الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الآيات: 1 - 3)
* * *
* قَالَ اللهُ عز وجل: {حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر 1: 3].
* * *
قال الله تبارك وتعالى: {حم} هذه كلِمة مُكوَّنة من حَرْفَيْن مُهمَلين هِجائِيَّين: الحاء، والميم. ولهذا نَنطِق بها باسمِهما لا بلَفْظهما، فلا نَقول: حَمْ. بل نَقول: "حامِيم" باسمِهما، فهما إِذَن حَرفان مُهمَلان هِجائِيَّان يَتركَّب منهما كلام الناس، فهل لهذَيْن الحرفَيْن معنًى؟
يَقول المفَسِّر رحمه الله
(1)
: [الله أَعلَمُ بمُراده به] يَعنِي لا نَدرِي ماذا أَراد، هل أَراد إثبات معنًى، أم لم يُرِد إثبات معنًى، وهل أراد مَعنًى مُعيَّنًا أم ماذا؟
المُهِمُّ: أننا نُفوِّض، فمَوقِفنا من هذا التَّفويضِ كغيره من الحُروف الهِجائية التي ابتُدِئَت بها بعض السُّور.
ولكن مُقتَضى كون القُرآن باللسان العرَبيِّ أن نَقول: إنهَّما حَرْفان هِجائِيَّان مُهمَلان ليس لهما مَعنًى، يَعنِي نَجزِم بأنه لا معنَى لهما؛ لأن القُرآن نزَل باللغة العربية، واللغة العرَبية لا تَجعَل للحروف الِهجائية مَعنًى، وهذا مَرويٌّ عن مجُاهِدٍ
(2)
إمام
(1)
المقصود بـ (المفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (864 هـ) رحمه الله تعالى، ترجمته في: الضوء اللامع (7/ 39)، حسن المحاضرة (1/ 443).
(2)
انظر: تفسير ابن كثير (1/ 70).
المفَسِّرين في زمانه، زمَن التابِعين.
وهو الحقُّ؛ لأنَّ الله تعالى قال: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195].
فإن قال قائِل: يَرِد على هذا القولِ أنَّ في القُرآن ما ليس له مَعنًى، وليس له فائِدةٌ، وإنَّما هو حروف مُقطَّعة ليس لها فائِدة! ! .
قلنا: الجَوابُ عن هذا الإيرادِ أنَّ الله سبحانه وتعالى تَكلَّم بذلك لمَغزًى لا لمَعنًى؛ أي: لحِكْمة بالِغة، وهي أنَّ هذا القُرآن الذي أَعجَزكم أيُّها البُلَغاء من العرب لم يَكُن أتَى بشَيْء جديد من حروف، بل أتَى بالحروف التي تُركِّبون منها كلامكم، ومع ذلك أَعجَزكم، فعجَزْتم عن صَفِّ الحروف حتى تَكون مثل القُرآن، فإذا كُنْتم عجَزْتم عن ذلك، فعَجْزُكم عن معنَى هذه الكلِماتِ من بابِ أَوْلى.
وهذا الذي ذكَرَه الزَّمخشريُّ
(1)
في تفسيره وارْتَضاه شيخ الإسلام ابنُ تَيميَّةَ
(2)
رحمه الله وذكَره أيضًا إمَّا ابتِداءً أو تَقليدًا.
المُهِمُّ: أنَّ هذا هو الصوابُ عند المُحقِّقين، وهو أن الله تعالى أَنزَلها لتَمام التَّحدِّي لهؤلاء البُلَغاءِ الذين عجَزوا أن يَأتوا بمِثل القُرآن، أو بمِثل بعضه، وأَيَّدوا قولهم هذا بأن الله تعالى لم يَبتَدِئ سورة بحروف هِجائية إلَّا ذكَر بعدَها القُرآن إلَّا نادِرًا.
فإن قال قائل: ما نَقول في الحُروف المُقطَّعة هذه في أوائل السُّوَر، هل تَدخُل فيما قال ابن عبَّاسٍ
(3)
أن القُرآن أربعة أقسام: القِسْم الرابع أنه ما لا يَعلَمه إلَّا الله؟
(1)
الكشاف (1/ 26).
(2)
انظر تفسير ابن كثير (1/ 71).
(3)
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/ 253).
فالجوابُ: لا، هذه تَدخُل على رأْيِ المفَسِّر، أمَّا على القول الذي رجَّحنا فإنَّه مَعلوم أنه ليس لها مَعنًى، يَعنِي ممَّا يَدخُل تحت عِلْمنا أنه ليس لها مَعنى.
