الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} الظُّلْم يَتَناوَل شيئين: إمَّا الزِّيادة في الآثام، وإمَّا النَّقْص في الحسَنات. وكلُّه مُمتَنِع بالنِّسبة لله عز وجل لا يُمكِن أن يَقَع منه، ولا يُمكِن أن يُريده؛ لكمال عَدْله.
من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: شِدَّة خَوْف هذا الرجُلِ من عِقاب الله، وهذا يَدُلُّ على كَمال إيمانه، لأنه لا يَخاف أحَدٌ من شيء إلَّا وهو مُؤمِن به.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ عند هذا الرَّجُل عِلمًا من نَبَأ الأوَّلين؛ لقوله: {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} إلى آخره.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: بَيانُ نُصْح هذا الرجُلِ المُؤمِن، حيث حذَّر قومَه من عَذاب الله، وفيه دليلٌ على التَّلطُّف في الدعوة إلى الله، وأنَّ الإنسان لا يَستَعمِلُ في الدَّعْوة إلى الله عاطِفته، لأنَّه إنِ اسْتَعمَل عاطِفته أَخَذَتْه الغَيرة، ففعَل ما لا يُحْمَد عُقباه، وإنَّما يُحَكِّم العَقْل، وَينظُر إلى العَواقِب والنَّتائِج، ولا ضيرَ على الإنسان إذا أَصابَه ذُلٌّ في أوَّل الأَمْر، إذا كانت النَّتيجة طَيِّبة، ولا أَظُنُّه يَخفَى عليكم ما حصَل للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غَزوة الحُدَيْبية، من الشُّروط التي ظاهِرها الإهانة، ولكنَّها كانَتْ نَتيجتها طَيِّبة، حتى إنَّ الله تعالى سمَّاها فَتْحًا:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} [الحديد: 10].
فالحاصِلُ: أنه يَنبَغي للإنسان عند الدَّعوة إلى الله أن لا يُحكِّم العاطِفة، فتَزِلَّ قدَمه، ولكن يُحكِّم العَقْل، وَينظُر إلى العَواقِب والنَّتائِج.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بَيان أنَّ ذِكْرَ الأُمم السابِقة يَنتَشِر في الأُمَم اللاحِقة، إمَّا بواسِطة
الكتُب المُنزَّلة، وإمَّا بواسِطة التاريخ المَنقول. وَيدُلُّ لذلك قوله:{يَاقَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ} ؛ لأنه لا يُمكِن أن يُخوِّفهم بأَمْر لا يَعرِفونه، ولو كان الأَمْر كذلك، لقالوا: ما هذه الأيامُ؟ أو ما هذا الجزاءُ؟ .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أنَّه يَنبَغي للإنسان أن يَكون عِنده عِلْمٌ بأحوال الأُمَم السابِقة، من أَجْل أن يَكون مُعتَبِرًا بمَن مَضى فيمَن بَقِيَ، وعلى هذا فعِلْم التاريخ عِلْم مُهِمٌّ، ولكن يَجِبُ أن نَعلَم أنَّ التاريخ أَصابه شيء من الوَضْع -أي: من التَّحريف والتَّغيير، والكَذِب، والزّيادة والنّقص- فعلي الإنسان أن يَحتاط في هذا، حتى لا يَنقُل أو لا يَروِيَ إلَّا الصحيح.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أنَّ قوم نُوحٍ وعادًا وثَمودَ كانوا أوَّلَ الأحزاب؛ لقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} .
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تَحذير اللاحِق أن يُصيبَه ما أَصاب السابِق؛ لقوله: {مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ} .
ووجهُ ذلك: أنَّ الله سبحانه وتعالى سُنَّتُه في خَلْقه واحِدة، هو لا يُعذِّب هؤلاء لأنه يَكرَههم شخصيًّا، يُعذِّب هؤلاءِ لأنه يَكرَه عمَلهم، فإذا وجَد عمَلهم في آخَرين فالكَراهة حاصِلة، واذْكُرْ قول الله تعالى:{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10].
وحذَّر شعيبٌ عليه السلام قومَه أَنْ يُصيبَهم ما أَصاب مَن قبلَهم.
فالحاصِلُ: أنَّ الأُمَم لَا بُدَّ أَنْ يَتَّعِظ اللاحِق بالسابِق، بِناءً على أن سُنَّة الله واحِدة.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: انتِفاء إرادة الله الظُّلْم لعِباده، وما الله يُريد ظُلْمًا للعِباد، ومَعلوم
أنَّها إذا انتَفَتِ الإرادة انتَفَى الفِعْل فنَفيُ إرادة الظُّلْم نَفيٌ للظُّلْم من بابِ أَوْلى، كما أنه جاءَت آياتٌ صَريحةٌ في نَفيِ الظُّلْم عن الله عز وجل، فقال:{وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، وقال:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقال:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29].
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إثبات اتِّصاف الله سبحانه وتعالى بالنَّفيِ؛ أي: أنَّ الله يَتَّصِف بالصِّفات المَنفيَّة التي يُعبِّر عنها بعض العُلَماء بالصِّفات السَّلْبية، لأن النفيَ سَلْب.
