المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من فوائد الآيات الكريمة: - تفسير العثيمين: غافر

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌تقديم

- ‌مقدمة

- ‌(الآيات: 1 - 3)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (4)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (5)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (6)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (7)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (8)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌(الآية: 9)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (10)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (11)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (12)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (13)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (14)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (15)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (16)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (17)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (18)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (19)

- ‌الآية (20)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (21)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (22)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (23، 24)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (25)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (26)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (27)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (28)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (29)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (30، 31)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآيتان (32، 33)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (24)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (35)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (36، 37)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآيتان (38، 39)

- ‌من فوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (40)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيات (41 - 43)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآية (44)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (45، 46)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآيتان (47، 48)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآيتان (49، 50)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (51)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌[الآية (52)]

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌[الآيتان (53، 54)]

- ‌من فوائدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌[الآية (55)]

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌[الآية (56)]

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (57)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (58)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (59)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (60)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (61)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (62، 63)

- ‌من فوائِد الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (64)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (65)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (66)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (67)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (68)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (69)

- ‌الآيات (70 - 72)

- ‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

- ‌الآيتان (72، 74)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (75)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (76)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (77)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (78)

- ‌من فوائلِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (79، 80)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

- ‌الآية (81)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (82)

- ‌من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآية (83)

- ‌من فوائد الآيةِ الكريمةِ:

- ‌الآيتان (84، 85)

- ‌من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:

الفصل: ‌من فوائد الآيات الكريمة:

منها تِسعة وَتِسْعِينَ فإذا أَحصَيْتها دخَلْت الجَنَّة.

ومعنى إحصائها: هو مَعرِفتها لفظًا ومَعنًى، والتَّعبُّد لله بمُقتَضاها، أي: مَعرِفة لَفْظها ومَعناها والتَّعبُّد لله تعالى بمُقتضاها.

قال رحمه الله: [{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} المَرجِع] الجُمْلة خبَرية مُكوَّنة من مُبتَدَأ وخبَر، والخبَر فيها مُقدَّم، وإذا قُدِّم الخبَر أَفاد التخصيص والحَصْر؛ إليه أي: إلى الله وحدَه، المَصير: المَرجِع، وهل المُراد بقوله:{إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المَرجِع في كل شيء، أو إليه المَصيرُ بعد الموت؟

الجوابُ: إليه المَصيرُ في كل شيء، فإليه المَرجِع في الحُكْم بين النَّاس، إليه المَرجِع في تدبير الأمور، إليه المَرجِع بعد الموت، إليه المَرجِع في كل شيء، {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].

‌من فوائدِ الآياتِ الكريمة:

الْفَائِدَةُ الأُولَى: أنَّ القُرآن الكريم حُروف، تَكلَّم الله به بحُروف، ففيه الرَّدُّ على الأشاعِرة، ومَن سلَك سبيلهم الذين يَقولون: إن كلام الله هو المَعنى القائِم بالنَّفْس، وإنَّ الله لا يَتكلَّم بحَرْف وصَوْت، لكن يَخلُق حُروفًا وأصواتًا تُسمَع تَعبيرًا عمَّا في نفسه.

وحقيقةُ هذا القولِ نَفيُ الكلام؛ لأنَّ ما في النَّفْس من المعلومات المُرتَّبة ليسَت كلامًا، ولكنها مَعلومات، عِلْم، وليست كلامًا.

والرَّدُّ عليهم معلوم من كتُب العقائِد: منها أنَّ القول إذا أُطلِق فهو قول اللِّسان، وإذا أُريد به قول النَفْس حُدِّد، مثل:{وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ}

ص: 50

[المجادلة: 8]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا"

(1)

.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: عُلوُّ الله عز وجل، يُؤخَذ مِن قوله:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} ؛ لأن النُّزول لا يَكون إلَّا من أعلى.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ القُرآن كلام الله، لا كلامُ غيرِه؛ لقوله تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} ، وذلك أنَّ ما ذكَر الله أنه نزَّله يَنقَسِم إلى قِسْمين:

إمَّا أن يَكون أعيانًا قائِمة بنَفْسها، فهذه مَخْلوقة.

أو تَكون أَوْصافًا لا تَقوم إلَّا بالغَيْر، فهذا غير مَخْلوق.

مثال الذي أَضاف الله تعالى إنزالَه إلى نفسه، وهو عين قائِمة بنَفْسها، قوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25]، فالحَديد مَخْلوق، وقوله:{وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]، أعيان قائِمة بنَفْسها مَخْلوقة، {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا} [الأعراف: 26]، مَخْلوق.

