الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[82 - باب ما يقول الرجل إذا رفع رأسه من الركوع]
وحديث أبي هريرة ورفاعة الزرقي كلاهما في خبر المسيء صلاته وفيه: "ثم ارفع حتى تعتدل قائمًا
…
" الحديث، وقد تقدم.
وفيه أيضًا عن عبد الرحمن بن شبل: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب وافتراش السبع
…
الحديث. ذكره أبو داود في باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود من كتابه.
وفي الباب أيضًا عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته"! قالوا: يا رسول الله! كيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها ولا سجودها" أو قال: "لا يقيم صلبه في الركوع والسجود". رواه الإمام أحمد. وعن أبي عبد الله الأشعري قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه، ثم جلس في طائفة منهم، فدخل رجل فقام يصلي فجعل يركع وينظر في سجوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه، فقال:"ترون هذا! لو مات هذا لمات على غير ملة محمد؛ ينقر صلاته كما ينقر الغراب الدم، إنما مثل الذي يصلي ولا يركع، وينقر في سجوده كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين؛ فما تغنيان عنه، أسبغوا الوضوء، وويل للأعقاب من النار، فأتموا الركوع والسجود".
قال أبو صالح: فقلت لأبي عبد الله الأشعري: من حدثك بهذا الحديث، قال: أمراء الأجناد؛ خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، كل هؤلاء سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،روى عنه ابن ماجه:"ويل للأعقاب من النار"، رواه بكماله ابن خزيمة في "صحيحه".
وفيه أيضًا عن جابر -هو ابن عبد الله-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود" رواه البيهقي، وقال: تفرد به يحيى بن أبي بكر.
وذكر في باب ........ ما يقول الرجل إذا رفع رأسه من الركوع حديث عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" الحديث وصححه وقد خرجه مسلم من حديث عبد العزيز بن عبد الله عن عمه أبي سلمة الماجشون بنحوه.
قال: وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى وأبي جحيفة وأبي سعيد وفي الباب بعده حديث أبي هريرة وصححه وقد أخرجه البخاري ومسلم.
أما حديث ابن عمر فقال النسائي في "الكبير": أنا سويد بن نصر قال لنا عبد الله عن مالك عن ابن شهاب عن سالم عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه وإذا كبر للركوع وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك أيضًا وقال: "سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" وقال: لا يفعل ذلك في السجود.
وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والجد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لا منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". رواه مسلم.
وحديث ابن أبي أوفى: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ"، رواه مسلم.
وحديث أبي جحيفة قال: ذكرت الجُدُود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فقال رجل: جد فلان في الخيل، وقال آخر: جد فلان في الإبل، وقال آخر: جد فلان في الغنم، وقال آخر: جد فلان في الرقيق، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع
رأسه من آخر الركعة فقال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد" وطول رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته بالجد ليعلموا أنه ليس كما يقولون، رواه ابن ماجه.
وحديث أبي سعيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: "اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد". رواه مسلم.
وفيه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده" قال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال:"من المتكلم" قال: أنا، قال:"رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول". رواه البخاري.
الكلام على شيء من مفردات هذه الأحاديث، وفيه مسائل:
الأولى: بالقسي (1) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة نسبة إلى موضع تنسب إليه الثياب القسية وهي ثياب مضلعة بالحرير تعمل بالقس من بلاد مصر مما يلي الفرما، وذكر بعضهم أن أصحاب الحديث يقولونه: بالكسر وأهل مصر بالفتح ذكره عياض وهو ثياب يلبسها أشراف النساء وقال النمري:
فأدنين حتى جاوز الركب دونها
…
حجاب من القسي والحبرات
الثانية: المعصفر الثوب المصبوغ بالعصفر وقد اختلف الناس في حكم مفدمه ومورده والممشق منه كما سيأتي.
(1) انظر "التمهيد"(16/ 116) و"الاستذكار"(1/ 431).
وقارن مع "صحيح مسلم"(2078)، و"تغليق التعليق"(5/ 64)، وأصله في البخاري.
والمفدم عند أهل اللغة: المشبع حمرة والمورد دونه كأنه من لون الورد والممشق المصبوغ بالمشق قال أبو عمر: هو طين يصبغ به، أحمر هو المغرة أو نحوها (1).
الثالثة: التختم لبس الخاتم، قال الجوهري: الخاتَم والخاتم بكسر التاء والخيتَام والخاتام كله بمعنى والجمع الخواتيم وتختمت إذا لبسته.
وقال القاضي عياض: والخاتم بفتح التاء وكسرها من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم قال ثعلب: والخاتم الذي ختم به الأنبياء والخاتم أحسن الأنبياء خُلْقًا وخَلْقًا.
الرابعة: قوله: لك الحمد ملء السماوات الحديث قال الخطابي: هو تمثيل وتقريب والمراد تكثير العدد حتى لو قدر ذلك وكان أجسامًا يملأن ذلك ويحتمل أن المراد بذلك أجرها، ويحتمل أن المراد بها التعظيم لقدرها لا كثرة عددها كما يقال: هذه كلمة تملأ طباق الأرض، وكان ابن خالويه يرجح فتح الهمزة من ملء والزجاج يروي (2) الرفع فيها وكلاهما جائز.
الخامسة: (أهل الثناء والمجد) الوجه النصب في (أهل) على أنه منادى مضاف حذف حرف ندائه، ويجوز رفعه على تقدير: أنت أهل.
والثناء: المدح، والمجد: العظمة والشرف.
السادسة: قوله: (أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد اللهم لا مانع لما أعطيت) معنى أحق أوجب وأثبت وأولى وهو مرفوع بالابتداء، وخبره (اللهم لا مانع لما أعطيت)، و (كلنا لك عبد) جملة معترضة بين المبتدأ والخبر ويجوز أن يكون قوله (ما قال العبد) خبرًا لما قبله أي: قول: (ربنا لك الحمد
…
) إلى آخره، أحق ما قال العبد.
(1)"التمهيد"(16/ 123).
وقارن مع "صحيح ابن خزيمة"(2689).
(2)
كأنها في الأصل: يرى.
السابعة: و (لا ينفع ذا الجد منك الجد) المشهور فتح الجيم فيهما.
والجد مفتوح: الحظ والغنى، ومعناه لا ينفع من رزق مالًا وجاهًا وحظًا دنيويًّا شيء من ذلك عندك وإنما ينفعه العمل الصالح كما قال تعالى:{يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم} وحكي عن الشيباني كسر الجيم فيهما وأنكره الطبري، والجد مكسور: الاجتهاد ومعناه على هذا: لا ينفع ذا الاجتهاد والعمل اجتهاده أي لا ينجي شيء من ذلك صاحبه إنما النجاة بفضل الله تعالى ورحمته نحو قوله: "لن ينجي أحدًا منكم عمله
…
" الحديث. أو لا ينفع ذا الإسراع في الهرب منك إسراعه نحو قوله: (لا ملجأ منك إلا إليك) ويشبه بهذا قول النابغة يعتذر للنعمان بن المنذر:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع (1)
قال أبو الفتح: وأحق ما فسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديثه، وفي حديث أبي جحيفة: ذُكرت الجدود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل جد فلان في الخيل، وقال آخر: جد فلان في الإبل
…
الحديث، فقال عليه الصلاة والسلام، فذكر
…
"ولا ينفع ذا الجد منك الجد"، والمراد بالجد الأول الحظ، المفتوح الجيم بيقين، وكذلك ما وقع في بقية الحديث، ولا وجه بعد هذا لذكر الكسر في الجد والله أعلم.
الثامنة: قوله في حديث ابن أبي أوفى: (اللهم طهرني بالثلج والبرد وماء البارد) استعارة للمبالغة في التنظيف من الذنوب وماء البارد من باب إضافة الشيء إلى صفته.
