الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (77)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
قال تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} {فَاصْبِرْ} الخِطاب هنا للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمِ -، وهو فِعْل أَمْر، والأَمْر الأصل فيه الوُجوب كما سيَأتِي، أمَّا مَعنَى الصَّبْر لُغة فهو الحبْس، ومنه قولهم: قُتِل فُلان صبرًا. أي: حَبْسًا؛ أيِ: أُمسِكَ ثُم قُتِل، لكنه في الاصطِلاح الشرعيِّ أخَصُّ مُطلَق الحبْس، فهو حَبْس النَّفْس عمَّا يُسخِط الله تعالى فيما يُرضِي الله.
ومن ثَم قال العُلماء: إن الصبْر يَنقَسِم إلى ثلاثة أقسام: صَبْر على طاعة الله وهو أعلى الأقسام، وصَبْر عن مَعْصية الله وهو الثاني في المَرتَبة، وصَبْر على أقدار الله المُؤلمِة وهو الثالِث في المَرتَبة أيضًا.
الأوَّل: صَبْر على طاعة الله، بأن يَصبِر الإنسان نَفْسه على طاعة الله بأن يَقوم بالواجِب، وأن يُكمِل ذلك بالمُستَحَبِّ، وهذا يَحتاج إلى صَبْر وإلى عَناء، ولا سِيَّما مع ضَعْف الإيمان، فإن ضَعيف الإيمان يَشُقُّ عليه فِعْل الطاعات، فيَحتاج إلى أن يَصبِر وأن يَحبِس نفسه على فِعْل الطاعة، ويَعِدَها بالخير والثواب، ويَقول: إن الوَقْت ماضٍ وذاهِبٌ، فإمَّا أن يَكون في طاعة الله، وإمَّا أن يَكون في مَعْصية الله،
وإمَّا أن يَكون لَغْوًا فيَحمِلها ذلك على القيامِ بطاعة الله.
والصَّبْر على طاعة الله شاقٌّ من وَجْهين: من وَجْه إلزام النَّفْس بالقِيام به، ومن وَجْه تعَب البدَن بالقِيام به، فهنا عَناءان: الآنَ الأوَّل مع النَّفْس، والثاني مع الجوارِح؛ ولهذا كان هو أعلى أَقْسام الصَّبْر، مثال ذلك الصَّبرُ في الجِهاد، هذا صَبْر على طاعة الله، وهو أشَقُّ أنواع الطاعة التي يُصبَر عليها؛ ولهذا جعَلها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ذُروة سَنام الإسلام؛ لأنَّه أشَقُّ ما يَكون.
الثاني: صَبْر عن مَعصية الله؛ يَعنِي: أن الإنسان قد يَهوَى المَعْصية، ولكن يَحبِس نفسه عنها، فهذا صَبْر عن مَعْصية الله عز وجل ويَتَضمَّن هذا الصَّبرُ حَبْس النَّفْس مع الكفِّ، ففيه عَناءٌ واحِد، وهو حَبْس النَّفْس عن المعصية، لكن ليس فيه تعَب بدَنيٌّ؛ إذ إنه كف بلا فِعْل، والكفُّ بلا فِعْل أَهوَنُ من الفِعْل؛ يَعنِي: ليس فيه مَشقَّة بدَنية، غاية ما فيه أن مُعاناة قلبية للصَّبْر عن هذه المَعصيةِ.
