الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (24)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} [غافر: 34].
ثُمَّ قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} هذا من كلام الرَّجُل المُؤمِن المُحذِّر، قال:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ} الجُمْلة هنا مُؤكَّدة بثَلاثة مُؤكِّدات؛ باللَّام، و (قَدْ)، والقَسَم، وكلَّما جاءَتْك صيغة كهَذه فإنها مُؤكَّدة بثلاثة مُؤكِّدات، اللَّام و (قد) والقَسَم؛ لأنَّ تَقدير الكَلام: والله لقد جاءَكم. وقوله: {يُوسُفُ} المُراد به يُوسُفُ بنُ يَعقوبَ.
فإن قال الإنسان: كيفَ يُخاطِبهم فيَقول: {جَاءَكُمْ} ويُوسُفُ بنُ يَعقوبَ عليهما الصلاة والسلام قبلهم بأزمان كثيرة؟
فيُقال: إن ما حصَل للأَسلاف فهو للأَخْلاف؛ يَعنِي: أنَّ ما جاء أَسلافَهم فهو كالذي جاءَهُم.
ودليلُ ذلك أنَّ الله يُخاطِب بني إسرائيلَ في عَهْد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بما حصَل لأَسْلافهم في عهد مُوسَى، وبينهم قُرون كَثيرة؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 55 - 57]، ومَعلوم أن هذا كلَّه لم يَحصُل لليَهود في عَهْد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، لكنه حصَل لأَسلافهم؛ فما كان من الأُمَّة من أَوَّلها، فإنه ثابِت للأُمَّة في آخِرها.
إِذَنْ: لا إشكاَل في هذه الآيةِ، ما دُمْنا نَقول: إنه قد جاء أَسلافَهم، وأن ما يَحصُل من أَسْلافهم فيما سبَقَ، يَكون مَنْسوبًا إلى الجميع، إذا لم يَخرُجوا عن هذا المِنهاجِ.
قال المفَسِّر رحمه الله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: من قَبْل مُوسى، وهو يُوسُفُ بنُ يَعقوبَ. . .] إلى آخِره.
قوله: {مِنْ قَبْلُ} لماذا جرَّها بالضَّمِّ؟ والمَعروف أنَّ (مِن) حَرف جرٍّ إذا دخَلَت على كلِمة جَرَّتها -كسَرَتها- تَقول: مِن زَيدٍ. وهنا قال: {مِنْ قَبْلُ} حُذِف المُضاف إليه ونُوِيَ مَعناه، لأنه إمَّا أن يُوجَد المُضاف أو يُحذَف وُينوَى مَعناه، أو يُحذَف ويُنوَى لفظُه، أو يُحذَف ولا يُنوَى لا لفظُه ولا مَعناه، فالأقسام أَربَعة: تُبنَى في واحِد منها، والباقي مُعرَبة تُبنَى إذا حُذِف المُضاف إليه ونُوِيَ مَعناه.
فإن قال قائِلٌ: ما هو الدَّليلُ؟
قلنا: الدَّليلُ أنها تكون مَضمومة لأنها تُبنَى على الضَّمِّ؛ فإذا كلَّمْنا مَن هو عالِمٌ بالعرَبية، وبناها على الضَّمِّ، عرَفْنا أنه حَذَف المُضاف ونَوَى مَعناه.
قال المفَسِّر رحمه الله: {مِنْ قَبْلُ} في قول عُمِّر إلى زمَن موسى، أو يُوسُفَ بنِ إبراهيمَ بنِ يُوسُفَ بنِ يَعقوبَ في قولٍ] حكَى المفَسِّر رحمه الله قولَينْ في المُراد بيُوسُفَ.
فقيل: إنه يُوسُفُ بنُ يَعقوبَ، وأنه عُمِّر إلى زَمَنِ مُوسى، وهذا قولٌ باطِل لا إشكالَ. يَقول:[عُمِّر إلى زمَنِ مُوسَى]، هذا قول ليس بصَحيح، بل هو باطِلٌ؛
لأنَّه لو كان الأمر كذلك لكان يَأتِي مُوسى ويَتَّصِل به؛ لأن كِليهما رَسولٌ.
القولُ الثاني: إنه يُوسُفُ وجَدُّه يُوسُفُ بنُ يَعقوبَ، يُوسفُ بنُ إبراهيمَ بنِ يُوسُفَ، وهذا أيضًا لا دَليلَ له، والصوابُ: أنَّ المُراد به يُوسُفُ بنُ يَعقوبَ، وأنه لم يُعَمَّر إلى زمَن موسى، وأنه مات في زمَنه، لكنه جاء أَسلافَه؛ لأن يُوسُف صلى الله عليه وسلم أَخَذَه المارَّة الذين مَرُّوا بالبِئْر الذي أُلقِيَ فيها، وذهَبوا به إلى مِصرَ، والقِصَّة مَعروفة في سورة كامِلة.
