة دار قرار وسكون وانقطاع عن العمل وجزاء عما قدّم الإنسان في الحياة الدنيا (2).
*
يقول الدكتور خليل الرحمن عبد الرحمن فى كتابه "محمد إِقبال موقفه من الحضارة الغربية"(ص 197 - 199):
قد أخطأ إقبال في تفسيره لقضية البعث والخلود خطأين أساسيين:
أولاً: أنه رأى أن الجنة والنار حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أو لصفة أو حال. وذلك رأي يعارض ما جاء به الكتاب والسنة. فإن الجنة والجحيم مكانان محسوسان، وليسا نفسيين
(1) انظر "تجديد الفكر الديني في الإسلام"(ص 140 - 141)، و"الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" للدكتور محمد البهي (ص 398 - 400) - مكتبة وهبة بمصر.
(2)
انظر "محمد إقبال فكره الديني والفلسفي"(ص 445).
فحسب، على ما أجمعت عليه الأمة سلفًا وخلافًا، وعلى ما يشهد بذلك كثير من الآيات والأحاديث، مثل قوله تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 30، 31].
* وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 27 - 30].
ثانيًا: إنه فسر الخلود والأبدية بحقبة من الزمن، تمنح النفس بعدها فرصة أخرى لاستئناف نشاطها وكفاحها، وليس في الإسلام، على ما يراه هو، لعنة أبدية، فالنار ليست هاوية من عذاب مقيم بل هي تجربة للتقويم، قد تجعل النفس القاسية تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله .. إلخ. وهذا تفسير يخالف، كذلك، إجماع الأمة، كما يعارض نصوص الكتاب والسنة الصريحة. فإن الآخرة ليست دار عمل وكفاح للنفس وإنما هي دار جزاء على أعمالها في الدنيا، فيما ينص عليه الكتاب والسنة. يقول الدكتور محمد البهي في هذا الخصوص:
"يلاحظ على تفكير إقبال أنه في محاولته شرح استمرار العالم، أو شرح خلوده وبقائه يرتفع في هذا الشرح عن المستوى الديني الذي يصوره الإسلام نفسه. وبذلك يبعد في تفسير النصوص التي استعان بها، عن مدلولاتها الطبيعية التي تلائم هذا المستوى .. فإذا جعل البعث فترة "لجرد البضائع"، وربط الدار الآخرة بالدار الدنيا في حياة الإنسان، فإنه يثير تساؤلاً عن (التكليف) من قبل الشرع ومدته، أهو في الدنيا والآخرة معًا؟. وتفسيره الخلود في النار عندئذ في قوله تعالى:{خَالِدِينَ فِيهَا} ، بأنه حقبة وفترة ما، يعطي بعدها الإنسان فترة أخرى للبقاء، أو للعمل يدعو لبقاء الإنسان خلوده - يشرح أن الإنسان في نظر إقبال مكلف في الدارين معًا .. ولكن الإسلام ينظر إلى الدنيا على أنها دار ابتلاء وامتحان، وينظر إلى الآخرة على أنها دار