الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الآية (56)]
* قَالَ اللهُ عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56].
* * *
ثُم قال عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} هذه (إِنَّ) واسمُها وخبَرُها قوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} ؛ أي: ما في صُدورهم إلَّا كِبْر.
قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} المُجادَلة: المُخاصَمة، وسُمِّيَت المُخاصَمة مجُادَلة؛ لأن كُل خَصْمٍ يَجدُل الحُجَّة؛ ليَغلِب صاحِبه كجَدْل الحَبْل وهو شَدُّه، كل واحِد من الخَصْمين يَجدُل الحُجَّة لنَفْسه ليُفحِم خَصْمه.
وقوله: {يُجَادِلُونَ} المُفاعَلة تَأتِي في الغالِب بين اثنَيْن، وقد تَأتِي (فاعَلَ) بدون مُشارِك مثل سافَرَ، سافَرَ على وَزْن فاعَلَ، على وَزْن جادَلَ، لكنها ليسَت بين اثنَيْن، لكن الغالِب أن (فاعَلَ) يَعنِي: المُفاعَلة تَأتِي مِنِ اثنَيْن {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} يُجادِلون أهل الحقِّ ويُناظِرونهم، ولقد علِمْتم المُناظَرة التي وقَعَت بين إبراهيمَ وقَوْمه ووقَعَت بين إبراهيمَ والذي حاجَّهُ في رَبِّه، ومجُادَلات كثيرة في القُرآن وفي السُّنَّة، وإلى يومِنا هذا.
قوله: {فِي آيَاتِ اللَّهِ} قال المفَسِّر رحمه الله: [القُرآن]، وهذا التَّفسيرُ قاصِر؛ لأن آياتِ الله تَشمَل الكَوْنية والشَّرْعية، ثُم تَشمَل أيضًا مَن يُجادِل في هذه الأُمَّةِ، ومَن يُجادِل فيمَن سَبَق، والذين يُجادِلون فيمَن سَبَق لا يُجادِلون في القُرآن، فالأَوْلى أن نَجعَل الآية على العُموم، يُجادِلون في آيات الله الكَوْنية والشَّرْعية إن كانوا في هذه الأُمَّةِ، فالشَّرْعية هي القُرآن والسُّنَّة أيضًا، وإن كانوا من قَبْل الأُمَّة فالمُجادَلة في التَّوْراة من قوم مُوسى، وهكذا.
إِذَنْ: تَفسير المفَسِّر رحمه الله قاصِر؛ لأنه لم يُحِط بالمَعنَى، بل قصَره على بعضه، لكن لو ادَّعى مُدَّعٍ أن المفَسِّر ذكَر القُرآن من باب التَّمثيل، لوِ ادَّعى مُدَّعٍ ذلك لقُلْنا: هذا مُمكِن محُتَمَل، لكنه أَخطَأ في التَّعبير، إذ إن المُراد يُقال: آياته الشرعية كالقُرآن، حتى يَكون الأمر واضِحًا.
وقوله: {يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} ، المُجادَلة في الآيات الشَّرْعية، منها اتِّباع المُتَشابِه، فيَأتِي مثَلًا بآية من القُرآن فيها اشتِباه تَحتَمِل مَعنًى حقًّا، ومَعنًى باطِلًا، وهي في الحقِّ أَظهَرُ كما هو مَعلوم، فيُريد أن يَحمِلها على المعنى الباطِل المَرجوح، يَأتِي بآيات من القُرآن ظاهِرها التَّعارُض يَقول: القُرآن مُتناقِض كيف يَقول: كذا، ثُم يَقول: كذا.
فمثَلًا يَقول: إن الله تعالى قال: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء: 42] يَوَدُّن {وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} وفي آية أُخرَى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فكتَموا، قالوا:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} كانوا في الأوَّل مُقرِّين تمامًا، فيَأتِي يَقول: هذا القُرآنُ مُتَناقِض، كيف يُثبِت في مَكان أنهم لا يَكتُمون الله حديثًا وفي مَكان
أنهم يُنكِرون؟
فيُجادِل بمِثْل هذا، إذا لم يَكُن لدَى الإنسان سَيْف يَقطَع حُجَّة هذا، بَقِيَ الإنسان مُرتَبِكًا، فما هو السَّيْف الذي يَقطَع حُجَّته؟ أن نَقول: إن يوم القِيامة ليس ساعة من زمَن مِقداره خَمْسون أَلفَ سَنَة، فأَقَرُّوا بالأوَّل، ولمَّا رأَوْا أن المُؤمِنين يَنْجون قالوا: نَكتُم لعَلَّنا نَنْتَفِع. أو أنهم كتَموا في الأوَّل، ثُم لمَّا رأَوْا جَوارِحهم تَشهَد عليهم أَقَرُّوا واعتَرَفوا.
