الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (38، 39)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 38، 39].
* * *
قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} في أوَّل هذه الآياتِ يَقول الله عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [غافر: 28]، وهُنا وما قَبْلها يَقول:{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ} تَحقيقًا لإيمانه وأنه مُؤمِن حَقًّا {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} .
قوله: {يَاقَوْمِ} سبَق الكَلام على إِعْرابها، وبيَّنَّا أنها مُنادى مَنصوبة مُقدَّرة على ما قبلَ ياء المُتكَلِّم المَحذوفة للتخفيف، منَع من ظُهورها اشتِغال المَحلِّ بحرَكة المُناسَبة.
وقوله: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ} قال المفَسِّر رحمه الله: ["اتَّبِعُوني" بإثباتِ الياء وحَذْفها] يَعني أنها قِراءَتان؛ "اتَّبِعُوني" و {اتبعُونِ} أمَّا على وجود الياء فالأَمْر ظاهِر؛ لأنها ياء المُتكَلِّم، وأمَّا على حَذْفها فهي محَذوفة للتخفيف، وقوله:{اتبِعُونِ} فِعْل أَمْر، و {أَهْدِكُمْ} جَواب فِعْل الأَمْر؛ ولهذا وقَع مَجزومًا بحَذْف الياء، والكَسرة قبلَها دليلٌ عليها، وأَصْل {أَهْدِكُمْ}: أَهدِيكُم، لكن
الفِعْل المُضارع إذا وقَع جَوابًا للأَمْر فإنه يَكون مَجزومًا، قيل: إنه مَجزوم به. وقيل: إنه مجَزوم بشَرْط مُقدَّر، والتَّقدير: إن تَتَّبِعوني أَهدِكُم. وهكذا يُقال في كل ما جاء على هذا التَّرْكيبِ {أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: طريقه، والهِداية هنا هِداية الدَّلالة؛ لأنه لا يُمكِن أن يُراد بها هِداية التَّوْفيق، إذ إن هِداية التَّوْفيق تكون بيد الله عز وجل؛ لقوله تبارك وتعالى لرسوله محُمّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]؛ أي: لا تَهدِي هِداية التَّوْفيق، فقوله:{أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} يَعنِي: أَدُلُّكم على سَبيل الرَّشاد، وسبيل الرَّشاد ضِدُّ سَبيل الغَيِّ، والرَّشاد هو حُسْن التَّصرُّف، والغَيُّ هو الضَّلال أو ارتكاب الخطَأ عن عَمْد.
قوله: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} لمَّا رغَّبهم باتِّباعه زَهَّدهم بالدُّنيا؛ لأن أصل ضَلال بني آدَمَ هو الطَّمَع في الدُّنيا والتَّنافُس إنما يَكون عليها؛ ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "وَاللهِ مَا الفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَإنَّما أَخْشَى أَنْ تُفْتَحَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا فَتَنَافَسُوهَا كما تَنَافَسُوهَا -أي: مَن قَبْلنا- فَتُهْلِكَكُمْ كما أَهْلَكَتْهُمْ"
(1)
فهو لمَّا طلَب أن يَتَّبِعوه بيَّن لهم حال الدنيا التي يَتَنافَسون فيها والتي صَدُّوا عن سَبيل الله بها.
فقال: {يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} {إِنَّمَا} أداة حَصْر، و {هَذِهِ الْحَيَاةُ} مُبتَدَأ، و {مَتَاعٌ} خبَرُه؛ أي: ما هذه الدُّنيا إلَّا مَتاع يَتمتَّع به الإنسان قليلًا ثُم يَزول؛ ولهذا قال المفَسّر رحمه الله في التَّفسير: {مَتَاعٌ} تَمتُّع يَزولُ].
قوله: {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} {الْآخِرَةَ} ما بعد الدنيا هي دارُ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، رقم (6425)، ومسلم: كتاب الزهد والرقائق، رقم (2961)، من حديث عمرو بن عوف رضي الله عنه.
القَرار، (هي) ضَمير فَصل، و {دَارُ الْقَرَارِ} خبَر (إن)، واعلَمْ أن ضَمير الفَصْل ضَمير لا محَلَّ له من الإعراب لا يُعرَب مُبتَدَأ ولا خبَرًا، ولا أي شيء، لا محَلَّ له من الإعراب، واعلَمْ أيضًا أن له ثلاثَ فَوائِدَ:
الفائِدة الأُولى: التَّوْكيد.
والفائِدة الثانِية: الحصْر.
والفائِدة الثالِثة: تمَييز الخبَر من الصِّفة.
وَيظهَر هذا بالمِثال، فإذا قلت: زَيدٌ هو الفاضِلُ. فهو ضَمير فَصل استَفَدْنا منه ثلاث فَوائِدَ: أوَّلًا: التَّوْكيد حيث أكَّدْنا أن زيدًا هو الفاضِلُ، بل حيث أكَّدنا أن زيدًا فاضِلٌ، ثُم الحَصْر؛ لأنك قُلت: زيد هو. أي: لا غير زيد هو الفاضِل، الفائِدة الثالِثة: التَّمييز بين الصِّفة والخبَر، فإنك لو قُلت: زيدٌ الفاضِل. لاحتُمِل أن يَكون (الفاضِل) صِفة لـ (زيد) وأن الخبر لم يَأتِ بعدُ، فإذا قلتَ: هو الفاضِل. تَعيَّن أن تكون الفاضِلُ خبَرًا، فبذلِك يَحصُل التَّمييز بين الخبَر وبين الصِّفة.
وضَمير الفَصْل لا محَلَّ له من الإعراب، ودليل ذلك قوله تعالى:{لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40)} [الشعراء: 40]، فهُنا جاءَت {الْغَالِبِينَ} خبَرًا لـ (كان)، ولو كان له مَحلَّ من الإعراب لكانت: إن كانوا هُمُ الغالِبون. لكنه ليس له محَلٌّ من الإعراب، إِذَنْ ما هي دار القَرارِ؟
هي الدار الآخرة، وأكَّد ذلك بالإتيان بضَمير الفَصْل، وأن الدار الآخرة هي دار القَرار؛ أي: دار المُستَقَرِّ؛ ولهذا يُؤتَى بالمَوْت على صورة كَبْش فيُوقَف بين الجَنَّة والنار، ويُقال: "يَا أَهْلَ النَّارِ! فَيَشْرَئِبُّون ويَطَّلِعون، وكذلك يُقال: يا أَهْل الجَنَّة!