الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بَيانُ قُدْرة الله عز وجل؛ لأَنَّه يُرينا الآياتِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ ما يُرينا الله تعالى من آياتِه حُجَّة مُلزِمة؛ لئَلَّا يَقول قائِل: نحن لم يَأْتِنا آياتٌ حتى نَتَّعِظ بها.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ المَخلوقاتِ والمَشروعاتِ كلها تَدُلُّ على الخالِق المُشرِّع سبحانه وتعالى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: مِنَّة الله عز وجل بإنزال المطَر من السماء، وأَنَّه رِزْق لنا. الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: الحِكْمة في أنَّ المطَر يَنزِل من السماء، والله عز وجل قادِر على أن يَجعَل للأرض أنهارًا تَسير على سَطْح الأرض، وتَسقِي ما شاء الله أن تَسقِيَه، لكن المَطَر أَنفَعُ وأفضَلُ؛ لأنَّ المطَر إذا نزَل من أعلى شمِلَ قِمَم الجِبال، فيَشمَل السهل والوَعْر، والنازِل والعالِيَ، وهذه من الحِكْمة أن يَكون المطَر يَنزِل من فوقُ حتى يَشمَل الأرض كلَّها.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ ما تَتَغذَّى به الرُّوح أهمُّ ممَّا يَتَغذَّى به البدَن؛ لأنه سبحانه قدَّم إِراءة الآياتِ على الرَّزْق الذي يَنزِل من السماء، وهذا يَدُلُّ على أَنَّه أهَمُّ، وهو كذلك، هذا هو الواقِع؛ وذلك لأن فَقْد الغِذاء البدَنيِّ لا يَكون فيه إلَّا شيء لا بُدَّ منه وهو الموت الذي لا بُدَّ منه، حتى لو كان الإنسان في أَنعَم ما يَكون من نَعيم البدَن، وأَترَف ما يَكون فلا بُدَّ أن يَموت، لكن غِذاء الرُّوح هو الذي يَحتاج إلى مُعاناة ومُعالجَة، وبفَقْده يَكون الهلاك في الدُّنيا والآخِرة.
قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15]،
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} [الكهف: 103 - 105]، وقال تعالى:{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].
إِذَنْ: خَسارة البدَن دون خَسارة الرُّوح بكثير، خَسارة الدُّنيا دون خَسارة الدّين بكَثير؛ ولهذا قدَّم الله عز وجل نِعْمته بإِراءة الآياتِ على نِعْمته بإنزال المطَر.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أنَّ الآياتِ والرّزْقَ والعَطاء لا يَنتَفِع به إلَّا مَن أَناب إلى الله، أمَّا مَن لمُ يُنِب إلى الله فإن الله يَقول:{وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: أنَّه كلَّما كان الإنسان أكثَرَ إنابةً إلى الله كان أقوى إيمانًا بالآيات؛ لأنَّ الحُكْم المُعلَّق على وَصْف يَقوَى بقُوَّته وَيضعُف بضَعْفه، فإذا كان التَّذكُّر لمَن يُنيب، فكلَّما كان الإنسان أَقوَى إنابةً كان أَقوى تَذكُّرًا.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّ مَن لم يَكُن عنده إنابة فإنه يُحرَم من الانتِفاع بالآيات؛ لأنَّ الله قال: {وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ الإنابة إلى الله سبَب لكَثْرة الرِّزْق، وَيدُلُّ لذلك قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2، 3]، واللهُ أَعلَمُ.
وإذا قال قائِل: كيف نُجيب على مَن يَقول: قولُ الله تبارك وتعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، أنَّ المُراد به الكُفْر؟
فنُجيب بأنه غلَط، كيف يُراد به شيء واحِد ويُكرِّره الله بألفاظ مُتعَدِّدة؟ ! والأصل أنَّ اختِلاف اللَّفْظ يَدُلُّ على اختِلاف المَعنى، لكن بعض العُلَماء قال: إنَّ وَصْف الحاكِم بالكُفْر لا يَمنَع من وَصْفه بالفِسق؛ لأن الله تعالى وصَف الكُفَّار بالفِسْق، فقال تعالى:{وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]، ووصَف الكافِرين بالظُّلْم، فقال:{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254]، فجعَل هذه الأوصافَ الثلاثةَ لمَوْصوف واحِد، ولا مانِعَ من أن يُوصَف الإنسان بعِدَّة أَوْصاف، فالكافِر لا شَكَّ أنه ظالِم، ولا شَكَّ أنه فاسِق خارِج عن الطاعة، بل فِسْقه فِسْق مُطلَق، وفِسْق المُؤمِن العاصِي فِسْق مُقيَّد، ولكننا إذا جعَلْنا اختِلاف هذه الألفاظِ مُنزَّلًا على أحوال كان أَبلَغَ؛ لأننا نَقول: الكُفْر مُتضَمِّن للظُّلْم والفِسق، فدَلالته عليه بالالتِزام، فيَكون مجُرَّد وَصْفنا إيَّاه بالكُفْر هو وصف له بالظُّلْم والفِسق.