وقوله: {بِالْبَيِّنَاتِ} البَيِّنات من بانَ يَبينُ إذا ظهَر، ومَعلوم أنها وَصْف لمَوْصوف محَذوف؛ وذلك لأنه يَجوز أن يُحذَف النَّعْت وأن يُحذَف المَنعوت إذا دَلَّ عليه دَليل؛ والمَوْصوف المَحذوف هنا تَقديرُه الآيات، كما يُعبَّر به في القُرآن كثيرًا بالآيات البَيِّنات، بـ:{آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [البقرة: 99]، وما أَشبَه ذلك.
وأمَّا قوله رحمه الله: [بالمُعْجِزات] فإن هذا تَعبير مُتأخِّر؛ لم يُعرَف في عَهْد السلَف، وهو تَعبير ناقِص؛ لأن كلِمة (مُعجِزة) تَشمَل ما يَفعَله السَّحَرة والمُشعوِذون من الأمور الخارِقة للعادة، فإنها تُعْجِز مَن ليس مِنهم، ولكنه إذا قيل: آية بمَعنى عَلامة، صَارَتْ أبينَ وأَوْضحَ وأَوفقَ لمُوافَقَتها للتَّعبير القُرآني، على أنه لا يُمكِن أن تَكون آية لرَسول إلَّا والناس يَعجِزون عنها؛ لأنهم لو كانوا يَستَطيعون أن يَأْتوا بمِثْلها لم تَكُن آية للنَّبيِّ، كل واحِد يَأتِي بها.
إِذَنْ: تَقدير الكَلام بالآيات البَيِّنات، ولكن حُذِف المَوْصوف لدَلالة السِّياق عليه، ومنه قوله تعالى:{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] يَعنِي: أن اعمَلْ دُروعًا سابِغاتٍ.
فإن قال قائِل: هل يَصِحُّ أن يُطلَق لفظ الدَّلائِل على مُعجِزات الأنبياء أو آيات الأنبياء؟
فالجوابُ: أي نعَمْ؛ لأن الدليل ما يَهدِي إلى غيره؛ ولهذا يُسمَّى الرَّجُل الذي يَدُلُّك الطريق يُسمَّى هادِيًا؛ فالآيات لا شَكَّ أنها دَليل وبَيِّنات.
ونحن نَقول: الآيةُ دليل، واللُّغة مُترادِفة، فما دام اللَّفْظ مُرادِفًا للآخَر ولا يَتضَمَّن مَحظورًا فلا مانع أن نُعبِّر به.
قوله: {بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} يَعنِي: من وَقْت يُوسُفَ، إلى وَقْت مُوسى، وآل فِرعونَ، وإن شِئْت فعَبِّر بالقِبْط.
قوله: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} أي: في شَكٍّ مِمَّا جاء به يُوسُفُ؛ فلم يُؤمِنوا به الإيمان الواجِبَ الخالِيَ من الشَّكِّ.
وقوله: {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ} قال المفَسِّر رحمه الله: [مِن غَيْر بُرهانٍ]{قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} يَعنِي: أنهم كانوا في شَكٍّ مِمَّا جاء به يُوسُفُ، ولم يُصدِّقوه، ولمَّا هلَكَ قالت لهم نُفوسُهم: الآنَ استَرَحْتم، فلن يَبعَث الله من بَعدِه رسولًا، كُفِيتم هلَك مَن أُرسِل، فكذَّبْتموه فاطْمَئِنُّوا لن يَبعَث الله من بَعده رسولًا، قالوا ذلك بِناءً على أُمنِية كاذِبة؛ لأنهم قالوا: هذا الرسولُ الذي جاءَنا وتَوعَّدنا إن خَالَفْناه فإنه مات -هلَك- فلن يَأتِيَ من بعده رَسولٌ، وحِينئذٍ نَكون قدِ استَرَحْنا من الرُّسُل ومَشاكِلهم -على زَعْمهم! -.