قَالَ اللهُ عز وجل: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 2].
قوله رحمه الله: [{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} القُرآن، مُبتَدَأ، يَعنِي: المُراد بالكِتاب هنا القُرآن، مع أنَّ الكِتاب اسم جِنْس يُحتَمَل أن تَكون فيه (أل) للجِنْس، فيَشمَل كل كِتاب، ولكن الظاهِر ما ذهَبَ إليه المفَسِّر، لأنَّ المَقصود بذلك تَقرير كون هذا القُرآنِ الذي نَزَل على المُكذِّبين من عند الله عز وجل.
وقوله: [مُبتَدأٌ] يُريد قوله: {تَنْزِيلُ} ؛ أي: أنَّها مُبتَدَأ، والمُبتَدَأ يَحتاج إلى خبَر، والخبَر قوله:{مِنَ اللَّهِ} ؛ ولهذا قال المفَسِّر: [{مِنَ اللَّهِ} خبَرُه] تَنزيل الكِتاب من الله لا من غيره.
قال رحمه الله: [{الْعَزِيزِ} في مُلْكه {الْعَلِيمِ} بخَلْقه] العَزيز: ذو العِزَّة، وقد سبَق أن عِزَّة الله تَنقَسِم إلى ثلاثة أقسام:
1 -
عِزَّة القَدْر.
2 -
وعِزَّة القَهْر.
3 -
وعِزَّة الامتِناع.
وهو كذلك في كل مَوضِع جاء فيه "العَزيز" فهذا هو مَعناه، أي: أنَّه ذو عِزَّة.
أمَّا عِزَّة القَدْر: فمعناها: أنه ذو شَرَف وسيادة.
وأمَّا عِزَّة القَهْر فمَعناها: أنه ذو غلَبة وسُلْطان.
وأمَّا عِزَّة الامتِناع: فمَعناه: أنه ذو امتِناع عن كل نَقْص وعَيْب.
وقد سبَقَ الاستِشْهاد على هذه المعانِي الثلاثة وبيان اشتِقاقها؛ فيَكون قولُ المفَسِّر رحمه الله: [{الْعَزِيزِ} في مُلْكه، فيه قُصور؛ لأَنَّه جعَله بمَعنى الغالِب فقَطْ، والصواب ما ذكَرْنا لكم.
وقوله تعالى: {الْعَلِيمِ} قال رحمه الله: [بخَلْقه] والعليم أي: ذو العِلْم، وعِلْم الله سبحانه وتعالى ليس بمَحدود لا أوَّلًا، ولا آخِرًا، ولا مِقدارًا، فعِلْم الله تعالى واسِعٌ شامِلٌ لكل شيءٍ، عِلْم الله تعالى أزَليٌّ؛ أي: لم يَسبِقْه جَهْل، عِلْم الله تعالى أبدَي؛ أي: لا يَلحَقه نِسْيان، فصار عِلْم الله تعالى واسِعًا شامِلًا زمَنًا وكيفًا، زمَنًا أي: في المُستَقبَل وفي الماضي، وكيفًا أي: أنَّه شامِل لكُلِّ ما من شأنه أن يُعلَم.
قَالَ اللهُ عز وجل: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3].
قال المفَسِّر رحمه الله: [{غَافِرِ الذَّنْبِ} للمُؤمِنين {وَقَابِلِ التَّوْبِ} لهم {شَدِيدِ الْعِقَابِ} للكافِرين]، قوله:{غَافِرِ الذَّنْبِ} الغَفْر هو السَّتْر مع الوِقاية، ومنه المِغفَر: ما يُوضَع على الرأس عند الحَرْب؛ لاتِّقاء السِّهام، ومعلومٌ أنَّ المِغفَر ساتِر، فهو جامِع بين السَّتْر والوِقاية، والذَّنْب: المعصية، يُقال: أَذنَب الرجُل. إذا عصى، ومَعنَى غافِر الذَّنْب؛ أي: ساتِره المُتجاوِز عنه.
وقول المفَسِّر: [للمُؤمِنين] فيه نظَر واضِح؛ لأنَّ مَغفِرة الذَّنْب شامِل للمُؤمِنين وغير المُؤمِنين، قال الله تبارك وتعالى:{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، فهو غافِر الذَّنْب لكلِّ مَن تاب إلى الله وسأَل المَغفِرة.
