الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (30، 31)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 30 - 31].
ثُمَّ قال: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ} في الأَوَّل قال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} ، وهنا قال:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} فنَقولُ: كرَّر هذا الوَصْفَ لهذا الرجُلِ لطول الحديث والفَصْل، قال:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} أمَّا اختِلاف الجُمْلتين فإنَّ الثانية تُؤكِّد الأُولى، بأنَّ هذا الرجُلَ قدِ اصطَبَغ بالإيمان، وحَقَّق الإيمان.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {يَاقَوْمِ} يَعنِي بذلك: فِرعونَ وقَوْمه، وهذا من باب التَّلطُّف في المَقال، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} يَعنِي: الطَّوائِف السابِقة، وكأنَّ هذا الرجُلَ مُلهَم، عندَه عِلْمٌ بأَحْوال الأُمَم السابِقين، وسيَأتِي -إن شاء الله- الكَلام على فائِدةِ هذه الجُمْلةِ.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {يَاقَوْمِ} مَعروف أنَّ ياءَ النِّداء إذا دخَلَت على نَكِرة مَقصودة، فإنها تُبنَى على الضَّمِّ، كما إذا دخَلَت على مَعرِفة، وهنا لم تَكُن مَبنيَّة على الضَّمِّ، بل آخِرها الكَسْر، فيُقال: إن أَصلَها (يا قَوْمي)، ولكن
حُذِفت الياءُ للتَّخفيف، وفي قوله:{يَاقَوْمِ} تَلطُّف بدعوتهم، وإلَّا فهُمْ مُعادون له؛ لأنهم كُفَّار وهو مُؤمِن، لكن من باب التَّلطُّف في الدَّعْوة إلى الله عز وجل قال لهم:{يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} أكَّد الجُمْلة، وإن كانت مُستَقِرَّة في نفسه، لكن المُخاطَب بها فَعَله فِعْلَ المُنكِر لها.
قال المفَسِّر رحمه الله: {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} أي: يوم حِزْب بَعْد حِزْب]، ثُم أَبْدَل منه قوله:{مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} " {دَأْبِ} بمَعنَى: عادة، وذَكَر قوم نُوحٍ؛ لأنه هو أوَّلُ رَسول أُرسِل إلى أهل الأرض، {وَعَادٍ وَثَمُودَ} ، وكل هَؤلاءِ مُتقدِّمون بَعيدو العَهْد، قبل موسى وقبل فِرعونَ، فهُمْ من أوائِل الرُّسُل. {قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ} ، (عاد) مَعطوفة على {قَوْمِ} ، ولا يَصِحُّ أَنْ تكون مَعطوفة على {نُوحٍ} ، لأنَّها لو كانت مَعطوفة على {نُوحٍ} لكان المَعنى مِثْل قوم عادٍ، ولا يَستَقيم الكلام، بل مِثْل عاد وهُمْ قَوْم هُود، وثَمودَ قومِ صالِحٍ.
وقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} (مِثل) هذه بدَل من (مِثْل) التي قَبلَها، {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} {مِثْلَ دَأْبِ} والبَدَل أحَدُ التَّوابع الأربعة المَعروفة من قول ابنِ مالِكٍ رحمه الله:
يَتْبَعُ فِي الْإِعْرَابِ الَاسْمَاءَ الْأُوَلْ
…
نَعْت وَتَوْكيدٌ وعَطْفٌ وَبَدَلْ
(1)
وَعلامة البدَل أنه يَصحُّ أن محلَّ مَحَلَّ المُبدَل منه، يَعنِي: يَصحُّ أن يُحذَف المُبدَل منه ويَحِلُّ مَحلَّه البدَل.
فإن قال قائِل: ما الفائِدةُ من أن نَأتِيَ بالمُبدَل منه ثُم بالبَدَل، لماذا لم نَأْتِ بالبدَل من أوَّل الأمر؟
(1)
الألفية (ص: 44).
فالجَوابُ: لا بُدَّ أن يَكون هناك فائِدة، إمَّا تَفْصيلٌ بعد إجمال، أو تَبيينٌ بعد إبهام، أو ما أَشبَه ذلك، ولا بُدَّ أن يَكون للبَدَل فائِدة.
وقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} . . . إلى آخِره. مِثْل دَأْبهم، هو لا يُريد مثل دَأْبهم، يُريد مثل جزاء دَأْبهم؛ لأن هناك دَأْبًا وهناك جَزاءً؛ فالجزاءُ مِنَ الله، والدَّأْب من الأُمَم، أو من الأحزاب، {مِثْلَ دَأْبِ} يَعنِي مثل جَزاء دَأْبهم، وبَيَّن الله تعالى دَأْبهم بقوله:{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأنفال: 52] أو {كَذَّبُوا بِآيَاتِ} [الأنفال: 54] هذا هو دَأْبهم.