وأنا أَقولُ: المُجادَلة في الآيات في القُرآن منها اتِّباع المُتَشابِه، هذه المُجادَلةُ لا شَكَّ.
وكذلِكَ أيضًا المُجادَلة في الآيات الكَوْنية، يَأتِي مثَلًا بأشياءَ من مخَلوقات الله سبحانه وتعالى فتقول: لماذا خلَقَ الله هذا الشيءَ؟ لماذا خلَق الله العَقْرب؟ لماذا خلَقَ الله الحَيَّة؟ لماذا خلَقَ الله الأسَدَ؟ وما أَشبَهَ ذلك، إِذَنْ ما أَراد الله إلَّا إضرار الخَلْق وإيذاء الخَلْق، انتَبِهْ عندما يُورَد هذا السُّؤالُ على عامِّيّ ماذا يَقول؟ يَقول: والله ما يَدرِي يُمكِن، فيُجادِل مع أننا نَعلَم أن خَلْق هذه المَخلوقاتِ من مَصلَحة العِباد، وقد ذكَرْنا في مَجالِسَ سبَقَت أن في خَلْق هذه المُؤْذِيات ثَمانِ فَوائِدَ تَظهَر للمُتأمِّل، وبذلك نَعرِف المُجادَلة في الآيات تَكون في الآيات الكونية والآيات الشَّرْعية وذكَرْنا مِثالَيْن على ذلك.
يَقول الله عز وجل: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} قال المفَسِّر رحمه الله: [بُرْهان]{أَتَاهُمْ} هذه صِفة لـ {سُلْطَانٍ} والسُّلْطان يَقول المفَسِّر رحمه الله: هُو البُرْهان.
وذكَرْنا فيما سَبَق أن السُّلْطان ما يَكون به سُلْطة، سواءٌ كان دَليلًا إذا كانت
المَسأَلة تَحتاج إلى دَليل، أو سُلْطة تَدْبير كالسُّلْطان الأَعظَم، وما أَشبَه ذلك، أو قوَّة وقُدْرة، كما في قوله تعالى:{لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
المُهِمُّ: أن السُّلْطان ما يَكون به السُّلْطة للإنسان، وفسَّرَه في كل مَكان بحَسبه.
وقوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} هل يَعنِي: أنه لا يُمكِن أن نُجادِل الإنسان بالباطِل بسُلْطان.
إِذَنْ: هذا القَيْدُ بَيان للواقِع، وليس قيدًا احتِرازِيًّا، بل هو قَيْد مُبيِّن للواقِع أن كل مَن جادَل في آيات الله، فإنه مجُادِل بغَيْر سُلْطان ولا يُمكِن أن يَأتِيَه سُلْطان بذلك.
وقوله: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} (إِنْ) يَقول المفَسِّر رحمه الله: [ما] يَعنِي: أنها نافِية، وذلك أن (إِنْ) في اللُّغة العرَبية مُشتَرَكة بين عِدَّة مَعانٍ، وما أكثَرَ الكلِماتِ التي يَكون لها عِدَّة مَعانٍ، ولكن الذي يُعيِّن المَعنَى السِّياق وقَرائِنُ الأَحْوال، ومن ذلك: أنَّك متى وجَدْت إثباتًا بعد (إِنْ) فهِيَ نافِية {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} ، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} ، {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} وهلُمَّ جرًّا، فمتى وجَدْت الإثبات في سِياق (إن) فاعْلَمْ أنها نافِية، ويَأتِي - إن شاءَ الله - الكَلامُ على بقِيَّة مَعانِيها، لكن هنا يَقول:{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} قال: {فِي صُدُورِهِمْ} ، والذي في الصُّدور هو القَلْب، قال الله تعالى:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وإذا تَكبَّر القلب -والعِياذُ بالله- تَكبَّر البَدَن، وإذا ذُلَّ القلب لله ذُلَّ البَدَن، قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "أَلا وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا
فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلُّهُ؛ أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ"
(1)
وصدَق الرسول عليه الصلاة والسلام، ومثَّل أبو هُرَيْرةَ ذلك بالمَلِك له جُنود يَأمُر الجُنود فيَأتَمِرون
(2)
، ولكن شيخ الإسلام ابن تَيمِيَّةَ
(3)
قال: إن تَمْثيل الرسول صلى الله عليه وسلم أَبلَغُ؛ لأن المَلِك قد يَتمَرَّد عليه الجُنودُ؛ لكن القَلْب هل يُمكِن تَتَمرَّد عليه الجَوارِحُ، أبَدًا لا يُمكِن، فجعَل الكِبْر في الصُّدور؛ أي: في القُلوب؛ لأن الصُّدور محَلُّها.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{إِلَّا كِبْرٌ} تَكبُّر وطمَع أن يَعلوا عليكَ].
{مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} جُمْلة {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} الظاهِر أنها مُستَأنَفة، وليست صِفة لـ {كِبْرٌ} {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ}؛ ولِهَذا نَقول: إذا قرَأْت فقُلْ: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} هذا المَوْقِفُ الصحيح، ولا تَقِفْ على قوله:{بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} لا تَقِفْ عليه؛ لأنَّك إذا وقَفْت على {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} فمَعناه أنك وقَفْت على الكلام قبل التَّمام، ولكن قُلْ:{إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} ، ثُم قِفْ وقُلْ:{مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} ؛ لأنك إذا وصَلْت {إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} صارَت جُمْلة {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} حَسب القِراءة صِفة لكِبْر، وليس الأَمْر كذلك، بل هي جُمْلة مُستَأنَفة من الله عز وجل يَقول: إنهم لن يَبلُغوا ما في صُدورهم من التَكبُّر عليك والعُلوِّ عليك، وقوله:{مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أَصْله ببالِغِينَه، لكن أين ذهَبَتِ النون؟
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (52)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (1599)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
(2)
أخرجه معمر في جامعه (11/ 221)، والبيهقي في الشعب رقم (158).
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 187).
حُذِفَت النُّون للإضافة؛ لأن النون والتَّنوين لا يَجتَمِعان مع الإضافة؛ ولهذا قال أحَدُ الناس يَصِف تَباعُدَه مع صاحِبه:
كَأَنِّيَ تَنْوِينٌ وَأَنْتَ إِضَافَةٌ
…
فَأَيْنَ تَرَانِي لَا تَحِلُّ مَكَانِي
(1)
والنُّون كالتَّنوين تُحذَف مع الإضافة {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} .
قال المفَسِّر رحمه الله: [{فَاسْتَعِذْ} من شَرِّهم {بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لأَقْوالهم {الْبَصِيرُ} لأَحْوالهم]، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} (استَعِذْ) بمَعنَى: استَجِرْ به واعتَصِمْ به فإنه جَلَّ وَعَلَا نِعْمَ المَعاذُ؛ ولهذا لمَّا دخَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على امرأةٍ تَزوَّجها فقالت: أَعوذُ بالله مِنْك. قال: "لَقَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ الحقِي بِأَهْلِكِ"
(2)
وَترَكها مع أنه تَزوَّجها راغِبًا فيها، لكنَّها استَعاذَت بمَن لا يُمكِن أن يُخفَر جِوارُه أبَدًا، قال:"الحقِي بِأَهْلِكِ".
فاستَعِذْ بالله؛ مِن أيِّ شيء؟ يَقول المفَسِّر رحمه الله: [مِن شَرِّهِم] والأَوْلى أن يَكون الأمر أعَمَّ. أي: استَعِذ بالله من كل مَكروهٍ، فلا مَلجَأَ للإنسان إلَّا إلى الله عز وجل ولا عِياذَ إلَّا به، ولا لِياذَ إلَّا به أيضًا، فهو عز وجل نفَرَ منه إليه.
وقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ختَمَ الآية بالسَّمْع والبصَر؛ لأن ما يُؤذون به النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إمَّا قول فيُدرَك بالسَّمْع، أو فِعْل فيُدرَك بالبصَر. يَعنِي: آذَوْك بالقول فنَحن نَسمَع، بالفِعْل فنحن نُبصِر، وهذا فيه من تَطمين الرَّسول صلى الله عليه وسلم ما يُعلَم - إن شاءَ الله - في ذِكْر الفَوائِد والله أَعلَمُ.
(1)
انظر: ذكريات علي طنطاوي (2/ 341).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب من طلق، رقم (5254)، من حديث عائشة رضي الله عنها، ورقم (5255)، من حديث أبي أسيد رضي الله عنه.
فإن قال قائِل: صحيح ما ذهَب إليه بعض المفَسِّرين في قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} ما تَقدَّم قبلَ الرِّسالة، وأمَّا المُتأخِّر هو تَرْك الأَوْلى من الرسول؟
فالجوابُ: هذا غيرُ صَحيح، الرسول عليه الصلاة والسلام فعَل أَشياءَ عاتَبَه الله فيها بعدَ الرِّسالة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37].