إِذَنْ: فما أَضاف الله تعالى مِن إنزاله إليه، وهو عين قائِمة بنَفْسه؛ فهو مَخْلوق، وإلَّا فهو غير مَخْلوق، والقُرآن هو كلام لا يَقوم إلَّا بالغير، إِذَنْ هو غير مَخْلوق.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: وصفُ القُرآن الكريم بالكِتاب، فلماذا وُصِف بالكتاب؟

نَقول: أوَّلًا: لأنه يُكتَب فهو مَكتوب بالمَصاحِف التي بأيدينا.

ثانيًا: أنه بصحُف بأَيْدي المَلائِكة: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 12، 13].

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره، رقم (5269)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 51

ثالثًا: أنَّه مَكتوب في اللوح المَحْفوظ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: 21، 22]، وعليه فكِتاب بمَعنى مَكتوب، وهل يَأتي "فِعال" بمَعنى "مَفعول"؟ نَقول: كثيرًا، كغِراس بمَعنى مَغروس، وبِناء بمَعنى مَبنيٍّ، وفِراش بمَعنى مَفروش، وما أَشبَهَه.

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثبات ثلاثة أسماء من أسماء الله: الله، والعزيز، والعليم، من قوله تعالى:{مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وإثبات ما دلَّت عليه هذه الأسماءُ من الصِّفات، فالله دلَّ على الأُلوهية، والعَزيز على العِزَّة، والعليم على العِلْم، واعلَمْ أنَّ كل اسم من أسماء الله فإنه مُتضَمِّن لصِفة، وليس كل صِفة يُشتَقُّ منها اسمٌ؛ ولهذا قُلْنا: إنّ الصِّفاتِ أوسَعُ من الأسماء.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: ذِكْر الأسماء المُناسِبة للمَقام. يَعني: أنَّ الله جَلَّ وَعَلَا يَذكُر من أسمائه ما يُناسب المَقام، فهذه السورةُ تَتَحدَّث عن المُكذِّبين للرُّسُل، وما جرَى عليهم من الهَلاك والانتِقام، فالذي يُناسِبه من الأسماء العِزَّة التي فيها الغلَبة والأَخْذ؛ فلهذا جاءَت هنا العَزيز، وجاء العَليم، ليُفيد أنَّه لعِزَّته أخَذَ هؤلاءِ المُكذِّبين، ولعِلْمه أَنزَل الكتُب وعلِم كيف يَأخُذ هؤلاءِ المُكذِّبين.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن الله جَلَّ وَعَلَا يَغفِر الذُّنوب جميعًا لقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ} ، والذَّنْب هنا مُفرَد محُلًّى ب (أل) فيَكون عامًّا؛ لأن المُفرَّد المُحلَّى ب (أل) يَكون عامًّا، مثل:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)} [العصر: 2]، أي: إن كل إنسان.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: الحَثُّ على كل ما تَكون به المَغفِرة، وجهُ ذلك: أنَّ الله تعالى لم يُخبِرْنا بأنه غافِر الذَّنْب من أَجْل أن نَعلَم أنه غافِر فقَطْ، لكن من أَجْل أن نَتعرَّض لمَغفِرته.

ص: 52

وما هي الأسباب التي تَكون بها المَغفِرة؟

الجواب: الأسباب كثيرة؛ منها: الاستِغْفار، تقولُ: اللهُمَّ اغفِرْ لي، ومنها: أعمال صالحِة يُكفِّر الله بها الخَطايا، ومنها: إحسان إلى الخَلْق، حتى إن الله عز وجل غفَر لامرأة بَغيٍّ بسَقْيِها كلبًا عَطشانَ، وغفَر لرجُل وجَد شجَرة في الطريق تُؤذِي الناس فأَزالها، فغفَر الله له.

المُهِمُّ: أن نَتعرَّض لأسباب المَغفِرة؛ لأن ذلِك مُقتَضى قوله: {غَافِرِ الذَّنبِ} .

الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: أنَّه يَقبَل التوبة من عِباده، ولكن لا يُقبَل الشيءُ حتى يَكون جارِيًا على مُقتَضى الشريعة؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ ردٌّ"

(1)

.

والتوبة الجارِية على مُقتَضى الشريعة هي ما جمَعَت خمسة أُمور، وهي ما يُعرَف بشُروط التَّوْبة:

الشَّرط الأوَّلُ: الإخلاص لله عز وجل، بأن يَكون الحامِل للإنسان على التَّوْبة هو إخلاصَه لله عز وجل، حُبُّ التَّقرُّب إليه والفِرار من عُقوبته، فلا يَحمِله على التوبة مُراعاة الخَلْق، ولا حُصول الجاهِ والرِّئاسة، وإنَّما يَحمِله الإخلاص لله.

