الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[97 - باب ما جاء كيف النهوض من السجود]
وذكر في النهوض من السجود حديث أبي قلابة عن مالك بن الحويرث أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فكان إذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي جالسًا وصححه، وقد رواه البخاري (1).
وذكر (2) فيه حديث خالد بن إلياس عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه وضعف خالد بن إلياس وذكر صالحًا مولى التوأمة ولم ينبه على تضعيفه، وقد تبعه في ذلك عبد الحق واعترض ابن القطان عليه في تضعيفه خالدًا دون صالح لكنه أنحى على صالح في التضعيف وليس كما ذكر بل هو أصلح حالًا من خالد ويجاب عن عبد الحق بأنه أخرج الحديث، والكلام عليه كل ذلك عن الترمذي ولم يرَ للزيادة عليه وجهًا، ويجاب عن الترمذي بأن التضعيف بضعف راوٍ واحد كاف، لا سيما وهو أشد الراويين ضعفًا فكان الاقتصار على ذكر خالد كافيًا في الرد. هـ.
الوجه الثاني: في الكلام على شيء من المفردات.
الأول: الآراب قال أبو القاسم الراغب: الأرب فرط الحاجة المقتضي للاحتيال في دفعه فكل أرب حاجة وليس كل حاجة أربًا ثم تستعمل تارة في الحاجة المفردة وتارة في الاحتيال وإن لم تكن حاجة كقولهم: فلان ذو أرب وأريب أي ذو احتيال وقد أرب إلى كذا أي احتاج إليه حاجة شديدة وقد أرب إلى كذا أربًا وإربةً وأربة
(1)"الصحيح"(823، 824).
(2)
في المطبوع ذكر في باب منفصل تالي للأول. باب رقم 102: باب منه أيضًا، والحديث برقم (288).
وعن سكوت الترمذي عن صالح لعله لوضوح أمره فيما بدا له حين كتابة الباب.
ومأربة، قال عز وجل:{ولي فيها مآرب أخرى} ، ولا أرب لي في كذا أي: ليس لي شدة حاجة إليه.
وقوله عز وجل: {أولى الإربة من الرجال} كناية عن الحاجة إلى النكاح وهي الأربى للكراهية (1) المقتضية للاحتيال وسمي الأعضاء التي تشتد الحاجة إليها آرابًا الواحد إرب وذلك أن الأعضاء ضربان ضرب أوجد لحاجة الحيوان إليه كاليد والرجل والعين، وضرب للزينة كالحاجب واللحية.
ثم التي للحاجة ضربان ضرب لا تشتد الحاجة إليه، وضرب تشتد إليه الحاجة حتى لو توهم مرتفعًا لاختل البدن به اختلالًا عظيمًا وهي التي تسمى آرابًا، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه" ويقال: أرب نصيبه أي عظمه وذلك إذا جعله قدرًا يكون له فيه أرب ومنه أرب ماله أي كثر وأربت العقدة أحكمتها.
الثاني: القاع المستوي من الأرض، ونمرة موقف من مواقف عرفة، وفي الحديث أن عائشة كانت تنزل من عرفة بنمرة ثم تحولت إلى الأراك. فالأراك من مواقف عرفة من ناحية الشام، ونمرة من مواقف عرفة من ناحية اليمن ذكره أبو عبيد البكري.
الثالث: قوله: (فمرت رَكَبَة) مفتوح الراء والكاف والباء ثاني الحروف، قال الجوهري: والركب أصحاب الإبل في السفر دون الدواب وهم العشرة فما فوقها والجمع أركب قال: والركبة بالتحريك أقل من الركب والأركوب بالضم أكثر من الركب والركبان الجماعة منهم.
الرابع: قوله: (حتى رأينا عفرة إبطيه) يريد بياضها، قال الجوهري: والتعفير والتبييض والأعفر الرمل الأحمر والأعفر الأبيض وليس بالشديد البياض وشاة عفراء
(1) في "المفردات": للداهية.
يعلو بياضها حمرة.
الخامس: الإقعاء روى البيهقي عن أبي عبيدة معمر بن المثنى أنه قال: الإقعاء هو أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب على ساقيه ويضع يديه بالأرض. وقال في موضع آخر: الإقعاء جلوس الإنسان على أليتيه ناصبًا فخذيه مثل إقعاء الكلب والسبع.
السادس: التجافي قال ابن الأثير: كان يجافي عضديه عن جنبيه للسجود أي: يباعدهما ومنه الحديث الاخر: "إذا سجدت فتجاف"، وهو من الجفاء البعد عن الشيء انتهى.
ومثله حديث البراء: كان إذا سجد جخّى وروي جخّ ومعناهما واحد قاله الأزهري قال: والتجخية التخوية وقال غيره: معناها جافى في ركوعه وسجوده.
