الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا سيَنفَعُهم، كما لو أن الجانِيَ في الدنيا أَنكَر جِنايته ربما يَنفَعه ذلك، لكن في الآخِرة لا يَنفَع، حتى إنهم إذا أَنكَروا خُتِم على أَفْواهِهم، فتَتَكلَّم الأيدي والأَرجُل والجُلود والأَلْسُن بما تَعمَل، وحينئذٍ {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} .
قال سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} ، {كَذَلِكَ} الكاف حَرْف، لكنها اسمٌ في الواقِع، فهي مَفعول مُطلَق، وتَقديرُ الكَلام: مثل ذلك الإِضلالِ يُضِلُّ الله الكافِرين، فهي حَرْف صورةً، لكِنَّها بالمَعنى اسمٌ، هذا الاسمُ مَحلُّه من الإعراب مَفعول مُطلَق للفِعْل الآتِي بعده، ومثْل هذا التَّعبيرِ يَأتِي كثيرًا في القُرآن، وإعرابه كما سمِعْتم أن الكاف حَرْفٌ بمَعنَى (مِثْل)، وأن إعرابها مَفعول مُطلَق للفِعْل الذي بعدَها، والتَّقدير في كل سِياق بحَسبه، لكن في الآية التي معَنا: مثل ذلك الإِضلالِ يُضِلُّ الله الكافِرين.
وقوله: [{كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}؛ أي: يَجعَلهم في ضَلال يَقول المفَسِّر رحمه الله: [{كَذَلِكَ}؛ أي: مِثل إِضْلال هَؤلاءِ المُكذِّبين {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}].
من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: أن هَؤلاءِ المُكذِّبين بالكِتاب وبما أَرسَل الله به الرُّسُل يُعذَّبون عذابًا جَسَديًّا بالسلاسل والأغلال والسَّحْب في النار، وُيعذَّبون عذابًا قَلْبيًّا بالتَّوْبيخ والتَّقْريع والتَّنْديم، فيُقال:{أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} .
مسألة: إثبات القَوْل لله عز وجل هل يُمكِن أن يُؤخَذ من الآية؟
الجَوابُ: الآية لا تَدُلُّ على هذا؛ لأن القائِل لم يُبيِّن، بل قيل لهم، ولكِنها في آية أُخرَى تَدُلُّ على أن الله يَقول لهم ذلك: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ
تَزْعُمُونَ} الذي يُنادِيهم الله؛ لأنه قال: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} ، ويُمكِن أن يُقال: إنهم يُنادَوْن من قِبَل الله، ويُنادَوْن أيضًا من قِبَل الملائِكة الذين وكَّلَهم الله عز وجل. أو يُقال: إن المَلائِكة تُناديهم، ولكن مُناداتهم أُضيفَت إلى الله؛ لأنه الآمِر بها كما أَضاف الله الوَفاةَ إليه؛ مع أن التي تَتَوفَّى الأَنفُس مُباشَرةً هي الرُّسُل، ولكن نَقول: هذه احتِمالات لا نُورِدها مع وجود الظاهِر؛ لأن الكلام يُحمَل على ظاهِره حتى يَقوم دَليلٌ على صَرْفه عن الظاهِر، فإذا كان الله يَقول:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} صَريح بأن المُنادِيَ هو الله، وَيبقَى على ما هو عليه، ويُحمَل ما كان مَبنيًّا للمَفعول على أن المُنادِيَ هو الله عز وجل.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن الله تعالى يُضِلُّ الكافِر لكُفْره، وجهُ الدَّلالة: أن الحُكْم إذا عُلِّق على وَصْف كان ذلك الوصفُ عِلَّةً له، فما الذي عُلِّق على الكُفْر هُنا؟ الإضلالُ.
إِدنْ: الكُفْر سبَب الإضلال، ويُؤيِّد هذا قولُ الله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5].
يَتَفرَّع على ذلك: أن الضالَّ إذا ضلَّ فإنه هو السبَب في ضَلاله؛ لأن الله تعالى لو عَلِم فيه خيرًا لأَسمَعه؛ ولهذا يَقول عز وجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ، وهذه الآيةُ {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} تَعنِي أن الله أَعلَمُ حيث تَكون الرِّسالة في شخص مُعيَّن، وكذلك حيث يَكون أثَرُ الرِّسالة في شخص مُعيَّن، وأَثَر الرِّسالة الهِداية.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: الرَّدُّ على القدَرية: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} وجهُ ذلك: أن القَدَرية يَقولون: إن أَفعال العِباد ليسَت مخَلوقة لله سبحانه وتعالى، ولا عَلاقةَ لله به، لكنَّ الآيةَ تَدُلُّ على أن الله عز وجل هو الذي يُضِلُّهم، فيَكون في ذلك رَدٌّ على القَدَرية.
يَنبَغي بهذه المُناسَبة أن نَقول: إن الناس انقَسَموا في هذا البابِ إلى طرَفَيْن ووسط، -أي: في أَفْعال العِباد-:
فمِنهم مَن يَقول: إن أَفْعال العِباد مَخلوقة لله، والعَبْد مَجبور عليها وليس له إرادة؛ لأن الله خالِقُ كل شيء، وإذا كان الله هو الخالِقَ فالإنسان ليس له تَدْبير.
ومنهم مَن قال بالعَكس: إن الإنسان فاعِل باختِياره وليس لله عَلاقةٌ به. هذان طرَفان.
ومِنهم مَن قال: إن الإنسان فاعِل باختِياره لكن فِعْله مَقرون بمَشيئة الله، وهذا هو الوَسَط.
واعلَموا أن أسباب الضَّلال في مِثْل هذه الأُمورِ أن من الناس مَن يَنظُر إلى النُّصوص من زاوِية واحِدة، بمَعنى أنه يَأخُذ نَصًّا ويَدَع نصًّا:
فالجَبْرية رأَوْا عُموم مَشيئة الله وعُموم خَلْق الله، وأن الإنسان فَقير إلى الله، وما أَشبَه ذلك فقالوا: إِذَنْ الإنسان ليس له إرادة ولا اختِيار، وفِعْله على وَجْه الإجبار.
والقدَرية رأَوْا أن الإنسان يَفعَل ولا يُحِسُّ أن أحَدًا مُكرِهٌ له، والله تعالى قد أَضاف الفِعْل إليه فقال:{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وما أَشبَهَ ذلك، فإِذَنْ هو مُستَقِلٌّ بعمَله ليس لله فيه عَلاقة، فأَخَذوا من جانَب وتَرَكوا من جانبٍ آخَرَ.
وهكذا جميع خِلاف العُلَماء إذا رأَيْت العُلَماء مُختَلِفين على طرَفَيْن ووسَط، فاعلَمْ أن الطَّرَفين كل واحد مِنهما أَخَذ بجانِب من الأدِلَّة وترَك جانِبًا آخَرَ.