الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(331) بَابُ مَنْ رَأَى فِيهَا سُجُودًا
1406 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، نَا شُعْبَةُ، عن أَبِي إِسْحَاقَ، عن الأَسْوَدِ، عن عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ، فَسَجَدَ بِهَا (1)، وَمَا بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ إِلَّا سَجَدَ، فَأَخَذ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ
===
(331)
(بَابُ مَنْ رَأَى فِيهَا) أي في المفصل من السور (سُجُودًا)
1406 -
(حدثنا حفص بن عمر، نا شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود، عن عبد الله) بن مسعود: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم (2) فسجد بها) أي بعد ما قرأ آية السجدة (وما بقي أحد من القوم) أي قريش (إلَّا سجد)، أما المسلمون فسجدوا لسجود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المشركون فسجدوا لاستماع أسماء آلهتهم، أو لما ظهر لهم من سطوة سلطان العز والجبروت وسطوع الأنوار العظيمة والكبرياء من توحيد الله عز وجل، وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق لهم شك ولا اختيار، ولا أشر ونخوة واستكبار إلا من كان أشقى القوم وأطغاهم وأعتاهم، وهو الذي أخذ كفا من حصى فرفعه إلى وجهه.
(فأخذ رجل من القوم) قال الحافظ (3): سماه في تفسير "سورة النجم" من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق: أمية بن خلف، ووقع في "سيرة ابن إسحاق" أنه الوليد بن المغيرة، وفيه نظر لأنه لم يقتل، انتهى. وقيل: سعيد بن العاص، وقيل: أبو لهب، وللنسائي من حديث مطلب بن أبي وداعة قال:"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم النجم، فسجد وسجد من معه، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد"، ولم يكن المطلب يومئذ أسلم، ومهما ثبت من ذلك فلعل ابن مسعود لم يره أو خص واحدًا بذكره لاختصاصه بأخذ الكف من التراب دون غيره.
(1) في نسخة: "لها"، وفي نسخة:"فيها".
(2)
فيه رد على أبي ثور إذ لم ير سجدة في النجم، كذا في "الفتح"(2/ 555). (ش).
(3)
"فتح الباري"(2/ 551).
كَفًّا مِنْ حَصًا أَوْ تُرَاب، فَرَفَعَهُ إِلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَلَقَدْ رَأيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا". [خ 1070، م 576، ق 2/ 323]
===
(كفا من حصل أو تراب) شك من الراوي (فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا) أي ولم يسجد، (قال عبد الله: فلقد رأيته بعد ذلك قتل كافرًا) (1).
واعلم أن ها هنا قصة (2) يلزم التعرض لها، وهي أنه أخرج ابن أبي حاتم والطبري وابن المنذر من طرق، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة "والنجم" فلما بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} (3) ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فقال المشركون: ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا، فنزلت هذه الآية:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ} الآية (4).
وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أمية بن خالد عن شعبة فقال في
(1) وأفاد شيخ مشايخنا الدهلوي في "حجة الله البالغة"(2/ 14): وتأويل الحديث عندي أن في ذلك الوقت ظهر الحق ظهورًا بينًا، فلم يكن لأحد إلا الخضوع والاستسلام، فلما رجعوا إلى طبيعتهم كفر من كفر، وأسلم من أسلم، ولم يقبل شيخ من قريش تلك الغاشية الإلهية لقوة الختم على قلبه إلَّا بأن رفع التراب إلى الجبهة، فعجل تعذيبه بأن قتل ببدر، انتهى. قلت: وقريب منه ما أفاده الشيخ الجنجوهي على ما حكاه الوالد في تقرير الترمذي في "الكوكب الدري"(2/ 454)، وحكى العيني (5/ 348) عن "المعجم الكبير": أن القصة وقعت في أول الإِسلام، وكان يسجدون مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يستطيع بعضهم أن يسجد من الزحام حتى قدم رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة وأبو جهل وغيرهما، وكانوا بالطائف في أرضهم، فقالوا: تدعون دين آبائكم؟ . (ش).
(2)
وبسط الكلام عليها في مقدمة "التفسير الحقاني"(ص 82)، "والجمل"(5/ 207). (ش).
(3)
سورة النجم: الآية 19، 20.
(4)
سورة الحج: الآية 52.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
إسناده: "عن سعيد بن جبير عن ابن عباس" فيما أحسب، ثم ساق الحديث، وكذا أخرجه النحاس بسند آخر فيه الواقدي، وذكره ابن إسحاق في "السيرة" مطولًا وأسندها عن محمد بن كعب، وكذلك موسى بن عقبة في "المغازي" عن الزهري، وكذا ذكره أبو معشر في "السيرة" له، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس، وأورده من طريقه الطبري، وأورده ابن أبي حاتم من طريق أسباط عن السدي، ورواه ابن مردويه من طريق عباد بن صهيب، عن يحيى بن كثير، عن الكلبي، عن أبي صالح، وعن أبي بكر الهذلي، وأيوب عن عكرمة، وسليمان التيمي عمن حدثه ثلاثتهم عن ابن عباس.
