الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
24 - باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين في الحضر
ثنا هناد نا أبو معاوية عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، قال: فقيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
وفي الباب عن أبي هريرة.
قال أبو عيسى: حديث ابن عباس قد روي عنه من غير وجه رواه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعبد الله بن شقيق العقيلي.
وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا.
حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف البصري ثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن حنش عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر".
قال أبو عيسى: وحنش هذا هو أبو علي الرحبي وهو حنش بن قيس وهو ضعيف عند أهل الحديث ضعفه أحمد وغيره.
والعمل على هذا عند أهل العلم أن لا يجمع بين الصلاتين إلا في سفر أو بعرفة، ورخص بعض أهل العلم من التابعين في الجمع بين الصلاتين للمريض وبه يقول أحمد وإسحاق وقال بعض أهل العلم: يجمع بين الصلاتين في المطر، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق ولم ير الشافعي للمريض أن يجمع بين الصلاتين.
* الكلام عليه:
حديث ابن عباس مخرج في الصحيحين ولفظه لسلم ورواه أبو داود وقال: في غير خوف ولا سفر. قال مالك: أرى أن ذلك في مطر. وفي رواية عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته.
وفي رواية عن معاذ بن جبل مثله سواء وقال: إنه في غزوة تبوك، وقال مثل كلام ابن عباس، وفي رواية عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد عن ابن عباس قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخّر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وعجل العشاء قال: وأنا أظن ذلك.
وفي رواية عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يومًا بعد العصر حتَّى غربت الشمس وبدت النجوم، فجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة، فجاءه رجل من بني تميم فجعل لا يفتُر ولا ينثني: الصلاة الصلاة فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة، لا أم لك؟! رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيت أبو هريرة فسألته فصدق مقالته، هذه الروايات عند مسلم.
وفي هذا الحديث مسائل:
الأولى: قوله: أراد أن لا يحرج أمته، وقد اختلف في تقييده فروي: يُحرج بالياء المضمومة من آخر الحروف مبني لما لم يسم فاعله.
وأمته منصوب على أنَّه مفعوله، وروي تحرج بالتاء ثالثة الحروف مفتوحة وضم أمتُه على أنها فاعلة ومعناه إنما فعل ذلك لئلا يشق عليهم ويثقل فقصد إلى التخفيف
عنهم كما يأتي بيانه.
الثانية: قال بعض العلماء في قوله أن لا يحرج أمته: المراد بالحرج هنا الإثم لا المشقة، لأن لنا التأخير إلى آخر الوقت وإيقاع الصلاة في آخر الوقت لا مشقة فيه، وإنما المعنى في ذلك الصنيع الَّذي صنع من التأخير لئلا يقع المكلف في المحظور لأنه لو كلف إيقاع الصلاة في آخر جزء من وقت الصلاة الأولى وابتداء الثانية في أول جزء من وقتها لم يقدر على تحديد ذلك إلا بتقريب وربما أخذ جزءًا من الأولى في جزء من وقت الثانية فكان يخرج بعض الأولى عن وقتها وهو محظور. انتهى.
وكأنه يشير إلى أن هذا إذا وقع محررًا انتفى معه الإثم كما أوقعه النبي عليه السلام فكان ذلك في المرة الواحدة لبيان الجواز، ولم يتكرر خوفًا من الإثم.
ويحتمل عندي أن يكون من الضيق ومعناه أنَّه عليه السلام لو لم يبين الجواز بهذه المرة لفات أمته العلم بأن لها مثل ذلك تضيقت على أنفسها فيما وسع عليها فيه، هذا إن أولنا الجمع بذلك وسيأتي.
والثالثة: قال الترمذي في آخر "جامعه": ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، وحديث قاتل شارب الخمر في المرة الرابعة.
فأما حديث ابن عباس فلم يجمعوا على ترك العمل به وقد اختلفوا فيه كما نبينه إن شاء الله تعالى.
وأما حديث قتل شارب الخمر في الرابعة فقد قال به ابن حزم وحكى فيه شيئًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
الرابعة: قال بظاهر هذا الحديث في جواز الجمع بين الصلاتين في الحضر
للحاجة لمن لا يتخذه عادةً قوم منهم ابن سيرين وأشهب واختاره ابن المنذر، حيث لم يعلله ابن عباس بمرض ولا غيره وتأوله آخرون.
الخامسة: الذين تأولوه اختلفوا فقال بعضهم: لعذر المطر وقد تقدم عن مالك ويرده رواية من روى: من غير خوف ولا مطر.
