الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (84، 85)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 84 - 85].
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} قال المفَسِّر رحمه الله: [أي: شِدَّة عَذابنا]. {رَأَوْا} يَعنِي بأَبْصارهم، يَعنِي: رأَوْه رُؤية العَيْن، والبَأْس أشَدُّ العَذاب.
{قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} ؛ أي: دون شُرَكائنا ودون ما كُنَّا نَعبُده، وهذا غاية الإِخْلاص، ثُم أَكَّدوا هذا بقولهم:{وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} {بِمَا} الباء حَرْف جَر مُتعَلِّقة بـ {وَكَفَرْنَا} ، و {بِهِ} يُحتَمَل أن تَكون للسبَبية؛ أي: بما كُنَّا بسبَبه مُشرِكين، وأن تَكون مُتعَلِّقة بـ {مُشْرِكِينَ} تَعلُّق الجارِّ بعامِله، المَعنى: أنهم لمَّا رأَوْا عَذاب الله آمَنوا، ولكن هل يَنفَعُهم هذا الإيمانُ؟ لا، إن فِرعونَ لمَّا غرِقَ وأَدرَكه الغَرَق قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: 90]، ولكن قيل له:{آلْآنَ} يَعنِي: أَتُؤمِن الآنَ؟ ! {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} ، فلَمْ يَنفَعه إيمانُه، وقال الله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، هذا لا تَنفَعه التَّوْبة؛ لأنه رأَى وشاهَدَ، شاهَدَ ما كان غَيْبًا يَكفُر به، والإيمان عن مُشاهَدة لا يُفيد؛ لأن
كل إنسان يُؤمِن بما يُشاهِد، ولو كان أَكفَرَ الناس، وإنما الذي يُحمَد عليه الإنسان ويُنجِيه من عَذاب الله أن يُؤمِن بالغَيْب، كما قال تعالى:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .
ثم قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} {فَلَمْ يَكُ} أَصلُها: (لَمْ يَكُن)، لكِن حُذِفت النون تَخفيفًا، وقد جاء الحَذْف والإبقاء في آيَتَيْن من كِتاب الله، فقال تعالى في إبراهيمَ:{وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 120]، وهذا الحَذْفُ تَخفيف، وله شروط مَعروفة في كتُب النَّحوِ.
{فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} إيمان هل تُعرِبونها على أنها اسمُ (يَكُن) مُؤخَّر، أو على أنها فاعِل (يَنفَع) واسمُها مُستَتِر؟
الجَوابُ: الثاني، والتَّقدير على هذا: فلم يَكُ إيمانُهم يَنفَعهم. أمَّا على الأوَّل فيَكون (يَنفَع){فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} ، فيَكون اسمُها ضَميرَ الشَّأْن اسمَ {يَكُ} محَذوف.
وقوله: {لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} {لَمَّا} هنا ظَرْف بمَعنى: حِين، واعلَمْ أن (لمَّا) تَأتِي في اللُّغة العرَبية على أَوجُه:
الأوَّلُ: أن تَكون ظرفًا بمَعنَى (حين) كما في هذه الآيةِ، فإن مَعنَى {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي: حينَ رأَوْا بَأْسَنا. وتَأتِي جازِمة، مثل قوله تعالى:{بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} ، وهي للنَّفْيِ أيضًا {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} جازِمة ونافِية، لكن الفَرْق بينها وبين (لَمْ) أن {لَمَّا} تُفيد قُرْب مَدخولها {لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} ، ولكن سيَذوقونه قريبًا، بخِلاف (لَمْ) فتَأتِي للنَّفي المُطلَق، وتَأتِي (لمَّا) شرْطية، كقوله تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ، وتَأَتِي بمَعنَى:(إلَّا) كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} ، وكذلك قوله:{وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} فهَذِه أَرْبعة مَعانٍ في (لمَّا).