وروي عن ميمونة أنه عليه السلام كان إذا سجد خوَى بيديه حتى يرى وضح إبطيه.
السابع: قوله بدّنت كذا بفتح الدال المشددة وقد ذكر عن أبي عبيد بدُنت بضم الدال من غير تشديد وهو قول مرغوب عنه عندهم يقال: بدن الرجل يبدن بدنًا وبدانة إذا ضخم فهو بادن وقد بدّن تبدينًا إذا أسن وهو رجل بدن إذا كان كبيرًا. هـ.
قال الأسود (1):
هل لشباب فات من مطلب
…
أم ما بكاء البدن الأشيب
وقال الآخر:
وكنت خلت الهم والتبدينا
…
والشيب مما يذهل القرينا
(1) الأسود بن يعفر، كما نسبه إليه ابن قتيبة (1/ 220، 499)، "غريب الحديث"، وابن منظور في "لسان العرب"(ب د ن).
وفي الحديث: "إني قد بدنت فلا تبادروني بالركوع والسجود".
والوجه الثالث: في الفوائد والمباحث:
وفيه مسائل:
الأولى: وضع الركبتين قبل اليدين في السجود، قال أصحابنا: يستحب أن يقدم في السجود الركبتين ثم اليدين ثم الجبهة والأنف وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء: وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي، قال: وبه أقول.
وقال الأوزاعي ومالك: يقدم يديه على ركبتيه، وهي رواية عن أحمد. وروي أيضًا عن مالك أنه يقدم أيهما شاء ولا ترجيح، وبحسب اختلاف الأحاديث في ذلك اختلفت المذاهب، ففي حديث وائل الذي ذكرناه: يضع ركبتيه قبل يديه وقال الخطابي: وهو أثبت من حديث تقديم اليدين وهو أرفق بالمصلي وأحسن في الشكل ورأي العين.
وكذلك في حديث أنس المذكور وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرناه من طريق عبد الله بن سعيد المقبري.
وقد روى أبو داود والنسائي بإسناد جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير وليضع يديه قبل ركبتيه".
وروى الدارقطني من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه.
وعن ابن عمر: أنه كان يضع يديه قبل ركبتيه، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
يفعل ذلك. رواه ابن خزيمة في "صحيحه"(1) وقال: ذكر الدليل على أن الأمر بوضع اليدين عند السجود منسوخ وأن وضع الركبتين قبل اليدين ناسخ.
وروى (2) من طريق إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبيه عن سلمة عن مصعب بن سعد عن سعد قال. كنا نضع اليدين قبل الركبتين فأمرنا بالركبتين قبل اليدين.
قال أبو الفتح: لا ينبغي أن يصحح مثل هذا، فإن يحيى بن سلمة بن كهيل قال البخاري: في حديثه مناكير.
وقال ابن نمير: ليس ممن يكتب حديثه.
وقال ابن معين: ليس بشيء لا يكتب حديثه.
وقال النسائي: متروك الحديث.
والمشهور عن مصعب عن أبيه نسخ التطبيق.
قال أبو الفتح: قد ذكرنا مذاهب العلماء في هذه المسألة وما استدل به لكل
(1) حديث رقم (627)، وقال الألباني: إسناده صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، ورجحه الحافظ على حديث وائل، وعلقه البخاري. اهـ.
قلت: هو في "المستدرك"(1/ 226)، وانظر "صحيح السنن"(789).
قال العظيم آبادي: قد أعله الدارقطني بتفرد الدراوردي عن عبيد الله بن عمر.
وقال في موضع آخر: تفرد به أصبغ بن الفرج عن الدراوردي.
ولا خير في تفرد الدراوردي، فإنه قد أخرج له مسلم في "صحيحه"، واحتج به.
وأخرج له البخاري مقرونًا بعبد العزيز بن أبي حازم.
وكذلك تفرد أصبغ فإنه قد حدث عنه البخاري في "صحيحه" محتجًا به.
(2)
في "صحيحه"(628)، قال الحافظ (2/ 291): إبراهيم وأبوه ضعيفان.
وقال الألباني: إسناده ضعيف جدًّا، إسماعيل متروك؛ كما في "التقريب"، وابنه إبراهيم ضعيف.
فريق منهم.
قال الشيخ محيي الدين رحمه الله تعالى: ولا يظهر لي الآن ترجيح أحد المذهبين من حيث السنة. وليس الأمر عندي كما ذكر بل أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح لما روينا من طريق الدارقطني (1): ثنا الحسين بن الحسين بن عبد الرحمن القاضي ثنا محمد بن أصبغ بن الفرج ثنا أبي ثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي ثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يضع يديه قبل ركبتيه. وقد ذكرنا عن ابن خزيمة تصحيح حديث ابن عمر في ذلك.
