الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحَقِّ يَعنِي: رَدُّه، وعدَم الإذعان له. وغَمْط الناس يَعنِي: احتِقارُهم، فيَرَى نفسه أنه فوقَ الناس، هذا هو الكِبْر -والعِياذ بالله- ومَعلومٌ أنَّ مَن غمَطَ الحقَّ وازدَراه فإنَّه لا يَأخُذ به، إِذْ كيف يَأخُذ بشيءٍ يَرَى أنَّه نقيصة، وكذلك مَن غَمَطَ النَّاسَ فإنه لا يَعْدِل فيه، بل يُعامِلهم بالكِبْرياء -والعِياذُ بالله- فيَكون الطَّبْع حقيقًا بمِثْل هذا القَلْبِ، وقد أَخبَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه لا يَدخُل الجَنَّة مَن في قَلْبه مِثْقال حَبَّة خَرْدَل من كِبْر
(1)
.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: كراهةُ الله سبحانه وتعالى للذين يُجادِلون في آيات الله لأَجْل إبطالها؛ لقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّه لا سُلْطانَ لكل إنسان جَادَل لإِدْحاض الحَقِّ وإظهار الباطِل، يُؤخَذ من قوله:{بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: تَقوية قُلوب المُجادِلين بالحَقِّ؛ لأنَّ الجِدَال يَكون من طرَفَيْن؛ فالمُجادِل في آيات الله لإِبْطالها هذا لا حُجَّةَ له؛ ويَكون الخَصْم المُقابِل للآخَر يَكون له حُجَّة.
فإِذَنْ: إذا عُلِم المُجادل الذي يُريد إثبات الحَقِّ وإبطال الباطِل أنه لا سُلطانَ لخَصْمه، فإنه سوف يَقوَى قلبُه، وَيزداد ثَباتًا؛ فيُستَفاد منه بطريق المَفهوم أنَّ المُجادِل في آيات الله لإثباتها سيَكون معه السُّلْطان والقوَّة، ولكن ليس كل مَن معه حُجَّة يَستَطيع أن يَحتَجَّ بها؛ قد لا يَستَطيع، وهو يَعرِف أنه على حَقٍّ لكن لا يَستَطيع أن يجادِل
(1)
أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، رقم (91)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
بها؛ ولهذا يَنبَغي للإنسان أن يَعرِف ما عِند الأقوام من الباطِل؛ ليَتمَكَّن من رَدِّه. أمَّا كونُه لا يَقرَأ الباطِل، وَيقول: أنا كل ما ورَدَ عليَّ من باطِل فعِندي قُدْرة على دِفاعه فهذا قد يُخذِّل الإنسان في مَكان يُحِبُّ أن يَنْتصِر فيه؛ فلا بُدَّ من أن يَعرِف الإنسان الباطِل من أَجْل أن يَرُدَّ عليه.
ولهذا نَرَى العُلَماء المُحقِّقين يَقرَؤُون كتُب المَناطِقة والفلاسِفة وغيرها؛ ثُم يَرُدُّون عليهم، وهذا إنما يَكون في رجُل رسَخت قدَمُه في العِلم، أمَّا رجُلٌ ابتَدَأ طالِبًا، فهذا لا نُشير عليه أن يَقرَأ كتُب أهل الضَّلال، وذلك لأنه ليس عنده مَنَعة، فيُخشَى أن يَتأثَّر بهذه الكتُبِ فيَضِلَّ؛ لكنَّ الراسِخ في العِلْم نَقول: اقرَأْ حتى تَعرِف كيف تَرُدُّ على هؤلاء.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن مَن جادَلَ بحَقٍّ فليس بمَذموم؛ لقوله: {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} إذ لو كان لهم سُلْطان لكانوا على حَقٍّ، لكن ليس لهم سُلْطان.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثبات المَقْت لله عز وجل وأنه يَتَفاضَل؛ فيَكون مَقتُه على شخصٍ أو طائِفة اكبَرَ من مَقْته على شخصٍ أو طائِفة آخَرين، يُؤخَذ من قوله:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} وهل هذا المَقتُ حَقيقة أو يُراد به لازِمه وهو العُقوبة؟
الجَوابُ: الأوَّلُ؛ هذا مَذهَب أهل السُّنَّة والجَماعة؛ أنهم يَقولون: كل ما وصَف الله به نفسه فهو على حقيقته؛ لكنه يَجِب أن نَعلَم أنه لا يُماثِل صِفاتِ المَخلوقين؛ لأن الله أَثبَتَ ونَفَى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وهذه خُذْها جادَّة عِندك، سِرْ عليها في كل ما وَصَف الله به نَفْسه، لا تَقُل: هذا لا يُراد به ظاهِرُه. كل ما وصَفَ الله به نَفْسه فإنه يُراد به ظاهِرُه، لكن يُنزَّه عن مُماثَلة المَخلوقين.