قال تعالى: {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} {سُنَّتَ} يَقول المفَسِّر رحمه الله: [نَصبُه على المَصدَر بفِعْل مُقدَّر من لَفْظه]{سُنَّتَ} بمَعنَى: طَريقة؛ أي: هذه طَريقةُ الله، و {سُنَّتَ} في مِثْل هذا التَّركيبِ يَجوز أن تَكون مَرفوعة؛ أي:"سُنَّة الله" على أنها خَبَر مُبتَدَأ مَحذوف؛ أي: هذه سُنَّة الله، ويَجوز أن تَكون مَنصوبة، والمفَسِّر رحمه الله يَقول: إنها مَنصوبة على المَصدَر بفِعْل مُقدَّر من لَفْظه؛ أي: سَنَّ الله بهم سُنَّة الله، ويَجوز أن تَكون مَصدَرًا عامِله محَذوف، لكنه مُقدَّر من الجُمْلة التي قَبلَه؛ لأن هذه العِبارةَ بمَعنَى ما قَبلَها تمامًا، يَعنِي: سُنَّة الله، بمَعنَى ما قبلَها وهي أَخْذُ المُكذِّبين بالعَذاب، فتكون مَنصوبة بمَضمون الجُمْلة لا بفِعْل مُقدَّر، وما ذكَرَه المفَسِّر رحمه الله وَجهٌ لا شَكَّ، والمُهِمُّ أن السُّنَّة بمَعنَى: الطريقة، وطَريقة الله تعالى إِهلاكُ المُكذِّبين وتَعذيبهم، وأنَّهم لو آمَنوا بعد نُزول العَذاب لم يَنفَعْهم.
فإن قال قائِل: في رَسْم القُرآن هنا {سُنَّتَ} التاء فيها مَفتوحة والقاعِدة أنها مَربوطة؛ لأنها لمُفرَد.
فالجَوابُ: إن الرَّسْم العُثمانيَّ ليس على القَواعِد المَعروفة الآنَ، بل هو تَوْقيف، وقد اختَلَف العُلَماء رحمهم الله: هل يَجِب أن يُرسَم القُرآن بالرَّسْم العُثمانيِّ أو لا يَجِب، أو يُفصَّل بين أن يُلقَّن التلاميذ الصِّغار أو الكِبار؟ على ثلاثة أَقوال:
القَوْل الأوَّل: إنه لا يَجوز أن يُرسَم القُرآن إلَّا بالرَّسْم العُثمانيِّ على كل حال، حتى وإن كُنتَ تُعلِّم الصِّبيان فعلى الرَّسْم العُثمانيِّ، فتكتُب:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] تُكتَب: {الصَّلَاةَ} بالواو، حتى وإن كُنتَ تُدرِّس صَبِيًّا اتِّباعًا للرَّسْم {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} فـ {الزَّكَاةَ} بالواو، و {الصَّلَاةَ} بالواو؛ لأن هذا هو الرَّسْم العُثمانيُّ.
وقال بعضُهم: بل لا يَجِب؛ لأن الرَّسْم العُثمانيَّ حين رُسِم المُصحَف صادَف أنه على هذا الوَجهِ، ولو كان الرَّسْم العُثمانيُّ على غير هذه القاعِدةِ لكُتِب بحَسب القاعِدة التي كانت في ذلك الوَقتِ، فالمَسأَلةُ ليسَت تَوفيقيةً، لكن صادَف أن الرَّسْم في ذلك الوَقْتِ على هذا الوَجهِ فرُسِم القُرآن عليه؛ وذلك لأن القُرآن لم يَنزِل مَكتوبًا حتى نَقول: لا بُدَّ أن يَكون كما كُتِب. بل نَزَل مَقروءًا، وقاعِدة الرَّسْم تَختَلِف من حينٍ لآخَر، وهذا القولُ له وَجهٌ قَويٌّ؛ لأنا نَعلَم عِلْم اليَقين أنه لو كانت قاعِدة الرَّسْم على غير هذا الوَجهِ في ذلك العَهْدِ؛ لكُتِب بمُقتَضى القاعِدة المَعروفة في ذلِكَ العَهْدِ.
