الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {وَلَا الْمُسِيءُ} يَعنِي: فاعِل السَّيِّئات، والسَّيِّئات هي إمَّا تَفريط أو إفراط؛ أي: إمَّا تَفريط بالنَّقْص والقُصور وإمَّا إفراط بالزِّيادة، وكِلاهما إساءة.
ثُم قال عز وجل: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} قال المفَسِّر رحمه الله: [يَتَّعِظون؛ بالياء والتاء؛ أي: تَذكُّرُهم قليلٌ جِدًّا] قوله: {تَتَذَكَّرُونَ} ؛ أي: يَتَّعِظون وفيها قِراءَتان: "يَتَذَكَّرُونَ" و {تَتَذَكَّرُونَ} ، وكِلاهما صَحيحتان سَبْعيتان.
ثُمَّ أَشار المفَسِّر إلى إعراب هذا التَّرْكيبِ، وهو كَثير في القُرآن، فقال رحمه الله:[أي: تَذكُّرهم قَليلٌ جِدًّا] وعلى هذا تَكون (ما) مَصدَرية، أي: تَذكُّرهم تَذكُّرٌ قَليلٌ، ولكن الذي يَظهَر أن {قَلِيلًا} صِفة لمَوْصوف محَذوف مَفعول مُطلَق؛ أي: يَتَذكَّرون تَذكُّرًا قليلًا و {مَا} هذه زائِدة للتَّوْكيد، تَوْكيد القِلَّة؛ يَعنِي: قَليلًا قَليلًا، وعلى هذا فتكون الجُمْلة مُركَّبة من فِعْل وفاعِل ومن مَفعول مُطلَق الذي هو (قَليلًا)؛ لأنه صِفة لمَصدَر مَحذوف، ومن (ما) الزائِدةِ للتَّوْكيد.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: ضَرْب الأَمْثال، وهو إلحاق المَعقول بالمَحْسوس، وجهُ ذلك أن انتِفاء الاستِواء في الأعمى والبصير أَمْر مَعلوم بالحِسِّ، وانتِفاء استِواء الذين آمَنوا وعمِلوا الصالحِاتِ والمُسيءِ أَمْر مَعلوم بالعَقْل.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنه يَنبَغي لمُعلِّم الناس أن يَربِط المَعقولات بالمَحْسوسات؛ لأن ذلك أَقرَبُ إلى الفَهْم وأَدعَى إلى التَّصديق؛ إذ إن المَحسوس لا يُنكَر، لكن المَعقول قد يُكابِر فيه مَن يُكابِر ويُنكِره.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: نَفيُ المُساواة بين الأمور المُختَلِفة وهذا من قَواعِد الشريعة أنها
لا تُساوِي بين مخُتَلِفين، ولا تَجمَع بين مُفتَرِقين.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن من الناس مَن يُطَنْطِن ويَقول: إن الدِّين الإسلاميَّ دِين المُساواة، وهذا خطَأ، الدِّين الإسلاميُّ دِين العَدْل وليس دِين المُساواة، الذين يَقولون: إنه دِين المُساواة يُريدون أن يَتَحوَّلوا من هذا إلى التَّسوية بين الرجُل والمرأة، وبين الشَّريف والوَضيع، وهذا خطَأ، فإن الله تعالى جعَل لكل إنسان ما يَليق به شَرْعًا وقَدَرًا؛ ولهذا لم يَأتِ حَرْف واحِد في القُرآن فيه أن الناس سواءٌ أبَدًا، أكثَرُ ما يُوجَد في القرآن نفيُ الاستِواء أي: نَفيُ المُساواة، لكن العَدْل جاء في القُرآن {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]، إلى غير ذلك من الآيات.
وذلك لأن العَدْل يَعنِي: أن نُنزِل كل إنسان مَنزِلته فإذا استَوَى إنسانان في مَنزِلة سَوَّيْناهما في الحُكْم، أو ساوَيْنا بينهما في الحُكْم، وإذا اختَلَفا فرَّقْنا بينهما.
والعجَبُ أن كثيرًا من كُتُب المُتأخِّرين يَقولون بذلك، وهذا أَمْر قد يَدعو أيضًا إلى التَّسوية بين المُسلِم والكافِر؛ لأن كُلًّا منهما إنسان بشَر، لكن إذا قُلْنا: العَدْل صار الكافِر لا يُمكِن أن يَلحَق بالمُسلِم؛ لأن ذلك جَوْر وظُلْم في حَقِّ المُسلِم، وغُلوٌّ وإفراط في حقِّ الكافِر.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: فضيلة الإيمان والعمَل الصالِح وسُوء العمَل السَّيِّئ؛ لقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ} .
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن كثيرًا من الناس لا يَتَذكَّرون إلَّا قليلًا؛ لقوله سبحانه وتعالى: {قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن في هذه الآية شاهِدًا؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]، وقوله:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].