التاسعة: قوله: (فقمن) بفتح القاف والميم ومعناه حقيق وجدير ويقال: قمن بكسر الميم وقمين بالياء بعد اليم فالفتح مصدر وغيره نعت يثنى ويجمع قاله الجوهري.
(1) انظر "تاريخ دمشق"(19/ 225) حيث عده أبو الأسود الدؤلي صاحبه أمام ابن عباس أشعر الناس، واستشهد بهذا البيت.
التاسعة (1): (سبحانك) اسم علم المصدر سبح وقع موقعه فنصب نصبه وهو لا ينصرف للتعريف والألف والنون الزائدتين كعثمان ومعناه البراءة لله من كل نقص وسوء وهو في الغالب مما لا ينفصل عن الإضافة وقد جاء منفصلًا عنها في شذوذ ومنه قول الأعشى:
أقول لما جاءني فخره
…
سبحان من علقمة الفاخر
وفي البيت معنى التعجب كأنه قال: تعجبًا من علقمة.
العاشرة: قوله: (وبحمدك) متعلق بفعل محذوف دل عليه التسبيح كأنه يريد بحمدك سبحتك أي بتفضلك وهدايتك هذا قولهم وكأنهم لحظوا في الحمد هنا معنى الشكر، ويحتمل وجهًا ثانيًا وهو إبقاء الحمد على أصله وتكون الباء باء السبب ويكون المراد بأنك موصوف بصفات الكمال والجلال (2) سبحك المسبحون وعظمك المعظمون.
الحادية عشرة: قوله: (اللهم اغفر لي)، الغفر التغطية والغفر الغفران. قال الجوهري: ويقال استغفر الله لذنبه ومن ذنبه [بمعنى] فغفر له ذنبه مغفرة وغفرًا وغفرانًا واغتفر ذنبه مثله.
وقال الراغب: الغفر إلباس الشيء ما يصونه عن الدنس ومنه [قيل:] اغفر ثوبك في الوحا (3)، واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال تعالى:{غفرانك ربنا وإليك المصير} وسيأتي الكلام على دعائه عليه السلام بالمغفرة في المباحث إن شاء الله تعالى.
الثانية عشرة: الذنوب جمع ذنب، قال الجوهري: وهو الجرم وقد أذنب الرجل وقال أبو القاسم الراغب في مادة ذنب: ذنب الدابة وغيرها معروف ويعبر به عن
(1) كذا في الأصول المخطوطة وحقها أن تكون العاشرة حسب ترتيب الشارح، كما ترى، والله أعلم.
(2)
في نسخة السندي: الجمال.
(3)
كذا، وفي "المفردات": الوعاء.
المتأخر والرذل يقال: هم أذناب القوم ثم قال: ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتبارًا بذنبة الشيء ولهذا يسمّى الذنب تبعة والعقوبة اعتبارًا بما يحصل من عاقبته وجمع الذنب ذنوب قال تعالى: {فأخذهم الله بذنوبهم} وقال: {فكلًا أخذنا بذنبه} وقال: {ومن يغفر الذنوب إلا الله} إلى غير ذلك من الآي.
الثالثة عشرة: الخطايا جمع خطيئة على وزن فعيلة والخطأ نقيض الصواب وقد يمد وقرئ بهما قوله تعالى: {ومن قتل مؤمنًا خطأ} يقول منه: أخطأت وتخطأت بمعنى واحد ولا تقل أخطيت وبعضهم يقوله. والخطء الذنب في قوله تعالى: {إن قتلهم كان خطئًا كبيرًا} أي: إثمًا يقول منه خَطِئ يخطأ خطئًا وخطأة على فعلة والاسم الخطيئة على فعيلة ولك أن تشدد الياء لأن كل ياء ساكنة قبلها كسرة أو واو ساكنة قبلها ضمة وهما زائدتان للمد لا للإلحاق ولا هما من نفس الكلمة فإنك تقلب الهمزة بعد الواو واوًا وبعد الياء ياءً وتدغم فتقول في مقروء مقروّ وفي خبيء خبيّ بتشديد الواو والياء.
وأما جمع الخطيئة خطايا فكان الأصل خطائي على فعايل فلما اجتمعت الهمزتان قلب الثانية ياء لأن قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل وهو معتل مع ذلك فقلبت الياء ألفًا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين وقال الجوهري: وقولهم: ما أخطأه! إنما هو تعجب من خطئ لا من أخطأ وحكى عن أبي عبيدة خطئ وأخطأ لغتان بمعنى واحد وأنشد:
يا لهف هند إذا خطئن كاهلًا
أي: أخطأن، وقال الأموي: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره والخاطئ من تعمد لما لا ينبغي.
وقال القزاز: قيل إنما يقال خطيت أخطأ خَطًا وخُطًا إذا كان من الخطيئة وخَطِتُ وأخطأت خطأ والخطأ من الخطأ ويقولون: لأن تُخطِيء العلم أيسر من أن تخطأ في الدين فالأول من أخطأ يخطيء، والثاني من خَطيء يخطأ وقال الراغب في
"مفرداته": الخطأ العدول عن الجهة وذلك أضرب أحدها أن تريد غير ما يحسن إرادته فتفعله وهذا هو الخطأ التام المأخوذ به الإنسان ويقال فيه: خطأ يخطأ خُطأً وخَطأً قال الله تعالى: {إنه كان خطئًا كبيرًا} وقال تعالى: {وإن كنا لخاطئين} .
والثاني: أن يريد ما يحسن فعله ولكن يقع منه خلافه فيقال! أخطأ خطأ فهو مخطيء وهذا قد أصاب في الإرادة وأخطأ في الفعل وهذا المعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسان" وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من اجتهد فأخطأ فله أجر" وعليه قوله عز وجل: {ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة} .
والثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله ويتفق منه خلافه فهذا مخطيء في الإرادة ومصيب في الفعل فهو مذموم بقصده، وغير محمود على فعله وهذا المعنى الذي أراد الشاعر بقوله:
أردت مساءتي فاجتررت (1) مسرتي
…
وقد يحسن الإنسان من حيث لا يدري
وجملة الأمر: أن من أراد شيئًا ووقع منه خلافه يقال: أخطأ، وإن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، ويقال لمن فعل فعلًا لا يحسن أو أراد إرادة لا تحتمل: أخطأ ولهذا يقال: أصاب الخطأ وأخطأ الصواب وأصاب الصواب وأخطأ الخطأ وهذه اللفظة مشتركة كما ترى مترددة بين معان يجب لمن يتحرى الحقائق أن يتأملها.
الرابعة عشرة: الجبروت فعلوت من التجبر والجبراء إصلاح الشيء بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر واجتبر وقد قيل: جبرته فجبر.
قال الشاعر:
قد جبر الدين الإله فجبر (2)
(1) كذا في الأصلين، وفي "التعاريف" (318): فأجرت.
(2)
هو للعجاج. انظر "تفسير الطبري"(6/ 174)، و"تاريخ دمشق"(28/ 130) و (45/ 291) و"الاستيعاب"(3/ 1014).
هذا قول أكثر أهل اللغة، قال الراغب: وقال بعضهم: ليس قوله فجبر مذكورًا على سبيل الانفعال بل ذلك على سبيل الفعل وكرره ونبه بالأول على الابتداء بإصلاحه وبالثاني على تتميمه.
وأما في وصفه تعالى فقد قيل (العزيز الجبار) سمي بذلك من قولهم: جبرت الفقير لأنه هو الذي يجبر الناس بفائض نعمته وقيل: لأنه يجبر الناس أي: يقهرهم على ما يريده، ودفع بعض أهل اللغة ذلك من حيث اللفظ فقال: لا يقال من أفعلتُ فعال مشدد فجبّار لا يبنى من أجبرت! فأجيب عنه بأن ذلك من لفظ الجبر المروي في قوله: لا جبر ولا تفويض لا من لفظ الإجبار.