ولكن إذا قال قائِل: هل في النَّفيِ ثَناء ومَدْح، مع أنَّ الله عز وجل يَقول:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60]، فصِفات الله تعالى كلُّها صِفات كَمال، والنفيُ عدَمٌ فهل يَكون فيه مَدْح وثَناءٌ؟
الجَوابُ: نَقولُ: أمَّا بالنِّسبة لغير الله عز وجل، فإنه لا يَدُلُّ على الكَمال، ولا على المَدْح؛ أمَّا بالنِّسبة لله فيَتعيَّن أن يَكون دالًّا على الكَمال؛ لقوله تَعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} فكلُّ نَفي نَفاه الله عن نفسه، فإنه مُتضَمِّنٌ لكَمال؛ دَليلنا هذه الآيَةُ:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وإلّا فالنَّفيُ المُجرَّد لا يَدُلُّ على الكَمال إطلاقًا، بل أَحيانا يَدُلُّ على النَّقْص، فقول الشاعِر مثَلًا:
قُبَيِّلَةٌ لَا يَغْدِرُونَ بِذِمَّةٍ
…
وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ
(1)
وصَفهم بأنهم لا يَغدِرون بالعَهْد، وأنهم لا يَظلِمون، وهذا في ظاهِره مَدْح؛ لكنَّه في الواقِع يَذُمهم بأنهم ناس جُبَناءُ، وضُعَفاءُ، لا يَغدِرون لأنهم لا يَستَطيعون
(1)
البيت ينسب للنجاشي الحارثي قيس بن عمرو، انظر: الحماسة الصغرى لأبي تمام (ص: 215 - 216)، والشعر والشعراء لابن قتيبة (1/ 319)، وخزانة الأدب للبغدادي (1/ 232).
لجُبْنهم، ولا يَظلِمون لا يَستَطيعون لضَعْفهم، وكذلك قولُ الشاعِرِ الآخَر
(1)
:
لَكِنَّ قَوْمِي وَإِنْ كَانُوا ذَوِي عَدَدٍ
…
لَيْسُوا مِنَ الشَّرِّ فِي شَيْءٍ وَإِنْ هَانَا
يَعنِي: ليسوا هُمْ للشَّرِّ إطلاقًا ولو هانَ.
يَجْزُونَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الظُّلْمِ مَغْفِرَةً
…
وَمِنْ إِسَاءَةِ أَهْلِ السُّوءِ إِحْسَانَا
ثُم قال:
فَلَيْتَ لِي بِهِمُ قَوْمًا إِذَارَ كِبُوا
…
شَنُّوا الْإِغَارَةَ فُرْسَانًا وَرُكْبَانَا
هنا يَذُمُّهم مع أنهم إذا ظُلِموا غفَروا لمَن ظلَمهم، وإذا أُسيءَ إليهم أَحسَنوا لمَن أَساء إليهم، وهذه صِفة قد تَبدو مَطلوبة محَمودة، لكن إذا كان السبَب في ذلك أنهم ضُعَفاءُ صارَت مَذمومة.
وقد يَكون النَّفيُ لعدَم صلاحية هذا الوَصْفِ لما نُفِيَ عنه، قد يَكون نَفيُ الشيء عن الشيء؛ لأنه غيرُ قابِل وغير صالِح لأن يُوصَف به، كما إذا قُلت: الجِدار لا يَظلِم. فهذا ليس مَدْحًا للجِدار؛ لأنه غير قادِر ولا صالِح للظُّلْم أو عدَم الظُّلْم، فتَبيَّن بذلك أنَّ الله تعالى لا يَنفِي عن نَفْسه شيئًا إلَّا لكَمال ضِدِّ هذا المَنفيِّ، لا لأنه غير قابِل له، أو غير صالِح في حَقِّه، وما أَشبَه ذلك. من الناحِية العَقْلية.
وهذا الظُّلمُ المَنفيُّ عن الله لكَمال العَدْل جائِز؛ لكنه مُستَحيل على الله تعالى لكَماله؛ خِلاقًا للجَهْمية، الذين قالوا: إن الظُّلْم مُستَحيل على الله لذاته -لذات الظُّلْم-؛ لأنه إذا كان مُستَحيلًا لذاته، لم يَكُن مَدْحًا، المُستَحيل لذاته لا يَمدَح من
(1)
ذكره أبو تمام في ديوان الحماسة (ص: 11) عن رجل من بَلْعنبر يقال له: قُرَيط بن أُنيْف.
استَحال عليه على ذلك؛ لأنه مُستَحيل، وهم يَقولون: إنه مُستَحيل لذاته؛ لأنَّ الخَلْق كله مُلْكه وَيفعَل في مُلْكه ما يَشاء، ومَن تَصرَّف في مُلْكه؛ فإنَّه لا يُقال: إنه ظالِمٌ ولو قدَّم شَيْئًا على شيء، أو نقَص شيئًا عن حَقِّه، ولكنَّنا نَقول: إن الله تعالى صرَّح بأنه حَرَّم الظُّلْم على نَفْسه، وهذا يَدُلُّ على أنَّ الظُّلْم في حَقِّه مُمكِن عقلًا، لكنه حَرَّمه على نفسه لكَمالِ عَدْله.
