الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (12)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
* * *
قال المفَسِّر رحمه الله: [{ذَلِكُمْ} أي: العَذاب الذي أَنتُم فيه]، فالمُشار إليه مَوْجود، أي: أنَّ العَذاب الذي أنتُم فيه بسبَب كذا وكذا، وهنا قال:{ذَلِكُمْ} وتَأتِي أحيانًا بذلك، وتَأْتي أحيانًا بذَلِكُنَّ، وتَأتي أحيانًا بذَلِكُما، فما هو السبَب في تَغيُّر الخِطاب في هذه الإشاراتِ؟ فيُقال: اسم الإشارة بحَسب المُشار إليه، وكاف الخِطاب التي بعدها بحَسب المُخاطَب.
فإذا أَشَرت إلى واحِد مُخَاطِبًا اثنين فقُل: "ذلِكُما"، كما قال يُوسُفُ عليه الصلاة والسلام لصاحِبَيِ السِّجْن:{ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف: 37].
وإذا أَشَرْت إلى اثنَيْن مُخَاطِبًا واحِدًا تَقول: "ذانِك"؛ كقوله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 32].
وإذا أَشَرْت إلى واحِد مُخَاطِبًا جماعة ذُكور، تَقول:"ذلِكُمْ"، ومنه قوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} [فصلت: 23].
وإذا أَشَرْت إلى واحِد مُخَاطِبًا جماعة إناث تَقول: "ذلِكُنَّ"، قالت:{فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32].
وإذا أَشَرْت إلى اثنَيْن مخُاطبًا اثنَيْن تَقول: "ذانكما".
وإذا أَشَرْت إلى اثنَيْن مخُاطبًا جماعة ذُكور تَقول: "ذانِكُم".
وإذا أَشَرْت إلى اثنَيْن مخُاطبًا جماعة إناث تَقول: "ذانِكُن".
وإذا أَشَرْت إلى جماعة مُخاطبًا جَماعة ذُكور تَقول: "أُولَئِكُم".
وإذا أَشَرْت إلى جَماعة مخُاطبًا جماعة إناث تَقول: "أُولَئِكُن".
وإذا أَشَرْت إلى جَماعة مخُاطبًا اثنَيْن تَقول: "أُولَئِكُما".
المُهِمُّ: أنَّ اسم الإشارة بحَسب المُثار إليه، والكاف بحَسب المُخاطَب، إن كان مُفرَدًا مُذكَّرًا فالكاف تَكون مُفرَدة مُذكَّرة، وإن كان مُفرَدًا مُؤنَّثًا فكَذلِك، ومُثنًّى، وجَمْعًا كذلك، هذا هو الأفصَحُ.
وربما تَأتِي الكاف مَفتوحة للمُخاطَب المُذكَّر مُطلَقًا، واحِدًا كان أو مُثنًّى أو جَماعةً، ومَكسورة للمُخاطَب المُؤنَّث مُطلَقًا، واحِدة أو اثنَتان أو جماعة.
وربَّما تَأتِي الكاف مَفتوحة مُفرَدة لكل مُخاطَب، فتَقول:"ذلك". تُخاطِب الرجُل، والمَرْأة، والاثنَيْن، والجَماعة.
فهذه ثلاث لُغات في كاف الخِطاب المُقتَرِن باسم الإشارة، الأَفصَح أن يَكون بحَسب المُخاطَب، ثُم مَفتوحًا في المُذكَّر، ومَكسورًا في المُؤنَّث، ثُم مَفتوحًا على كل حال مُفرَدًا مُذكَّرًا.
هنا يَقول عز وجل: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ} المُشار إليه واحِد، والمُخاطَب جماعة ذُكور {ذَلِكُمْ}: فالمُخاطَبون جَماعة ذُكور.
قال المفَسِّر رحمه الله: [أيِ: العَذاب الذي أنتُم فيه {بِأَنَّهُ} أي: بسبَب أنه في الدُّنيا {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ}]، إذا دُعِيَ الله وحدَه كفَرْتم وأَشرَكْتم، وقُلْتم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5].
