الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (40)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40].
* * *
ثُم قال: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} هذا كالبَيان لحال الآخِرة، وكيف يُجازَى الناس فيها، فقال:{مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} {مَن} شَرْطية، و {عَمِلَ} فِعْل الشَّرْط، وجملة:{فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} هذه جَوابُ الشَّرْط، وقوله:{فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} (مِثْل) مَفعول {يُجْزَى} الثاني، والمَفْعول الأوَّل هو نائِبُ الفاعِل المُستَتِر.
قوله: {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً} السَّيِّئة ما يَسوء حالًا أو مَآلًا، فما أَصاب الإنسانَ من مرَض أو فَقْر أو عاهة أو ما أَشبَه ذلك هذا سُوء، لكنه في الحال، وما أَصاب الإنسان من عُقوبة على أعماله فهذا سُوء، ولكنه في المآل، وقد يَكون في الحال قد يُعاجَل الإنسانُ بالعُقوبة، فالسَّيِّئة كل ما يَسوء حالًا أو مَآلًا {فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا} السَّيِّئة بواحِدة مهما كان، حتى وإن كان الإنسان في مَكَّةَ، أو في المَدينة، أو في المَسجِد، أو في أي مَكان، أو في أيِّ زَمان أيضًا، حتى ولو كان في الأشهُر الحُرُم التي نَصَّ
الله تعالى على النَّهيِ عن الظُّلْم فيها، فقال:{مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، فإن السَّيِّئة لا تَزال.
ولكن اعلَموا أنها قد تكون أشَدَّ من حيثُ الكَيْفيَّة لا من حيثُ الكِمِّية. يَعنِي: أننا نرى أن ضَرْبة واحِدة قد تكون أشَدَّ على الإنسان من عَشْر ضرَبات بشِدَّتها وشِدَّة وَقْعها؛ ولهذا قال الله تعالى في الحرَم المكِّيِّ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، وبهذا التَّقريرِ الذي دلَّ عليه الكِتاب والسُّنَّة تَبيَّن أن ما يُذكَر عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما أنه خرَج من مكَّةَ وقال: لا أَبقَى في بلَد سَيِّئاته وحَسَناتُه سواءٌ. فإن هذا لا يَصِحُّ عن ابن عباس رضي الله عنه، وابنُ عباس أفقَهُ وأَعلَمُ من أن يَلتَبِس عليه هذا الأمرُ، مع أن الله قال في سورة الأنعام وهي مكِّيَّة:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام: 160].
قوله: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} {وَمَن} هذه شَرْطية، و {صحَيحًا} يَجوز أن نُعرِبها صِفة لمَوْصوف محَذوف، والتَّقدير: عمَلًا صالحًا، ويَجوز أن نَجعَلها مَفعولًا مُطلَقًا؛ لأن وَصْف المَصدَر المحذوف يَصِحُّ أن يَقَع الإعراب عليه على أنه مَفعول مُطلَق، أو على أنه صِفة لمَوْصوف محَذوف، والتَّقدير: عمَلًا صالِحًا.
والعمَل الصالِح ما تَوافَرت فيه شُروط القَبول، وذلك بأن يَكون خالِصًا لله على شَريعة الله، بأن يَجمَع بين أَمْرين: الإخلاص لله، والمُتابَعة لرُسُله عليهم الصلاة والسلام، هذا العمَلُ الصالِح.
إِذَنْ هو ما تَوافَرت فيه شُروط القَبول وهُما:
الأول: الإخلاص لله عز وجل.
والثاني: المُتابَعة لرُسُل الله سواء محُمَّد أو غيره، لكن من المَعلوم أنه بعد بعثة محُمَّد صلى الله عليه وسلم لا يَصِحُّ اتِّباع غيره.
إذا فُقِدَ الإخلاصُ فليس العمَلُ صالحًا، بل هو مَردود على صاحِبه؛ لقوله تبارك وتعالى في الحديث القُدسيِّ:"أنا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي ترَكته وَشِرْكَهُ"، وإذا فُقِدت المُتابَعة لم يَكُن العمَل صالحًا وكان مَردودًا؛ لقول النَّبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-:"مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَد"
(1)
.