وبحديث الأعرج عن أبي هريرة وتقدم الكلام عليه وقد رويناه من طريق الدارقطني أيضًا ثنا أبو بكر بن أبي داود ثنا محمود بن خالد ثنا مروان يعني ابن محمد ثنا عبد العزيز بن محمد ثنا محمد بن عبد الله بن الحسن عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليضع يديه قبل رجليه ولا يبرك بروك البعير".
حدثنا أبو سهل بن زياد ثنا إسماعيل بن إسحاق ثنا أبو ثابت محمد بن عبيد الله ثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عبد الله بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
فحديث أبي هريرة هذا شاهد لحديث ابن عمر المصحح عن أبي خزيمة وهو شاهد حسن.
وأما حديث وضع الركبتين فقد ذكرنا تفرد شريك به وأنه لا يصلح للاحتجاج إذا انفرد وقد روي من حديث عبد الجبار بن وائل عن أبيه ولم يسمع من أبيه، ولد بعد موته.
(1)"السنن"(1/ 344).
وفيه حديث أنس الذي رويناه من طريق الدارقطني ثنا إسماعيل الصفار ثنا العباس بن محمد ثنا العلاء بن إسماعيل العطار ثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن أنس قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه: ثم انحط بالتكبير فسبقت ركبتاه يديه. قال الدارقطني: تفرد به العلاء بن إسماعيل عن حفص بهذا الإسناد وأما حديث عبيد الله بن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سجد أحدكم فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الجمل" فقد ذكرنا تضعيف عبيد الله بن سعيد والصحيح من ذلك حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة: "وليضع يديه قبل رجليه"، كما ذكرناه من طريق أبي داود والنسائي والدارقطني.
وفي الباب حديث سعد بن أبي وقاص الذي صححه ابن خزيمة وجعله ناسخًا لوضع اليدين قبل الركبتين كما عكس أبو محمد بن حزم فجعل حديث أبي هريرة في وضع اليدين قبل الركبتين ناسخًا لا خالفه ولا يصلح شيء من ذلك أن يكون ناسخًا لغيره.
أما حديث سعد فلضعف يحيى بن سلمة، وأما حديث أبي هريرة فإن أبا محمد قال: لو كان فيه بيان وضع الركبتين قبل اليدين لكان ذلك موافقًا لمعهود الأصل في إباحة كل ذلك ولكان حديث أبي هريرة واردًا بشريعة زائدة رافعة للإباحة السابقة بلا شك ناهية عنها بيقين وليس تحت كلام أبي محمد هذا طائل وليس فيه أكثر من أن الدلالة القولية مقدمة على الدلالة الفعلية إذا تعارضتا.
فتلخص من هذا أن أحاديث وضع اليدين قبل الركبتين أرجح من حيث الإسناد وأصرح من حيث الدلالة إذ هي قولية ولما تعطيه قوة الكلام من التهجين في التشبيه بالبعير الذي ركبته في يده فلا يمكنه تقديم يده على ركبته إذا برك لأنها في الاتصال بيده كالعضو الواحد.
الثانية: وضع الجبهة والأنف على الأرض في السجود كما دل عليه حديث أبي حميد الساعدي وقد صححه وتقدمت الأحاديث في ذلك.
وأما مذاهب العلماء في وجوب وضع الجبهة والأنف على الأرض فجمهور العلماء على وجوب وضع الجبهة وأن الأنف لا تجزيء عنها وقال أبو حنيفة هو مخير بينها وبين الأنف وله الاقتصار على أحدهما.
قال ابن المنذر: ولا يحفظ هذا عن غير أبي حنيفة.
وأما الأنف فالذي ذهب إليه الشافعي أنه لا يجب السجود عليه بل يستحب وذكر عن طاوس وعطاء وعكرمة والحسن وابن سيرين وذكر عبد الرزاق عن إسرائيل عن جابر قال: سألت الشعبي عن الرجل يسجد على طرف جبينه؟ قال: يجزئه. وبه يقول الثوري وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وأبو ثور.
وقال سعيد بن جبير والنخعي وإسحاق: يجب السجود على الأنف مع الجبهة وعن مالك وأحمد روايتان كالمذهبين واحتج لأبي حنيفة بحديث ابن عباس: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين رواه البخاري ومسلم.
واحتج لمن أوجبهما بحديث أبي حميد المذكور وما في معناه من حديث ابن عباس عند مسلم أنه عليه السلام قال: "أمرت أن أسجد على سبع: الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين".
وحديث عكرمة عن ابن عباس: "لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين" قد تقدم ذكره عن الدارقطني وقد أعله هو وغيره بأن الصحيح فيه الإرسال، وما في معناه من حديث وائل وغيره.