والخُلاصة الآنَ: أنه لا يُمكِن أن يُوجَد في صِفات الله تعالى نَفيٌ مَحض أبَدًا؛ الدليل: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} والنَّفيُ المَحْض ليس من المَثَل الأعلى في شيء، ولكن إذا نفَى الله شيئًا عن نفسه، فالمُراد إثباتُ كَمال ضِدِّه، يَعنِي: أنه لثُبوت كَمال ضِدِّه انتَفَى عنه هذا الشيءُ؛ فضِدُّ الظُّلْم العَدْل، إِذَنْ نُثبِت من نَفيِ الظُّلْم عن الله كَمال عَدْله، وأنه جَلَّ وَعَلَا لعَدْله لا يَظلِم، لا لعَجْزه، هو قادِر على أن يَظلِم، لكنَّه لا يَظلِم لكَمال عَدْله.
ولا يُوجَد نَفيٌ في صِفات الله إلَّا لكَمال ضِدِّه قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]؛ لكَمال قُوَّته؛ لا لأن اللُّغوب لا يَلحَقه، لكن لكمال قُوَّته لا يَلحَقه اللُّغوب، وليس المَعنَى انَّه ليس مِمَّا يُمكِن أنْ يَلْحَقه اللُّغُوب، لا لكِنَّه مُستَحيل لكَمال قُوَّته.
قال أَهلُ العِلْم رحمه الله: وإنَّما قُلْنا بذلك؛ لأن النَّفيَ المَحْض عدَمٌ مَحض، النَّفيُ المَحضُ: نفَيْت الشيء مَعناه: أنه غيرُ مَوْجود، والعدَم المَحْض ليس بشيء، فَضلًا عن أن يَكون مَدْحًا؛ لأنه عَدَم العَدَم لا يُمدَح عليه، وإمَّا أَنْ يَكون النَّفيُ مُتضمِّنًا لإثبات، هذا الإثباتُ قد يَكون عَجْزًا.
ولهذا جاء في الحَديث الصَّحيح القُدسيِّ: "يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظّلْمَ عَلَى نَفْسِي"
(1)
لم يَقل: يا عِبادي، إنني لا أَستَطيعُ أن أَظلِم. قال:"إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي" وهذا يَدُلُّ على أنه قادِر على أن يَظلِم، لكنه لا يَظلِم لكَمال عَدْله، ولو كان غير قادِر أن يَظلِم لم يَكُن انتِفاء الظّلْم عنه مدحًا؛ لأنه عاجِز، لكنه قادِر، ولكنه لا يَظلِم، وأَقولُ هذا؛ لأنَّ الجَهْمية وغيرهم قالوا: إنَّ الله لا يَستَطيعُ أَنْ يَظلِم أبَدًا، وإلى هذا أَشار ابنُ القيِّمِ في النُّونية حين قال
(2)
:
وَالظُّلْمُ عِنْدَهُمُ المُحَالُ لِذَاتِهِ. .................
يَعنِي: أنه مُستَحيل لذاته، لا لكَمال الله لكن لذاته، لا يُمكِن أن يَظلِم، قال: لأنَّ الظُّلم أن يَتَصرَّف الإنسان في مُلْك غيره، والله عز وجل يَتَصرَّف في مُلْكه فإذا ظلَم لم يَكُن ظالمًا؛ لأن هذا مُلْكه، فيُقال: تبًّا لعُقولكم الفاسِدة؛ إذا وعَد المُؤمِن بشيء، ولكن على عمَل مُعيَّن، هو عمِل هذا العمَلَ ولم يُعطِه إيَّاه، يَكون ظُلمًا ولا شكَّ في هذا، وأنتم تَقولون: يَجوز أن يُثيب العاصِيَ الذي يَعصِي الله كل عُمْره، ويُعاقِب المُطيع الذي يَعمَل بطاعة الله كل عُمْره، وأنَّ الأمرين على حدٍّ سواءٍ؛ لأنه لا يَظلِم حيثُ إنه يَتصَرَّف في مُلْكه، فنَقول: هذا لا شَكَّ أنه سَفَه في العَقْل، وضَلالٌ في الدِّين والله عز وجل وعَدَ العامِل عمَلًا صالِحًا بالثَّواب، والمُخالِف بالعِقاب. كيف يَجوز أن يُخلِف الله وَعْده.
المُهِمُّ: هذا قولٌ باطِل، ولا شكَّ في بُطْلانه، ومجُرَّد تَصوّره يَعرِف الإنسان أنه باطِل.
(1)
أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة، باب تحريم الظلم (2577)، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2)
النونية (ص: 8).
فقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} نَقول: نَفيُ إرادة الظُّلْم يَستَلزِم كَمال عَدْله، وهو أيضًا يَستَلزِم نَفيَ الظُّلْم؛ لأنَّ مَن لا يُريد الظُّلْم لا يُمكِن أن يَفعَل الظُّلْم.