الشَّرط الثاني: النَّدَم على فِعْل المَعصية أن يَشعُر الإنسان بانفِعال ندَم وحَسْرة على ما وقَع منه، فلا بُدَّ من ندَم؛ لأن النَّدَم هو الذي يَتبيَّن به حقيقة رُجوع الإنسان إلى الله، وأن هذه المَعصيةَ أثَّرَت في نفسه، فندِم على ما جرَى منه، لا يُقال: إن النَّدَم

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

ص: 53

انفِعال، والانفِعال يَأْتي بغير الاختيار؛ كالغضَب مثَلًا، والحُزْن من الواقِع، يُقال: المُراد بالنَّدَم هنا تَحسُّر القلب، فهو انفِعال يَقَع من الإنسان ليس كالانفِعال الذي يَأتِي سببه من الخارِج، هذا ربَّما لا يَستَطيع الإنسان أن يُغيِّر ما وقَع.

الشَّرط الثالث: التَّخلِّي عن المَعصية والانفِصال عنها، فإن تابَ وهو مُصِرٌّ فإن تَوْبَته أشبَهُ ما تَكون بالاستِهْزاء، كيف يَقول الذي يَأكُل لحم الخِنزير: أَستَغفِر الله تعالى، وأَسأَل الله أن يَجعَل طعامي طيِّبًا؟ ! وهو يَأكُل هو يَمضَغ اللَّحمة جيِّدًا، وَيقول: أَستَغفِر الله من أَكْل لحم الخِنزير، وأَسأَل الله أن يَجعَل طعامي طيِّبًا! هذا أَشبَه ما يَكون بالمُستَهزِئ. ولو أنَّ رجُلًا نَهاك عن شيء، ووجَدَك تَعمَل هذا الشيءَ، وأنت تَقول: أَرْجو منك أن تَعذِرني، وما أَشبَه ذلك وهو يَأكُل، وقال له: لا تَأكُل، وهو يَأكُل، فإنَّ هذا الذي يُخاطِبه سوف يَقول: إنَّك تَستَهزِئ بي وتَسخَر بي. فلا تَوْبةَ مع الإصرار، ولا بُدَّ أن يَتخلَّى عن الذَّنْب.

وإذا كان الذَّنْب لله عز وجل فالتَّخلِّي عنه سَهل، لكن إذا كان الذَّنْب لغير الله -يَعنِي: أَذنَب في حق غير الله- فكيف يَتخلَّى عنه؟

نَقول: إذا كان مالًا فالتَّخلِّي عنه بإيصاله إلى صاحِبه، بأيِّ وَسيلة كانت، فإن كان قد مات فإن ورَثَته، فإن جهِلهم فإلى بيت المال، أو إذا كان بيت المال غيرَ مُنتَظِم، أو يُخشَى عليه أن يَضيع، فلْيَتصَدَّق به هو لصاحِبه، هذه أربَعُ مَراحِلَ: لصاحبه، لورَثَته، لبيت المال، إن جهِلهم، يَتصَدَّق به. والغالِب أن الصدَقة أَوْلى من بيت المال.

وإذا كان عُدوانًا على النفس ليس مالًا، فالتوبة منه أن يُمكِّن صاحب الْحَقَّ من الاقتِصاص منه، فمثَلًا: إذا كان قدِ اعتَدَى على شخْص بضَرْب، فلْيَذهَب إليه

ص: 54

ويَقول: أنا اعتَدَيْت عليك بالضَّرْب اضرِبْني كما ضرَبْتك. كما فعَل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مع الرجُل الذي ضرَبه النبيُّ صلى الله عليه وسلم حينما رآه مُتقدِّمًا في الصفِّ فقال الرجُل: أَقِدْني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكشَف النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن بَطْنه ليُقيدَه، فماذا فعَل الرجُل؟ قبَّله

(1)

.

فهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وهو أَشرَف الخَلْق، وأَحَبُّ الناس إلى أَتباعه مكَّن من الاقتِصاص منه، هذا اثنان: المال والبدَن.

أما إذا كان في العِرْض: بأنِ اعتَدَيْت على شخص في عِرْضه، يَعنِي بأنِ اغتَبْته أو سبَبْته، والفرق بين الغِيبة والسَّبِّ أن السَّبَّ مُواجهة والغِيبة مع الغَيبة، فذِكْرك أخاك بما يَكرَه إن كان غائِبًا فهي غِيبة، وإن كان حاضِرًا فهو سَبّ، فإنَّ التَّوْبة من هذا أن تَستَحِلَّه، فلو قلت: سُبَّني كما سبَبْتُك فلا يَصِحُّ؛ لأن هذا جِناية على نَفْسك، ولكن استَحِلَّه، وهذا إذا كان سبًّا؛ لأنَّه قد عَلِم بذلك.