قال رحمه الله: [{كَفَرْتُمْ} بتَوْحيده {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ} يُجعَل له شَريك {تُؤْمِنُوا} تُصدِّقوا بالإِشْراك].
وهذا هو الواقِعُ: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)} [الزمر: 45]، فهُمْ يُصدِّقون بقُلوبهم، وَيستَبشِرون بألسِنتهم، وهذا الإيمانُ في الواقِع قد نَقول: إنه إيمان حَقيقيٌّ، وقد نَقول: إنه إيمان دعَويٌّ، يَعنِي: أنَّه دَعْوة، وأنهم في قَرارة أنفُسِهم يُؤمِنون بالله، وانظُروا إلى أَكفَر أهل الأرض فِرعونَ، كيف أَنكَر الخالِق، وادَّعى الرُّبوبية، وقال لقَوْمه:{مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، ومع ذلك كان مُؤمِنًا في قَرارة نَفْسه، قال له مُوسى وهو يُحاوِرُه:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102].
هذه الآيةُ أَقولُ لك: تَدُلُّ على أن فِرعونَ كان مُؤمِنًا برُبوبية الله، وذلك لأنه لمَّا قال له مُوسى:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} لم يَقُل: لم أَعلَم، وهو في مَقام يَرَى نفسه أعلى من موسى، يَعنِي: يَستَطيع أن يُنكِر دعوى موسى لو كان يُنكِر ذلك، لكنه يُقِرُّ بأن الله أَنزَل التَّوراة على موسى عليه الصلاة والسلام.
وَيدُلُّ لهذا قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14]. ولهذا لا يُمكِن لأَحَد عاقِل - وأُريد بالعاقِل مَن سِوى المَجنون - أن يُنكِر أنَّ لهذا
العالَمِ خالِقًا أبدًا، كل إنسان عاقِل إذا تَدبَّر أدنى تَدبُّر في هذا الكونِ علِمَ أن له رَبًّا مُدبِّرًا، ولا يُمكِن أن يُنكِر.
فائدة: هُناك قولٌ أن فِرعونَ أَصلُه عرَبيٌّ وَيقولون: اسمُه مُصعَب بنُ رَيَّان. ونَقول: مَن قال هذا؟ فِرعونُ قِبطيٌّ وخَبيث، وهو بَريء من العرَب، والعرَب بَريئون منه، لكن اليَهود من المُمكِن أنهم هم مَن قالوا هذا الكَلامَ؛ لأن اليَهود من بني إسرائيلَ، وفِرعونُ عَدُوُّهم، والعرَب الآنَ أعداؤُهم، فأَرادوا أن يَضَعوا آلَ فِرعونَ معَهم.
فقوله هنا: {بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} الذي يَظهَر لنا أنه إيمان دَعوى، يَعنِي يَقول: نُؤمِن بأن هذا شَريك مع الله، يَقولونه بأَلْسِنتهم، أمَّا في قَرارة قُلوبهم فلا نَظُنُّ أن أحَدًا يُنكِر أنَّ الله سبحانه وتعالى واحِد، وقد يُقال: إن المُراد بقوله: {إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} تَوْحيد الأُلوهية. يَعنِي: يَكفُرون بتَوْحيد الأُلوهية، ويُؤمِنون بالشِّرْك في الأُلوهية؛ لأنهم يُؤمِنون بأن هذه الآلهِة تُقرِّبهم إلى الله زُلفَى، فإِذَنْ هم مُؤمِنون بالله رَبًّا، وُيؤمِنون بالأصنام شُفَعاءَ.
ولا شَكَّ أنَّ عِبادة الرُّهبان والأحبار بالمَعنى الذي فسَّره الرسول صلى الله عليه وسلم ليسَت كعِبادة الأصنام، لأنَّ عِبَادة الأصنام عِبادة تَقَرُّب وخُضُوع، وعِبَادَةُ الأحبار والرُّهْبَان عِبادة اتِّباع، ولا شَكَّ أنها عِبادة كما جاء في الحديث.
وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة: 31]، فإذا كانت عِبادة الأَحْبار والرُّهبان كعِبادة المَسيحِ ابنِ مَريمَ، لزِم من هذا أنهم
يَعبُدونهم عِبادة التَّقرُّب، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لعَديِّ بنِ حاتِم:"أَلَيْسُوا يُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ الله، فَتُحِلُّونَهُ، وَيُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ الله فَتُحَرِّمُونَهُ؟ " قال: نعَمْ. قال: "فَتِلْكَ عِبَادَتهمْ"
(1)
فهذه عِبادة اتِّباع، وغالِب عِبادة المُشرِكين تَقرُّب وتَعظيم.
فإن قال قائِل: ماذا يُقصَد بقول بعض المفَسِّرين في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} يَقول: "فيه مَتروك استُغنِيَ عنه بدَلالة الظاهِر عليه، ومجَازُه ألَّا سبيلَ إلى ذلك"؟
فالجوابُ: هذا قَصْده لمَّا قالوا: {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11]، كأنه قال: لا سَبيلَ إلى الخُروج؛ لأنكم قدَّمتم لأنفسكم ما لا يُمكِن معه الخُروج، وهو أنه إذا دُعِيَ الله وحدَه كفَرْتم وإن يُشرَك به تُؤمِنوا.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{فَالْحُكْمُ} في تَعذيبكُم {لِلَّهِ الْعَلِيِّ} على خَلْقه {الْكَبِيرِ} العَظيم]. يَعنِي: فبِناءً على أَنكم في هذه الحالِ يَكون حُكْمكُم إلى الله، فالفاء حينَئذٍ تَكون؛ إمَّا للاستِئْناف، وإمَّا للتَّفريع على ما سبَق. يَعنِي: فبِناءً على ذلك يَكون الحُكْم في أَمرِكم إلى الله، الحُكْم في تَعذيبكم لله وحدَه، واللَّام تَكون بمَعنَى الغاية أحيانًا، كما تَقول: ولله تُرجَع الأمور. بمَعنى: إلى الله، وهنا الحُكْم لله. أي: إلى الله. أي: أن حُكْمكم يَنتَهي إلى الله، ويُحتَمَل أن يَكون المَعنى: الحُكْم لله. أي: مُستَحِقٌّ له لا يُشارِكه فيه أحَدٌ.
وقول المفَسِّر رحمه الله: [{الْعَلِيِّ} على خَلْقه] عُلوَّ ذات، وعُلوَّ صِفة، فالله سبحانه وتعالى عالٍ على خَلْقه في ذاته فوقَ كل شيء، وعالٍ على خَلْقه في صِفاته، قال
(1)
أخرجه الترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (3095).
الله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27]، المَثَل يَعنِي: الوصف الأعلى في السَّموات والأرض.
وعُلوُّ الله سبحانه وتعالى عُلوًّا مَعنَويًّا، وهو عُلوُّ الصِّفة أَمْر مجُمَع عليه، لم يُخالِف فيه أحَد من أهل المِلَّة حتَّى المُعطِّلون الذين يُنكِرون صِفاتِ الله عز وجل، إنَّما أَنكَروها بِناءً على تَنزيههم لله عز وجل عن مُشابَهة المَخلوقين، وإن كانوا أَخطَؤوا الطريق لكن هم يَقولون: نحن نَقول هذا تَنزيهًا لله؛ ولهذا يُسمُّون الذين يُثبِتون الصِّفات: المُشبِّهة، والمُجَسِّمة، والحَشوية، وما أَشبَهَ ذلك، ويَرَوْن أنفسهم هم أهلَ التَّوْحيد! .
فعُلوُّ الصفة لم يُنكِره أحَد من أهل المِلَّة، حتى أهل البِدَع يُقِرُّون بذلك.