الخامسة عشرة: والملكوت من الملك، والملك الحق الدائم لله تعالى قال الله:{فتعالى الله الملك الحق} ، وقال:{له الملك وله الحمد} وقال: {اللهم مالك الملك} الآية فالملك ضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم والملك كالحبس للملك، فكل مُلك ملك وليس كل ملك مُلكًا، والملكوت مختصة بمُلك الله تعالى، قال تعالى:{وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض} وقال: {أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض} قاله الراغب.
السادسة عشرة: والكبرياء الترفع عن الانقياد وذلك لا يستحقه غير الله تعالى: قال: {وله الكبرياء في السماوات والأرض} ولما قلنا روي عنه عليه السلام "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما قصمته" وقال تعالى: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء} .
السابعة عشرة: البضع بالكسر المقتطع من العشرة، ويقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة وقيل: بل هو فوق الخمس ودون العشر قال تعالى {بضع سنين} .
الثامنة عشرة: سبوح قدوس بضم السين والقاف وفتحها والأول أكثر، قال ابن فارس والزبيدي سبوح هو لله عز وجل، والمراد المسبح المقدس وهو المبرأ من
النقائص ويأتيان مرفوعان على خبر مبتدأ ومنصوبان بإضمار فعل أي: أَعْظِم أو اذكر وما أشبه ذلك.
التاسعة عشرة: الروح قيل: هو جبريل وقيل: ملك عظيم وقيل: خلق يخفون عن الملائكة كخفاء الملائكة عنا.
الكلام على ما يستفاد من هذه الأحاديث ويستنبط منها من الأحكام.
وفيه مسائل:
الأولى: قوله عليه السلام "اللهم اغفر لي" والكلام في ذلك يستتبع الكلام في الذنوب والخطايا وما إلى ذلك.
قال أبو العباس: وقوله: "اللهم اغفر لي ذنبي كله" الحديث فيه دليل على نسبة الذنوب إليه، وقد اختلف الناس في ذلك فمنهم من يقول: الأنبياء كلهم معصومون من الكبائر والصغائر، وذهب شرذمة من الروافض إلى تجويز كل ذلك عليهم إلا ما يناقض مدلول المعجزة كالكذب والكفر، وذهب المقتصدون إلى أنهم معصومون عن الكبائر إجماعًا سابقًا خلاف الروافض ولا يعتد بخلافهم إذ قد حكم بكفرهم كثير من العلماء. انتهى كلام أبي العباس، وكأنه يحتج إلى عصمة الأنبياء عليهم السلام من الكبائر دون الصغائر، وهو قول محكي عن الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري وطائفة من الفقهاء والمحدثين.
قال القاضي عياض: والمحققون من الفقهاء والمتكلمين على خلاف ذلك وأنهم معصومون من الصغائر والكبائر، وقد قال ابن عباس وغيره: إن كل ما عصي الله به فهو كبيرة وإنه إنما سمى منها الصغير بالإضافة إلى ما هو أكبر منه ومخالفة الباري في أي أمر كان يجب كونه كبيرة.
وقال القاضي عبد الوهاب بن علي: لا يمكن أن يقال إن في معاصي الله تعالى صغيرة إلا على معنى أنها تغتفر باجتناب الكبائر ولا يكون لها حكم مع ذلك
بخلاف الكبائر إذا لم يتب منها فلا يحبطها شيء والمشيئة في العفو عنها إلى الله.
قال القاضي عياض: وهو قول أبي بكر وجماعة من الأشعرية وكثير من أئمة الفقهاء، قال: وقد استدل بعض الأئمة على عصمتهم من الصغائر بالمصير إلى امتثال أفعالهم واتباع آثارهم وسيرهم مطلقًا وجمهور الفقهاء على ذلك من أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة من غير التزام قرينة بل مطلقًا عند بعضهم وإن اختلفوا في حكمة ذلك انتهى كلامه.
ولم يعد النبي صلى الله عليه وسلم في استغفاره ربه جل ثناؤه إلا امتثال أمره في قوله: {استغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} وقد قال تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} .
وقد حكي عن الأنبياء ما يذكرونه في الموقف من ذنوبهم وقد قال الله تعالى عن نوح عليه السلام: {وإلا تغفر لي وترحمني} الآية.
وقد كان الله قال له: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} وقال تعالى عن إبراهيم: {والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين} ، وقال عن موسى:{تبت إليك} ، والذي يختاره أبو محمد ابن حزم في هذا وأمثاله أن الخطيئة المرادة في مثل هذا هي ما وقع من الأنبياء عليهم السلام بنسيان أو إرادة قربة لم توافق القصد في نفس الأمر هذا معنى كلامه وهو يجوز ذلك على الأنبياء، فإنه قال: ولسنا نبعد ذلك من الأنبياء عليهم السلام وإنما منع (1) القصد إلى المعصية وهم يعلمون أنها معصية.
وفيما قدمناه عن الراغب من معاني الخطيئة ما يقتضي وقوعها على مثل ذلك، وفيما ذهب إليه أبو محمد من ذلك خلاف بين العلماء وهو يرى أيضًا أن الأنبياء عليهم السلام مؤاخذون بمثل ذلك من السهو بخلاف أممهم، لعليّ قدرهم
(1) عند السندي: يمنع.
ورفيع منصبهم والذي حكاه عياض أن الأنبياء وأممهم في ذلك سواء كلهم لا يؤاخذون بشيء من ذلك.
وأما اختلاف المفسرين في تأويل قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} فقيل: المراد ما كان قبل النبوة وبعدها وقيل: المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع اعفه إذ (1) مغفور له.
وقيل ما كان قبل النبوة والمتأخر عصمتك بعدها حكاه أحمد بن نصر وقيل: المراد بذلك أمته عليه السلام، وقيل: المراد ما كان عن سهو وغفلة وتأويل، حكاه الطبري واختاره القشيري وقيل: ما تقدم لأبيك آدم من ذنوب أمته حكاه السمرقندي والسلمي عن ابن عطاء وبمثله والذي قبله يتأول قوله: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} قال مكي: مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم هنا مخاطبة لأمته. وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أن يقول: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} سر بذلك الكفار فأنزل الله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك} فمقصود الآية أنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب لو كان، وقال بعضهم. المغفرة هنا تنزيه [له] من العيوب، ويحتمل أيضًا أن يكون المراد بالاستغفار: ومما يستغفر منه ما ذكره العلماء في الجواب عن قوله عليه السلام: "إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في كل يوم مائة مرة" أن المراد بالغين شيء يغشى القلب ولا يغطيه كل التغطية، قال القاضي عياض: فيكون المراد بهذا الغين إشارة إلى غفلات قلبه وفترات نفسه وسهوها عن مداومة الذكر ومشاهدة الحق بما كان دُفع إليه من مقاساة البشر وسياسة الأمة ومعاناة الأهل ومقاومة الولي والعدو ومصلحة النفس وما كلفه من أعباء [أداء](2) الرسالة وحمل الأمانة وهو في
(1) كذا في نسخة السندي، وهو غير واضح في الأصل، وما استظهرته هو. (اعتبر كأنه). والله أعلم.
(2)
زيادة من "الشفاء"(316 - ابن حزم) والجملة عنده بعد: وعبادة خالقك ولكن لما كان صلى الله عليه وسلم أرفع الخلق عند الله مكانة، وأعلاهم درجة، وأتمهم به معرفة، وكانت حاله عند خلوص قلبه وخلو همته =
كل هذا في طاعة ربه وعبادة خالقه، لكن يرى المقام الأول من اشتغاله بربه خالية أرفع حاليْه هذا معنى كلامه.