فأمَّا إذا كان غَيْبة فهل تَستَحِلُّه تَذهَب إليه وتَقول: إني اغتَبْتك فاعذِرْني اسمَحْ لي؟

الجوابُ: قال بعض العُلَماء: نعَمْ! يَجِب أن تَذهَب إليه وتَقول: أنا اغتَبْتُك فاعذِرني، حُلَّني. وقال بعض أهل العِلْم: لا يَلزَم استِحْلاله بل يَكفِي أن تَستَغفِر له كما جاء في الحديث، وإن كان ضَعيفًا:"كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْته أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ"

(2)

استَغفِر له وأَثنِ عليه بما هو أَهْله في الأماكِن التي اغتَبْته فيها، يَقول:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

(1)

انظر: سيرة ابن هشام (1/ 626).

(2)

أخرجه الحارث بن أبي أسامة في مسنده كما في زوائده رقم (1080)، وابن أبي الدنيا في الصمت رقم (291)، والبيهقي في الدعوات الكبير رقم (575)، من حديث أنس رضي الله عنه.

ص: 55

وهذا القولُ أَصَحُّ؛ لأنَّ هذا فيه البَراءة وعدَم التَّشويش؛ لأنه ربما لو ذهَبْت إليه تَقول: اغتَبْتك فحُلَّني، مَهْما أَتيت به من صِيغة الغِيبة قد لا يَقتَنِع بها، إذا قلت: إني قُلْت فيك: إنك بَخيل. قد يَقول: إنك قلت: بَخيل وجبانٌ. ربما يَقول له الشيطان هكذا، وَيأْبَى أن يُحلِّلك، فإذا كان لم يَعلَم فاحمَدِ الله على ذلك واستَغفِر له وأَثنِ عليه بما هو أَهْله في الأماكن التي كُنت اغتَبْته فيها، وبذلك تَسلَم من الإِثْم، هذه صِفة التَّخلِّي من الذَّنْب إذا كان في حَقِّ غير الله.

وهنا سُؤالٌ: بعض الناس يَكون عليه حقٌّ ماليٌّ لشخص، إمَّا سَرَقه، أو جَحَده، أو ما أَشبَه ذلك، ثُم يَتوب هذا الفاعِلُ، ويَذهَب إلى صاحِب الحقِّ، وَيقول: خُذْ حقَّكَ. فيَأبى صاحِب الحقِّ أن يَأخُذه، فماذا يَصنَع؟ وهذا يَرِد كثيرًا: يَكون صاحِب الحقِّ قد حمَل في نفسه على هذا الظالِمِ الذي ظلَمه، وَيأبى أن يَقبَل، فماذا يَصنَع؟ هل نَقول: إنه حينَئذٍ سقَط حقُّه وصحَّت تَوْبة المُعتَدي، وَيبقَى إن طلَب حقَّه مرَّة أخرى أُعطِيَ، وإن لم يَطلُب فإن المُعتَديَ بَرِئَ؟

نَقول: نُنزِّل هذه الحالَ على القواعِد الشرعية، فالقَواعِد الشرعية تَقتَضي أن هذا الذي عليه الحقُّ قد برِئَ؛ لأن الله يَقول:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وهذا ما يَسَعه! قدَّم الْحَقَّ لصاحبه، وقال: خُذْ. قال: لا، لا آخُذه، أنت اعتَدَيْت عليَّ في الأَوّل ولا أَقبَل منك، هذا الذي أَربى أن يَقبَله هو الذي أَخطَأ وجنَى؛ لأنه يَنبَغي للإنسان إذا اعتَذَر إليه أَخوه أن يَقبَل عُذْره، لكن هذا هو الذي جنَى الآنَ، فهذا الرجُلُ نَقول: أنت الآنَ برِئَت ذِمَّتُك، خلِّ الدراهِم عندَك إن جاء يومًا من الدَّهْر أَعطِها إيَّاه.

وإن مات: فهل يَلزَمه أن يُعطيَه الورَثة؟

ص: 56

الجوابُ: في هذا نظَر، وذلك أن الرجُل الذي اعتُدِيَ عليه لم يَقبَل هذا المالَ، ولم يَدخُل في مُلْكه، فإذا كان لم يَقبَله ولم يَدخُل في مُلْكه، فكيف يَنتَقِل إلى الورَثة؟ ! ومن شَرْط الإِرْث انتِقال المال عن المَوْروث، وهذا المَوْروثُ لم يَقبَل هذا المالَ، وقد يُقال: إن الأصل أنَّه مُلكه فيَلزَم الرَّدُّ إلى ورَثَته، وهذا الأخيرُ أحوطُ، لكن في وجوبه نظَر؛ لأنَّ الذي اعتَدى وأَراد أن يَرُدَّ، يَقول: أنا أَعطَيْت الرجُل وأبَى أن يَتملَّكه، فكيف يَنتَقِل إلى الورَثة؟ ولكن نَقول: الأحوَطُ والأَوْلى أن يَرُدَّه إلى الورَثة، ليَسلَم منه.