وأمَّا عُلوُّ الذات فهو مَحَلُّ الصِّراع بين أهل السُّنَّة والجَماعة، وبين أهل التَّعطيل، فأهل السُّنَّة والجماعة يُؤمِنون بأن الله تعالى عالٍ على خَلْقه بنَفْسه، وأهل التَّعطيل يُنكِرون ذلك، ثُم انقَسَموا إلى قِسْمين:
قِسْم قالوا: إنَّ الله في كل مَكان؛ في السماء، وفي الأرض، وفي الأَسْواق، وفي المَساجِد، وفي البُيوت، وفي كلِّ مَكان.
وقسْم آخَرُ قالوا: لا يُوصَف أنه في مَكان، فلا يُقال: فوقَ العالَمِ، ولا في العالَم، ولا تَحتَه، ولا يَمينَه، ولا شِماله، ولا مُتَّصِل بالعالَم، ولا مُماسٌّ له، وهذا هو التَّعطيل المَحْض؛ لأننا لو أَرَدْنا أن نَصِف المَعدوم لم نَجِد أَبلَغَ من هذا الوَصْفِ، إِذَنْ خالَف في عُلوِّ الذات طائِفَتان:
الطائِفة الأُولى، قالت: إنَّ الله في كل مَكان بنَفْسه، وهو قَولٌ قِيل حقيقةً، ولكن لا تَظُنُّوا أنه تَصوُّر، فيُوجَد الآنَ مَن يَعتَقِدون أن الله في كل مَكان، إن جِئْت السُّوق
وجَدْته في السوق، وإذا قالوا: بالجَبْر قالوا: في السُّوق يَبيع وَيشتَري؛ لأن فِعْل العَبْد مَنسوب إلى الله تعالى، فإذا كان الذي في السُّوق هو في السُّوق، وفِعْل العبد فِعْله لصار يَبيع وَيشتَري! ! وإذا جِئْت المَسجِد كان في المَسجِد، يُصلِّي أو يَقعُد! لا نَدرِي! إذا أَتَيْت في أي مَكان وجَدْته فيه. نَسأَل الله العافِيةَ! هذا من لازِم قولهم.
ونحن نَفصِل هذا عن مَسأَلة الجَبْر حتى لا نَصِل إلى نِهاية سَيِّئة جِدًّا، نَقول: هُم يَقولون: إنَّ الله في كل مَكان، حتى قال لهم أَهْل السُّنَّة: كيف يُمكِن أن تَقولوا: إنه في أماكِن القَذَر والأذَى؟ قالوا: نَقول: إذا دخَلْت أنت المَكان صار الله معَك، أيُّ مَكان تَدخُله فالله معَك.
فإن قال قائِل: الذين أنكروا علوّ الذات يستدلّون بآية {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ} .
فالجوابُ: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، هل هذا يُنافِي العُلوَّ حتى يَكون دليلًا على عَدَمه؟ فيُمكِن أن يَكون الشيء فوقَك وهو أمامَك، هذا في المَخلوق، فكيف بالخالِق المُحيط بكُلِّ شَيْء؟ ! ثُم كيف نُورِد آية تُحتَمَل على آياتٍ محُكَمة لا تُحتَمَل وهو العُلوُّ؟ انتَبِهوا لهذا؛ لأن أهل الباطِل يُورِدون المتشابِه على المُحكَم، ولا يَحمِلون المتشابِه على المُحكَم، يُورِدون المتشابِه على المُحكَم؛ ليُناقِضَه، وليسوا يَحمِلون المتشابِه على المُحكَم ليَكون محُكمًا، وهذا هو البَلاء، قالت عائِشةُ رضي الله عنها:"إِذا رَأَيْتُمُ الَّذينَ يَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذينَ سَمَّى الله فَاحْذَرُوهُمْ" هكذا روَتْه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} ، رقم (4547)، ومسلم: كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، رقم (2665).
