الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (64)
* قَالِ اللهُ عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64].
قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} الجُمْلة {اللهُ} مُبتَدَأ، و {الَّذِي} خبَرُه يَعنِي: الله هو الذي {جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} إلى آخِرِه {جَعَلَ لَكُمُ} هذه من أفعال التَّصْيير؛ أي: صيَّر لكم، و {قَرَارًا} بمَعنَى: ذات قَرار؛ أي: مُستَقَرٍّ و {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} ؛ أي: فوقُ، وقد بيَّن الله تعالى في آية أخرى أنه سَقْف، فالله جعَل الأرض قَرارًا، أي: مُستَقرَّة.
وهل مَعنَى هذا القَرارِ أنها لا تَتحرَّك أو أنها لا تَميد بنا؟
يُقال: القُرآن يُفسِّر بعضُه بعضا فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا} [النحل: 15]، فبيَّن أن المُراد بالقَرار أنها لا تمَيد بساكِينها؛ أي: لا تَضطَرِب، وليس المَعنَى أنها قارَّة لا تَتَحرَّك، كما سيَأتِي -إن شاءَ الله- في الفَوائِد.
وقوله عز وجل: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} ؛ أي: سقفًا عالِيًا، والمُراد بالسَّماء هنا أي: السمَوات ذات الأجرام، وذلك؛ لأن السماء يُطلَق على مَعنيَيْن، المعنى الأوَّل العُلوُّ،
والمَعنَى الثاني السماء السَّقْف، والذي يُعيِّن أحد المَعنيَيْن هو السياق.
فقول الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] المُراد بالسَّماء هنا العُلوُّ، لأن المطَر ليس يَنزِل من ذات السَّماء السَّقْف، بل يَنزِل من العُلوِّ، ويَدُلُّ لذلِك قولُه سبحانه وتعالى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164]، فالسَّماء هنا بمَعنى ذات السَّقْف، والمطَر يَنزِل من السَّحاب، فإذا كان مُسخَّرًا بين السماء والأرض اقتَضى ذلك ألَّا يَكون المطَر يَنزِل من السماء ذات السَّقف، ولكنه يَنزِل من السماء التي بمَعنى العُلوِّ، والذي معَنا هنا {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} المُراد به السَّماء ذات السَّقْف {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}؛ أي: جعَلَكم على صورة مُعيَّنة، والصورة هي الشَّكْل، فشَكْل الآدَميِّ هو أَحسَنُ شَكْل في المخلوقات، وأَحسَنُه وأَقوَمُه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، فلا صورةَ أحسَنُ من صورة الآدَميِّ، ولا شَكلَ أحسَنُ من شَكْله؛ ولهذا قال:{فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} فبيَّن الله في هذه الآيةِ أربعةَ أشياءَ، الأرض التي هي محَلُّ السُّكنى، والسماء التي هي محَلُّ الظِّل، والتَّصوير الذي هو الهَيْكل الإنساني، والإمداد لهذا الهَيْكلِ وهو قوله:{وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} .
وقوله: {وَرَزَقَكُمْ} ؛ أي: أَعطاكم و {الطَّيِّبَاتِ} هنا ما طاب ولَذَّ، واعلَمْ أن الطيِّب تارةً يُراد به الحَلالُ، وتارةً يُراد به الحَسَن، وتارةً يُراد به اللذيذ، ويُعيِّن ذلك السِّياقُ، فقول الله تعالى:{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} المُراد بـ {الطَّيِّبِ} هنا الحسَن، والمُراد بـ {الْخَبِيثَ} الرَّديءُ، والمُراد بقوله تعالى:{كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} المُراد بها الحلال؛ لقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} ؛ لأنه لو قِيل: المُرادُ اللَّذيذ لكان قوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} لا مَعنَى له، ولا يُمكِن إقامة الشُّكْر إلَّا إذا تَناوَل الإنسان
الشيء الحَلال، والمُرادُ بقوله هنا:{مِنْ طَيِّبَاتِ} المُراد بها ما طاب ولَذَّ، وإنما قُلْنا بذلك؛ لأن رِزْق الله عز وجل بالمَعنَى العامِّ يَشمَل الحلال والحَرام؛ ولهذا نَقول: إن الإنسان إذا اكتَسَب مالًا محُرَّمًا عن طريق الرِّبا مثَلًا فإنه مَرزوق لا شَكَّ، لكنه رِزْق فيه التَّبِعَة.
وقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} {ذَلِكُمُ اللَّهُ} اسم الإشارة مُبتَدَأ، وما بعدَه عَطْف بَيان أو نَعْت، و (رب) خبَر المُبتَدَأ يَعنِي: هذا الذي أَمَدَّكم بهذه الأشياءِ الأربَعِ هو الله لا أَحَدَ غيرُه، وقوله:{رَبُّكُمْ} يَعنِي: جل وعلا ربُّ عِباده الذي هو الخالِق المالِك المُدبِّر؛ لأن الربَّ يَجمَع ثلاثة أَوْصاف: الخَلْق، والمِلْك، والتَّدبير.
وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {فَتَبَارَكَ} قيل: مَعناه:
تَعالى وتَعاظَم، وهذا المَعنَى قَريب، ولكن فيه أن (تَبارَك) أَخصُّ من ذلك، ومَعنَى (تَبارَك)؛ أي: أنه ذو البرَكة العظيمة الثابتة؛ ولهذا لا يُطلَق على غير الله بهذا المَعنَى أي: بمَعنى أنه ذو البَرَكة العَظيمة الثابِتة؛ لأن هذا الوَصفَ لا يَليق إلَّا بالله عز وجل، وأمَّا ما يَقوله بعض الناس -كما سيَأْتي إن شاءَ الله في الفَوائِد- فسنَتكلَّم عليه.
وقوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ} {رَبُّ} هذه عَطْف بَيان أو صِفة للَفْظ الجلالة، والعالمَون كلُّ مَن سِوى الله، كل الخَلْق عالمَون، وسُمُّوا بذلك؛ لأنهم عالَم على خالِقهم، ففي كلِّ الخَلْق آية من آيات الله، كما قيل:
وِفي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ
…
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
(1)
والربوبية هنا الربوبية العامَّة؛ لأنه أَضافها إلى العالمَين، فهي عامَّة شامِلة.
(1)
من شعر أبي العتاهية، انظر: ديوانه (ص: 122)، ومعاهد التنصيص (2/ 286).