وقوله: {وَقَابِلِ التَّوْبِ} قابِلُه: مَعناها: أن مَن تاب إلى الله قَبِلَ الله تَوبَتَه، و {التَّوْبِ} بمعنى: الرُّجوع إلى الله عز وجل من مَعصيته إلى طاعته.
وقال المفَسِّر: [لهم] أي: للمُؤمِنين، وهذا أيضًا ليس بصحيح، فالتَّوْبة مَقبولة من المُؤمِنين والكافِرين، قال الله تبارك وتعالى عن المُشرِكين:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11].
فقال: {يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} إِذَنْ: لو تابوا قَبْل ذلك لقُبِلت، فتَبيَّن بهذا أن ما ذهَب إليه المفَسِّر رحمه الله من تَخصيص ذلك بالمُؤمِنين يُعتَبر قصورًا.
قال: [مَصدَر]{وَقَابِلِ} اسم فاعِل، إِذَنْ فالمَصدَر هو {التَّوْبِ} .
قال رحمه الله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} للكافِرين] كأنَّ المفَسِّر رحمه الله خصَّ الغافِر والقابِل بالمُؤمِنين؛ لقوله: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ؛ لأن شِدَّة العِقاب إنَّما هي للكافِرين، ولكنَّ في هذا نظَرًا؛ لأنَّ المَقصود هنا ذِكْر صفة الله سبحانه وتعالى أنه جمَع بين الفَضْل والعَدْل، بين الفَضْل في كونه غافِرَ الذَّنْب وقابِل التوب، والعَدْل في كونه شَديدَ العِقاب؛ لأنَّ شِدة العِقاب من الله عز وجل لمَنِ استَحَقَّها عَدْل، إذ إنَّ الله أَخبَرنا وبيَّن لنا أنَّ مَن فعَل كذا عاقَبَه بالعُقوبة الشديدة، فإذا فعَل الإنسان ما تُوعِّد عليه بالعُقوبة الشَّديدة فهو الذي اختار لنَفْسه هذا، فيَكون مُعامَلة الله له به تَكون عَدْلًا.
وقوله: [أي: مُشَدِّدُه] وليُنْتَبه لهذا التَّفسيرِ! فقَد عَدَل عن ظاهِر الآية التي تُفيد أنه نفسه شَديد العقاب؛ لأنهم - الأشاعِرة - يَنفون الصِّفاتِ، والتَّشديدُ فِعْل بائِن عن الله عز وجل، فهي مِثْل القادِر، يَعنِي تَعود الصِّفة على مَذهَب الأشاعرة إلى القُدْرة،
وتَعود على مَذهَب الماتُريدية إلى الخَلْق؛ لأن الماتُريدية يُثبِتون الخَلْق والتَّكوين بخِلاف الأشاعِرة.
فلنَنظُرِ الآنَ: فعلَى كلام المفَسِّر تَكُون {شَدِيدِ} بمَعنى مُشدِّد، ولنا أن نُطالِب فنَقول: هل "فَعيل" تأتي بمَعنى "مُفعِل"؟ الجوابُ: نعَمْ، تَأتي "فعيل" بمَعنى مُفعِل كقول الشاعِر:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ
…
يُؤَرِّقُيي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
(1)
"السَّميع" هنا بمَعنى المُسمِع، "الداعِي" الذي يُسمِعه، "يُؤرِّقُني" فلا أَنام، "وأَصحابي هُجوع" نائِمون.
فمن حيثُ اللَّفْظ لا اعتِراضَ على المفَسِّر؛ أي: من حيثُ جَعْله (فعيل) بمَعنَى (مُفعِل) لا اعتِراضَ عليه؛ لأن ذلك وارِد في اللغة العرَبية، لكن من حيثُ المَعنَى فيه نظَر؛ لأن ظاهِر قوله:{شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، أنه هو نَفسُه عِقابُه شديد، وهو كذلك، فإذا كان العِقاب شَديدًا لزِمَ أن يَكون الأَلَمُ -ألَمُ مَن عُوقِب- شديدًا أيضًا، والعِقاب مَأخوذ من المُعاقَبة، وهي المُجازاة، وسُمِّيَت المُجازاة عِقابًا؛ لأنها تَعقُب العمَل، لكنها تُذكَر غالِبًا فيما يَسوء لا فيما يَسُرُّ.
قَالَ اللهُ عز وجل: {ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3].