وقد حكينا الخلاف في جواز مثل هذا على الأنبياء من السهو عن شيء من التعلق بالله تعالى في حال نظرهم في مصالح الأم وما أشبه ذلك.
وقد ذكر لي شيخنا الزاهد المحقق أبو محمد العقيلي وأنا أقرأ عليه "الطبقات الكبرى" لابن سعد في ترجمة عروة بن الزبير وأن ساقه نشر وحسم في حال صلاته ولم يشعر بذلك لاستغراقه في الصلاة.
فقال: هذا عند أهل الطريق نهاية السفر الأول، والسفر الثاني عندهم أرفع من هذا وهو ما يروى عن عمر بن الخطاب من استعماله فكره في تجهيز الجيوش وتوليته الولايات وهو في الصلاة في مرتبة من الحضور مع ...... (1) لم يبلغها عروة، انتهى.
فإذا كان هذا حال عمر، فكيف الأنبياء!
وقال بعض من لا يرى ذلك معنى الحديث ما يهم خاطره ويغم فكره من أمر أمته عليه السلام لاهتمامه بهم وكثرة شفقته عليهم فيستغفر لهم.
وقيل: وقد يكون الغين هنا على قلبه السكينة التي تغشاه لقوله تعالى: {فأنزل الله سكينته عليه} فيكون استغفاره عندها إظهارًا للعبودية.
وقال ابن عطاء: استغفاره وفعله هذا تعريف للأمة بحملهم على الاستغفار وقيل غير ذلك.
= وتفرده بربه وإقباله بكليته عليه، ومقامه هنالك أرفع حاليه رأى عليه السلام حال فترته عنها وشغله بسواها، غضًّا من علي حاله، وخفضًا من رفيع مقامه، فاستغفر الله من ذلك. اهـ.
(1)
بياض في الأصول.
الثاني: التسبيح في الركوع قال أصحابنا: التسبيح وسائر الأذكار في الركوع والسجود وقول: سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام كل ذلك سنة ليس بواجب فلو تركه لم يأثم وصلاته صحيحة سواء تركه عمدًا أو سهوًا لكن يكره تركه عمدًا هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء.
وقال إسحاق بن راهويه: التسبيح واجب فإن تركه عمدًا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل.
وقال الظاهري: واجب مطلقًا وأشار الخطابي في "معالم السنن" إلى اختياره، وقال أحمد: التسبيح في الركوع والسجود وقول سمع الله لمن حمده وربنا لك الحمد والذكر بين السجدتين وجميع التكبيرات واجب فإن ترك شيئًا منه عمدًا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل ويسجد للسهو هذا هو الصحيح عنه، وعنه رواية أنه سنة كقول الجمهور واحتج من أوجبه بحديث عقبة بن عامر المذكور وبأنه عليه السلام كان يفعله وقال:"صلوا كما رأيتموني أصلي" وبالقياس على القراءة.
واحتج الشافعي والجمهور بحديث المسيء صلاته فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه واجبات الصلاة ولم يعلمه هذه الأذكار مع أنه علمه تكبيرة الإحرام والقراءة فلو كانت هذه الأذكار واجبة لعلمه إيّاها بل هذه أولى بالتعليم لو كانت واجبة لأنها تقال سرًّا وتخفى.
وأما الأحاديث الواردة فيها فمحمولة على الاستحباب جمعًا بين الأدلة وأما القياس على القراءة ففرق أصحابنا بأن الأفعال في الصلاة ضربان:
أحدهما: معتاد للناس في غير الصلاة وهو القيام والقعود وهذا لا تتميز العبادة فيه عن العادة فوجب فيه الذكر ليتميز.
والثاني: غير معتاد وهو الركوع والسجود فهو خضوع في نفسه متميز بصورته
عن أفعال العادة فلم يفتقر إلى تمييز.
الثالثة: يحصل أصل السنة في التسبيح بقوله سبحان الله وسبحان ربي العظيم، وأدنى الكمال أن يقول: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات ليس معناه عندهم أنه لا يجزئ أقل من الثلاث بل لو سبح مرة واحدة كان آتيًا بسنة التسبيح لكن ليس الآتي بذلك آتيًا بأقل الكمال وإنما هو آت بأقل ما يجزئ ولو سبح خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو إحدى عشرة كان أفضل لكنه إذا كان إمامًا فيستحب أن لا يزيد على ثلاث كذا قالوا وإنما ذلك لما يكره من الإطالة خشية المشقة على المأمومين.
وما ذكره الترمذي عن ابن المبارك وإسحاق بن راهويه من استحباب الخمس للإمام ليدرك من خلفه ثلاثًا حسن ولم أره لأحد من الأصحاب، وقد قال به سفيان الثوري.
قال الماوردي: أدنى الكمال ثلاث والكمال إحدى عشرة أو تسع وأوسطه خمسة ولو سبح مرة حصل التسبيح.
الرابعة: يستحب عندنا أن يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، وأن يقول بعد التسبيح: اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي، كذا رواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه فإن رأى الاقتصار على أحد الذكرين فالتسبيح أفضل.
قال القاضي أبو الطيب والإتيان بقوله: اللهم لك ركعت
…
إلى أخره، مع ثلاث تسبيحات أفضل من حذفه وزيادة التسبيح على ثلاث وهذا واضح.
وقال ابن القاسم عن مالك: إنه لم يعرف قول الناس في الركوع: سبحان ربي العظيم، وفي السجود: سبحان ربي الأعلى، وأنكره ولم يجد في الركوع والسجود دعاء موقتًا ولا تسبيحًا.
وقال: إذا أمكن يديه من ركبتيه في الركوع، وجبهته من الأرض في السجود فقد أجزأ عنه.
قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما والثوري والأوزاعي وأبو داود (1) وأحمد وإسحاق يقول في الركوع: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وفي السجود: سبحان ربي الأعلي ثلاثًا.
وروى القعنبي عن صلة بن زفر عن حذيفة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثًا، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاثًا.
وروى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وروى السعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
ومن حديث أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في سجوده ويقول: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر".
ويحتج باختلاف ألفاظ التسبيح في هذه الأحاديث من يرى أن لا تحديد في ذلك كما ذكره ابن القاسم عن مالك.
الخامسة: قول علي عليه السلام: (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول نهاكم) يشعر بأن اللفظ الذي سمعه في ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقرأ القرآن في الركوع) فحافظ حالة التبليغ على ما سمع حالة التحمل، فهو من باب نقل الحديث بلفظه كما سمع، وقد اقتصر عليه قوم، والأكثرون على جواز الرواية بالمعنى، ذكر معناه القرطبي، وفيه نظر بأن عليًّا عليه السلام لو أدى لفظ النبي صلى الله عليه وسلم لقال: (لا تقرأ
(1) كذا!
القرآن وأنت راكع) أو غير ذلك، كما سمعه.
وأما قوله: نهاني فالظاهر أنه أداء لمعنى ما وقع لا لصيغة ما وقع، غير أنه قصد المطابقة في خصوصه بالنهي.
- وهذا هو المعنى.
وأما لو كان لفظ النهي يقتضي تخصيصه به وأداه بلفظ يقتضي العموم لكان قد تجاوز المعنى أيضًا، لأن تعَدي الحكم إلى غيره يحتاج إلى دليل أخر كما سيأتي.
السادسة: فإذا قلنا: يتعدى هذا الحكم إلى غير علي احتجنا إلى دليل من خارج، إما عام؛ من كونه عليه السلام حكمه على الواحد كحكمه على الجميع فقد اشتهر على ألسنة الفقهاء والمتكلمين أنه قال عليه السلام:"حكمي على الواحد كحكمي على الجميع"، ولا أعلم لهذا أصلًا.