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بَيان لـ (مَن) فـ (مِن) هنا بَيانِية بَيان لـ (مَن)؛ لأن (مَن) اسمٌ مَوْصول، واسمُ المَوْصول الأصل فيه الإبهام، فإذا وُجِد بعدَه بَيانٌ فإنه يَكون مُبيِّنًا لإبهامه {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هذا الشَّرطُ لا بُدَّ أن يَكون مُؤمِنًا، فإن لم يَكُن مُؤمِنًا فإن عمَله الصالِحَ لا يَنفَعه، حتى وإن كان العمَل مِمَّا يَتَعدَّى نَفعُه، فإنه لا يَنفَعه؛ لقوله تعالى:{وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54].
فغيرُ المُؤمِن لا يَنفَعه عمَله، لو أن رجُلًا كافِرًا أَصلَح الطُّرُق، ومدَّ أنابيب الماء يَسقِي الناس، وبنَى المساجِد وطَبَع الكُتُب، وكَسا العُريان، وأَطعَم الجائِع فلا يَنفَعه هذا؛ ولهذا فلا يَنفَع المُنافِقين عمَلُهم؛ لأنهم ليسوا مُؤمِنين، وبه نَعرِف أن الإيمان هو الأصل، آمِنْ ثُم اعمَلْ، أمَّا العمَل بدون إيمان هَباءٌ، نَسأَل الله ألَّا يَخلَع عنا وعنكم الإيمان {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، لا بُدَّ من
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، رقم (1718)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
الإيمان أوَّلًا، ثُم إذا آمَنْت فاعمَل، وإذا عمِلْت فأَخلِص واتَّبعْ.
قوله: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} جُملة {فَأُولَئِكَ} جَواب الشَّرْط، وهو {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا} {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وهُنا قال:{فَأُولَئِكَ} باسْمِ الإشارة المَوْضوع للبعيد، إشارة إلى عُلوِّ مَرتَبَتهم، كأنَّك تُشير إليهم وهم فَوقُ {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} ، قال المفَسِّر رحمه الله:[بضَمِّ الياء وفَتْح الخاء "يُدْخَلُونَ"، وبالعَكْس] أي: {يَدْخُلُونَ} فيَجوز "يُدْخَلُونَ" أي: يُدخِلهمُ الله، ويَجوز {يَدْخُلُونَ} أي: هُمْ بأَنفُسهم لكن بإِذْن الله.
ومن المَعلوم أن أهل الجنَّة لا يَدخُلون الجنَّة إلَّا بعد الشَّفاعة، بعد شَفاعة محُمَّد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في فَتْح الجَنَّة؛ لأنهم يَصِلون إليها وبابها مُغلَق فيَطلُبون مَن يَشفَع لهم إلى الله عز وجل أن يَفتَح لهم البابَ، فيَشفَع لهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم وحدَه في أن يُفتَح لهم البابُ فيُفتَح.
قوله: {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} {يُرْزَقُونَ} الرِّزْق بمَعنى: العَطاء، ومنه قوله تعالى:{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} ؛ أي: أَعطُوهم، فمَعنَى {يُرْزَقُونَ} إِذَنْ: يُعطَوْن، وقوله:{بِغَيْرِ حِسَابٍ} ؛ أي: بغَيْر تَبْعة، يَعنِي: لا يُحاسَبون عليه، ولا يَنقُدون له ثمَنًا، في الدُّنيا لا تمَلِك رِزْقًا إلَّا بثمَن، لكن في الآخرة تُعطَى الرِّزْق بغير ثمَن وبغَيْر تَبْعة، لا تُحاسَب عليه؛ لأن الثَّمَن كان مُقدِّمًا سَلمًا وهو نَقْد الثمَن وتَأْخير المُثمَّن، فهُنا الثمَن مُقدَّم، الثمَن كان في الدنيا حين عمِلوا بطاعة الله، فكان هذا هو العِوَضَ، فالقوم قد أَسلَموا في هذا المَبيعِ وقدَّموا ثمَنه؛ ولهذا قال:{يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} .