الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُم بيَّن هذه المُحاجَّةَ فقال: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} الضُّعَفاء إمَّا في المال، وإمَّا في الشرَف والسِّيادة، وإمَّا في غير ذلك، مِمَّا يُعَدُّ ضَعْفًا، والغالِب أن الضَّعيف يَتبَع القَويَّ وقوله:{لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} ؛ أي: تَكبَّروا من الكِبْرياء والعظَمة، والسين والتاء فيها للمُبالَغة {إِنَّا كُنَّا} يَعنِي: في الدُّنيا {لَكُمْ تَبَعًا} قال المفَسِّر رحمه الله: [جَمْع تابعٍ] أي: مُتَّبِعين {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} يَعنِي: هل تُجازونَنا على مُتابَعَتِنا إيَّاكُم بأن تَتَحمَّلوا عنَّا شيئًا من النار؟ وقولهم: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ} قال المفَسِّر رحمه الله: [دافِعون {عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} جُزءًا من النار].
انظُرْ كيف يَتَوسَّل هؤلاءِ الضُّعفاءُ إلى الذين استكْبَروا، كيف يَتَوسَّلون إليهم بما قدَّموا من مُتابَعَتهم، ليَتَحمَّلوا عنهم نصيبًا من النار، فكان جَوابُ الذين استكْبَروا: وقوله: {إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} وإذا كُنَّا كلًّا فيها فكَيْف نُغنِيكم نصيبًا من النار؟ ! وهذه حُجَّة ببَيان الواقِع.
وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} حكَم بينهم بحُكْمه الجَزائِيِّ؛ لأن أَحكام الله عز وجل ثلاثة: قدَريٌّ، وشَرعيٌّ، وجَزائيٌّ. والجَزائيُّ من القدَريِّ في الواقِع، لكن بعض العُلَماء يَجعَله مُنفَصِلًا لأهمِّيَّته؛ لأنه هو الغاية، وقوله:{حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} يَعنِي: بين الناس عُمومًا، يَعنِي: بين أهل النار وأهل الجنَّة فالعُبودية هنا بمَعنَى العُبودية العامة الشامِلة؛ لأن العُبودية عامَّة وخاصَّة.
من فوائِدِ الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: تَعادِي الكُفَّارِ بعضِهم مع بعضٍ، وأن القويَّ مِنهم لا يَرحَم الضعيف لقوله:{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن هَؤلاءِ الكُفَّارَ أَدلَوْا بمعروف للمَتبوعين، وهم أنهم كانوا لهم تَبَعًا؛ ليَتوَسَّلوا به إلى أن يَأخُذوا عنهم نَصيبًا من النار، ففيه دليلٌ على تَوسُّل الإنسان بجَميل عطائه على الغير، ولكن هل يُعَدُّ هذا من المِنَّة؟
الجواب: الواقِع أن الذي يُبيِّن أنه تَوسُّل أو مِنَّة هو القَرائِن، قد يكون هذا مِنَّة، وقد يَكون هذا تَوسُّلًا مِثلما رَحِمْتك وأَعطَيْتك وأَحسَنت إليك فأَحسِنْ إليَّ، فيَكون هذا من باب التَّوسّل.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن الضُّعفاء دائِمًا يَكونون أتباعًا للأقوياء؛ لقوله: {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} [غافر: 47]؛ ولهذا يتبَيَّن لنا الآنَ أن تَقليد المُسلِمين للكُفَّار يعنِي: ضَعفهم أمامهم؛ لأن الضَّعيف دائِما يُقلِّد القويَّ؛ لضَعف شَخصيته أمامه، وأنه يَجِب على المُسلِمين أن يَكون لهم مَيْزة خاصَّة، وأن يَكون لهم قوَّة ذاتية؛ لأن القُوَّة معهم، هم أهل الدِّين، هم أهل الحَقِّ، وهم الذين عرَفوا الحياة، وهم أهل الحياة في الواقِع.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن هَؤلاءِ الأتباعَ يَتمنَّوْن أن يَأخُذ المَتبوعين نَصيبًا، ولو قليلًا من عَذاب النار عنهم، والدليلُ أنه يُريدون ولو قليلًا قولهم:{نَصِيبًا} .