ومنهم من تأوله على أنَّه كان في غيم فصلى الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن وقت العصر دخل فصلاها، وهذا يرده الجمع بين المغرب والعشاء ومثله لا يتأتى فيه وهو حديث واحد.
ومنهم من تأوله على تأخير الأولى إلى آخر وقتها وإقامة الثانية في أول وقتها واستحسنه أبو العباس القرطبي ورجحه وقال الشيخ محيى الدين رحمه الله: وهذا ضعيف أو باطل لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، وفعل ابن عباس الَّذي ذكرناه حين خطب واستدلاله بالحديث لتصويب فعله وتصديق أبي هريرة له وعدم إنكاره صريح في رد هذا التأويل.
قال: ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه وهو قول أحمد بن حنبل والقاضي حسين واختاره الخطابي والمتولي والروياني وهو المختار في تأويله. انتهى.
وعندي أن ما اختاره القرطبي من التأويل أولى لأمور:
أولها: أن أبا الشعثاء راويه عن ابن عباس قد أوله بذلك.
الثاني: أن في ألفاظ الحديث نفي الأعذار المبيحة للجمع من الخوف والسفر والمطر، فلو حكى خلفها عذر المرض، لما عدل ابن عباس عنه إلى قوله:(أراد أن لا يحرج أمته)، ولما غفل أبو هريرة عن الرد على ابن عباس به، وإخراج الصلاة عن وقتها لغير عذر لا تجوز باتفاق.
الثالثة: أن حديث عبد الله بن شقيق وقد استعمله النووي في رد ما اختاره القرطبي وترجيح ما ذهب هو إليه وهو بالعكس أولى لأنه ليس فيه أكثر من أن ابن عباس خطبهم يومًا بعد العصر حتَّى غربت الشمس وبدت النجوم وذكر الحديث فليس في هذا مرض وإنما فيه أنَّه لم يصل المغرب حتَّى غربت الشمس وبدت النجوم، ثم من المعلوم أنَّه قضى عند ذاك الخطبة وصلى بالناس الصلاتين فأي بعد في أن يكون أتى بالأولى في آخر الوقت والثانية في أوله؟ وأمر الصلاة أهم من الخطبة فكيف جاز أن يشغلهم المرض عن الصلاة ولم يشغلهم محن سماع الخطبة.
ويعضد هذا ما سبق من حمل الحرج على التضييق.
السادسة: فيه الجمع بين الصلاتين في السفر حسبما تضمنته رواية من روى فيه عن ابن عباس: وكان في سفرة سافرها في غزوة تبوك، وكذلك عن معاذ بن جبل وسيأتي في بابه. هذا إن جوزنا أن يكون الحديث واحدًا اختلفت الروايات فيه عن ابن عباس ولكن هذا بعيد لأن في حديث الباب: بالمدينة، وفي حديث أبي داود: من غير خوف ولا سفر، فلا مانع من كون الحديثين عند ابن عباس حديث الجمع بالمدينة، وحديث الجمع بتبوك.
السابعة: ومما يقوي هذا رواية من روي فيه ثمانيًا جميعًا وسبعًا جميعًا وهي لا تكون كذلك إلا وهي تامة ولو كانت سفرية لكانت مع الجمع مقصورة.
الثامنة: المراد من الجمع في هذا الباب إنما هو إخراج إحدى الصلاتي المشركتين في الوقت عند من قال بالاشتراك، ومن لم يقل به عن وقت جوازها وإيقاعها في وقت الأخرى مضمومة إليها وهو إنما يكون بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء ولا مدخل للصبح في ذلك بالإجماع.
التاسعة: ثم الجمع متفق عليه ومختلف فيه، فالأول هو الجمع بعرفة
ومزدلفة، والمختلف فيه ما عدا ذلك، فأما في السفر فإليه ذهب جماعة السلف وفقهاء المحدثين والشافعي وهو مشهور مذهب مالك ومنع أبو حنيفة من الجمع للمسافر وكرهه الحسن وابن سيرين وروي عن مالك كراهيته وروي عنه أنَّه كرهه للرجال دون النساء وتأول أبو حنيفة أحاديث الجمع على تأخير الأولى إلى آخر الوقت وتقديم الثانية أوله وهو جائز باتفاق لكن ترد عليه الأحاديث التي تضمنت تقديم الثانية إلى وقت الأولى وستأتي.