وأما من ذهب إلى إيجاب الجبهة فقط فاحتجوا بحديث العباس وأبي حميد
وابن عباس المخرج عن البخاري ومسلم وما في معنى ذلك.
ولا خفاء بما في هذا الاستدلال من الضعف إذ السجود على الأنف في الأحاديث الثابتة التي اقتضته حكم زائد وشرع وارد ولا سبيل إلى رد ما قد ثبت ذلك فيه بما لم يثبت فيه وقد روي عن ابن عباس من طريق عبد الرزاق في "مصنفه"، قال: ثنا إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس، قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا" قال: جبهته، ثم يضع يده عليها، ثم يمره على أنفه، فاليدين، والركبتين، والقدمين.
فبين بهذه الإشارة من إمرار اليد على الأنف أنه مراده أيضًا.
وقد روي عن ابن عباس راوي هذا الخبر الذي: إذا سجدت فألصق أنفك بالأرض، وهو راوي الخبر الذي احتجوا به وراوي ما خالفه من إيجاب السجود على الأنف فكانت فتواه على أحد الخبرين مقوية له.
وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال لمن رآه يصلي: أمسّ أنفك الأرض، وعن سعيد بن جبير: إذا لم تضع أنفك مع جبينك لم تقبل منك تلك السجدة.
وقال أبو محمد بن حزم: وبه يقول الشافعي.
ولم يقل الشافعي بإيجاب السجود على الأنف إلا أن صاحب "البيان" حكى عن الشيخ أبي زيد المروزي أنه حكى قولًا للشافعي أنه يجب السجود على الجبهة والأنف جميعًا وهذا غريب عند أصحابه جدًّا وإن كان الدليل يقتضيه والمشهور عن الشافعي المذكور في كتاب "الأم" وغيره أنه إن اقتصر الساجد على السجود على الجبهة أجزأه ذلك ونصه في كتاب "الأم": كرهت ذلك وأجزأه.
واحتج من لم يوجب الأنف بما ذكرناه من حديث جابر: يسجد بأعلى جبهته
على قصاص الشعر، وقد تقدم تضعيفه.
وقصاص الشعر أول منبته فالساجد عليه لا يصل إلى الأنف قالوا: وحكم الأنف والجبهة في الحديث حكم العضو الواحد ولو كانا عضوين لكان العدد ثمانية فدل ذلك على أن الأمر بالأنف إنما هو بحكم التبع والتمام كما قالوا في الاكتفاء بمسح بعض الرأس عن كله.
وقد يورد على من قال ذاك القول بقول أبي حنيفة فأكثر ما فيه أن الجبهة والأنف عضو واحد فإن اقتصر على بعضه أجزأه فلم كان ذلك البعض الجبهة دون الأنف والله أعلم.
الثالثة: تمكين الوضع للجبهة والأنف من غير حائل لما في حديث أبي حميد من قوله: (مكن جبهته الأرض) وهو يقتضي أكثر من الإمساس والمباشرة.
قال الأصحاب: والأولى أن يسجد على جبهته كلها فإن اقتصر على ما يقع عليه الاسم منها أجزأه مع أنه مكروه كراهة تنزيه هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي في "الأم" وقطع به جمهور الأصحاب وحكى ابن كج والدارمي وجهًا أنه يجب وضع جميعها وهو شاذ ضعيف.
ولو سجد على جانب الجبهة أو على خده أو صدغه أو مقدم رأسه أو على أنفه ولم يضع شيئًا من جبهته على الأرض ولم يجزئه بلا خلاف ونص عليه في "الأم".
والصحيح من الوجهين أنه لا يكفي في وضع الجبهة الإمساس بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه حتى تستقر جبهته فلو سجد على قطن أو حشيش أو شيء محشو بهما وجب أن يتحامل حتى يظهر أثره فإن لم يفعل لم يجزئه وقال إمام الحرمين: عندي أنه يكفي إرخاء رأسه ولا حاجة إلى التحامل والمذهب الأول.
الرابعة: فإن حال دون الجبهة حائل بأن سجد على كفه أو طرف كمه أو عمامته وهما متحركان بحركته في القيام أو القعود أو غيرهما لم تصح صلاته لأنه منسوب إليه فإن سجد على شيء من ذلك وهو طويل جدًّا لا يتحرك بحركته فوجهان؛ الصحيح أنه تصح صلاته.
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يجوز السجود على كور العمامة وحكى عن شريح: أنه كان يسجد على برنسه حكاه عنهم ابن الصباغ في "شامله".
فأما من منع ذلك كما حكيته عن الأصحاب فيحتج في ذلك بحديث خباب بن الأرت: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا.
روى أصله مسلم، وزيادة: وجوهنا وأكفنا عند البيهقي.
ومعنى: لم يشكنا لم يُزل شكوانا.
وعن علي قال: إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن جبهته.