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أن المُستكبِرين يَعتَذِرون بأنه لا طاقةَ لهم في ذلك؛ لأن الجَميع في نار جَهنَّمَ فكيف يَأخُذون نصيبًا عنهم، نعَمْ لو كانوا ليسوا في نار جَهنَّمَ ثُم يَسقُطون في النار من أَجْل أن يُغنُوا عن هَؤلاءِ نَصيبًا لأَمكَن، لكن ما دام الجميعُ في النار فإن طلَبَ تَحقيق ذلك طلَبُ شيء مُستَحيل.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بَيان خُنوع هؤلاءِ المُستكْبِرين يوم القِيامة، لقولهم:{إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} يَعنِي: الآنَ ليس لنا فَضْل عليكم وليس لكم فَضْل علينا كلٌّ في نار جَهنَّمَ.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إقرار هَؤلاءِ المُعذَّبِين في النار بأن الله سبحانه وتعالى قد حكَم بين العِباد حُكْمًا عدلًا؛ لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: أنه إذا نفَذ حُكْم الله فإنه لا يُمكِن رَفعُه ولا دَفْعه؛ لقولهم: {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ} وفي هذا يَقول الله عز وجل في سورة (ق): {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 28 - 29]، إذا انتَهى حُكْم الله فلا مُعطِّل لحُكْمه.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إقرارُ هَؤلاءِ المُعذَّبين في نار جَهنَّمَ أنهم من عِباد الله، لكن المُراد بالعِبادة العِبادة العامَّة، وهي العِبادة الكَوْنية؛ لأن العِبادة نَوْعان: عامَّة وهي العُبودية الكَوْنية، وخاصَّة وهي العُبودية الشَّرْعية.
فمَن خضَع لله شرعًا فهو عابِد شرعًا وكذلك كونًا، ومَن تَكبَّر عن عِبادة الله شرعًا فهو عابِد كونًا وليس عابِدًا شرعًا.
قال المفَسِّر رحمه الله: [فأَدخَل المُؤمِنين الجَنَّة، وأَدخَل الكافِرين النار] المَعنَى أعَمُّ مِمَّا قاله رحمه الله، حكَم بين العِباد بين أَهْل الجَنَّة والنار، وبين أَهْل النار بعضِهم البعض، وحكَم حُكْمًا عامًّا.
مسألة: ما هو الدَّليلُ على الشَّهادة لشَخْص بالجَنَّة؟
فالجَوابُ: الدَّليل إذا شَهِد رسول الله له بالجَنَّة شهِدنا له.
ومَن شَهِد له الرسول صلى الله عليه وسلم مثل حاطِب بن أبي بَلْتعةَ رضي الله عنه، فهذا نَقول: هو مَغفور له، ولكن لا شَكَّ أنَّه إذا كان حاطِبٌ مَغفورًا له أنَّ أبا بَكْر وعُمرَ وعُثمانَ رضي الله عنهم أَوْلى من ذلك.
فإن قال قائِل: ما رأيُكم فيما ذهَب إليه شيخُ الإسلام؟
فالجوابُ: هذا رَأْي قُوِيٌّ لا شَكَّ، يَعنِي: ما ذهَب إليه شيخ الإسلام مُؤيَّد بالحديث "أَنْتُمْ شُهَدَاءُ الله فِي الْأَرْضِ"
(1)
وإذا كانَتِ الأُمَّة - أو غالب الأُمَّة - أَجمَعوا على ذلك، فهو كافٍ، لولا أنه يُخشَى من مسألة، وهو أنه يَأتينا أهل الفِرَق الضالَّة وَيقولون: نحنُ مجُمِعون على الشَّهادة لفُلان بكذا وكذا. وهو رَأْس بِدْعة، وهم يَدَّعون أنهم أَهْل حَقٍّ، لكن يُمكِن الانفِكاك عن هذا الإيرادِ، بأن نَقول: هَؤلاءِ لا تُقبَل شهادَتُهم؛ لأنَّهم على باطِل وعلى ضَلال، والمُراد شَهادة أهل الحَقِّ.
فـ"كلُّ الصَّحابة في الجنَّة" على سَبيل العُموم، قال تعالى:{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
مسألة: إذا قال قائل: إذا قُتِل المُسلِم في المَعرَكة قُلْنا: إنَّنا نَحسَبه شَهيدًا ولا نُزكِّي على الله أحَدًا؟
فالجَوابُ: لا تَقُل: أَحسَبه شَهيدًا. قُلْ: مَن قُتِل في سبيل الله فهو شَهيد، كما قال عُمرُ رضي الله عنه، عُمرُ خطَب الناس قال: إنَّكم تَقولون: فُلان شَهيدٌ، وفُلان شَهيدٌ. ورُبَّما يَكون فعَل كذا وكذا، ولكن قولوا: مَن قُتِل - أو مات - في سَبيل الله فهو شَهيد
(2)
.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، رقم (1367)، ومسلم: كتاب الجنائز، باب فيمن يثنى عليه خيرًا أو شرًّا من الموتى، رقم (949)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه سعيد بن منصور في سننه، كتاب النكاح، باب ما جاء في الصداق، رقم (595، 596). وأخرجه الإمام أحمد (1/ 40 - 41)، والنسائي: كتاب النكاح، باب القسط في الأصدقة، رقم (3349)، ولفظه عندهما:"فهو في الجنة".