العاشرة: الجمع بعذر (1) المطر وهو جائز عندنا في وقت الأولى ولا تجوز في وقت الثانية على الأصح لعدم الوثوق باستمراره إلى وقت الثانية وشرط وجوده عند الإحرام بالأولى والفراغ منها وافتتاح الثانية ويجوز ذلك لمن يمشي إلى الجماعة في غير كنَّ بحيث يلحقه بلل المطر، والأصح أنَّه لا يجوز لغيره، وقد تقدم عن الترمذي حكاية القول بالجمع في المطر عن أحمد وإسحق وإليه ذهب أيضًا أبو ثور والطبري وغيرهما ومنع منه أبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر والليث بن سعد.
الثانية عشرة (2): القائلون بجواز الجمع لعذر المطر اختلفوا في الجمع بين الظهر والعصر، فقال به الشافعي وطائفة وذهب مالك وآخرون إلى أنَّه يختص المغرب والعشاء.
الثالثة عشرة: وأما الجمع لعذر المرض فالمشهور من ذهب إليه الشافعي أنَّه لا يجوز، وجوزه أحمد وقال مالك: إذا خاف الإغماء على عقله فله تقديم الثانية في
(1) في نسخة السندي: لعذر.
(2)
وحق هذه المسألة من حيث الترتيب أن تكون الحادية عشرة، فلا أدري هل وقع هذا سهوًا من المؤلف رحمه الله أو أن المسألة الحادية عشرة سقطت من أصل المخطوط والله أعلم.
قلت: وهذا ما ذكره الشيخ محمد عابد السندي في هامش نسخته. حيث قال: ولم يذكر الحادية عشرة. اهـ.
وقت الأولى وقال النووي: هو قوي في الدليل نظرًا إلى حمل حديث ابن عباس على ذلك وقد تقدم ضعف ذلك الحمل.
الرابعة عشرة: الحديث الأول اقتضى وقوع الجمع بين الصلاتين والثاني اقتضى أن الجمع باب من أبواب الكبائر ويمكن أن يقال الجمع المباح في الحديث الأول، بمعنى التقديم والتأخير كما سبق وفي الثاني الإتيان بالصلاتين في وقت الثانية.
الوجه الثاني: أنْ يقال الثاني ناسخ للأول إن علم التاريخ.
الثالث: أن يقال وقوع الكبيرة في الثاني مشروط بنفي الأعذار مطلقًا والحديث الأول إنما فيه نفي أعذار مذكورة فيمكن إن يخلفها ما يشبهها ولأجل ذلك تطرق التأويل والاحتمال هذا على مذهب الجمهور في منع ذلك الجمع.
الخامسة عشرة: من قال بجواز الجمع للحاجة لمن لا يتخذه عادة يحتاج إلى الجواب عن الحديث الثاني، إما بضعف سنده أو بحمله إياه على من يتخذه عادة. وقوله عليه السلام:"من جمع" يعم من يعتاد ذلك ومن لا يعتاد والحديث وإن كان ضعيفًا من حيث الإسناد فإنه قوي من حيث الاستعمال ولا يمكن أن يقال المراد بالحاجة العذر الشرعي لأنه لا مدخل للعادة في ذلك.
السادسة عشرة: يؤخذ منه قضاء الفوائت المتروكة عمدًا لغير عذر لأن قوله (من جمع بين الصلاتين) يحتمل معنيين إما بتأخير الأولى عن وقتها أو بتركها في الذمة حيث لم يقع فعلها كذلك مسقطًا لفرضها كما زعمه بعضهم وكل من التأخير والترك كبيرة. لكن الحمل على التأخير هنا أولى؛ لأنه سماها صلاة في قوله: "من جمع بين الصلاتين" وتسميتها صلاة مع التأخير حقيقة ومع الترك مجاز وسمّاها مجموعة مع التي تليها في قوله: "من جمع" والجمع حقيقة هو الإتيان بهما لا
بأحدهما وترك الأخرى.
[السابعة] عشرة: الألف واللام في قوله: "من جمع بين الصلاتين" للعموم لا للعهد، لأنا إن حملناها على العهد وقد تقدم أن الجمع يختص بعض الصلوات توجه المنع إلى تلك المعهودة دون غيرها ولا قائل به، بل أي صلاة كانت صبحًا أو غيرها متى أخرها المكلف على أي حالة كان لغير عذر حتَّى يأتي بها مجموعة مع صلاة أخرى أتى وقتها فقد أتى الكبيرة لأن الجمع الَّذي يختص بعض الصلوات إنما هو الجمع المشروع.
[الثامنة] عشرة: ويلحق بذلك ما إذا صلى صلاة فرط فيها في غير وقت صلاة أخرى كما لو صلى الصبح بعدما طلعت الشمس أو العشاء في الثلت الآخر من الليل عند من يقول بانقضاء وقتها قبل ذلك، لما تقدم من أن العلة إنما هي التأخير لغير عذر.
* * *