وعن نافع: أن ابن عمر كان إذا سجد وعليه العمامة يرفعها حتى يضع جبهته بالأرض.
وعن عبادة بن الصامت أنه كان إذا قام إلى الصلاة حسر العمامة عن جبهته.
ذكره عنهم أبو بكر بن أبي شيبة بأسانيده، وقال: ثنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن عياض بن عبد الله القرشي قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على كور العمامة فأومأ بيده أن ارفع عمامتك فأومأ إلى جبهته.
وذكر عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه كان يحب للمعتم أن ينحي كور العمامة عن جبهته.
وعن وكيع عن سفيان عن الزبير بن عدي عن إبراهيم قال: أبرز جبيني أحب إليّ.
وعن ابن أبي عدي عن أشعث عن محمد أنه كره السجود على كور العمامة.
وعن وكيع عن يزيد بن إبراهيم عن ابن سيرين مثله.
وعن وكيع عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال: أبرز جبيني أحب إليّ.
وعن ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن هشام عن أبيه في المعتم قال: يمكن جبهته من الأرض.
وعن وكيع عن ابن علاثة أن عمر بن عبد العزيز قال لرجل: لعلك فيمن يسجد على كور العمامة.
وعن ابن فضيل عن حصين عن هلال بن يساف عن جعدة بن هبيرة أنه رأى رجلًا يسجد وعليه مغفرهُ وعمامته وقد غطى بهما وجهه فأخذ مغفره وعمامته فألقاه من خلفه.
وأما من لم بذلك بأسًا فقد ذكره ابن أبي شيبة بأسانيده عن عبد الرحمن بن يزيد وسعيد بن المسيب والحسن وبكر المزني ومكحول والزهري.
وقال ثنا مروان بن معاوية عن أبي ورقاء قال: رأيت ابن أبي أوفى يسجد على كور عمامته.
وعن أبي معاوية عن الأعمش عن مسلم قال: رأيت عبد الرحمن بن يزيد يسجد على عمامة غليظة الأكوار قد حالت بين جبهته وبين الأرض.
وقال المانعون من ذلك من أصحابنا: فإذا سجد على كور عمامته أو كمه أو نحوهما فسجوده باطل فإن تعمده مع علمه بتحريمه بطلت صلاته وإن كان جاهلًا أو ساهيًا لم تبطل لكن يجب إعادة السجود هذا كله إذا لم يكن له في ترك المباشرة
بالجبهة عذر، فإن كان على جبهته جراحة وعصبها بعصابة وسجد على العصابة أجزأه ذلك وصحت صلاته ولا إعادة عليه لأنه إذا سقطت الإعادة مع الإيماء بالرأس للعذر فهاهنا أولى.
قال صاحب "الحاوي" والمستظهري: فيه وجه مخرج من مسح الجبيرة أن عليه الإعادة والمذهب أنه لا إعادة وبه قطع الجمهور.
قال أبو الفتح: وقد ذكر ابن أبي شيبة ثنا ابن علية عن أيوب عن محمد قال: أصابتني شجة فعصبت عليها عصابة فسألت عبيدة: أسجد عليها؟ قال: لا والمشهور الترخيص في مثل ذلك لذوي الأعذار لا سيما إذا اشتدت، قال الله تعالى {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وممن وجدنا عنه الترخيص في ذلك روى أبو بكر عن جرير عن منصور عن فضيل عن إبراهيم قال: صلى عمر ذات يوم بالناس الجمعة في يوم شديد الحر فطرح طرف ثوبه بالأرض فجعل يسجد عليه ثم قال: يا أيها الناس إذا وجد أحدكم الحر فليسجد على طرف ثوبه.
قال أبو بكر: وثنا بشر بن المفضل عن غالب عن بكر عن أنس قال: كنا نصلي مع النبي عليه السلام في شدة الحر فإذا فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه.
وحدثنا شريك عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد يتقي بفضوله حر الأرض وبردها.
وذكر عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم أنه قال: إذا كان حر أو برد فليسجد على ثوبه.
قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عبد الله بن مسلم قال: رأيت مجاهدًا في مسجد الحرام في يوم حار بسط ثوبه يسجد عليه.
ثنا زيد بن حباب عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال: قلت لعطاء بن يسار: أسجد على ثوبي؟ قال: ثيابي مني.
قال ثنا غندر عن أشعث عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسًا أن يسجد الرجل على الثوب.
أنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج عن عطاء قال: أسجد على ثوبي إذا آذاني الحر فأما على ظهر رجل فلا.