أو خاص؛ كقوله عليه السلام فيما روى عنه ابن عباس: "نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا"، مع قوله:"صلوا كما رأيتموتي أصلي" فبذلك يتم الدليل.
السابعة: النهي في هذا الحديث تناول منهيات يختلف حكم النهي فيها فهو في بعضها محمول على التحريم، وفي بعضها محمول على الكراهة، كما سيأتي. وصيغة النهي واحدة، وأما أن تكون مشتركة بين المعنيين أو حقيقة في التحريم مجازًا في الكراهة، ففيه استعمال المشترك في معنييه، أو اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه، وما جوز من ذلك فعلى خلاف الأصل.
الثامنة: اختلف هل تدخل النساء في خطاب الرجال عند الإطلاق أم لا؟ على قولين، والمنهي عنه في هذا الحديث منه ما يتعلق بالرجال والنساء وهو ترك القراءة في الركوع والسجود، ومنه ما يخص الرجال وهو ما عدا ذلك.
التاسعة: فعلى القول بدخولهن في الخطاب بالنهي يحتاج من أخرجهن إلى دليل.
العاشرة: القسي وقد تقدم بيانه في المفردات، وأما حكمه فقد أجمع العلماء على أن لباس الحرير حرام على الرجال دون النساء، وكذلك التحلي بالذهب لا يختلفون في ذلك إلا من شذ ممن حرم الحرير على النساء فقد حكي ذلك عن ابن الزبير، والجمهور على خلافه لحديث عبيد الله بن عمر عن نافع عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل أحل لإناث أمتي الحرير والذهب وحرمها على ذكورهما".
وروي مثله عن علي عليه السلام من وجوه.
قال الطحاوي: وروى تحريم الحرير عن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة: عمر وعلي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية في جماعة من الصحابة وحذيفة وعمران بن الحصين والبراء بن عازب وابن الزبير وأبو سعيد الخدري وأنس وعقبة بن عامر وأبو أمامة وأبو هريرة وغيرهم.
وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة".
روي نحوه من حديث عقبة بن عامر وعمر بن الخطاب وأبي سعيد الخدري وهذا وعيد شديد لأن الله عز وجل يقول: {ولباسهم فيها حرير} .
الحادية عشرة: وأما الصبيان فقال أصحابنا: يجوز لباسهم الحلي والحرير يوم العيد، وفي جواز لباسهم إياه في باقي السنة ثلاثة أوجه أصحها الجواز والثاني: التحريم، والثالث: يحرم بعد سن التمييز.
الثانية عشرة: قد تقدم في المفردات أن القسي ثياب مضلعة بالحرير فإن
حملنا النهي على التحريم اقتضى تحريم القليل والكثير منه وهو مما اختلف العلماء فيه، فممن كان يذهب إلى ذلك ابن عمر وهو ممن روى حديث الحلة السيراء، وذكر ابن أبي شيبة (1) ثنا وكيع عن المغيرة بن زياد عن أبي عمر مولى أسماء قال: رأيت ابن عمر اشترى عمامة لها علم فدعا بالجلمين (2) فقصّه فدخلت على أسماء فذكرت لها ذلك فقالت: بؤسًا لعبد الله يا جارية هاتي جبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءت بجبة مكفوفة الكمين والجيب والفرج (3) بالديباج.
وذكر أبو داود (4) ثنا مسدد ثنا عيسى بن يونس ثنا المغيرة بن زياد ثنا عبد الله أبو (5) عمر مولى أسماء بنت أبي بكر قال: رأيت ابن عمر في السوق واشترى ثوبًا شاميًّا فرأى فيه خيطًا أحمر فرده فأتيت أسماء وذكر الحديث.
روى ابن أبي خيثمة ثنا إبراهيم بن عرعرة ثنا معاذ بن معاذ ثنا ابن عون عن الحسن قال: دخلنا على ابن عمر وهو بالبطحاء فقال رجل: با أبا عبد الرحمن ثيابنا هذه قد خالطها الحرير وهو قليل فقال: اتركوا قليله وكثيره.
وخالفه في ذلك ابن عباس وجماعة كانوا يرون أن النهي والتحريم في ذلك عنى به الثوب من الحرير الخالص الذي لا يخالطه فيه شيء غيره واحتجوا بما روى أبو
(1)"المصنف"(24684) وقد رواه ابن ماجه (3594) عنه، وكذلك ابن عبد البر في "الاستذكار"(8/ 319) و"التمهيد"(14/ 255).
وصححه الألباني، وقال: رواه مسلم نحوه.
(2)
قال ابن الأثير: الجلم: الذي يجز به الشعر والصوف.
والجلمان شفرتان، وهكذا يقال مثنى، كالمقص والمقصين.
(3)
عند ابن أبي شيبة، وابن ماجه: الفرجين، والمثبت الأصل، وهو كذلك عند ابن عبد البر.
(4)
"السنن"(4054)، وصححه الألباني، وقال: رواه مسلم.
قلت: انظر "صحيح مسلم"(2069)، وهو عن مسلم في قصة ومراجعة بين أسماء وابن عمر.
(5)
الأصل: ابن! وهو عبد الله بن كيسان أبو عمر. وهو ثقة. "التقريب".
داود (1) ثنا ابن نفيل ثنا زهير ثنا خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت من الحرير فأما العلم من الحرير وسدى الثوب فلا بأس.
وذهب قوم من أهل العلم إلى أن ما كان سداؤه حريرًا من الثياب لا يجوز لباسه للرجال بحال وذكروا أن الحلة السيراء هذه صفتها على ما قال أهل اللغة، واحتج من ذهب هذا المذهب بحديث ............... (2)، ثنا يزيد بن أبي زياد عن أبي فاختة عن جعدة بن هبيرة عن علي بن أبي طالب قال: أهدى أمير أذرعات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حلة مسيرة بحرير إما سداها وإما لحمتها فبعث بها إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما أصنع بها ألبسها؟ فقال: "إني لا أرضى لك ما أكره لنفسي فاجعلها خمرًا بين الفواطم" فشققت منها أربعة أخمرة خمارًا لفاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أم علي وخمارًا لفاطمة ابنة محمد صلى الله عليه وسلم وخمارًا لفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب.
قال يزيد بن أبي زياد: وذكر فاطمة أخرى فنسيتها.
قال القاضي عياض (3): يشبه أن تكون الرابعة فاطمة بنت شيبة بن ربيعة امرأة عقيل بن أبي طالب لاختصاصها بعلي بالصاهرة وهي من المبايعات.
وأرخصت هذه الطائفة وغيرها من أهل العلم من الحرير في الأعلام نحو
(1)"السنن"(4055) وقال الألباني: صحيح دون قوله: فأما العلم
…
(2)
بياض بالأصول مقدار سطر، والحديث رواه ابن ماجه (3596) من طريق ابن أبي شيبة (24647)، حتى المرفوع، دون فعل علي بعده. وتفصيلاته.
وهو عند مسلم (2071) من طريق ابن أبي شيبة وغيره، لكن بإسناد آخر، والحديث فيه بعض اختلاف، وبالمرفوع مثل السابق كذلك.
(3)
"الإكمال"(6/ 578).
الأصبعين والثلاث لا غير، ولا يجيزون أكثر من ذلك، ولم يجيروا السدى ولا اللحمة، هذا كله للرجال، وقال أبو عمر: وأما حكاية أقاويل الفقهاء في هذا الباب، فذكر ابن وهب وابن القاسم عن مالك: أكره لبس الخز لأن سداه حرير، وأباح الشافعي لبس قباء محشو بقز لأن القز باطن.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بلبس ما كان سداؤه حريرًا ولحمته غير ذلك، قال: وأكره ما كان لحمته حريرًا وسداه غير حرير.
وقال محمد بن الحسن: لا بأس بلبس الخز ما لم يكن فيه شهرة فإن كانت فيه شهرة فلا خير فيه.
