الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (15)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15].
* * *
ثُم قال رحمه الله: [{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ}؛ أي: الله عَظيم الصِّفات، أو رافِع درَجات المُؤمِنين في الجَنَّة]، قوله:{رَفِيعُ} من الرِّفْعة وهي العُلوُّ، فسَّرها المفَسِّر رحمه الله وعفا عنه - بأَحَد مَعنَيَيْن:
المعنى الأَوَّل: أن المُراد بالرِّفْعة العظَمة، والمُراد بالدرَجات الصِّفات، أي: أنَّ الله تعالى عَظيم الصِّفات.
والمعنى الثاني: رَفيع الدرَجات؛ أي: رافِع درَجات غيره وهُمُ المُؤمِنون في الجَنَّة.
وكِلا المَعنَيَيْن تَحريف للكلِم عن مَواضِعه؛ لأنَّ {رَفِيعُ} اسم فاعِل أو صِفة مُشبَّهة، فاعِلها يَعود على الله عز وجل المَذكور في قوله:{فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] وعلى هذا فلا يَصِحُّ أن تُفسَّر بأن المُراد: رافِع درَجات المُؤمِنين؛ لأنه على هذا التَّفسيرِ تَكون الدرَجاتُ درَجاتِ غيرِه، درَجات المُؤمِنين.
ولا يَصِحُّ أن تُفسَّر {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} بعظيم الصِّفات، لما بينَهما من الفَرْق العظيم، لكن المفَسِّر عفا الله عنه فسَّرها بهذا التَّفسير فِرارًا من إثبات العُلوِّ الذاتيِّ؛
لأنه مِمَّن لا يَرَوْن ذلك أنَّه عالٍ بذاته، فلهذا حرَّف القُرآن إلى أحَدِ هذين المَعنَيَين، وكِلاهما باطِل.
والصوابُ: أنَّه سُبحانَه رفيعُ الدرجات، ويَدُلُّ لهذا ويُعيِّنه قوله:{ذُو الْعَرْشِ} ؛ أي: صاحِب العَرْش، والعَرْش هو أعلى المَخلوقات، فكأنَّه قال: رَفيع الدرَجات فوق العَرْش، وهذا هو المُتعَيِّن.
وقول المفَسِّر رحمه الله: [{ذُو الْعَرْشِ}: خالِقه] فيه أيضًا إشارة إلى إنكار الاستِواء؛ لأنَّ مَعنى {ذُو الْعَرْشِ} ؛ أي: صاحِبه المُستَوِي عليه، هذا هو المَعنى؛ ولهذا لا يُقال: ذو الأرض، ولا ذو السَّماء، ولا ذو الجِبال، ولا ذو السَّحاب، مع أنَّه خالِقها، فتَفسيره {ذُو الْعَرْشِ} بخالِقه لا شَكَّ أنَّه تَحريف للكَلِم عن مَواضِعه فِرارًا من إثبات الاستِواء على العَرْش.
وتَفسير الآية المُتعَيِّن أن نَقول: إنه رفيعُ الدرَجات؛ أي: هو نَفْسه عز وجل مُرتَفِع، بل رفيع الدرَجات أتَى بالصِّفة المُشبَّهة الدالة على الثبوت والدوام، والدرَجات من الدرَجات المعروفة؛ أي: ما كان بعضُه فوقَ بعض حتى يَصِل إلى الغاية، وأمَّا {ذُو الْعَرْشِ} فمَعناه صاحِب العَرْش المُختَصُّ بالاستِواء عليه، هذا هو المُتعَيِّن من الآية.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{يُلْقِي الرُّوحَ} الوَحيَ {مِنْ أَمْرِهِ}؛ أي: قوله {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}] إلى آخِره. {يُلْقِي الرُّوحَ} الرُّوح: الوَحيُ؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وسَمَّى الله تعالى الوَحيَ رُوحًا؛ لأنَّ به حَياة القُلوب، وقوله رحمه الله:[{مِنْ أَمْرِهِ} أي: قوله] وهذا جيِّد، هذا التَّفسير يَعنِي أن
الوحيَ من قول الله عز وجل، يَقول: فيَسمَع جِبريلُ، ثُم يَنزِل به إلى مَن شاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ، ولم يُبيِّن مَن هؤلاءِ، ولكننا نَعلَم أنَّهم الأنبياء؛ لأنهم هم الذين يُلقَى إليهم الوَحيُ، سواءٌ كانوا رسُلًا أم غير رُسُل، ثُم إنَّ قوله:{عَلَى مَنْ يَشَاءُ} إطلاق المَشيئة في كل مَوضِع جاءَت في القُرآن مُقيَّد بالحِكْمة، كلَّما رأَيْت الله يَقول: يَشاء، فإنَّه مَشيئة مَقرونة بالحِكْمة؛ لقوله تعالى:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29]؛ ولقوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وهؤلاء الذين يَشاء الله تعالى أن يُلقِيَ عليهم الرُّوحَ بيَّنَهم في قوله:{اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
وقوله: {مِنْ عِبَادِهِ} المُراد بالعِباد هنا: العُبودية الخاصَّة، وهمُ الذين آمَنوا بالله عز وجل، بل ما هو أخَصُّ وهم الرُّسُل.
قوله: {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ} قال المفَسِّر رحمه الله: [{لِيُنْذِرَ} يُخوِّف المُلقَى عليه الناس] واللام هنا للتَّعليل، والإنذار هو: الإعلام المَقرون بالتَّخويف، ولهذا قال المفَسِّر رحمه الله:[ليُخوِّف] تَفسيرًا بلازِمه، وإلَّا فإن الإنذار إعلام مَقرون بتَخويف، وقوله رحمه الله:[المُلقَى عليه الناس] أَفادَنا المفَسِّر رحمه الله أن فاعِل (يُنذِر) هو المُلقَى عليه وهو الرسول، ولا شَكَّ أنَّه هو المُنذِر مُباشَرة، ويُحتَمَل أنَّ الفاعِل يَعود على فاعِل {يُلْقِي الرُّوحَ} وهو الله عز وجل، أي: ليُنذِر الله، والحِكْمة من عدَم ذِكْر الفاعِل - والله أَعلَمُ - ليَصلُح الفِعْل للأَمْرين؛ أي: ليَكون صالِحًا لأنَّ يَعود الإنذار إلى الله،