السابعة: اختلف أصحابنا في وضع اليدين والركبتين والقدمين على قولين مشهورين نص عليهما الشافعي في "الأم"، قال رحمه الله ورضي عنه: كمال السجود أن يسجد على جبهته وأنفه وراحتيه وركبتيه وقدميه وإن سجد على جبهته دون أنفه كرهت ذلك له وأجزأه وإن سجد على بعض جبهته دون جميعها كرهت ذلك ولم يكن عليه إعادة.
قال: وأحب أن يباشر براحتيه الأرض في الحر والبرد ولا أحب هذا في ركبتيه بل أحب أن تكونا مستورتين بالثياب وأحب وإن لم يكن الرجل متخففًا أن يفضي بقدميه إلى الأرض ولا يسجد منتعلًا.
قال الشافعي (1): وفي هذا قولان:
أحدهما: أن عليه أن يسجد على جميع أعضائه التي أمر بالسجود عليها فمن قال بهذا قال: (إن ترك عضوًا منها لم يوقعه الأرض وهو يقدر على إيقاعه لم يكن ساجدًا كما) إذا ترك جبهته فلم يوقعها الأرض وهو يقدر وإن سجد على ظهر كفيه لم يجزئه وكذا إن سجد على حروفهما وإن ماسّ الأرض ببعض يديه أصابعهما أو
(1)"الأم"(1/ 114)، وما بين القوسين ليس في المطبوع.
بعضهما أو راحتيه أو بعضهما أو سجد على ما عدا جبهته مغطيًا أجزأه وهكذا في الركبتين والقدمين.
قال الشافعي: وهذا مذهب يوافق الحديث.
والقول الثاني: أنه إذا سجد على جبهته أو على شيء منها دون ما سواها أجزأه هذا نصه رحمه الله.
قال الشافعي والأصحاب: وإذا أوجبنا وضع هذه الأعضاء لم يجب كشف الركبتين والقدمين لكن يستحب كشف القدمين ويكره كشف الركبتين وفي وجوب كشف اليدين قولان الصحيح أنه لا يجب والثاني يجب كشف أدنى جزء من باطن كل كف.
الثامنة: قول أبي إسحاق للبراء: (أين كان النبي صلى الله عليه وسلم يضع وجهه إذا سجد؟ قال: بين كفيه) فيه الإشارة إلى طلب الاعتماد في السجود لأنه إذا جعلها عند منكبيه كان معتمدًا عليهما دون الوجه، وإذا جعلهما حيال وجهه كان معتمدًا عليهما وعلى وجهه وهو مما سبق من تمكين وضع الجبهة والأنف في السجود كما في حديث أبي حميد.
التاسعة: في حديث طاوس عن ابن عباس ولا يكف شعره ولا ثيابه، وروي: ولا يكفت وهو بمعناه وقد تكسر الفاء من يكفت والمراد لا يجمع ذلك، ومنه قوله تعالى:{ألم نجعل الأرض كفاتا} أي: نجمع الناس في حياتهم وموتهم.
واتفق العلماء على النهي أن يصلي الرجل مشمرًا ثوبه أو كمه أو نحوه أو معقوصًا شعره أو مردودًا شعره تحت عمامته أو ما أشبه ذلك، كل هذا مكروه كراهة تنزيه ولا إعادة على المصلي كذلك نقل الطبري في ذلك الإجماع ونقل ابن المنذر الإعادة فيه عن الحسن البصري كأنه يرى أن الشعر يسجد معه. مذهب الجمهور أن
النهي مطلقًا لمن صلى كذلك سواء تعمده للصلاة أم لا.
وقال الداودي: يختص النهي بمن فعل ذلك للصلاة وهو المختار الذي دلت عليه الآثار وكراهة ذلك معللة بأمرين ما تقدم من سجود الشعر مع الساجد ولهذا مثل فاعل ذلك بالذي يصلي وهو مكتوف كما جاء في حديث ابن عباس عند مسلم أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه فقام فجعل يحله فلما انصرف أقبل إلى ابن عباس فقال: ما لك ولرأسي! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف
…
".
ولما يشير إليه رفع المصلي ثوبه وشعره عن الأرض ومباشرتها بذلك من الكبر والترفع المذموم فاعله.
وأيضًا فربما كان به في شغل في الصلاة لم تدع إليه ضرورة.
العاشرة: ذكر في التجافي في السجود حديث ابن أقرم، قال الشافعي والأصحاب: يستحب أن يجافى مرفقيه عن جنبيه ويرفع بطنه عن فخذيه وتضم المرأة بعضها إلى بعض وقد تقدم في الركوع تفسير هذه اللفظة وذهب بعض السلف إلى أن حكم النساء في ذلك التربع وذكر عن أبي حنيفة تخييرهن بين التجافي والانضمام وحكم الفرائض والنوافل في ذلك سواء.
