الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (66)
قَالَ اللهُ عز وجل: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 66].
ثُم قال تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر: 66] إلى آخِره.
{قُلْ} الخِطاب للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، يُخاطِب المُشرِكين، أُمِر أن يُخاطِب المُشرِكين فتقول:{إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وقوله:{إِنِّي نُهِيتُ} الجُملة هنا مُؤكَّدة بـ (إنَّ)، و {نُهِيتُ} فِعْل ماضٍ مَبنيٌّ لما لَمْ يُسمَّ فاعِله، وحُذِف الفاعِل للعِلْم به، كما قال تعالى:{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، حُذِف الفاعِل للعِلْم به، لأنه لا أحَدَ يُنازع في أن الخالِق هو الله.
وهنا المَسأَلة مَسأَلة شَرْعية نَهيٌ، فلا نِزاعَ في أن الذي له الأمر والنَّهيُ هو الله، كما أنه الذي له الخَلْق. إِذَنْ يَكون الناهِي هو الله عز وجل، والنَّهيُ: طلَب الكفِّ على وجهِ الاستِعْلاء بصيغة المُضارع المَقرون بـ (لا) الناهِيةِ، هذا تَعريف النَّهيِ في أُصول الفِقْه.
فقَوْلنا: "طلَب الكفِّ" خرَج به الأَمْر، وخرَج به المُباح.
وقولنا: "على وَجْه الاستِعْلاء" خرَج به الدُّعاء، مثل:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} ؛
لأنَّنا لا نَدعو الله على وجه الاستِعْلاء، بل على وَجهِ الاستِضْعاف، نَستَضْعِف أنفسنا أمام الله عز وجل.
وخرَج بقولنا: "بصِيغة المُضارع المَقرون بـ (لا) الناهِيةِ" خرَج به نحوُ قولِك: انتَهِ عن كذا، اجتَنِبْ كذا، هذا نَهيٌ لكِنه ليس نَهيًا اصطِلاحيًّا، بل هو أَمْر بالاجتِناب.
فلو قال لك قائِل: اجتَنِبِ الرِّجْس من الأوثان. فهذا أَمَر باجتِنابه الرِّجْس من الأوثان، لكن إذا قلت: لا تَقرَبِ الرِّجْس من الأوثان. صار نَهيًا.
فائدة: النهيُ المَعنويُّ غير النَّهيِ الاصطِلاحيِّ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] هذا ليس نهيًا اصطِلاحيًّا، فالنَّهيُ في الاصطِلاح هو طلَب الكفِّ على وَجْه الاستِعْلاء بصيغة المُضارع المَقرون بـ (لا) الناهِية، هذا تَعريفه عِند العُلَماء، أمَّا النَّهيُ بمَعنى العامِّ فهو ما دلَّ على نَهيٍ، حتى الاستِفْهام بمَعنى الإِنْكار يَدُلُّ على النهيِ، حتى لو قلت لواحِد فعَل شيئًا غيرَ مَرغوب فيه: أَتَفْعَل هذا؟ مع أنك مُستَفهِم الآنَ، لكنه مُتضَمِّن للنَّهيِ، نحن لا نَتكلَّم عن الاصطِلاح، تَعريفه اصطِلاحًا وارِد، ولَسْنا نَتَكلَّم عمَّا يُفيد النهيَ، {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ} لو قُلت: إن هذا نهيٌ. قلنا: غلَط، بل نَقول: هذا أَمْر بالاجتِناب.
فقوله: {نُهِيتُ} هذه صِيغة فِعْل ماضٍ، لكن ليسَت صِيغة نهيٍ، إخبار بأنه نُهي، فما صِيغة النَّهيِ؟ ! فالنهيُ بالصِّيغة المُصطَلَح عليه هو طلَب الكفِّ على وَجْه الاستِعْلاء بصيغة المُضارع المَقرون بـ (لا) الناهيةِ، هذا النهيُ، وأمَّا ما دلَّ على النهيِ بغير هذه الصِّيغةِ فهو لا يُسمَّى نَهيًا اصطِلاحًا، وإن كان نهيًا بالمَعنَى، ولكن ليس نَهيًا بالاصطِلاح.