وهذه مَسأَلة أُحِبُّ أن أُنبِّهَكم عليها، وهو أنه إذا ورَدَت آيات مُتعارِضة، وأحادِيثُ مُتعارِضةٌ، فلا تُورِدوها على أَنْفُسكم على أنَّها مُتعارِضة، أَوْرِدوها على أَنفُسِكم على أنكم تَطلُبون الجمع بينها، لتُوفَّقوا للجمع، أمَّا إذا أَوْرَدْتم هذه على أنَّها مُتعارِضة بقِيَت مَحَلَّ إشكال، وأنا دائمًا أَنْهاكم عن هذا، أَقول: لا تُورِدوا الآياتِ المتشابِهةَ التي ظاهِرها التَّعارُض، أو الأحاديث كذلك على أنها مُتعارِضة، أَوْرِدوها على أنَّكُم تُريدون الجَمْع بينها، لا أن بَعضَها مُعارِض لبعض، حتى تُهْدَوْا إلى الصِّراط المُستَقيم؛ لأن هُناك فَرْقًا بين الإيراد وبين الرَّدِّ، إيراد المُتَشابِه على المُحكَم مَعناه: أنه يَطلُب التَّعارُض، لكِنْ رَدُّ المُتَشابِه إلى المُحكَم هذا معناه أنه حاوَل الجمْع دون أن يَتصوَّر التَّعارُض، وهذه المَسأَلةُ كما تَكُون في الأُمور العِلْمية تَكُون أيضًا في الأمور العمَلية.
أحيانًا تَرِد عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم صِفاتٌ في عِبادة واحِدة، فيَظُنُّ الظانُّ أن هذا تَعارُض، لكن نَقول: لا تَقرَأْها ولا تُورِدْها على نفسك على أنها مُتَعارِضة، لا، أَورِدْها على أنك تَجمَع بينها، فتَحمِل هذه على وجهٍ وهذه على وَجهٍ، وأكثَرُ ما يَكون الشَّكُّ للطالِب أنه يُورِد الآياتِ المُتعارِضة التي ظاهِرُها التَّعارُض، أو الأحاديث التي ظاهِرُها التَّعارُض على أنها مُتعارِضة، لكن لو أَورِدْها على أنه يُرَدُّ بعضُها إلى بعض، ويُضَمُّ بعضُها إلى بعض، لوَجَد وجهًا ومَخرَجًا ممَّا كان يَظُنُّ، وهذا شيء إذا فعَلتموه ستَنْتَفِعون به، إن شاء الله.
فالذين قالوا: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]، يَدُلُّ على عدَم العُلوِّ فيُعارِض أدِلَّة العُلوِّ. نَقول: مَن قال هذا؟ ! مَن قال: إنه يَدُلُّ على عدَم العُلوِّ؟ ! وإذا كان الشيءُ مُقابِلًا لك فلا يَلزَم أن يَكون محُاذِيًا لك، قد تَقول:
هذا عن يَميني وهو أسفَلُ شيء، لكن مع الجِهة اليُمنَى، وهذا عن يَسارِي وهو أسفَلُ شيء، وهو عن الجِهة اليُسْرى، كما جاء في حَديث المِعراج:"أن على يَمينِ آدَمَ أَسْوِدةٌ وعلى يَسارِهِ أَسْوِدَةٌ، فإِذا رَأَى إِلى اليَسارِ بَكَى"
(1)
اليَسار هي نَسَمُ بنِيه الكفَرة في النار، وهذا في الأسفَلُ، فلا يَلزَم من كون الشيء على يَمينك أن يَكون محُاذِيًا لك، ولا يَلزَم من كون الشيء فوقَك أن يَكون محُاذِيًا لك، ولا من كونه أَسفَلَ منك أن يَكون محُاذِيًا لك، هذا ليس بلَازِم، لكن الذين في قُلوبهم زَيْغ يَتَّبِعونَ ما تَشابَهَ منه؛ لإيراد التَّشكيك.