الحادية عشرة: الأمر بالاعتدال في السجود يريد به استواء الاعتماد على الرجلين والركبتين واليدين وسائر أعضاء السجود ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر فيكون الاعتماد عليه أكثر وبالتساوي يحصل العدل فيكون ممتثلًا لقوله: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم"، وإذا فرش ذراعيه فرش الكلب كان الاعتماد عليها دون الوجه وهذا أدب متفق على استحبابه، فلو تركه كان مسيئًا مرتكبًا لما نهي عنه نهي تنزيه قالوا: والحكمة فيه أنه أنسب إلى التواضع وأبلغ في تمكين الجبهة
والأنف من الأرض، وأبعد من هيئات الكسالى، فإن المنبسط يشبه الكلب ويُشعِر حاله بالتهاون بالصلاة وقلة الاهتمام بها والإقبال عليها، وكذلك النهي عن افتراش السبع ولا شك في كراهة هذه الهيئة ولفظ الحديث هنا "ولا يبسطن أحدكم ذراعيه بسط الكلب" فأتى بمصدر يبسط على هيئته ووقع في "صحيح مسلم":"ولا يبسط انبساط الكلب" بالمصدر هناك من انبسط كأنه قال بسط فانبسط انبساطًا ومثله قوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} كأنه قال: أنبتكم فنبتم نباتًا وقوله تعالى. {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا} والأمر في حديث سعد بوضع اليدين ونصب القدمين من ذلك.
الثانية عشرة: ذكر في باب إقامة الصلب إذا رفع رأسه من السجود حديث البراء بن عازب قال: كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع وإذا سجد وإذا رفع رأسه من السجود قريبًا من السواء.
فيه بيان الطمأنينة في هذه الأركان بالفعل كما سبق بيانها بالقول لا سيما على رواية من رواه في الأركان كلها وكذلك هو عند مسلم فهذه المقاربة المذكورة ربما اقتضت أن بعض تلك الأركان أطول من بعض إلا أن التفاوت بينها ليس بكثير ولعله في القيام وجلوس التشهد على أن البخاري قد رواه فقال فيه: ما خلا القيام والقعود.
فأما على رواية الترمذي فقد لا يحتاج إلى تأويل وأما على رواية من ذكر الأركان كلها فإنه قد ثبت أنه كان يطيل القيام ويقرأ فيه بالستين إلى المائة ويذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يرجع فيجده قائمًا في الركعة الأولى فيحتمل أن يكون ذلك الطول كان في أول الأمر ثم كان التخفيف بعد.
الثالثة عشرة: فيه إقامة الصلب من السجود وهو مقصود الباب وقد تقدم
الكلام فيه في أبواب الركوع في حديث "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها يعني صلبه في الركوع والسجود" بما يغني عن الإعادة هنا ويكفي من ذلك ما في حديث أنس كان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائمًا حتى يقول القائل قد نسي وذكر في الرفع من السجود مثله. فقد وقع أيضًا البيان في حديثي البراء وأنس بطمأنينة الرفع من الركوع والرفع من السجود قولًا وفعلًا.
الرابعة عشرة: ذكر في كراهية أن يبادر الإمام بالركوع والسجود حديث البراء: لم يحن رجل منا ظهره حتى يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسجد الحديث، فيه متابعة المأموم إمامه وأن فعله ذلك يكون عقيب فعله من غير فصل لما تقتضيه الفاء من التعقيب بلا مهلة وكذلك قوله: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا الحديث، قال أبو بكر الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يسئل: متى يكبر من خلف الإمام؟ ومتى يركع؟ فذكر الحديث. إذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا ثم قال: يتبعه في كل شيء يصنعه كلما فعل شيئًا فعله بعده.
قال أبو الفتح: قال الفقهاء بوجوب ذلك في تكبيرة الإحرام والسلام قالوا: إن شرع في تكبيرة الإحرام قبل فراغ الإمام منها لم تنعقد صلاته وكذلك في السلام فإن سلم قبله بطلت صلاته إلا أن ينوي المفارقة (1) ففيه خلاف مشهور وإن سلم معه فلا تبطل على الصحيح.
وأما في الركوع وغيره فإن قارنه أو سبقه فقد أساء ولكن لا تبطل صلاته واختلف قول مالك في ذلك: فروي عنه أن عمل المأموم كله مع عمل الإمام ركوعه وسجوده ورفعه وخفضه ما خلا الإحرام والتسليم فإنه لا يكون إلا بعد عمل الإمام وبعقبه، وروي عنه مثل ذلك ما خلا الإحرام والقيام من اثنتين والسلام.
(1) في نسخة السندي: المقارنة!
وقد روي عن مالك: أن الأحب إليه أن يكون عمل الأموم في ذلك كله بعد عمل الإمام وبعقبه.
قال أبو عمر: هذا أحسن.