قال أبو جعفر الطحاوي: قد أجمعوا على نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم[الرجال](1) عن لبس الحرير، وفي حديث ابن عباس: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثوب المصمت، فأما السدى والعلم فلا.
وقال بسر بن سعيد: رأيت على سعد بن أبي وقاص جبة شامية قيامها قز، ورأيت على زيد بن ثابت خمائص معلمة (2).
وقال أصحابنا في القسي: إن كان الحرير أكثر فالنهي فيه للتحريم وإن كان أقله فالنهي محمول فيه على كراهة التنزيه.
الثالثة عشرة: لبس الحرير في الحرب وقد رخص فيه قوم ومنع منه آخرون.
فحجة من رخص ما روينا من طريق ابن ماجه ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن حجاج عن أبي عمر مولى أسماء ابنة أبي بكر أنها
(1) ليست في "التمهيد".
(2)
"التمهيد"(14/ 256) وانظر "الاستذكار"(8/ 322).
أخرجت جبة مزرورة (1) بالديباج فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس هذه إذا لقي العدو.
كذا رواه ابن ماجه في الجهاد (2) ورواه في اللباس (3) عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن وكيع عن مغيرة بن زياد عن أبي عمر به. وقد روى أبو داود (4) من حديث عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ألبس القميص المكفف بالحرير".
وممن كرهه بكل حال مالك وابن القاسم وجماعة، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب.
وقال ابن عون: سألت محمد بن سيرين عن لبس الديباج في الحرب؟ فقال: من أين كانوا يجدون الديباج؟!
وعن عكرمة أنه كرهه للحرب وقال: أرجا ما يكون للشهادة.
وعن ابن محيريز مثله بمعناه.
الرابعة عشرة: لبس الحرير للجرب والحكة كذلك كرهه قوم ورخص فيه آخرون منهم الشافعي، فأما الكراهة فحكى ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وجماعة كراهته بكل حال.
فأما من منع منه فتمسك بعموم الأحاديث السابقة فيه.
وأما من رخص فيحتج بما روينا من طريق البخاري ومسلم من حديث شعبة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص للزبير بن العوام ولعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكة كانت بهما.
(1) في السندي: مزورة!
(2)
"السنن"(2819) وضعفه الألباني.
(3)
سبق قريبًا، وأنه عند ابن ماجه (3594) وأصله في مسلم.
(4)
"السنن"(4048) وصححه الألباني.
قال أبو عمر: وقد روي عن مالك الرخصة في ذلك أيضًا كمذهب الشافعي، والمشهور عندنا أنه يجوز للجرب والحكة ونحو ذلك في السفر والحضر جميعًا.
وقال بعض أصحابنا: يختص الجواز بالسفر وقد ثبت حديث سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن عوف وللزبير بن العوام في قميص الحرير في السفر من حكة كانت بهما.
ويلتحق بذلك عندنا ما في معناه من ضرورة: من خاف حرًّا أو بردًا ولم يجد غيره أو من فاجأته الحرب ولم يجد غيره.
الخامسة عشرة: المعصفر لم يختلف العلماء في إباحته للنساء بكل حال، واختلفوا في إباحته للرجال.
فأباحه قوم منهم الشافعي وأبو حنيفة، وكرهه آخرون كراهة تنزيه، وحملوا النهي على هذا.
وقال مالك: غيره أفضل منه، وفي رواية عنه أجاز لبسه في البيوت وأفنية الدور، وكرهه في المحافل والأسواق ونحوها.
وقال الخطابي: النهي هنا ينصرف إلى ما صبغ بعد النسج، فأما ما ضبغ غزله ثم نسج فليس بداخل في النهي.
وحمل بعض العلماء النهي على الحج والعمرة كما في حديث ابن عمر في نهي المحرم أن يلبس ثوبًا مسه زعفران أو ورس، ورُوي عن مالك وبعض المدنيين أنهم كانوا يرخصون للرجال في المورد والممشق.
وقال ابن القاسم عن مالك: أكره المعصفر المفدّم للرجال والنساء أن يحرموا فيه
لأنه ينتفض (1).
قال مالك: وأكرهه للرجال أيضًا في غير الإحرام. هـ
فأما من أباحه قال أبو عمر: لا أعلم له حجة إلا أن يدعي أن ذلك خصوصيًّا لعلي لقوله: نهاني ولا أقول نهاكم، ورد ذلك لثبوت الخبر فيه عن غير علي.
قال أبو الفتح: وقد احتج من أباح ذلك أيضًا بلبسه عليه السلام الحلة الحمراء كما صح من حديث البراء قال: ما رأيت من ذي لمة في حلة حمراء أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبما روى أبو داود من طريق هلال بن عامر عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يخطب على بغلة وعليه برد أحمر وعلي عليه السلام أمامه يعبر عنه.
وذكر البيهقي عن الشافعي أنه قال: إذ أباحه: لا أعلم في ذلك شيئًا إلا قول علي عليه السلام نهاني ولا أقول نهاكم.
قال البيهقي: وقد جاءت أحاديث تدل على النهي على العموم.
ثم ذكر حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، ولفظه عند مسلم: قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم علي ثوبين معصفرين فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"، وفي لفظٍ له:"أمك أمرتك بهذا"؟ قلت: أغسلهما؟ قال: "بل أحرقهما"(2).
قال: ولو بلغت هذه الأحاديث الشافعي لعمل بها ثم ذكر بسنده عن الشافعي قوله: إذا صح حديث النبي صلى الله عليه وسلم خلاف القول فاعملوا بالحديث ودعوا قولي وفي
(1)"المدونة"(2/ 362، 460)، وانظر "الاستذكار"(1/ 434).
وقوله ينتفض بالفاء والضاد، قال ابن الأثير: نصل لون الصبغ فلا يبقى إلا الأثر.
(2)
رواه مسلم (2077).
رواية عنه: إذا صح الحديث فهو مذهبي، قال الشافعي: وأنهى الرجل الحلال بكل حال [أن يتزعفر وآمره] إذا تزعفر إلا أن يغسله قال البيهقي: فتبع الشافعي السنة في التزعفر ومتابعتها في المعصفر أولى به، وممن قال بكراهته أبو عبد الله الحليمي قال النووي: وترخص فيه جماعة والسنة أولى بالاتباع (1).
أخبرنا أبو الفضل عبد الرحيم ابن يوسف الموصلي قراءة عليه وأنا أسمع أنا أبو حفص بن طبرزد أنا أبو البدر الكرخي وغيره قالوا: أنا أبو بكر الخطيب قال: قرأت على أبي عمر الهاشمي أخبركم أبو علي محمد بن أحمد بن لؤلؤ قال: أنا أبو داود السجستاني قال: ثنا مخلد بن خالد قال ثنا روح ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا أركب الأرجوان ولا ألبس المعصفر ولا ألبس القميص المكفف بالحرير)، الحديث.
وروينا فيه من طريق أبي داود عن رافع بن خديج وعن غيره.
السادسة عشرة: النهي عن التختم بالذهب أمر مجمع عليه للرجال دون النساء، ولا خلاف أن لبس الذهب والحرير للنساء حلال إلا شذوذ لا يعرج عليه (2)، قال أصحابنا: وكذلك لو كان بعضه ذهباً وبعضه فضة أو لو كان مموهاً بذهب يسير فكله حرام أنا عبد الرحيم بن يوسف أنا عمر بن محمد أنا إبراهيم بن محمد أنا أحمد بن علي أنا القاسم بن جعفر أنا أبو علي محمد بن أحمد نا أبو داود نا مسدد نا المعتمر قال: سمعت الركين بن الربيع يحدث عن القاسم بن حسان عن عبد الرحمن بن حرملة: أن ابن مسعود كان يقول: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يكره عشر
خلال: الصفرة - يعني الخلوق، وتغيير الشيب، وجر الإزار، والتختم بالذهب،
(1)«شرح النووي» (14/ 54)، و «فتح الباري» (10/ 304).