لكن لو فُرِض أنه لا ورَثةَ له، أو أن ورَثَته مجَهولون، فإن هذا التائِبَ قد أدَّى ما عليه.

الشَّرط الرابع: أن يَعزِم على "ألَّا يَعود إلى الذَّنْب"، أو "أن لا يَعود إلى الذَّنْب"، الأوَّل أو الثاني؟ الأوَّل: أن يَعزِم على ألَّا يَعود إلى الذَّنْب، أو الشرط ألَّا يَعود إلى الذَّنْب؛ الأوَّل، والفَرْق بينهما أننا إذا قلنا: الشرط ألَّا يَعود ثُم عاد بطَلَت التوبة الأُولى، وإذا قلنا: الشرط العَزْم على ألَّا يَعود، وقد عزَم ألَّا يَعود، ثُمَّ عاد، فالتوبة الأُولى تَبقَى صحيحة، وعليه أن يَتوب توبة ثانية للذَّنْب الجديد، فالشَّرْط هو: العَزْم ألَّا يَعود في المُستَقبَل، فإن عاد فعليه تَوبة أُخرى، وهكذا.

فإن قال قائِل: ألَيْس قد ثبَت في الصحيح أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم أَخَر: "أن رجُلًا أَذنَب ذَنْبًا فتابَ، ثُم أَذنَب فتابَ، ثُم أَذنَب فتابَ، ثُم قال الله عز وجل: عَلِمَ عَبْدِي أنَّ لَهُ رَبًّا يَغفِرُ الذَّنْبَ ويَأْخُذُ بِهِ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ"

(1)

، فهل هذا

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِلُوْا كَلَامَ اللهِ} [الفتح: 15]، رقم (7507)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة، رقم (2758)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 57

يَعنِي أن الإنسان إذا تَكَرَّر منه الذَّنْب وهو يَستَغفِر يُغفَر له؟

فالجَوابُ: نعَمْ، مَهْما أَذنَب ثُم استَغْفَر يُغفَر له.

لكن لو قال قائِل: إن ظاهِر الحديث: "فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ" يَعنِي: فلْيَعْصِ الله!

قُلنا: لا يَستَقيم هذا؛ لأنه يُخالِف الأدِلَّة الكثيرة الدالَّة على أنه لا بُدَّ لكل ذَنْب من تَوْبة إلَّا طائِفة واحِدة من هذه الأُمَّةِ، همُ الذين لا يَحتاجون إلى تَوْبة من الذنب، وهم أهل بَدْر، فإنَّ الله اطَّلَع إليهم وقال:"اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ كَفَرْتُ لَكُمْ"

(1)

.

فهَؤلاءِ القَومُ ثلاثُ مِئة وبِضعةَ عشَرَ رجُلًا، وهُمْ أَهْل بَدْر اطَّلَع الله عليهم فكافَأَهم مُكافَأَة لم تَحصُل لغَيْرهم، اطَّلَع عليهم فقال:"اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"، هذه الحَسَنةُ العَظيمة مَحَت جميع ما يَعمَلونه من السَّيِّئات، ونفَعَت هذه الغَزوةُ لمَنْ غَزا، حتى حاطِب رضي الله عنه الذي كتَب بأَخْبار النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى قُرَيْش قُبَيْل غَزوة الفَتْح لمَّا عُثِر على ما صنَع، قال عمرُ رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ فَقَدْ نَافَقَ. فعُمرُ رضي الله عنه شُجاع ليس عنده إلَّا السَّيْف، قال:"أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الله اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ"

(2)

فوقَعَت هذه السَّيِّئةُ العَظيمة من جُمْلة ما يُغفَر لأهل بَدْر؛ ولهذا كان أهل بَدْر أفضَلَ من أهل بَيْعة الرُّضوان، أفضَلُ لما حصَل فيه من النُّصْرة العَظيمة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يُسمَّى يومُ بَدْر يومَ الفُرقان. قال: فأَهْل بَدْر.

(1)

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب الجاسوس، رقم (3007)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، رقم (2494)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(2)

أخرجه البخاري: كتاب الجهاد، باب الجاسوس، رقم (3007)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، رقم (2494)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 58

الشَّرْط الخامِس: أن تَكون التوبة في الوقت الذي تُقبَل فيه التَّوْبة، وهو أن تَكون التَّوْبة قبل طلوع الشَّمْس من مَغرِبها، وقبل حُضور الأَجَل.

فالأوَّلُ عامٌّ لكل أحَد، فلا تَوبةَ لأَحَد إذا طلَعَت الشمس من مَغرِبها؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلَا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَخْرُجَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"

(1)

، وهذا يُؤيِّده قوله تعالى:{أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، والمُراد ببَعْض الآياتِ: طُلوع الشَّمْس من مَغرِبها.