فلا نُنزِّهُ الرسول إلَّا عمَّا نزَّهَهُ الله عنه، ثُم قُلتُ قبلَ قليل: قد يَكون الإنسان بعد التَّوْبة من المَعصِية خيرًا منه قَبْلها وضرَبْنا لكم مثَلًا بقِصَّة آدَمَ، فدعُوا النُّصوص على ما هي عليه، والله عز وجل لا يَظلِم أحَدًا أبَدًا.
فلمَّا قالوا: إن قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا} [الأعراف: 189 - 190] قالوا: إن هَذِه الآيةَ نزَلَت في آدَمَ وحَوَّاءَ أنها حمَلَت فجاءَها الشَّيْطان فقال: سَمِّيَا ولَدَكما عبدَ الحارِث. فأَبَيا أن يُطيعاه فخَرَج مَيْتًا، ثُمَّ حمَلَت ثانيةً فجاءَهُما وقال: لَتُطيعانِّي أو لأَجْعَلنَّ له قرنَيْ أيل - والأيل نوع من الغُزلان قَرُنه قويٌّ كالحربة - فيَخرُج من بَطنك فيَشُقُّك، فأَدرَكَهما حُبُّ الولَد فسَمَّياه عبدَ الحارِث
(1)
عبَّداه لغَيْر الله، لا يُمكِن أن يَقَع هذا من آدَمَ صلى الله عليه وسلم.
(1)
أخرجه الإمام أحمد (5/ 11)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الأعراف، رقم (3077)، من حديث سمرة رضي الله عنه.
ثُم لو فُرِض أنه وقَعَ هل يُمكِن أن يَذكُر الله السُّوءَ ولا يَذكُر التَّوْبة منه؛ لأنَّا نَقول: إذا وقَعَ فإمَّا أن يَكون قد تاب منه أو لم يَتُب، فإن لم يَتُب فقد مات على الشِّرْك، فإن تاب فلَيْس من عَدْل الله عز وجل أن يَذكُر السُّوء ولا يَذكُر الخَلاص مِنه.
فنحن نَقولُ: بعضُ العُلَماء - عفا الله عنَّا وعَنْهم - يَتَحايَلون أو يَتَمحَّلون على العِبارة الصحيحة، يَتَمحَّلون في تَنزيه الرسُل عمَّا وصَفَهم الله به، لكن نحن نُؤمِن بأن الرسول يَختَلِف مع غيره في مَسأَلتَيْن:
المَسأَلة الأُولى: أنه لا يُمكِن أن يَفعَل ما يُخِلُّ بالرِّسالة أو بالشَّرَف.
المَسأَلة الثانِية: إذا فعَل مَعصية فلا يُمكِن إلَّا أن يَتوب منها، لا يُقِرُّه الله على مَعصية، نحن الآنَ جائِز على بني آدَمَ أن يَفعَلوا ما يُخِلُّ بالشَّرَف، يَأتون الفاحِشة، يَزنون، جائِزٌ عليهم أيضًا إذا فعَلوا أن لا يَتوب، فالرُّسُل يَختَلِفون عن غيرهم بهذَيْن الأَمْرين.
فالخُلاصةُ: أن بعض العُلَماء رحمهم الله يَتَمحَّلون بالنِّسبة للرُّسُل عليهم الصلاة والسلام ونحن نَقول: لا نَتَعدَّى القُرآن والحديث أبَدًا: "نبيٌّ مِن الأَنْبِياءِ قَرَصَتْه نَمْلةٌ - النَّمْلة مَعروف - فأَحرَق قَرْيَة النَّمْل كُلَّها - شبَّ عليها نارًا - فأَوْحى الله إليه هَلَّا نَمْلة واحِدة، تَقرُصُك نَمْلة وتَروح إلى كل القَرْية فتُحرِقَها بسبَبِ ذَنْب واحِدٍ"
(1)
؟
وهذا إشارة إلى أن الإنسان يَجِب عليه أن يَتحَرَّى، ثُم هذا النَّملُ لا يُمكِن أن يَتأدَّب، هل تَظُنُّون أن إذا سمِعَت النَّمْلة الأُخرى بهذه القِصَّةِ أن تَتُوبَ عن قَرْص
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، رقم (3019)، ومسلم: كتاب السلام، باب النهي عن قتل النمل، رقم (2241)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.