قال المفَسِّر رحمه الله: {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} ؛ أي: فلَنْ تَزالوا كافِرين بيُوسُفَ وغَيرِه]؛ لأنهم إذا قرَّروا في أَنفُسهم أنَّ الله لن يَبعَث رسولًا، فسَوْف
يُكذِّبون كل مَن جاء من الرُّسُل بعد يُوسُفَ، بِناءً على هذه العَقيدةِ الفاسِدةِ التي أَصَّلوها.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{كَذَلِكَ} أي: مِثْل إِضْلالكم {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} مُشرِك {مُرْتَابٌ} شاكٌّ فيما شَهِدَت به البَيِّنات]، {كَذَلِكَ} قال المفَسِّر:[أي: مِثْل إضلالكم {يُضِلُّ اللَّهُ}]، وعلى هذا فتكون إعرابُها: الكاف اسمٌ بمَعنَى (مِثْل)، وهي مَفعول مُطلَق مُضاف إلى اسمِ الإشارة، وعامِله قوله:{يُضِلُّ} ، عامِله مُتأخِّر عنه، وهذا التَّعبيرُ القُرآنيُّ يَكثُر في كَلام الله عز وجل، وإِعْرابه كما سمِعْتم: أن تَقول الكاف اسمُ بمَعنَى (مِثْل) مَنصوبة على المَفْعولية المُطلَقة مُضافة إلى اسم الإشارة، فإن قيل: وهل الكافُ تَأتِى اسمًا؟ قلنا: نعَمِ، اللُّغَة العرَبية واسِعة، وإلَّا فالأصل أنَّ الكاف حَرْف، لكن تَكون اسمًا.
قال ابنُ مالِكٍ رحمه الله
(1)
:
شَبِّهْ بِكَافٍ وَبِهَا الْتَّعْلِيْلُ قَدْ
…
يُعْنَى وَزَائِدًا لِتَوْكِيْدٍ وَرَدْ
وَاسْتُعْمِلَ اسْمًا وَكَذَا عَنْ وَعَلَى. . . .
استُعمِل يَعني: الكافُ اسمًا؛ أي: في اللُّغة العرَبية.
وقوله: {كَذَلِكَ} أي: مِثْل ذَلِكم يُضِل الله {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} لا يُضِل الله تعالى رَجُلًا مُؤمِنًا مُقتَصِدًا مُوقِنًا أبَدًا، يُضِلُّ الله -والعِياذُ بالله- {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} .
(1)
الألفية (ص: 35).
يَقول المفَسِّر رحمه الله: {مُسْرِفٌ} مُشرِك] ولا شَكَّ أنَّ الشِّرْك من الإسراف؛ لأنَّ الإسراف مَعناه: تَجاوُز الحدِّ، ومَن جعَل لله شَريكًا فقد تَجاوَز الحَدَّ بلا شكٍّ؛ لكن مَعنَى الآية أعَمُّ من المُشرِك؛ فالمُسرَف مَن تَجاوَز حدَّه -هذا المُسرِف- بإفراط أو تَفْريط؛ لكن الغالِب يَكون بالإفراط؛ لأنه مجُاوَزة الحَدِّ زِيادة، فالمُشرِك لا شَكَّ أنه مُسرِف بلا شَكٍّ، والمُستكبِر مُسرِف، والجاحِدُ مُسرِف، وهلُمَّ جَرًّا.
إِذَنْ: {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} يَنبَغي أن يُقال في تَفْسيرها: مَن هو مُجاوِز لحَدِّه؛ كالمُشرِك.
وقوله: {مُرْتَابٌ} ؛ أي: شاكٌّ -نَسأَل الله أن يُعيذَنا وإيَّاكُم من الشَّكِّ- المُرتاب -والعِياذ بالله- الذي يَطمَئِنُّ للارتياب، لا يَهتَدِي يَبقَى على ضَلاله -والعِياذُ بالله- أمَّا إذا أَوْقَع الشَّيْطان في قَلْبك شكًّا ثُم حاوَلْت أَنْ تَنزِعه من قَلْبك، فإنَّ الله يُعينُك عليه ويَهديك، لكن البَلاء كل البَلاء أَنْ تَركَن إلى هذا الشَّكِّ، وأن لا تُنتَشَل منه؛ والدَّليل على هذا ما شَكاه الصحابة رضي الله عنه إلى رَسول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّا يَقَع في نُفوسهم، حتى قالوا: نَوَدُّ أن يَكون الواحِد مِنَّا حممًا؛ أي: فَحْمًا محُتَرِقًا، ولا نَتكَلَّم به؛ فأَخبَرهم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ ذلك لا يَضُرُّهم؛ لأنهم لا يَركَنون إلى ما حصَل، أو إلى ما وقَعَ في قُلوبهم
(1)
.
ولهذا يَجِب أن تَكون شُجاعًا إذا أَلقَى الشَّيْطانُ في قَلْبك مثل هذه الأُمورِ فكُنْ شُجاعًا لا تَركَن، لا تَستَرسِل معها، كُنْ شُجاعًا، استَعمِل معه السلاح الذي أَعطاك إيَّاه مَن هو عالِمٌ به، ومَن عالِمٌ بإِصابته للعَدوِّ، وهو الرسولُ صلى الله عليه وسلم، وذلك بأَمْرين
(1)
أخرجه الإمام أحمد (1/ 340)، وأبو داود: كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، رقم (5112)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.