وقوله: {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} هَؤلاء كلُّهم دَأْبهم التَّكْذيب بالرُّسُل والكُفْر بهم، {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} من بعد قَوْم نُوح، وهم أوَّل الأُمَم، وعاد، وسيَأْتي أن هُودًا أَشار إلى يُوسُف بنِ يَعقوبَ بنِ إبراهيمَ عليهم الصلاة والسلام.
قال المفَسِّر رحمه الله: [مِثْل بدَل مِن مِثْل قَبلَه أي: مِثْل جَزاء عادة مَن كَفَر]. فأَفاد المفَسِّر رحمه الله أن في الكَلام تَقديرًا أي: أن في الكَلام شَيْئًا مَحذوفًا، وهو جَزاء، أي: مِثْل جزاء دَأْبهم؛ لأن هذا هو الذي يُخاف منه أن يَنال هؤلاءِ القَومَ عُقوبةٌ، كما نال هَؤلاءِ.
فإذا قال قائِل: كيف يُطلَق العمَل على الجَزاء؟
قُلنا: لأنه سبَبُه، وهذا في القُرآن كثير أنَّ الله تعالى يُطلِق العمَل على الجَزاء مِثْل:{ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 55]، المَعنَى: ذوقوا جَزاءَه، لكن يُعبَّر به -أي: بالعمَل- عن الجَزاء، لأن الجزاء من جِنْس العمَل، وحتى يَحذَر الإنسان من عمَله، كما يَحذَر من عُقوبة عمَله.
يَقول المفَسِّر رحمه الله: [مِثْل بدَل من مِثْل قبله؛ أي: مِثْل جزاء عادة مَن كفَر قَبلَكم من تَعذيبهم في الدُّنيا]، إذن مِثْل دَأْب ما هي مِثْل عادتهم، إلَّا إذا أُريد إضافتُها إلى المَفعول به؛ أي: مِثْل العادة التي أَوقَعها الله بهم، لكن كان المفَسِّر جعَلها مُضافة إلى الفاعِل، وأنَّها على تَقدير مثل جزاء عادة؛ لأن الجَزاء من الله، والعادة من هَؤلاء الأقوامِ من الأحزابِ، العادة عادة الأحزاب، والعُقوبة عُقوبة الله.
فإمَّا أن نَقول: إنَّ الكلام على تَقدير: مِثْل عُقوبة عادة قَوْم نُوحٍ. . إلى آخِره، أو نَقول: مِثْل دَأْب قوم نُوحٍ؛ أي: مِثْل العادة التي فعَلها الله بهم، والمَعنَى واحِد. والمُراد أنه يَخاف عليهم مِثْل هذه الأيامِ التي هي عُقوبة لهَؤلاء الذين كذَّبوا رُسَله.
وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (ما) نافِية وهي حِجازِية؛ لأن هذا القُرآنَ باللُّغة الحِجازِية، انظُروا إلى قوله تعالى:{مَا هَذَا بَشَرًا} ولم يَقُل: ما هذا بشَرٌ؛ فنَحْمِل كل ما كان على شاكِلَتها عليها، والصحيح أن {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} لا تَتبيَّن أنها حِجازِية أو تمَيمية؛ لأن الخَبر جملة ليس مُفرَدًا، يَظهَر فيه النَّصْب؛ لكن يُحمَل ما لا يَظهَر فيه الإعراب على ما ظهَر فيه الإعراب، وهو قوله:{مَا هَذَا بَشَرًا} .
ثُم اعلَمْ أنَّ القُرآن إنما كُتِب بلُغة قُرَيْش، كما قال عُثمانُ رضي الله عنه للذين كتَبوا المَصاحِف قال: إنِ اختَلَفْتُم في شَيْءٍ فاجْعَلوه على حَرْف قُرَيْش
(1)
. يَعنِي: على لُغَتها.
فقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} (ما) نافِية، تَعمَل عمَل ليس لتَمام الشروط، ولفظ الجَلالة اسمِها، وُيريد الجُمْلة جُمْلة هي خبَرها، ولو كانَتِ اسمًا لكان التَّقديرُ: وما الله مُريدًا.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المناقب، باب نزل القرآن بلسان قريش، رقم (3506)، من طريق أنس رضي الله عنه.