الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الملك المؤيد صاحب حماه
672 -
732هـ - 1273 - 1331م إسماعيل بن علي بن محمد بن محمود بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب بن شادي، الملك المؤيد عماد الدين أبو الفدا صاحب حماه، ابن الملك الأفضل بن الملك المنصور ابن الملك المظفر بن الملك المنصور.
ولد في جمادى الأولى سنة اثنتين وسبعين وستمائة، وحفظ القرآن العزيز وعدة كتب، وبرع في الفقه والأصول والعربية والتاريخ والأدب، وصار من جملة أمراء دمشق إلى أن كان الملك الناصر محمد بن قلاوون بالكرك في آخر مرة، خدمه المذكور وهو بدمشق، وبالغ في خدمته إلى أن وعده الملك الناصر محمد بسلطنة حماه، ووفي له بما وعده لما عاد إلى ملكه، وأعطاه حماه بعد الأمير أسندمر لما نقل إلى نيابة حلب بعد موت نائبها الأمير قبجق، وجعله صاحب حماه وسلطانها، يفعل فيها ما يشاء، ليس لأحد منعه كلام،
ولا يرد عليه مرسوم من القاهرة بأمر ولا نهي، وتوجه من دمشق إلى القاهرة بسبب سلطنة حماه، فأكرمه الملك الناصر محمد بن قلاوون، وأركبه بشعار السلطنة، ومشى الأمراء والأكابر في خدمته، حَتَّى مشى الأمير أرغون النائب بالديار المصرية، وقام له الملك الناصر بكل ما يحتاج إليه من التشريف والإنعامات عَلَى وجوه الدولة والخيول بالقماش بالذهب وغير ذَلِكَ، ولقبه بالملك الصالح، وأمره بالتوجه إلى محل سلطنته بحماه، فخرج إليها من ديار مصر بتجمل زائد وعظمة عَلَى عادة الملوك، فوصلها في جمادى الآخرة سنة عشر وسبعمائة، ثم عن قليل غير السلطان لقبه ولقبه بالملك المؤيد، وذلك لما حج معه في سنة تسع عشرة وسبعمائة، وعاد معه إلى القاهرة، وأذن له أن يخطب باسمه بحماه وأعمالها، عَلَى ما كان عليه سلفه من ملوك حماه.
وكان الملك المؤيد في كل قليل يتوجه من حماه إلى القاهرة، ومعه أنواع الهدايا والتحف للملك الناصر محمد بن قلاوون، ويعود إلى محل سلطنته، ثم في كل قليل يتحف الملك الناصر بالأشياء الطريفة الغريبة، ثم رسم الملك الناصر لنواب البلاد الشامية بأن يكتبوا له: يقبل الأرض، فصار الأمير تنكز نائب الشام يكتب له: يقبل الأرض، وبالمقام الشريف العالي المولوي السلطاني العمادي الملكي المؤيدي، وفي العنوان صاحب حماه، ويكتب السلطان له أخوه محمد بن قلاوون، أعز الله أنصار المقام الشريف العالي السلطاني الملكي المؤيدي العمادي بلا مولوي.
ولم يزل المذكور بحماه مكباً عَلَى الاشتغال والتصنيف وحضرته محط رجال أهل العلم من كل فن، ومنزلاً للشعراء والفضلاء، عَلَى أنه
هو إمام بارع مفنن، ماهر في الفقه والتفسير والأصلين والنحو والتاريخ وعلم الميقات والفلسفة والمنطق والطب، مع الاعتقاد الصحيح، والعروض والأدب والنظم والنثر، وكان للشعراء به سوق نافق.
وذكره الشيخ جمال الدين الإسنوي في طبقاته، وقال: اتفق قدومه إلى الديار المصرية في بعض السنين، واستدعاني إلى مجلسه عَلَى لسان الشيخ زين الدين ابن القويع فحضرت معه وصحبتنا الصلاح بن البرهان الطبيب المشهور، فوقع الكلام اتفاقا في عدة علوم فتكلم فيها كلاماً محققاً، وشاركناه في ذَلِكَ، ثم انتقل الكلام إلى علم النباتات والحشائش، فكلما وقع ذكر نبات صفته الدالة عليه، والأرض التي ينبت فيها، والمنفعة التي فيه، في استطراد في ذَلِكَ استطراداً عجيباً، وهذا الفن الخاص هو الذي كان يتبجح بمعرفته الطبيبان الحاضران وهما ابن القويع وابن البرهان، فإن أكثر الأطباء لا يدرون ذَلِكَ، فلما خرجا تعجبا إلى الغاية، وقال الشيخ زين الدين: ما أعلم أن ملكاً من ملوك المسلمين وصل إلى هذا العلم انتهى.