قوله: {ذِي} بمَعنَى صاحِب، وهي مَجرورة بالياء نِيابةً عن الكَسرة؛ لأنَّها من الأسماء الخَمسة.
(1)
البيت لعمرو بن معدي كرب (ت 21 هـ)، انظر: الأصمعيات (ص: 172)، الشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 360).
و {الطَّوْلِ} يَقول رحمه الله: [أي: الإِنعام الواسِع] هذا الطَّوْلُ، قال الله تبارك وتعالى:{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] إلى آخِره؛ فالطَّوْل هو الغِنَى الواسِع، ومن تمَام الغِنَى أن يَكون مُنعمًا، والله سبحانه وتعالى مُنعِم، واسِع الغِنى.
وقوله رحمه الله: [{ذِي الطَّوْلِ} وهو مَوْصوف على الدوام بكُل من هَذه الصِّفاتِ، فإضافة المُشتَقِّ منها للتَّعريف كالأخيرة] فيه عِدَّة صِفات {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} هذه أربَعة، والأَخيرة غير مُشتَقَّة، فإنَّ {ذِي} بمَعنى صاحِب غير مُشتَقَّة، لكنَّها مُؤوَّلة بمُشتَقٍّ، أمَّا ما قبلها {شَدِيدِ الْعِقَابِ} ، {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ، {غَافِرِ الذَّنْبِ} ، فهي مُشتَقَّة، ووَصْف، ولهذا جاءت باسم الفاعِلِ، وجاء "الغَفورُ" الذي هو اسمُه على صيغة المُبالَغة.
وجعَل المفَسِّر رحمه الله هذه الصِّفاتِ لا يُراد بها إثبات المَعنى المُشتَقِّ منه، ولكنها للتَّعريف فقَطْ، ولا يَخفَى ما في هذا الكلامِ من القُصور التامِّ، فكيف نَجعَل المُشتَقَّ لمُجرَّد التَّعريف؟ كيف نَقول: إن {غَافِرِ الذَّنْبِ} المُراد بذلك التَّعريفُ بالله عز وجل، لا أنه غافِر، ولا أنه قابِل، ولا أنه شديد العِقاب؟ ! فهو قاصِر جدًّا، ولا يَصِحُّ أن نُفسِّر كلام الله تعالى بهذا الكلامِ، بل نَقول:{غَافِرِ} مُشتَقّ من الغَفْر، وهو صِفة مَقصودة، ليس المَقصود بها التعريف، وكذلك نَقول في {وَقَابِلِ التَّوْبِ} ، وفي {شَدِيدِ الْعِقَابِ} .
وقول المفَسِّر: [مَوْصوف على الدوام بكُلٍّ من هذه الصِّفاتِ] قال ذلك هرَبًا من إثبات صفات الأفعال، فانتَبِهْ لأنك إذا قلت: غافِر بمَعنَى يَغفِر، صارت صِفة فِعْل يَتعلَّق بالمَشيئة! . وعند الأشاعِرة وغيرهم من المُتكلِّمين يَمتَنِع أن يُوصَف الله
تعالى بوَصْف هو فِعْل، لا يُمكِن، قالوا: لأن الفِعْل يَدُلُّ على الحُدوث، والحُدوث لا يَكون في القديم، لا يَكون الحُدوث إلَّا لحادِث! .
وقد سبَق لنا بيانُ بُطلان هذا القَوْلِ، فالصَّواب إِذَنْ: أنَّ {غَافِرِ} {وَقَابِلِ} صِفتان من صِفات الأفعال، وأمَّا {شَدِيدِ الْعِقَابِ} فهي أيضًا صِفة من صِفات الأفعال؛ لأن التَّقدير: عِقابُه شديد، فهو من باب إضافة الصِّفة إلى مَوْصوفها، أي: أن عِقابه شديد، فتكون كما سبَق من الصِّفات الفِعْلية.
وأمَّا {ذِي الطَّوْلِ} فإذا قلنا: إن مَعناه ذي الغِنَى الواسِع، فهي من صِفات الذات، وإذا قلنا: إنَّها بمَعنَى الإنعام الواسِع؛ فهي من صِفات الأفعال.
فإن قال قائِل: هل {شَدِيدِ} صِفة فِعْل لله عز وجل؟
فالجوابُ: لا هي صِفة لفِعْله، ليسَتْ صِفة فِعْل، وإنما هي صِفة لفِعْل الله، يَعنِي نفس العِقاب شديد، وهو جَعلها مُشدِّدًا شيئًا مُنفصِلًا عن الله عز وجل.