والقِسْم الثالِث: الصَّبْر على أقدار الله عز وجل المُؤلمِة، هي التي لا تُلائِم النَّفْس إمَّا بوَفاة مَحبوب، وإمَّا بحُصول مَكروهٍ فيَحبِس الإنسان نَفْسه في هذا الأَمرِ، وهو أقلُّ أقسام الصَّبْر رُتبةً؛ لأنه يَأتِي بغير اختيار الإنسان. انتَبِه الصَّبْر على الطاعة باختيار الإنسان، وعن المَعصية باختِياره، لكن على الأقدار لا، ليس بمَلْكك أن تَمنَع ما قدَّر الله عليك من وَفاة محَبوب، أو حُصول مَكروهٍ؛ ولهذا قال بعضُ السلَف: عند حُلول المَصائِب إمَّا أن تَصبِر صَبْر الكِرام، وإمَّا أن تَسلوَ سَلوَ البَهائِم. وقِس نَفْسك إذ تَأتيك المُصيبة اليومَ أَكبَرَ من الجِبال وأَحرَّ من النِّيران، ثُم تَخِفُّ شيئا فشيئا حتى لا تَكاد تَذكُرها.
إِذَنْ: إمَّا أن تَصبِر وتَحتَسِب، وإمَّا أن تَسكُت حتى لو تَسخَّطْت، فالمال إلى نِسيانها، وإما أن يَسلوَ الإنسان سَلوَ البَهائِم.
فإن قال قائِلٌ: قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الله تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا"
(1)
ما يَقَع في القَلْب أثناء المصائِب، وما أَشبَه ذلك هل هذا يُنافِي الصبر؟
فالجَوابُ: لا، الحُزْن على الشيء لا يُنافِي الصَّبْر، الذي يُنافيه أن يَقَع في قلبه التَّسخُّط على الله، وما يقَعُ فتَجِب مُدافَعته، وأن يَعلَم أن الله عز وجل حَكيم، وقد يُريد الله بالإنسان خيرًا إذا ابتَلاه، فإذا كان هجَم على قلبه فالواجِب أن يُدافِع، لكن لا أَعتَقِد أن مُؤمِنًا يَتَسخَّط على ربه، نعَمْ يَكرَه ما حصل، صحيح كل إنسان يَكرَه ما يَحصُل له من البَلاء، لكن كونه يَعتَقِد أن الله ظلَمَه، وأن هذا عُدوان من الله عليه، وما أَشبَهَ هذا لا أَظُنُّ أحَدًا يَفعَله.
فإن قال قائِلٌ: ما عَلامة الإنسان الذي لم يَبلُغ الصَّبْر؟ .
فالجَوابُ: إذا وجَد في نَفْسه التَّسخُّط، وفي قلبه التَّسخُّط.
وهذا القِسْمُ الثالث من أقسام الصبْر: الصبْر على أقدار الله عز وجل المُؤلمِة؛ يَكون بالأمور الآتِية: حَبْس اللِّسان عن التَّسخُّط، لا تَسخَط تَقول: أَصابَني الله بكذا، ولم يُصِب فلانًا، أَصابَني بالفَقْر والناسُ أغنياءُ، أَصابَني بالمرَض والناسُ أصِحَّاءُ. وما أَشبَه ذلك ما يَقول هذا، لا يَقول: واوَيْلاه واثُبوراه وانقِطاع ظَهْراه. وما أَشبَه ذلك لا يَقول هذا؛ لأن هذا مُنافٍ للصَّبْر، الإخبار بما أَصاب الإنسانَ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأيمان والنذور، باب إذا حنث ناسيا في الأيمان، رقم (6664)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، رقم (127)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
من مُصيبة دون التَّشكِّي، وقَعَ هذا من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ حيثُ قال:"بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهُ"
(1)
ولا حرَجَ، يَعنِي هناك فَرْق بين شخص يَتكلَّم بما أَصابَه تَسخُّطًا أو شِكاية لمخلوق، وبين شخص يُخبِر عمَّا أَصابه، فقَطْ مجُرَّد خبَر، والأعمال بالنِّيَّات.
الثاني: حَبْس الجوارِح عند المُصيبة عن فِعْل ما لا يَجوز وما يُنبِئ عن الغَضَب؛ مثل: شَقِّ الجُيوب، لَطْم الخُدود، نَتْف الشُّعور، وما أَشبَه ذلك. هذا أيضًا مُنافٍ للصَّبْر، ولهذا تَبرَّأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من فاعِله فقال:"لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الجُيُوبَ، وَلَطَمَ الخُدُودَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ"
(2)
.