(2)
أي في تحريم الذهب على النساء أيضا، وهو قول الشيخ الألباني، وخصصه بالمحلق!
وذكر تمام الخبر (1).
وروينا من حديت مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب. رواه النسائي.
ومن حديث معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن خاتم الذهب .. في حديث رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
وفيه عن ابن مسعود وعبد الله بن عمرو.
وأما خاتم الوَرِق للنساء والرجال فجائز عند الجمهور، وقال أبو عمر: وقد كره بعض أهل العلم لباس الخاتم جملة لحديث ابن شهاب الذي سنذكره، وكره بعضهم الخاتم لغير السلطان، قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل سئل عن لبس الخاتم؟ فقال: أهل الشام يكرهونه لغير ذي سلطان، وقال أبو بكر: وثنا أبو عبد الله بحديث أبي ريحانة أنه كره خلالًا ذكر منها الخاتم لغير ذي سلطان (2).
أخبرنا أبو الفضل عبد الرحيم بن يوسف قراءة عليه وأنا أسمع أنا أبو حفص بن طبرزد أنا أبو البدر الكرخي وغيره أنا أبو بكر الخطيب أنا أبو عمر الهاشمي أنا أبو علي محمد بن أحمد بن اللؤلؤ ثنا أبو داود (3) وثنا يزيد بن خالد بن عبد الله بن
(1)"السنن" لأبي داود (4222) والنسائي (5088) واستنكره الألباني وأحال على "تيسير الانتفاع" ترجمة ابن حرملة هذا.
واكتفى في "الهداية"(4323) بتضعيفه.
(2)
وتتمته عند ابن البر (7/ 101) من "التمهيد"، و (8/ 395) من "الاستذكار": فلما بلغ أحمد هذا الموضع تبسم كالمتعجب، ثم قال: يا لأهل الشام.
(م: الأصل: يا أهل الشام، وهو بمعنى السابق).
(3)
انظر "السنن"(4049) وقال بعده: الذي تفرد به من هذا الحديث ذكر الخاتم.
والحديث ضعفه الشيخ الألباني.
موهب ثنا المفضل يعني ابن فضالة عن عياش بن عياش عن أبي الحصين يعني الهيثم بن شفي قال: خرجت أنا وصاحب لي [يكنى أبا عامر](1) رجل من المعافر: لنصلي بإيلياء وكان قاضيهم رجل من الأزد يقال له أبو ريحانة من الصحابة قال أبو الحصين: فسبقني صاحبي إلى المسجد تم ردفته فجلست إلى جنبه فسألني: هل أدركت قصص أبي ريحانة؟ قلت: لا. قال: سمعته يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عشر عن [الوشر و] الوشم والنتف وعن مكامعة الرجل الرجل بغير شعار ومكامعة المرأة المرأة بغير شعار وأن يجعل الرجل في أسفل ثيابه حريرًا مثل الأعاجم أو يجعل الرجل على منكبيه حريرًا مثل الأعاجم وعن النهبى وركوب النمور ولبوس الخاتم إلا لذي سلطان.
وحديث ابن شهاب الذي تقدمت الإشارة إليه رويناه من طريق أبو داود بالسند المذكور إليه واللفظ له من طريق النسائي قالا: أنا محمد بن سليمان لوين عن إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن أنس: أنه رأى في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتمًا من ورق يومًا واحدًا فصنع الناس فلبسوا وطرح النبي صلى الله عليه وسلم فطرح الناس (2).
قال أبو داود: ورواه عن الزهري زياد بن سعد وشعيب وابن مسافر كلهم قال: من ورقٍ.
قال أبو عمر المحفوظ: عن أنس في هذا الباب غير ما قال ابن شهاب من رواية جماعة من أصحابه عنه قال: وهذا غلط عند أهل العلم، والمعروف أنه إنما نبذ خاتمًا من ذهب لا من ورق والذي عليه جمهور الناس من المتقدمين والمتأخرين إجازة لبس
(1) زيادة من "السنن"، عليها طمس في الأصل، وتجاوزها في نسخة السندي!
(2)
رواه أبو داود (4221) والنسائي (5291)، وصححه الألباني وعزاه للشيخين.
قلت: رواه البخاري (5868) ومسلم (2093)، وقال عند ابن حبان (5466) رواية:(من ذهب) أصح.
الخاتم الفضة للسلطان وغيره وذكر مالك (1) عن صدقة بن يسار سألت سعيد بن المسيب عن لبس الخاتم؟ فقال: البسه وأخبر الناس أني أفتيتك بذلك.
وروينا عن أبي داود (2) بالسند الذكور لآنفًا ثنا عبد الرحيم بن المطرف ثنا عيسى عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب إلى بعض الأعاجم فقيل له: إنهم لا يقرؤنا كتاب إلا بخاتم فأخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه محمد رسول الله.
قال: حدثنا وهب بن بقية عن خالد عن سعيد عن قتادة عن أنس بمعنى حديث عيسى بن يونس زاد: فكان في يده حتى قبض وفي يد أبي بكر حتى قبض وفي يد عمر حتى قبض وفي يد عثمان فبيما هو عند بئر أريس إذ سقط في البئر فأمر بها فنزحت فلم يقدر عليه (3).
وروينا فيه من طريق أبي داود والترمذي وسيأتي بكماله من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه: أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه فسأله عن الخاتم: من أي شيء أتخذه؟ قال: "اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالًا"، وستأتي الأحاديث في ذلك وحكم التختم باليمين والشمال وما يتعلق بذلك مبسوطًا في موضعه من هذا الكتاب
إن شاء الله تعالى.
(1)"الموطأ"(1676) قال ابن عبد البر (8/ 395) من "الاستذكار": رواه ابن عيينة عن صدقة على غير هذا المعنى، (ثم ذكره بإسناده عن سفيان عن صدقة: قلت: لسعيد: الخاتم يكون فيه ذكر الله ألبسه على الجنابة، وأدخل به الخلاء؟).
قال: ألبسه بأمري وأخبر الناس أني أفتيتك بذلك.
قال أبو عمر بن عبد البر: ورواية ابن جربج له عن صدقة بن يسار نحو رواية ابن عيينة.
(2)
"السنن"(4214)، وهو عند البخاري (5872) ومسلم (2092).
(3)
"السنن"(4215)، وقال الألباني: إسناده صحيح.
قلت: وهو في البخاري (5865) ومسلم (2091) وليس عندهما نزح عثمان البئر.
السابعة عشرة: النهي عن قراءة القرآن في الركوع. قال الشافعي وسائر الأصحاب وغيرهم: تكره قراءة القرآن في الركوع والسجود والتشهد وغير حالة القيام من أحوال الصلاة للأحاديث في ذلك. أما قراءة القرآن في الركوع:
فلو قرأ في ركوع أو سجود غير الفاتحة كره ولم تبطل صلاته وإن قرأ الفاتحة ففيه وجهان أصحهما أنه كغير الفاتحة فيكره ولا تبطل صلاته والثاني تحرم وتبطل صلاته هذا حكم العامد فإن قرأ ساهيًا لم تكره.
وسواء قرأ عمدًا أو سهوًا يسجد للسهو عند الشافعي.
الثامنة عشرة: قوله عليه السلام: "لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل يعني صلبه في الركوع والسجود"، ظاهر في وجوب الطمأنينة في الرفع من الركوع ومن السجود ومذهبنا أنه ركن لا تصح الصلاة إلا به وبهذا قال أحمد وداود وأكثر العلماء.