فإن قيل: عِقاب الله منه النار، فكأنها هي التي وُصِفَت بالشِّدة، فكيف وصَفنا بها الله سبحانه وتعالى؟
فالجوابُ: هو نفسه شديد العِقاب، أنا مثَلًا إذا قلت: فُلان قَويُّ الضَّرب. يَعني ضَرْبه الواقِع منه قويٌّ، والعِقاب الواقِع منه شديد، والمَوْصوف الله عز وجل شِدَّة عِقابه هو، أمَّا المُعاقَب به فهذا شيء آخَرُ، فعندنا عِقاب ومُعاقَب به ومُعاقَب وارِد عليه العِقاب، فإذا عاقَبت شخصًا بالضرب فهذا الضربُ مُعاقَب به، وأمَّا ضَرْب الضارِب فهو وَصْفه الذي هو عِقابه.
فإن قال قائِل: قلنا: إن المفَسِّر يَتهَرَّب من إثبات الصِّفات الفِعْلية، ثُم هو قال
هنا: [ذي الطَّوْل الإنعام الواسِع، وهو مَوْصوف على الدوام بكُلٍّ من هذه الصِّفات]. فهو هنا أثْبَت الصِّفات؟
فالجَوابُ: أي لكن على أنَّها صِفات ذاتِية، ثُم إنَّ المفَسِّر أيضًا لاحَظَ شيئًا آخرَ من جهة النَّحْو، وهو أن {غَافِرِ الذَّنْبِ} و {وَقَابِلِ التَّوْبِ} {شَدِيدِ الْعِقَابِ} هذه صِفات مُضافة، وإضافتها ليست مَحْضة، بل إضافتها إضافة لَفْظية، والإضافة اللَّفْظية لا تَقتَضي التعريف.
فإن قال قائل: لكن سَمَّاها صِفاتٍ! .
فالجوابُ: لا مُخالفةَ، هي صِفات لكن ما قصَده؟ انظُرْ عِبارة المفَسِّر:[وهو مَوْصوف على الدوام بكُلٍّ من هذه الصِّفات، إذا كان موصوفا بها على الدوام فتكون صِفاتٍ ذاتيةً. ثُم يَقول: [فإضافة المُشتَقِّ منها للتَّعريف كالأخيرة] المُشتَقُّ: {غَافِرِ} {وَقَابِلِ} {شَدِيدِ} ، يَقول: للتَّعريف، يَعنِي أن إضافتها أَفادَت التَّعريف كالأخيرة:{ذِي الطَّوْلِ} فإن هذه الإِضافةَ أَفادَتِ التَّعريف لا شَكَّ؛ لأنها إضافة اسمٍ جامِد إلى مَعرِفة، فيَكون مَعرِفة.
واسم الفاعِل واسم المَفعول والصِّفة المُشبَّهة إذا أُضيفت فإنها لا تُفيد التعريف، ويُسمُّون هذه الإضافةَ: إضافةً لَفْظية، لا مَعنَوية، وبعضُهم يَقول: مَحْضة، وغير مَحْضة، وأتَى المفَسِّر بهذا الكلامِ؛ لأنه يُورَد عليه مَسألة:"الله العزيز العليم"، فهذه مَعارِف، وإذا قلنا: غافِر صِفة لله. وقُلنا: إن إضافَتها لَفْظية، ورَدَ علينا إشكالٌ، الإضافة اللَّفْظية لا تَقتَضي التعريف، فتكون الصِّفة نكِرة وُصِفَ بها مَعرِفة، ووَصْف المعرفة بالنكِرة غير جائِز.
ولا يَجوز أن تَقول: جاء زَيْد فاضِل. يَجِب أن تَقول: جاء زَيْد الفاضِلُ. فإذا كانت الإضافة {غَافِرِ} و {وَقَابِلِ} و {شَدِيدِ} ، في لا تُفيد التعريف، وأَعرَبْناها على أنَّها صِفة، فصار في هذا إشكال، وهو أننا وصَفْنا مَعرِفة بنكِرة، وهذا غير جائِز، فأَراد المفَسِّر أن يُصحِّح المَوْضوع فقال: إن هذه الصِّفاتِ لا يُراد بها الحُدوث، وإنَّما هي صِفات على الدوام، وإذا كانت الصِّفات على الدوام خرَجَت عن مُشابَهة الفِعْل، وصارَت الإضافة للتَّعريف؛ لأَجْل أن يَصِحَّ وَصْف اسم الجلالة، أو لفظ الجلالة بهذه الصِّفاتِ لمَّا كانت إضافتُها مَحْضة مَعنَوية.