الثالِثُ: وهو حَبْس القَلْب عن كراهة ما قَدَّر الله سبحانه وتعالى وهذا أَعظَمها وأَدَقُّها، قد يَرَى الإنسان الضعيف المَخلوق المَمْلوك المُدبَّر، قد يَرَى أن ربَّه ظلَمه - والعِياذُ بالله - دون أن يَتكلَّم ودون أن يَفعَل، لكن قَلْبه مَملوء على الله سُخْطًا، مِن السُّخْط ورُؤْيةِ أنَّ الله تعالى ظلَمه، أو ما أَشبَه ذلك. هذا يَجِب أيضا أن يَتخَلَّى القلب عنه، وهذا أَخطَرُ ما يَكون بالنِّسبة للصَّبْر على الأقدار، اتْلُ قولَ الله عز وجل:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج: 11]{حَرْفٍ} يَعنِي: طرَفٍ، ليسَت عِبادةً راسِخة {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
وهذا يَشمَل فِتْنة المَصائِب وفِتْنة الشُّبُهات، من الناس مَن يُؤمِن بالله واليوم
(1)
أخرجه البخاري: كتاب المرضى، باب قول المريض: إني وجع، رقم (5666)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب، رقم (1294)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية، رقم (103)، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
الآخِر، لكنه على طرَف إن أَصابَه خَيرٌ ولم يُناقِشه أَحَد أو يُجادِله أحَدٌ مَشَى، وإن جاء أَحَد يُشكِّكه في هذا الأَمْرِ شكَّ، فانقَلَب على وَجْهه؛ خسِر الدنيا والآخِرة.
ومن الناس أيضًا مَن يَكون في نِعْمة، قد أَنعَم الله عليه بالأموال والأولاد وما يَحتاج إليه من الدّنيا أو يُكمِلها، فأُصيب بحادِث فقَدَ أَهلَه به كلَّهم.
فمن الناس مَن إذا كان يَعبُد الله على حَرْف يَسخَط على الله، وَيكرَه قضاء الله، كَراهة سَخَط، ليس كَراهة أنه يَتمَنَّى ما لم يُصِبْه، لا، إنما يَتَسخَّط على ربِّه، وهذا من جَهْل الإنسان، أنت مِلْك لله عز وجل هذا الربِّ الكَريمِ الذي إذا أَصابَك بسَرَّاء فشَكَرْت أَثابَك، وإن أَصابَك بضَرَّاءَ فصبَرْت أَثابَك. كيف تَسخَط على هذا الربِّ الكَريم وأنت مِلْكه وعَبْده، يَتَصرَّف فيك بما شاء، وله الحِكْمة فيما فعَل؟ ! وظيفتك الصَّبْر عند البَلاء، والشُّكْر عند الرَّخاء.
فالمُهِمّ: أن الصَّبْر الآنَ تَبيَّن أنه ثلاثة أقسام:
الأوَّل - أَعلاها وأَتَمُّها -: وهو الصبر على طاعة الله.
الثاني: الصَّبْر عن مَعْصية الله.
الثالث: الصَّبْر على أَقْدار الله.
فأَفضَلها الأوَّل، ثُم الثاني، ثُم الثالِث.