إِذَنِ: الله سبحانه وتعالى يَمقُت، ويُبغِض، وَيكرَه، ويُحِبُّ حَقًّا على حَقيقته، ولكنه لا يُماثِل صِفاتِ المَخْلوقين، وذهَبَ أَهْل التَّعْطيل الذين يَحكُمون على الله بعُقولهم، لا بكَلامه وكلام رسوله؛ ذهَبوا إلى أنَّ مِثْل هذه الأَوْصاف يَجِبُ وجوبًا أن تُؤَوَّل إلى لوازِمها، فيَقولون مثَلًا: المَقْت المُراد به الانتِقام والعُقوبة، وليس البُغض، أو الكَراهة، أو الأشَدَّ من ذلك.
فيُقال لهم: إذا فسَّرْتم ذلك بالعُقوبة ارتَكَبْتم محَظورَيْن:
المَحظور الأوَّل: إخراج كلام الله عن ظاهِره.
والمَحظور الثاني: إثبات مَعنًى لا يُراد به.
وهكذا كلُّ محُرِّف نَقول: إنه ارتَكَب مَحظورين: المحظور الأوَّل: إخراج الكَلام عن ظاهِره، وهذه جِناية لا شَكَّ؛ حيث سَلَب اللَّفْظ معناه. والثاني: إثبات مَعنًى لا يُراد به؛ أي: لا يُراد باللَّفْظ، وهذا عُدوان أيضًا. فكلُّ مُؤَوِّل فإنه يَرتَكِب هذين المَحظُورَيْن.
والعجَب: أنهم يُسمُّون أَنفُسهم أهل التَّأويل، والصواب أنهم أهل التَّحريف، لكن هم تَسمَّوْا بهذا الاسمِ تَلطيفًا لما هم عليه من الباطِل؛ لأنَّ التأويل يُراد به حَقٌّ، ويُراد به باطِل، إذا أوَّلْنا الكلام بما يُريده المُتكَلِّم به، فهذا حقٌّ؛ لكن بخِلافه هذا باطِل، وهذا هو الذي هم عليه، ولكن عدَلوا عن اسمِ التَّحريف إلى اسمِ التَّأويل.
وانظُرْ إلى دِقَّة عِبارة شيخ الإسلام ابن تَيميَّة رحمه الله في العَقيدة الواسِطية قال: "من غير تَحريف ولا تَعطيل"
(1)
. ولم يَقُل: من غير تَأويل، مع أنَّ أكثَر الذين يَتكلَّمون
(1)
العقيدة الواسطية (ص: 57).
في العقائِد، أو يَكتُبون في العقائِد يَقولون: من غير تأويل. ولكن ما قاله هو الصحيح؛ لأن كل تَأويل لا يَدُلُّ عليه الدليلُ فهو تَحْريف.