وأوردها الطبري أيضًا من طريق العوفي، عن ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما ضعيف، وإلَّا منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلًا، مع أن لها طريقين آخرين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فذكر نحوه، والثاني ما أخرجه أيضًا من طريق المعتمر بن سليمان وحماد بن سلمة فرقهما عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية.
وقد تجرأ أبو بكر بن العربي كعادته فقال: ذكر الطبري في ذلك روايات كثيرة باطلة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه، وكذا قول عياض: هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه ثقة بسند سليم متصل مع ضعفه نقلته، واضطراب رواياته، وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب. وأكثر الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال: وقد بين البزار أنه لا يعرف من طريق يجوز ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما الكلبي فلا تجوز الرواية عنه لقوة ضعفه، ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع لارتد كثير ممن أسلم، قال: ولم ينقل ذلك، انتهى.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد، فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلًا، وقد ذكرت أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح، وهي مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل، وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض.
وإذا تقرر ذلك تعين تأويل ما وقع فيها مما يستنكر، وهو قوله:"ألقى الشيطان على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى"، فإن ذلك لا يجوز حمله على ظاهره، لأنه يستحيل عليه صلى الله عليه وسلم أن يزيد في القرآن عمدًا ما ليس منه، وكذا سهوًا إذا كان مغايرًا لما جاء به من التوحيد لمكان عصمته.
وقد سلك العلماء في ذلك مسالك، فقيل: جرى ذلك على لسانه حين أصابته سنة، وهو لا يشعر، فلما علم بذلك أحكم الله آياته، وهذا أخرجه الطبري عن قتادة، ورده عياض بأنه لا يصح لكونه لا يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا ولاية للشيطان عليه في النوم.
وقيل: إن الشيطان ألجأه إلى أن قال ذلك بغير اختياره، ورده ابن العربي بقوله تعالى حكايته عن الشيطان:{وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} (1) الآية، قال: فلو كان للشيطان قوة على ذلك لما بقي لأحد قوة في طاعة.
وقيل: إن المشركين كانوا إذا ذكروا آلهتهم وصفوهم بذلك، فعلق ذلك بحفظه صلى الله عليه وسلم، فجرى على لسانه لما ذكرهم سهوًا، وقد رد ذلك عياض فأجاد.
وقيل: لعله قالها توبيخًا للكفار، قال عياض: وهذا جائز إذا كانت هناك قرينة تدل على المراد، ولا سيما وقد كان الكلام في ذلك الوقت في الصلاة جائزًا، وإلى هذا نحا الباقلاني.
وقيل: إنه لما وصل إلى قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} خشي المشركون أن
(1) سورة الصافات: الآية 3.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
يأتي بعدها بشيء يذم آلهتهم به، فبادروا إلى ذلك الكلام، فخلطوه في تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم على عادتهم في قولهم:{لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} (1)، ونسب ذلك للشيطان لكونه الحامل لهم على ذلك، أو المراد بالشيطان شيطان الإنس، وقيل: المراد بالغرانيق العلى الملائكة، وكان الكفار يقولون: الملائكة بنات الله ويعبدونها، فسيق ذكر الكل ليرد عليهم بقوله تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} (2) فلما سمعه المشركون حملوه على الجميع، وقالوا: قد عظم آلهتنا ورضوا بذلك، فنسخ الله تلك الكلمتين وأحكم آياته.
وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن فارتصده الشيطان في سكتة من السكتات. ونطق بتلك الكلمات محاكيًا نغمته بحيث سمعه من دنا إليه فظنها من قوله وأشاعها، قال: وهذا أحسن الوجوه (3)، ويؤيده ما تقدم في صدر الكلام عن ابن عباس من تفسير "تمنى" بتلا.
وكذا استحسن ابن العربي هذا التأويل وقال قبله: إن هذه الآية نص في مذهبنا في براءة النبي صلى الله عليه وسلم مما نُسِبَ إليه، قال: ومعنى قوله: "في أمنيته" أي في تلاوته، فأخبر تعالى في هذه الآية أن سنته في رسله إذا قالوا قولًا زاد الشيطان فيه من قبل نفسه، فهذا نص في أن الشيطان زاده في قول النبي صلى الله عليه وسلم لا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، قال: وقد سبق إلى ذلك الطبري لجلالة قدره وسعة علمه وشدة ساعده في النظر فصوب على هذا المعنى وحوم عليه، قاله الحافظ في "الفتح"(4)، ثم قال: وهذه القصة وقعت بمكة قبل الهجرة (5) اتفاقًا.
(1) سورة فصلت: الآية 26.
(2)
سورة النجم: الآية 21.
(3)
ورده البيضاوي بأنه يخل بالوثوق على القرآن ولا يندفع بقوله: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52]، لأنه أيضًا يحتمله. (ش).
(4)
"فتح الباري"(8/ 439 - 440).
(5)
وفي "الجمل"(3/ 173): في رمضان سنة خمس من المبعث، وكانت الهجرة إلى الحبشة في رجبها، وقدوم المهاجرين إلى مكة في شوالها. (ش).