والثاني أن تَكُون قبل حُضور الأَجَل، فإذا حضَر الأَجَل لم تَنفَعِ التَّوْبة؛ لقول الله تبارك وتعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]، هذا ليس لهم تَوْبة، وتَطبيق هذا عمَليّا أنَّ فِرعونَ لمَّا أَدرَكه الغرَقُ قال:{آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس: 90]، فقيل له:{آلْآنَ} ؛ تُؤمِن {وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 91، 92]، لا رَحمةً بكَ ولكِن {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} ، وأمَّا رُوحُك فلا نَجاةَ لها، وإنَّما نجَّاه الله ببَدَنه؛ لأنه قد أَرعَب بني إسرائيلَ، ولا يَكادون يُصدِّقون بأنه هلَك حتى يُشاهِدوه فيَطمَئِنُّوا؛ فلهذا نجَّاه الله تعالى ببَدَنه؛ ليُشاهِدوه! .

فإن قال قائِل: هل يُشتَرَط ألَّا يَكون مُصِرًّا على ذَنْب آخرَ؟ يَعنِي: لنَفرِض أنه تاب من شُرْب الخَمْر، لكنه باقٍ على الزِّنا - والعِياذ بالله - فهل تَصحُّ تَوْبته من شُرْب الخَمْر؟

(1)

أخرجه الإمام أحمد (4/ 99)، وأبو داود: كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت؟ ، رقم (2479)، والنسائي في الكبرى رقم (8658)، من حديث معاوية رضي الله عنه.

ص: 59

فالجوابُ: في هذا خِلاف، فمن العُلَماء مَن يَقول: لا تَصِحُّ التوبة من ذَنْب مع الإصرار على ذنب آخَرَ، ومنهم مَن قال: بل تَصِحُّ؛ لأنَّ كل ذَنْب له جُرْمه. ومنهم مَن قال: إذا كان الذَّنْب الذي أَصَرَّ عليه من جِنْس الذي تاب منه، فإن التوبة لا تَصِحُّ، كرجُل تاب من الزِّنا، لكنه يُطلِق بصَرَه في النظَر المُحرَّم، فإن توبَته من الزِّنا لا تَصِحُّ، أو رجُل تاب من النظَر المُحرَّم، ولكنه لم يَتُبْ من المَسِّ المُحرَّم، هذا أيضًا لا تُقبَل توبتُه.

ومن العُلماء مَن قال: تُقبَل مُطلَقًا، إذا تاب من ذَنْب تاب الله عليه من هذا الذَّنْب؛ لأن الله عز وجل حكَمٌ عَدْل، ورحمتُه سبَقَت غضَبَه، وهذا الرجُلُ عِنده جِنايات مُتعدِّدة، تاب من واحِدة منها، فلْيَكُن تائِبًا؛ وهذا القولُ أصَحُّ، ولكن لا يُطلَق على هذا التائِبِ وصفُ التوبة المُطلَقة؛ لأن توبته هذه مُقيَّدة، يَعنِي: لا يَستحِقّ وصفَ التائِبين على الإطلاق، فلا يَدخُل في قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]؛ لأنَّ هذا الرجُلَ لا يَصدُق عليه أنَّه تائِب على وَجهِ الإطلاق؛ لكنه تائِب من ذَنْب واقِع في ذَنْب آخرَ.

وهذا القولُ هو الذي تَجتَمِع فيه الأدِلَّة، فيمال: استِحْقاق الوصف المُطلَق فيمَن تاب من ذَنْب مع الإصرار على غيره لا يَكون، وأمَّا وَصْفه بتَوْبة مُقيَّدة فهذا صحيح، كالسرِقة فإنه إذا قُطِعت يدُه فلا بُدَّ من ردِّ المال إلى صاحِبه، نَقول: هذا بالنِّسبة لحقِّ الله سقَط في إقامة الحدِّ عليه، لكن لا بُدَّ من أن يُوصِل المال إلى صاحِبه.

فإن قال قائِل: مَن يَشتَرِك في الزِّنا؟

فالجوابُ: الواقِع أن الزِّنا يَشتَرِك فيه الفاعِل والمَفعول به، حتى المَفعول به يَتلذَّذُ ويَجِد شَهْوة، أمَّا إذا قلتا: بالإِكْراه فهذا صحيح أنه عُدوان، لا بُدَّ مِنِ استِحْلاله؛

ص: 60

أمَّا حقُّ الله فنُقيم عليه الحَدَّ، وحقُّ العِباد - وهو الإكراه والعُدوان عليه - لا بُدَّ مِنِ استِحْلاله.

فإن قال قائِل: رجُل سرَق من شخص مالًا، ثُم ردَّه عليه وقال: هذه هَدية. هل يَبرَأ منه؟

فالجوابُ: لا يَبرَأ، هو ردَّه على أنه هَدية، وهذا قبِلَه على أنه هَدية، وأن المُهدِي له عليه مِنَّة، وأنه يَحتاج إلى مُكافَأة.