وقال أبو حنيفة: لا يجب بل لو انحط من الركوع إلى السجود أجزأه.
وعن مالك روايتان كالمذهبين، واحتج لهم بقوله تعالى:{اركعوا واسجدوا} وكذلك قال أبو حنيفة في الجلوس بين السجدتين لا تجب الطمأنينة ولا الجلوس بل ويكفي أن يرفع رأسه عن الأرض أدنى رفع ولو كحد السيف.
وعنه وعن مالك أنهما قالا: يجب أن يرتفع بحيث يكون إلى القعود أقرب منه إلى السجود.
ودليلنا ما سبق من أحاديث الباب وما ثبت من كيفية صلاته عليه السلام ومع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} لا يعارض ما ذكرناه.
التاسعة عشرة: في الأذكار المقولة بعد الرفع من الركوع وقد تقدمت في أحاديث الباب وشرح ألفاظها في المفردات قال الأصحاب: وينبغي أن لا يطول الاعتدال زيادة على القدر المشروع لأذكاره فإن طول زيادة عليه ففي بطلان صلاته خلاف، ولو أتى بالركوع الواجب فعرضت له علة منعته من الانتصاب سجد من ركوعه وسقط عنه الاعتدال لتعذره، فلو زالت العلة قبل بلوغ جبهته الأرض وجب أن يرتفع وينتصب قامًا ويعتدل ثم يسجد، وإن زالت بعد وضع جبهته على الأرض لم يرجع إلى الاعتدال بل قد سقط عنه، فإن عاد إليه بعد تمام سجوده عالمًا بتحريمه بطلت صلاته وإن كان جاهلًا لم تبطل ويعود إلى السجود.
الموفية عشرين: تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقد كان عليه السلام في حديث المسيء صلاته مبينًا حيث بين ما يجب عليه من الطمأنينة في الأركان كلها بقوله: "حتى تطمئن راكعًا، وحتى تطمئن ساجدًا" وقال في الرفع من الركوع: "حتى تعتدل قائمًا" ولم يقل: حتى تطمئن قائمًا ولو كانت الطمأنينة في الرفع من الركوع واجبة لبينها كما بين غيرها لكن لم يبينها فدل على أنها ليست بواجبة.
هذه طريقة نزع إليها إمام الحرمين على أنه لم يخالف أصحابه في وجوبها وإنما قال: في قلبي منها شيء وعلل بما ذكرناه.
ويكتفي من أوجبها بقوله عليه السلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" مع ما حكي عنه من الطمأنينة في ذلك الركن.
الحادية والعشرون: الإتيان بالصيغة المروية من قول: (سمع الله لمن حمده) أولى فلو عكس وقال: من حمد الله سمع له أجزأه بخلاف ما لو قال في التكبير أكبر الله فإنه لا يجزئه على الصحيح، فإن هذا في التكبير يحيل المعنى وفي التسميع لا يحيله، وكذلك في قوله (ربنا ولك الحمد) لو قال لك الحمد ربنا أجزأه، ولكن
موافقة لفظ الخبر أولى والسنة أن يقول ذلك في حال ارتفاعه من الركوع فإذا استوى قائمًا استحب أن يقول: ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء من بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد.
الثانية والعشرون: قال الشيخ محيي الدين: الذي في روايات المحدثين: (أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد) والذي في كتب الفقه: حق ما قال العبد كلنا لك عبد؛ بحذف الألف والواو، وكلاهما صحيح المعنى ولكن المختار ما وردت به السنة.
قال أبو الفتح: هذا الحديث قد روي عن ابن عباس وأبي جحيفة وأبي هريرة وغيرهم ممن تقدم وهذه اللفظة (حق ما قال العبد) جاءت في حديث أبي سعيد الخدري وقد اختلفت الروايات فيها فالذي رواه أبو داود: أحق بالهمزة والذي رويناه من طريق النسائي في كتابه الكبير والمجتنى (1): حق بغير همز وما كان كذلك فلا يحسن أن يقال فيه: والذي في روايات المحدثين فإن اللفظين في روايات المحدثين.
أخبرنا أبو محمد شاكر الله بن غلام الله بن إسماعيل السبكي وأبو الطاهر أحمد بن عبد الكريم بن غازي الواسطي واخرون قالوا: أنا أبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن نافا سماعًا قال: أنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن حمد الدوني أنا أبو نصر أحمد ابن الحسين الكسار أنا أبو بكر أحمد بن محمد بن السني أنا أبو عبد الرحمن النسائي أخبرني عمرو بن هشام أبو أمية الحراني ثنا مخلد عن سعيد بن عبد العزيز عن عطية بن قيس عن قزعة بن يحيى عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد
(1) كذا الأصل.
ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد حق ما قال العبد وكلنا لك عبد" الحديث.
وهكذا رويناه في "سننه الكبير" بسندنا إليه عن عمرو بن هشام بسنده كما ذكره.
الثالثة والعشرون: قد اختلفت الألفاظ في القول بعد الرفع من الركوع، ففي بعضها أنها عليه السلام كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، وفي بعضها إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد، وفي حديث رفاعة بن رافع: كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه: ربنا لك الحمد الحديث، وكلها في الصحيح فاختلفت المذاهب في ذلك بحسب اختلاف هذه الألفاظ كما سنذكره.
فمذهبنا أنه يقول في حال ارتفاعه: سمع الله لمن حمده فإذا استوى قائمًا قال: ربنا لك الحمد إلى آخره وأنه يستحب الجمع بين هذين الذكرين للإمام والمأموم والمنفرد وبه قال عطاء وأبو بردة ومحمد بن سيرين وإسحاق وداود.
وقال أبو حنيفة: يقول الإمام والمنفرد سمع الله لمن حمده فقط ويقول المأموم ربنا لك الحمد إلى آخره فقط حكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي ومالك وأحمد وقال: وبه أقول.
وقال الثوري والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد: يجمع الإمام بين الذكرين ويقتصر المأموم على ربنا ولك الحمد.
فأما الطائفة الأولى فاحتجوا بما ثبت من قوله عليه السلام: سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد، وما ثبت من قوله عليه السلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي".
وأما الطائفة الثانية فتمسكوا بحديث: "إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد".
وأما الثالثة فأخذوا جمع الإمام بين الذكرين بما ثبت أنه عليه السلام كان يجمع بينهما واقتصار المأموم على ربنا لك الحمد من قوله عليه السلام يخاطب المأمومين: "فقولوا: ربنا لك الحمد".
وأجاب أصحابنا عن حديث فقولوا: ربنا لك الحمد بما زعموا من أنه عليه السلام كان يجهر بسمع الله لمن حمده فاستغنى بجهره بها عن أن يأمرهم بها مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ويسر ما بعدها من الذكر الثاني، فأمرهم به لاحتمال خفائه عنهم لإسراره به.
الرابع والعشرون: قالوا معنى سمع الله لمن حمده تفبل الله حمد من حمده ومنه قولهم سمع الله دعاءك أي تقبل الله دعاءك.
الخامسة والعشرون: قوله (فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)، قال أبو عمر: الوجه عندي في هذا واللَه أعلم تعظيم فضل الذكر وأنه يحط الأوزار ويغفر الذنوب وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم: {يستغفرون للذين آمنوا ويقولون ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلمًا فاغفر للذين آمنوا واتبعوا سبيلك} فمن كان منه من القول مثل هذا بإخلاص واجتهاد ونية صادقة وتوبة صحيحة غفرت ذنوبه إن شاء الله.
وقد روي عن عكرمة ما يدل على أن أهل السماء يصلون في حين صلاة أهل الأرض على نحو صلاة أهل الأرض ويؤمنون أيضًا فمن وافق ذلك منهم غفر له والله أعلم، وكل هذا ندب إلى الخير وإرشاد إلى البر.
* * *