وقوله عز وجل: {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} {أَنْ أَعْبُدَ} العِبادة
هي التَّذلُّل للمَعبود مَحبَّة وتَعظيمًا.
وقوله: {الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
قال المفَسِّر رحمه الله: [تَعبُدون {مِنْ دُونِ اللَّهِ}]، وهذا أيضًا فيه شيء من القُصور، والصَّواب أن المُراد تَدْعون؛ أي: تَعبُدون وتَسأَلون؛ لأن من المُشرِكين مَن يَسأَلون أصنامَهم، وَيتَذلَّلون لها بالسُّؤال، فهي أعَمُّ مِمَّا ذكَره المفَسِّر رحمه الله:{نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
وقوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} ؛ أي: مِن سِوى الله.
وقوله: {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} {لَمَّا} ظَرْف زَمان بمَعنَى: حين، و (لمَّا) تَأتِي في اللُّغة العرَبية على أربعة أَوْجهٍ:
الوجه الأوَّل: أن تَكون بمَعنى (حين) كما في هذه الآيةِ.
والوجه الثاني: أن تَكون بمَعنَى (إلَّا) كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4]، مَعنَى {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}: إلَّا علَيْها حافِظ.
الوجه الثالِث: أن تَكون أداة جَزْم كقوله تعالى: {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] أي: بَلْ لم يَذوقوا عَذابي، ولكنه قَريب.
الوجه الرابع: أن تَكون حَرْف وجود لوجود؛ كقولك: لمَّا جاءَ زيد جاء عَمرٌو.
وقوله عز وجل: {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} أي: حين جاءَني، والبَيِّنات صِفة لمَوْصوف مَحذوف للعِلْم به، والتَّقدير: الآياتُ البَيِّنات.
قال المفَسِّر رحمه الله: [دَلائِل التَّوْحيد] والمَعنَى أعَمُّ مِمَّا قال رحمه الله، بل هي دَلائِل التوحيد، ودَلائِل القُدْرة، ودَلائِل السَّمْع والبصَر، وغير ذلك.
المُهِمُّ: أنه جاءَه البَيِّنات من الله سبحانه وتعالى وأنتم تَرَوْن في القُرآن العزيز كلِمة البَيِّنات دائِمًا محَذوف مَوْصوفها، وذلك للعِلْم به، والشيء المَعلوم يَجوز حَذْفه كما قال ابنُ مالِكٍ في الألفية:
وَحَذْفُ مَا يُعْلَمُ جَائِزٌ .......................
(1)
وهذه قاعِدة عامَّة في كل شيء، ليس في المُبتَدَأ والخبَر فقَطْ، بل في كل شيء.
وقوله: {مِنْ رَبِّي} مُتعَلِّق بـ (جاءَ) أي: جاءَني من الله عز وجل، ولكنه ذكَره باسمِ رُبوبية؛ لأن هذه رُبوبية خاصَّة يُربِّي بها الله عز وجل أنبياءَه ورُسُله.
{وَأُمِرْتُ} مُقابِل: {نُهِيتُ} ، {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ} {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} الآمِر الله، والأَمْر طلَب الفِعْل على وجه الاستِعْلاء بصيغة الأَمْر، أو غيرها مِمَّا يَدُلُّ على الأَمْر.
وقوله: {أَنْ أُسْلِمَ} {وأَنْ} مَصدَرية، و {أُسْلِمَ} فِعْل مُضارع مَنصوب بها، ومَعنى {أَنْ أُسْلِمَ}: أَستَسْلِم لربِّ العالمَين، والمُراد بالإسلام هنا الإسلام الشرعيُّ؛ لأنه هو الذي بِطاقتنا، وهو الذي يُمكِن أن نَفعَله أو لا نَفعَله، وهو الذي لا يَكون إلَّا من المُؤمِن.
أمَّا الإسلام الكَونيُّ فليس بطاقَتِنا ولا يُمكِنُنا أن نُدافِعه، ويَكون من المُؤمِن والكافِر.
إِذَنْ: يَتبيَّن لنا أن الإسلام يَأتِي على وَجْهين أو له مَعنَيَان:
المعنى الأَوَّل: الإسلام الكَونيُّ.
(1)
الألفية (ص: 18).