يُوسُف عليه الصلاة والسلام أُصيب ببَلاء في خُلُقه وبَلاء في جَسَده، صبَرَ على هذا وهذا، دعَتْه امرأةُ العَزيز في مَكان مُغلَق، وهي امرأة العَزيز عِندها من الحُليِّ والزِّينة - وربَّما من الجمال - ما ليس عند غيرها، وهو فَتاها أيضًا، ليس هو أكبَرَ منها شرَفًا عِندها، دَعَتْه إلى نفسها في مَكان خالٍ وهمَّ أن يَفعَل؛ لأن النَّفْس البَشَرية قد يَغيب
عنها مُلاحَظة أَمْر الرُّبوبية، فهَمَّ بها لكِنْ هي السابِقة: همَّتْ به وهَمَّ بها، لكن بعد أن هَمَّ رأَى بُرهانَ الله عز وجل، أَراه الله البُرهانَ الآيةَ، كأنها رُؤْية عَيْن، فامتَنَع وقال:{رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} هذا صَبْر عن المَعْصية، وصَبْر عَظيم، فتًى شابّ مع سَيِّدته الجَميلة، في مَكان لا يَطَّلِع عليه أحَدٌ، ومع هذا كفَّ عنها.
وأُوذِيَ في جَسَده، فحُبِس، سُجِن ولَبث في السِّجْن بِضْع سِنين، ومع ذلك صَبَر؛ حتى إن الملِك لمَّا قال:{ائْتُونِي بِهِ} أَبَى أن يَخرُج حتى تُسأَل النِّسْوة ماذا حصَل؛ ليَتبَيَّن براءَتَه قبل أن يَخرُج، وهذا لا شَكَّ صَبْر عَظيم، لكن أيُّ الصَّبْرين أعظَمُ؟
الجَوابُ: الأوَّل الصَّبْر عن المَعصية؛ لأن السَّجْن حاصِل حاصِل، صبَر أو لم يَصبِر، وليس باختِياره.
فإن قال قائِل: ما هو الفَرْق إذا أَصاب الإنسانَ شيءٌ من الجوْف قال: قدَّر الله ما شاء فعَل. وبعضُهم يَقول: قدَرُ الله وما شاءَ فعَلَ؟
فالجوابُ: يَجوز هذا وهذا، قدَّر الله. هذا فِعْل ماضٍ، وقدَرُ الله. خبرٌ لمُبتَدَأ محَذوف، التَّقديرُ: هذا قدَرُ الله.
فقول الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {فَاصْبِرْ} يَتَضمَّن كل الأَقْسام، ولهذا كان نَبيُّنا صلى الله عليه وسلم أَصبَرَ الناس في أَحْكام الله، وأَصبَرَ الناس على أَحْكام الله.
فإن قال قائِل: بعضُ العُلَماء، قال: إن ما أَصاب الرُّسُل من التَّكذيب والتَّعْذيب أشَدُّ مِمَّا أَصاب يُوسُفَ من اتِّهامه بما اتُّهِمَ به؟
فالجَوابُ: لكل شيء حُكْم، فيُوسُفُ عليه الصلاة والسلام اتُّهِمَ بما اتُّهِمَ به، وعُذِّب
عليه، وسُجِن مع بَراءَته وظُهور براءَته في النِّهاية، وهؤلاء المُكذِّبين بعضُهم فُعِل به أكثَرَ مِمَّا فُعِل بيُوسُفَ، من التعذيب، بل بعضُهم قُتِل، فلكل شيء وجهٌ، ولا يُمكِن المُقارَنة بين هذا وهذا.
فإن قال قائِلٌ: علِمْنا أنَّ فِرعونَ وهامانَ وقارونَ قد أَهلَكهم الله عز وجل هل هلَكوا كلُّهم مرَّة واحِدة، أم كل واحِد على حِدَة؟
فالجوابُ: أمَّا قارونُ فالله عز وجل بيَّن أنه خُسِف به وبداره الأرض، فليس مِمَّن هلَك بالغرَق، وأمَّا هامانُ فالظاهِرُ أنه هلَك مع فِرعونَ.
فإن قال قائِل: هل سبب هَلك قارونَ أنه أتَى بامْرأة غانِية فافتَرَت على مُوسى عليه السلام أنه زنَى بها؟
فالجَوابُ: افتِخاره بماله هو الذي خسَفَ به الأرض.
وقوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} هذه جُمْلة مُؤَّدة بـ (إِنَّ) وَعْد الله حَقٌّ. وَيقول المفَسِّر رحمه الله: [إنَّ وَعْد الله بعَذابِهم حَقٌّ] وهذا قُصور من المفَسِّر رحمه الله، بل إن وَعْد الله بعَذابهم ونَصْرك حَقٌّ، بل لو قُلْنا بأنه أعَمُّ من ذلك أيضًا، لولا أنه في سِياق المُحاجَّة مع الكُفَّار لقُلْنا: إنه أَعَمُّ. إن وَعْد الله حَق في كل شيء؛ في عَذاب هَؤلاءِ، ونَصْره، وفي الجَنَّة، وفي كل شيء.
وقوله: {حَقٌّ} ؛ أي: أَمْر ثابِت واقِع، فكُلُّ ما وعَد الله به فهو حَقٌّ ثابِت واقِع؛ لكَمال صِدْقه وكَمال قُدْرته؛ لأن إخلاف الوَعْد يَأتِي من أَحَد أَمْرين: إمَّا كَذِب الواعِد، وإمَّا عَجْزه عن تَنفيذ ما وَعَد به، والله عز وجل لا يُخلِف المِيعاد؛ لكَمال صِدْقه وكَمال قُدْرته تبارك وتعالى.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)} {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} يَقول المفَسِّر رحمه الله في إعرابها: [فيه (إِنِ) الشَّرْطية مُدغَمة و (ما) زائِدة تُؤكِّد مَعنى الشَّرْط أوَّل الفِعْل والنون تُؤكِّد آخره
…
] إلى آخِره.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} الفاء هذه عاطِفة، و (إِنْ) شَرْطية، و (ما) زائِدة للتَّوْكيد، وهي كزِيادتها في قوله تعالى:{أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء: 110]، {أَيًّا مَا} (ما) زائِدة، لو حُذِفت: وقيل: أيًّا تَدْعو. استَقام الكلام، لكن يُؤتَى بحُروف الزِّيادة للتَّوْكيد. {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} لو حُذِفت (ما) وقال: إن نُريَنَّك. استَقام، لكنها تَأتِي للتَّوْكيد.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} (نُرِي) فِعْل مُضارع، لكنه بُنِيَ على فَتْح آخِره، وهي الياء؛ لاتِّصاله بنون التَّوْكيد، والنون للتَّوْكيد، والكاف مَفعول به. التَّوْكيد هنا في آخِر الفِعْل، و (ما) في أوَّله، فصار هذا الفِعلُ - الذي هو الإِراءَة - مُؤكَّدًا بمُؤكِّدين:(ما) الزائِدة في أوَّله، ونون التَّوْكيد في آخِره، والكاف هذه مَفعول أوَّل، و {بَعْض} مَفعولٌ ثانٍ، و (نُرِي) الرّؤْية هنا بَصَرية، لكن لمَّا دخَلت علَيْها همزة التَّعْدية صارت ناصِبة مَفعولين، تَقول: فُلان رأَى النَّجْمة. نصَبَت مَفعولًا واحِدًا. فلان أَريته النَّجْمة. مَفعولين. من أَجْل دُخول الهَمْزة، على (رأَى). هذه مَثْلها؛ لأن (نُرِي) رُباعيٌّ أَصْلها أَرَى يُرِي ونرِي.
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} يَعنِي: فأنت تَراه. قال المفَسِّر: [{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} به من العَذاب في حَياتك، وجَواب الشَّرْط مَحذوف أي: فذاك]، أين جواب الشَّرْط (إن) في قوله:{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} ؟ يَعنِي: إن أَرَيْناك بعض الذي نَعِدهم فقد رأَيْته بعَيْنك وأَقَرَّ الله عَيْنك به، وهذا هو المَطلوب.