القول الثاني: قالوا: لا يَصِحُّ أن يُوصَف الله بأيِّ مَكان، لا فوقَ، ولا تَحتَ، ولا يَمينَ العالَم، ولا شِمال العالَم، ولا اتِّصال بالعالَم، ولا انفِصال من العالَم.
وقد قال محَمودُ بنُ سُبُكْتِكينَ لمُحمَّد بن فورك وهو يُناظِره في هذه المَسأَلة
(2)
قال له: إذا قُلت هذا فأَثبِتْ لنا ربَّك، إذا كان لا هو فوقُ ولا تَحتُ، ولا يَمينُ ولا شِمالُ، ولا مُتَّصِلًا ولا مُنفَصِلًا، ولا مُبايِنًا ولا مُحايِثًا أين يَكون؟ لا يَكون، وهذا العدَم تمامًا.
فليس بصحيح أنه ليس بيَمين ولا بشِمال، لكنه وَصَف نَفْسه بما هو أَحسَنُ من هذا؛ لأنه لو قال: لا يَمين ولا شِمال صارَت الصِّفة صِفةً سَلْبية، لكن إذا قال:{هَوَ الْعَلِيُّ} انتَفَى اليمين والشِّمال بوَصْف ثُبوتيٍّ، لا بوَصْف سَلبيٍّ، والوَصْف الثُّبوتي أَكمَل من الوَصْف السَّلبيِّ؛ لأنَّ دَلالة الوَصْف السَّلْبيِّ على الإثبات دَلالة
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، رقم (349)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، رقم (163)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (3/ 37).
التِزام، قد يُنكِرها مُنكِر ولا يَلتَزِم بها.
فإن قال قائِل: نَفيُ العدَم يَعنِي القول بأن الله لا فوقُ ولا تَحتُ، ولا يَمينُ ولا شِمالُ، فبماذا استَدَلَّ القائلون به؟
فالجوابُ: نَقول: لأنك إذا أَثبَتَّ أنه في جِهة فقد جسَّمْت - أي: جعَلْته جِسْمًا - إذا صار فَوقُ مَعناه أنه جِسْم، وَيمينًا وشِمالًا كذلك، كل هذا فِرارًا من التَّجسيم، والسبَب أنَّ الشَّيْطان تَلاعَب بهم في الواقِع، وإلَّا نَقول لهم: ما هو التَّجسيم الذي تُريدون أن تَنفُوه عن الله، تُريدون أن الله ليس بشَيْء؟ فنَحْن لا نُوافِقُكم، تُريدون أن الله تعالى جِسْم مَوْصوف بالصِّفات الكامِلة؟ فهو كذلك هو مَوْصوف بالصِّفات الكامِلة، لكن لا نُطلِق لفظ جِسْم على الله أَبَدًا، وقد ورَد في الحَديث ما يَدُلُّ على أنه يُوصَف بالشخص
(1)
، ومع ذلك لا نَقول: إنه شَخْص كأشخاص المَخلوقين أَبَدًا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
فالحاصِلُ: أنَّ العُلوَّ قول المفَسِّر رحمه الله: [{الْعَلِيِّ} على خَلْقه] نَقول: العُلوُّ نَوْعان: عُلوُّ صِفة، وعُلوُّ ذاتٍ.
أمَّا عُلوُّ الصِّفة: فهذا لم يُنكِر أحَد من أهل القِبْلة حتى المُبتَدِعة أنه مَنفيٌّ عن الله، كلُّهم يُثبِتون لله عُلوَّ الصِّفة، لكن أهل التَّعطيل يَرَوْن التَّعْطيل من باب التَّنزيه، ورَفْع الله عز وجل، وأَهْل التَّمثيل كذلك يَرَوْن هذا من باب تَعظيم الله عز وجل وإثبات حَقيقته.
وأمَّا عُلوُّ الذات: فهو الذي انقَسَم فيه الناس إلى هذه الأقسامِ الثلاثةِ التي سمِعْتُموها.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب اللعان، رقم (1499)، بلفظ:"لا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ الله".