لكنْ للمُعْرِبين قول آخَرُ، بل قول ثالِث: في القول الآخَر يَقولون: إن {غَافِرِ} و {وَقَابِلِ} و {شَدِيدِ} بدَل من الله، والبدَل لا يُشتَرط فيه مُوافَقة المُبدَل منه، لكن القول بأنها بدَل غيرُ صحيح؛ لأن عَلامة البدَل أن يَحِلَّ مَحلَّ المُبدَل منه، وهذا لا يَصِحُّ، هذا وَصْف زائِد على المَوْصوف.
وهناك رَأْيٌ ثالِث لإخواننا الكَوْفيِّين المُيسِّرين يَقولون: يَجوز أن تُنعَت المعرِفة بمِثل هذا التركيبِ، ولو كانت الإضافةُ لفظيةً غيرَ مَحْضة. يَعني يَقولون: ما أُضيف إلى المَعرِفة ولو كانَت الإِضافة غيرَ مَحْضة يَجوز أن يَكون نَعْتًا للمَعرِفة اعتِبارًا باللفظ؛ لأن لَفْظ: {غَافِرِ الذَّنْبِ} مَعرِفة؛ لأنه أُضيف إلى مَعرِفة، وإن كانَتِ الإضافة عِنْدهم غير حقيقية، وإنَّما هي لَفْظية.
فالنَّحويُّون يَقولون: لا يُهِمُّ لفظية أو مَعنَوية، ما دام ظاهِر اللفظ مُنسجِم الصِّفة مع المَوْصوف، فهذا يَكفِي.
والقاعِدة المُتبعة عندنا فيما إذا ورَد خِلاف بين النَّحويِّين أن نَتَّبع الأسهَل اقتِداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام، أنه ما خُيِّر بين أَمْرين إلَّا اختار أَيسَرَهما ما لم يَكُن إثمًا.
ونحن لا نَأثَم إذا اتَّبَعْنا الكُوفيين في رَأْيهم؛ لأنها ليست مَسائِلَ شرعية؛ فعَلى رَأْيِ الكوفِيِّين لا حاجةَ إلى كلام المفَسِّر رحمه الله.
فنَقول: الإضافة لَفْظية، لكن صورتها أنها إِضافة مَعنَوية؛ لأنها أُضيف إلى معرِفة، فصحَّ أن يُوصَف بها المَعرِفة؛ وهذا البَحثُ لا يُدرِكه الإنسان تمامًا إلَّا إذا عرَف أن الإضافة نَوْعان: مَحْضة مَعنَوية، ولفظية غير محَضَة.
مَسْألة: كيف نَجمَع بين القول بأنَّ أسماء الله تعالى لا تُحصى، وبين قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنّةَ"
(1)
؛
فالجوابُ على ذلك أن نَقول - إِذا كان السائِل مُستَفهِمًا فقل: الجوابُ على ذلك، وإذا كان مُورِدًا أي مُناقِضًا، فقل: الجوابُ عن ذلك؛ ولهذا يَكون "الجواب عن ذلك" في مَقام الرَّدِّ على مَن اعتَرَض عليك، و"الجواب على ذلك" في جواب مَنِ استَرشَد -: أن كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم ككَلام الله لا يَتَناقَض أبدًا، فإذا كان قد ثبَتَ عنه أنه قال:"أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ"
(2)
علِمنا أن من أسماء الله ما لا يُمكِن الوصولُ إليه، ولا يُمكِن إدراكُه؛ لأن ما استَأثَر الله به لا يُمكِن أن نَعلَمه، فحينَئِذ يَتعيَّن أن نَقول: إن مَعنى قوله: "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ" أي: من أسمائه تِسعة وَتِسْعِينَ مَن أَحصاها دخَل الجَنَّة، فتكون جُملة "مَنْ أَحْصَاهَا" وصفًا لكلمة "اسْمًا"، وليست جُملةً مُستقِلَّة مُستَأْنَفة، تَكون معنى "إِنَّ للهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا" مَوْصوفة بأن "مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجنّةَ"، وله أسماءٌ أخرى لكن اختَرْ
(1)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدًا (7392)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها (2677)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 391) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.