قال أبو الفتح: ووجه تحسين هذا وما قدمنا حكايته عن الأثرم عن أحمد أن الفاء ظاهرة في التعقيب، ثم تحتمل بعد ذلك تعقيب الشروع بالشروع أو تعقيب التمام بالشروع، والثاني أولى إذ هو الحقيقة وقد حملوها على ما هو الأولى من تعقيب التمام بالشروع في تكبيرة الإحرام إجماعًا فكان الأحسن اطّراد ذلك في جميع الأركان فمن خرج عن ذلك طولب بالدليل.
الخامسة عشرة: ذكر في كراهة الإقعاء حديث علي وفي الرخصة فيه حديث ابن عباس وقد تقدم تفسيره بالوجهين فذهب قوم إلى أن أحاديث النهي ناسخة لأحاديث الإباحة قال الإمام: لعل ابن عباس لم يعلم ما ورد من الأحاديث الناسخة التي فيها النهي عن الإقعاء والذي اختاره القاضي وآخرون أن اختلاف الحكم فيه تابع لاختلاف التفسير كما قدمنا فأحد نوعيه هو المكروه أن يلصق أليتيه بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب.
والثاني: أن يجعل أليتيه على عقبيه بين السجدتين وهذا مراد ابن عباس بقوله: سنة نبيكم وقد نص الشافعي في البويطي والإملاء على استحبابه في الجلوس بين السجدتين وقد روي عن جماعة من السلف فعله قالوا: وكذا جاء مفسرًا عن ابن عباس من السنة أن تمس عقبيك أليتيك وللشافعي نص آخر في الجلوس بين السجدتين من أن السنة فيه الافتراش وهو أشهر عنه وأما جلسة التشهد الأول وجلسة الاستراحة فسنتهما الافتراش وجلسة التشهد الآخر سنتها التورك وسيأتي لهذا مزيد بيان.
السادسة عشرة: قوله: (إنا لنراه جفاء بالرجل) كان أبو عمر بن عبد البر يقوله بكسر الراء وإسكان الجيم ويقول: من ضم الجيم وفتح الراء فقد غلط، يريد والذي اختاره الأكثرون ما رده أبو عمر قالوا: وهذا الذي يصلح أن ينسب له الجفاء.
السابعة عشرة: ذكر في الاعتماد في السجود حديث "استعينوا بالركب"، قال صاحب "التتمة": إذا كان يصلي وحده وطول السجود ولحقه مشقة بالاعتماد على كفيه وضع ساعديه على ركبتيه لحديث أبي هريرة هذا.
وقال ابن العربي: لما شكوا إليه المشقة قال: يكفيكم الاعتماد على الركب راحة.
الثامنة عشرة: حديث مالك بن الحويرث في جلسة الاستراحة والصحيح عندنا استحبابها مطلقًا لصحة أحاديثها وبها قال مالك بن الحويرث وأبو قتادة وأبو حميد وجماعة من الصحابة وهو مذهب داود ورواية عن أحمد. وقال آخرون: لا تستحب، ذكر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبي الزناد ومالك والثوري وأصحاب الرأي.
وهي جلسة لطيفة جدًّا وفي التكبير أوجه أصحها أنه يرفع مكبرًا ويمد التكبير إلى أن يستوي قائمًا والسنة فيها أن يجلس مفترشًا وأن تكون عقيب السجدتين في كل ركعة يعقبها قيام سواء الأولى والثالثة، والفرائض والنوافل.
التاسعة عشرة: ذكر حديث أبي هريرة: (ينهض على صدور قدميه) وقد اختلف العلماء في كيفية النهوض إلى الركعة الثانية وسائر الركعات فالذي ذهب إليه الشافعي أنه يستحب أن يقوم معتمدًا على يديه وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر ومكحول وعمر بن عبد العزيز والقاسم بن عبد الرحمن ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة وداود: يقوم غير معتمد بيديه على الأرض بل يعتمد على صدور قدميه وإليه
ذهب ابن مسعود وحكاه ابن المنذر عن علي والنخعي والثوري واحتجوا بحديث الباب وذكروا حديث أبي شيبة عن زياد بن زيد عن أبي جحيفة عن علي قال: من السنة إذا نهض الرجل في الصلاة المكتوبة من الركعتين الأوليين لا يعتمد بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخًا كبيرًا لا يستطيع. رواه البيهقي.
وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة.
وعن وائل بن حجر في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: وإذا نهض نهض على ركبتيه واعتمد على فخذيه رواهما أبو داود.
وذكروا في ذلك آثارًا عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد أنهم يقومون على صدور أقدامهم في الصلاة.
واحتج الشافعي ومن قال بقوله بحديث مالك بن الحويرث مرفوعًا: وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام. رواه البخاري.
وقالوا: هو أبلغ في الخشوع والتواضع وأعون للمصلي وأحرى أن لا ينقلب.
* * *