والقول الثالِثُ: يَقول: إن كان القُرآن مَكتوبًا للصِّبيان للتَّعلُّم فاكْتبه على القاعِدة المَعروفة بَينَهم، وإن كان للكِبار يَعنِي: يَكتُب الإنسان مُصحَفًا فلْيَكتُبْه على حَسب الرَّسْم العُثمانيِّ، وهذا فيه جَمْع بين القَوْلين؛ لأنك لو تَرسُم القُرآن للصَّبيِّ على حَسب الرَّسْم العُثمانيِّ لحَرَّفه؛ لأن القاعِدة التي بين يَدَيْه تُخالِف الرسم فيُحرِّفه، فيَقرَأ مثلًا:{الزَّكَاةَ} الزَّكوت، و {الصَّلَاةَ} الصلوات، و {الرِّبَا} الربو، وهَلُمَّ جرًّا.
فأنا أَميل إلى أنه لا بَأْس أن يُكتَب بمُقتَضى القاعِدة الحاضِرة بالنِّسْبة للمُتعَلِّم، لا شَكَّ في ذلك بالنِّسْبة لغيره في احتِمال، ولكن القَوْل بالمَنعْ فيه نظَرٌ.
{الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} قال المفَسِّر رحمه الله: [في الأُمَم أن لا يَنفَعَهم الإيمانُ وقتَ نزولِ العَذابِ]، هذه واحِدة، والثانية: أن يُعذِّب المُكذِّبين. فالسُّنَّة التي استَفَدْناها من هذه الآيةِ شَيْئان:
أوَّلًا: إهلاك المكذِّبين، والثاني: أنه لا يَنفَعُهم إيمانهم إذا رأَوُا العَذابَ.
قوله: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} {وَخَسِرَ} فسَّرَها المفَسِّر رحمه الله بمَعنَى: [تَبيَّن خُسْرانهم لكُلِّ أحَدٍ، وهُم خاسِرون في كلِّ وَقْت قبلَ ذلك].
{وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} مَعلوم أن {هُنَالِكَ} ظَرْف مَكان، هذا هو الأصل، فهي اسْمُ إشارة إلى المَكان.
وقد تُستَعار إشارةً للزَّمان، فتَقول هُنالِك؛ أي: في ذلِكَ الوَقْتِ، ومِنه هذه الآيةُ انتَبِهِ، الآنَ إذا قُلْت: فُلان هناك. هذا ظَرْف مَكان، وهذا هو الأصل، ولو قُلْت مثَلًا: قَدِم فُلان هُناك. تُشير إلى الوَقْت صارَت إشارةً للزَّمان، لكن هذا خِلاف الأَصْل، بَقِيَ علينا أن يُقال: خَسِرَ في ذلك الوَقتِ الكافِرون. أليسَ الكافِرون خاسِرين في كُلِّ وَقْت؟ بلى، لكن تَبيَّن خُسْرانهم وظهَر؛ لأنَّهم كانوا قبل أن يَنزِل عليهم العَذاب يَظُنُّون أنهم رابِحون؛ ولهذا فرِحوا بما عِندهم من العِلْم، لكن إذا نزَلَ بهم العَذابُ ظهَرَ لهم الخُسْران.
فإن قال قائِل: الله سبحانه وتعالى قال في الآيَةِ الأُولى: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 85] وفي آخِرِ السُّورة قال: {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} فما فائِدةُ التَّغيِير؟
فالجَوابُ: الفائِدةُ من هذا هو بَيان أن كُلَّ كافِر هو مُبطِل ليس معه حَقٌّ، وكل مُبطِل لا يَقول إلَّا الباطِل فهو كافِر يَعنِي: المُبطِل في كل أحواله فهو كافِر ليس معه شيء من الحَقِّ، والكافِر مُبطِل ليس معه شيء من الحَقِّ أيضًا، فاختِلاف التَّعبير لزِيادة المَعنَى، كما يَكون أيضًا في اختِلاف القِراءات أَحْيانًا، كقول الله تبارك وتعالى:{لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} ، وفي قِراءة أُخرى:"تَسْتَأْذِنُوا"{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} ، وفي قِراءَةٍ:"فَتَثَبَّتُوا"، فتكون القِراءة هَذه مُفسِّرةً للقِراءة الثانية.