وقال الصلاح الصفدي: وكان الملك المؤيد فيه مكارم وفضيلة تامة، مع فقه وطب وحكمة وغير ذَلِكَ، وكان أجود ما يعرفه الهيئة لأنه أتقنه، وإن كان قد شارك مشاركة جيدة، انتهى باختصار.
قلت: وكان مع غزير علمه يميل إلى الشعر ميلاً زائداً، ويجيز عليه الجوائز السنية، وكان الأديب جمال الدين محمد بن نباته مقيماً عنده بحماه، وله عليه رواتب تكفيه، وله فيه غرر مدائح منها:
أقسمتُ ما الملك المؤيَّد في الورى
…
إلا الحقيقةُ والكرام مَجَاز
هو كَعْبَةً للفضل ما بين النَّدى
…
منها وبين الطالبين حِجاز
وله فيه وقد توعك بدنه:
يا جوهر الفضل إن عُدَّت فرائده
…
حاشا لجسمك أن يشكو من العرض
لا رد سهمك عن لحظ العداة ولا
…
نالوا من السهم ما نالوا من الغرض
صحَّت بصحَّتك الدنيا فليس بها
…
غير الذي في جفون الغيد من مرض
وفيه يقول العلامة شهاب الدين محمود من قصيدة:
لله نشر عاطر فاح من
…
وادي حماه المشتهي خير واد
أضحت وقد شيد أرجاءها
…
المولى عماد الدين ذات العماد
حمى حماها بأسه والندى
…
فأهله من عدله في مهاد
وفيه يقول الأديب الشيخ جمال الدين بن نباته جواباً لمكاتبة:
فديتك من ملك يكاتب عبده
…
بأحرفه اللاتي حكتها الكواكب
ملكت بها رقى وأنحلني الأسا
…
فها أنذا عبد رقيق مكاتب
وكان له نظم ونثر وتصانيف كثيرة منها تاريخه المسمى بالمختصر في تاريخ البشر، ومنها نظم الحاوي في الفقه، وكتاب الكناس مجلدات كثيرة، وكتاب تقويم البلدان هذبه وجدوله، وكتاب الموازين وهو صغير.
ومن الغريب أنه كان يقول ما أظن أني أستكمل الستين سنة من العمر فما في أهلي، يعني بيت تقي الدين، من استكملها، فمات في أوائل الستين بتربته التي أنشأها بحماه.
وكان ملكاً عالماً، عادلاً سخياً جواد، ممدحاً، عاقلاً ديناً خيراً، ذا رأي وتدبير ومعرفة سياسة مع الحلم والرئاسة، صاحب معروف وصدقات، ذكياً فاضلاً، ذا همة عالية، ونفس زكية، محباً لأهل العلم والخير، كثير الإكرام لهم، يعطي العطايا الجزيلة، ويجيز عَلَى المدائح بالجوائز السنية.
ورثاه شاعره الشيخ جمال الدين أبو بكر محمد بن نباته المصري بعدة مرائي من ذَلِكَ مرثيته المشهورة التي أولها:
ما للنَّدي ما يلبَّي صوتَ داعية
…
أظنُّ أنَّ ابن شادي قام ناعيه
ما للرَّجاء قد اشتدَّت مذاهُبه
…
ما للزمان قد اسودَّتْ نَواحيه
مالي أرى المُلْك قد فُضَّت مواقفه
…
مالي أرى الوقد قد فاضت أماقيه
نغى المؤيَّد ناعيه فوا أسَفَا
…
للغْيث كيف غَدَتْ عنَّا غَوادَيه:
واروعتا لصباح من رزيته
…
أظن أن صباح الحشر ثانيه
واحسرتاه لنظمي في مدائحه
…
كيف استحال لنظمي في مراثيه
أبكيه بالدُّر من دمعي ومن كلمي
…
والبحرُ أحسن ما بالدُّر أبكيه
أروي بدمْعي ثرى ملْك له شيم
…
قد كان يذكرها الصَّادي فترويه
أزيل ماء جفوني بعده أسفا
…
لماءِ وجْهي الذي قد كان يحْميه
جار من الدَّمع لا ينْفَكُّ يُطلقه
…
من كان يطلق بالإنعام جاريه
ومهجة كلَّما فاهت بَلْوعتها
…
قالت رزيَّة مولاها لها إيه
ليت المؤيد لا زادت عوارفُه
…
فزاد قلبي المُعَنَّي من تَلَظَّيه
ليت الأصاغر يفدي الأكبرون بها
…
فكانت الشُّهب في الآفاق تَفْديه
والقصيدة تزيد عَلَى خمسين بيتاً.