ولو وَضَع معَها رِيالًا وقال: هذه هَدية؛ لكان مخُادِعًا، ولا بُدَّ، لكن - الحمد لله - يَقول: والله أنا في حالِ السَّفَه، وهذه تَقَع كثيرًا في حال الصِّغَر، وإلَّا فالكبير ليس بسارِق - إن شاء الله -، لكن وهو صَغير يَسرِق من دُكَّان، أو من صاحِب له، يَأخُذ قلَمًا، أو يَأخُذ ساعة، فلا بُدَّ أن يُوصِله إليه وَيقول: هذه حَقّ لك علَيَّ.

ولكن لو قال مثَلًا: هذه من إنسان تاب، وقد سرَقها منك، ولم يَقُل: أنا أو غيره، فهذا يَصِحُّ، والظاهِر أنه يَنبَني على استِحلال المَجموع.

مسألة: ورَد في حَديث النَّبيِّ أن الإنسان يَكتُب في بَطْن أُمِّه شَقِيٌ أو سَعيد

(1)

، فلماذا يعمل الإنسان؟

فالجَوابُ: قد احتَجَّ الصَّحابة بهذه الحجَّة على الرسول عليه الصلاة والسلام لمَّا قال لهم: "مَا مِنْكُمْ أَحَد إِلَّا وَقَدْ كتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الجَنَّةِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ" قالوا: يا رَسول الله، فَفيمَ العمَلُ؟ - أي: من أَجْل ماذا نَعمَل؟ - فقال: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ

(1)

أخرجه البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (3258)، وأخرجه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2643)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

ص: 61

لمَا خُلِقَ لَهُ"

(1)

.

ونَقول: أنت مَكتوب أَنَّك في الجنَّة أو في النار بسبَب عمَلِك، فاعمَلْ عمَل أهل الجنَّة لتكون من أَهْلها.

الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: أنَّ عِقاب الله تعالى شَديد، لقوله تعالى:{شَدِيدِ الْعِقَابِ} .

ويَتفَرَّع على هذه الفائِدةِ: الحذَرُ من التَّعرُّض لعِقابه، وقد قال الله عز وجل لنَبيِّه:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49، 50]، وقال في آية أُخرَى:{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)} [المائدة: 98].

الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: بَيانُ كَمال غِنى الله؛ لقَوله: {ذِي الْطَّوْلِ} ، أي: صاحِبه، والطَّوْل هو: الغِنَى، كما شرَحْناه.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: انفِراد الله تعالى بالأُلوهية؛ لقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} وهو أحَد أقسام التوحيد الثلاثة التي هي: تَوْحيد الرُّبوبية، والأُلوهية، والأَسْماء والصِّفات، ويُسمَّى تَوْحيد العِبادة، فهو باعتِبار العبد تَوْحيد عِبادة، وباعتِبار المَعبود تَوْحيد أُلوهية.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: بَيان أنه لا مَعبودَ حقٌّ إلَّا الله، ولا بُدَّ أن نُقيِّد: لا مَعبودَ حقٌّ إلَّا الله، لأنَّ هناك ما يُعبَد من دون الله وتُسمَّى آلهِة، وقد سمَّاها الله تعالى آلهِة:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: 117]،

(1)

أخرجه البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)} ، رقم (4945)، وأخرجه مسلم: كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه، رقم (2647)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ص: 62

{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، لكِنها آلِهة باطِلة.

الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: أن المَصير إلى الله عز وجل؛ لقَوْله {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} .

الْفَائِدَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ: وُجوب التَّحاكُم إلى شريعة الله، تُؤخَذ من قوله: حيثُ قدَّم الخبَر، وتَقديم الخبَر يُفيد الحَصْر والاختِصاص.

الْفَائِدَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: الجمْع بين الخَوْف والرجاء في السَّيْر إلى الله، وجهُ ذلك: أنَّ الإنسان إذا علِم أن المَصير إلى الله، وأنه غافِر الذَّنْب، وقابِلُ التَّوْب، وشَديد العِقاب، يَرجو من وَجْه، ويَخاف من وَجهٍ آخرَ، ما دام المَصيرُ إلى مَن هذا وَصْفه، فإنه لا شَكَّ أنه يَرجو تارةً، ويَخاف أُخرى. وأيُّهما يُغلِّب؟

قال بعض العُلَماء: يَجِب أن يَكون خوفُه ورجاؤُه واحِدًا، لا يُغلِّب الرجاء؛ فيقع في الأَمْن من مَكْر الله، ولا يُغلِّب الخوف، فيَقَع في القُنوط من رحمة الله، بل يَكون خوفه ورَجاؤُه واحِدًا، قال الإمامُ أحمدُ رحمه الله تعالى: يَنبَغي أن يَكون خوفُه ورَجاؤُه واحِدًا فأيُّهما غلَب هلَك صاحِبه

(1)

.