ثُم نَستَفيد فائِدة جديدة بالحُكْم بغير ما أَنزَل الله، حيث يَكون ظُلْمًا مَحضًا لا كُفرًا أو فِسْقًا لا كُفرًا.
وأَقول: إن كوننا نَجعَل الاختِلاف في اللفظ اختِلافًا في المَعنى أَحسَنُ؛ لأن هذا هو الأَصْل، وقد قال العُلَماء في هذه المَسأَلةِ: حَمْل الكلام على التَّأْسيس أَوْلى من حَمْله على التوكيد.
فإن قال قائِل: العُلَماء يَقولون في مِثْل مَن لم يَحكُم بما أَنزَل الله {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]: إذا استَحَلَّه، أمَّا إذا لم يَستَحِلَّه فهذا غير كافِر؟
فالجوابُ: الذي يَضَع القانون بدَلًا عن القانون السَّماويِّ هل استَحَلَّه أو لا؟
الجواب: بل رآه أفضَلَ، فيَكون كافِرًا، مع أن مَن استَحَلَّ الحُكْم بغير ما أَنزَلَ الله، وإن لم يَحكُم به فهو كافِر، فمَن قال:"إنه يَحِلُّ أن نَحكُم بغير ما أَنزَل الله"، فهو كافِر وإن لم يَحكُم به.
وهذه مُشكِلة، فكثيرًا ما يَلجَأ بعض الناس إلى الاستِحْلال أو إلى الجُحود، فمثَلًا يَقول: مَن ترَك الصلاة جاحِدًا فقد كفَرَ. وهذا تَحريف للكلِم عن مَواضِعه.
وهذه مَسأَلة يَلجَأ إليها المُتعَصِّب لقوله، فيُحاوِل أن يَلوِيَ أعناق النُّصوص إلى ما يَقول، فمثَلًا:"مَنْ ترَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ"
(1)
الذين قالوا: لا يَكفُر. قالوا: مَن ترَكَها جاحِدًا لوُجوبها فقد كفَر، نحن نَقول: سُبحان الله! أنتم إذا فعَلْتم ذلك جنَيْتم مرَّتَيْن على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم:
المرَّة الأُولى: حَمْلكم الكلام على غير ظاهِره.
والمرَّة الثانية: إثبات أَمْر لم يَقُله الرسول عليه الصلاة والسلام.
الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ تَرَكَهَا"، ولم يَقُل: مَن جحَدها، هل في لِسانه عِيٌّ أن يَقول: مَن جَحَدَها.
ثُم نَقول لكم: الجَحْد كُفْر وإن صلَّى، والرسول صلى الله عليه وسلم يَقول:"مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ" لو أن الإنسان قال: إنَّ الصلاة لَيْسَت بواجِبة، ولكنه يُواظِب عليها، وهو أوَّل مَن يَأتِي للمَسجِد، وآخِرُ مَن يَخرُج؛ فإنه يَكفُر، كيف تُلغون وَصْف التَّرْك، وتَأتون بوَصْف جديد تُعلِّقون به الحُكْم؟ ! وهذه مُشكِلة.
ولمَّا قيل للإمام أَحمدَ رحمه الله في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
(1)
أخرجه ابن حبان رقم (1463)، من حديث بريدة رضي الله عنه.
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، قالوا له: إنَّ فلانًا يَقول: هذا فيمَنِ استَحَلَّ قَتْل المُؤمِن؛ ضحِكَ الإمامُ أحمدُ وقال: "سُبحانَ الله! مَنِ استَحَلَّ قَتْل المُؤمِن فهو كافِر، قَتَله أو لم يَقتُله"، وهذا تَحريف لا شَكَّ أنه مُضحِك.
كذلك أيضًا مَنِ استَحَلَّ الحُكْم بغير ما أَنزَل الله فهو كافِر، سواء حكَمَ به أم لم يَحكُم، والآية علَّقَت الحُكْم بالحُكْم، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وهذه مَسأَلة احذَرُوها، احذَروا تَحريف الكلِم عن مَواضِعه من أَجْل اعتِقاد تَعتَقِدونه، واجعَلوا اعتِقادَكم وحُكْمكم على الشيء تابِعًا للنُّصوص، لا تَجعَلوا النُّصوص تابِعة، إذا جعَلْت النَّصَّ تابِعًا لما تَعتَقِد فإنَّ هذا هو اتِّباع الهوى تمَامًا، اجعَلْ نَفسَك بين يدَيِ النُّصوص كالميت بين يدَيِ الغاسِل، تُقلِّبك النُّصوص ولا تُقلِّبها، هذا هو المُؤمِن، لكن قد يَكون أحيانًا النُّصوص بعضُها يُقيِّد بعضًا، أو يُخصِّص بعضًا، أو الفِقْه بالشريعة يَقتَضي تَقييد المُطلَق، أو تَخصيص العامِّ، وما أَشبَه ذلك، وهذا لا يَخرُج بنا عن اتِّباع النُّصوص.
* * *