ومما اختاره الشيخ صلاح الدين منها في تاريخه ما خلال مطلع القصيدة والثاني والثالث قال ومنها:
هل لا بغير عماد البيت حادثة
…
ألفت ذُراه وأوهت من مبانيه
هل لأثني الدهر غَرْبا عن محاسنه
…
فكان كوكب شرقٍ في لياليه
ومنها:
كان المديح له عرش بدولته
…
فأحسن الله للشعر العزا فيه
يا آل أيوب صبرا إنَّ إرثكم
…
من اسم أيوب صبر كان ينجيه
هي المنايا عَلَى الأقوام دائرة
…
كل سيأتيه منها دور ساقية
ومنها يخاطب ابنه:
ومن أبيك تعلمت الثناء فما
…
نحتاج نذكر أمراً أنت تدريه
لا تخش بيتك أن يلوي الزمان به
…
فإن للبيت ربَّا سوف يحميه
انتهى ما أورده الصلاح الصفدي.
ورثاه ابن نباته بمرثية أخرى، أولها:
ألا في سبيل الله فضل عزائم
…
وعلم غدا في باطن الترب مغمدا
ومن شعره عفا الله عنه في مليح اسمه حمزة:
اسم الذي أنا أهواه وأعشقه
…
ومَنْ أعِّوذُ قلبي من تجنِّيه
تصحيفُه في فؤادي لم يزل أبدّا
…
وفوق وجْنته أيضا وفي فيه
وله أيضاً:
سرى مسرى الصّبا فعجبت منه
…
من الهجران كيف صبا إليَّا
وكيف ألمّ بي من غير وعد
…
وفارقني ولم يعطف عليّا
أنشدني القاضي عبد الرحيم بن الفرات إجازة، قال أنشدني الصلاح الصفدي إجازة، قال أنشدني محمد بن نباته شاعره، قال أنشدني معز الدين
محمود بن حماد الحموي كاتب السر بحماه لمخدومه السلطان الملك المؤيد ونحن بين يديه وهو أحسن ما سمعته في معناه:
أحسن به طرفا أفوت به القضا
…
إن رمته في مطلب أو مهرب
مثل الغزالة ما بدت في مشرق
…
إلا بدت أنوارها في المغرب
قال: وأنشدني له هذا الموشح أيضاً:
أوقعني العمر في لعلّ وهل
…
ياويح مَنْ عمره مضى بلعل
والشيب وافي وعنده نزلا
…
وفرّ منه الشباب وارتحلا
ما أوقح الشّيب الآتي
…
إذ حلّ لا عن مرضاتي
قد أضعفتني السنون لا زمني
…
وخانني نقص قوة البدن
لكن هوى القلب ليس ينتقص
…
وفيه مع ذا من جرحه غصص
يهوى جميع اللذات
…
كما له من عادات
يا عاذلي لا تطل ملامك لي
…
فإن سمعي نأي عن العذل
وليس يجدي الملام والفَنَدُ
…
في من صبابات عشقه جُدُد
دعني أنا في صبواتي
…
أنت البريء من ذلاتي
كم سرني الدهر غير مقتصر
…
بالكاس والغانيات والوتر
نمرح في طيب عيشنا الرغد
…
طَرْفي وروحي وسائر الجسد
وكم صفت لي خطراتي
…
وطاوعتني أوقاتي
مضى رسولي إلى معذّبتي
…
وعاد في بهجة مجدَّدة
وقال: قالت تعالي في عجل
…
لمنزلي قبل أن يجيء رجلي
واصعد وجز من طاقاتي
…
ولا تخف من جاراتي
قال الصفدي وهذه الموشحة جيدة في بابها منيعة عَلَى طلابها، وقد عارض بوزنها موشحة لابن سناء الملك، رحمه الله تعالى، أولها:
عسى ويا قلما نفيد عسى
…
أرى لنفسي من الهوى نفسا
مذ بان عني من قد كلفت به
…
قلبي قد لجّ في تقلّبه
وبي أذى، شوق عاتي
…
ومدمعي يومٌ شات
لا أترك اللهو والهوى أبدا
…
وإن أطلت الغرام والفندا
أن شئت فاعذل فلست أستمح
…
أنا الذي في الغرام أتبع
وتحتذي صباباتي
…
وبدعي وعاداتي
بي ملك في الجمال لا بشر
…
يُظْلم إن قيل إنّه قمر
يحسن فيه الولوع والوله
…
وعزُّ قلبي في أن اذلّ له
خدّي حذا إن يأتي
…
ويرتعي حشاشاتي
لست أذم الزمان متدياً
…
كم قد قطعت الزمان ملتهياً
وظلت في نعمة وفي نعم
…
يلتذ سمعي وناظري وفمي