وقال بعضُهم: يَنبَغي أن يَسير الإنسان إلى الله تعالى سَيْر الطَّيْر، جَناحاه مُتساوِيان، فإن مال أَحَدُ جَناحيه، جنَح إلى الجانِب الذي مال إليه، وقال بعضُ العُلَماء: يَنبَغي في جانب الطاعة أن يُغلِّب جانِب الرجاء، وأن الله تعالى يَقبَلها، وفي جانِب المَعصية أن يُغلِّب جانِب الخوف؛ لئَلَّا يَقَع فيها، فإذا هَمَّ بسيِّئة ذكَر شِدَّة العِقاب فخاف فارْتَدَع، وإذا عمِل صالِحًا ذكَر الثواب والجزاء وقَبول الله عز وجل فغلَّب جانِب الرجاء.

(1)

انظر: الاختيارات العلمية لابن تيمية [المطبوع مع الفتاوى الكبرى](5/ 359).

ص: 63

وقال بعض العُلَماء: يَنبَغي أن يُغلِّب جانب الخَوْف في حال الصِّحة، وجانِب الرجاء في حال المرَض حتى يَأتيَه الموت وهو يُحسِن الظَّنَّ بالله؛ لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:"لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ"

(1)

.

فالأَقوال إِذَنْ ثلاثة:

الأوَّل: أن يَكون خوفُه ورجاؤُه واحِدًا.

والثاني: أن يُغلِّب جانب الرَّجاء في العمَل الصالِح، وجانب الخوف إذا همَّ بالمعصية.

والثالث: أن يُغلِّب جانِب الرجاء في حال المرَض، وجانب الخَوْف في حال الصِّحَّة.

هذه ثلاثة أقوال، والذي يَظهَر أنَّ القول بأنه يُغلِّب جانب الرجاء في حالِ فِعْل الطاعة، وجانب الخوف إذا هَمَّ بمَعصية هو أقرَبُ الأقوال، من أَجْل أن يَردعَ نَفْسه إذا هَمَّ بمَعصية خوفًا من الله، وأن يُؤمِّل القَبول من الله والثواب إذا فعَل الطاعة فيُغلِّب جانِب الرجاء.

وهذا القول ليس جَديدًا، وهو بقَطْع النظَر عن حالات تَعرِض للإنسان، فكما نَقول: هذا الشيءُ مُباح. وقد يَكون واجِبًا، وقد يَكون حرامًا، فنحن إذا رجَّحنا يَعنِي نَنظُر إلى القول من حيثُ هو قولٌ، لكن قد تَعرِض للإنسان حالات حتى إذا هَمَّ بالمَعصية قد يَكون يُغلِّب جانب الرجاء، أو بالعكس، فالقول من حَيثُ هو

(1)

أخرجه مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم (2877)، من حديث جابر رضي الله عنه.

ص: 64

قولٌ القياسُ يَقتَضي أننا نُغلِّب جانِب الرجاء إذا فعَلْنا الطاعة، ونَقول: إن الله تعالى لم يُوفِّقْنا للطاعة إلَّا وسيَقبَلها منا: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]؛ ولهذا قال بعض العُلَماء: مَن وُفِّق للدعاء فلْيُبشِر بالإجابة. وإذا همَّ بالمَعْصية فمَعلوم أنه إذا غلَب جانب الخَوْف سوف يَرتَدِع، لكن هناك حالات تَطرَأ على الإنسان شيء آخَرُ، فالحالات العارِضة نَقول فيها: الإنسان طَبيب نَفْسه، أمَّا القول من حيثُ هو قولٌ فهذا القولُ أَقرَبُ للقِياس.

الْفَائِدَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الحثّ على التَّوكُّل على الله، والآية دَليل على الحثِّ على التَّوكُّل على الله؛ لأنه لمَّا كان المَصير إلى الله، كان يَنبَغي أن يَتعَلَّق الإنسان برَبِّه لا بغيره، ما دام المَصيرُ إلى الله، فتَوكَّل على الله لا على غيره.

الْفَائِدَةُ الثَّامِنهَ عَشْرَةَ: اللُّجوء إلى الله تعالى عند الشَّدائد، وعند طلَب المَحبوب، تُؤخَذ من قوله:{إِلَيْهِ المَصِيِرُ} ، فإذا اشتَدَّت بك شِدَّة فلا تَلتَفِت إلى زَيدٍ أو عَمرٍو، عليك بالله عز وجل، حتى الشدائِد التي أَسبابها خَفِيَّة لا يَنفَعك إلَّا الله:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36].

* * *

ص: 65