إِذَنْ: نحن نُثبِت لله بأنه يَمقُتُ وَيكرَه ويُبغِض حقًّا على حَقيقته، وأمَّا العُقوبة فهي من لازِمِ ذلك.
ولهذا قال شيخُ الإسلام
(1)
وغيرُه: قال: أنتُمْ إذا أَثبَتُّم أنَّ الله تعالى يُعاقِب فقَدْ أَثبَتُّم أنَّ الله يَكرَه، بطريق اللُّزوم. إذ لا يُعاقِب إلَّا مَن يَكرَهه، لا يُمكِن أن يُعاقِب من يُحبُّه، فأنتُم لمَّا فرَرْتم من إثبات الكراهة أو المَقْت، وقَعْتم فيه من وَجهٍ آخَرَ.
إِذَنْ نَقوُل: إذا أَثبَتُّم العُقوبة فلا عُقوبةَ إلَّا بعد مَقْت وكَراهة، هذا أَمْر ضَروريٌّ؛ لأنه لا يُمكِن لأحَد يُحِبُّ شخصًا أن يَقوم ويَضرِبه.
مسألة: كيف نَجمَع بين قول عُمرَ بنِ الخَطَّاب رضي الله عنه: وافَقْت ربي في ثلاث
(2)
. وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ؟
فالجَوابُ: يُوافِق حُكْم الله؛ لأنه يَتكلَّم عنه حُكْم الله عز وجل.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إثبات العِنْدية لله عز وجل، عِند الله، ثُمَّ العِنْدية نوعان: عِنْدية وَصْف، وعِنْدية قُرْب. فقول الله تبارك وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: 206]، هذه عِندية قُرْب. وقوله هنا:{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [غافر: 35] عِنْدية وَصْف؛ لأن المَقْت ليس شيئًا مُنفصِلًا بائِنًا عن الله، حتى يَكون عِنْدية قُرْب، بل هذا عِنْدية وَصْف، كما تَقول للشخص: أنت عِنْدي عَزيز. تَقوله
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (3/ 27).
(2)
أخرجه البخاري: كتاب الصلاة، باب ما جاء في القِبلة، رقم (402)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، باب من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه، رقم (2399).
وهو بَعيد مِنْك، وليس مَعنَى: أنتَ عِندي عَزيز. يَعنِي: قَريب، لا هذا عِنْدية وَصْف؛ أي: أن عِزَّتك عِندي قائِمة بي.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أن ما يَكرَهه الله عز وجل فإن المُؤمِنين يَكرَهونه؛ لقوله: {وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} وهذه عَلامة الإيمان، خُذْها قِياسًا ومِيزان عَدْل، متى رأيتَ من نَفْسك أنك تَكرَه ما يَكرَهه الله، وتُحِبُّ ما يُحِبُّه الله؛ فذلِك الإيمانُ دلَّ عليه هذه الآيةُ وغيرها من الآيات والأحاديث، ودلَّ عليه العَقْل أيضًا؛ لأن من كَمال المَحبَّة والإيمان أن تُحِبَّ ما يُحِبُّه مَن تُحِبُّ، وتَكرَه ما يَكرَهه.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنةُ: فضيلة الإيمان؛ حيث يَكون المُؤمِن دائِرًا مع الله عز وجل في مَحَبَّة ما يُحِبُّ وكَراهة ما يَكرَه.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: التَّحذير من الكِبْر وأنه سبَبٌ للطَّبع على القَلْب -والعِياذُ بالله-؛ لقوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} .
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ: التَّحذير من الجَبَروت، وهو التَّعاظُم على الغَيْر، والشِّدَّة عليهم، وما أَشبَه ذلك؛ لقوله:{مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} .
إِذَنْ: في الآية التَّحذيرُ من الكِبْر والجَبَروت.
الْفَائِدَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ: الرَّدُّ على مَن قال: الكَمال أن تَتَّصِف بصِفات الكامِل؛ يَعنُون بذلك الله سبحانه وتعالى. ولا أَكمَلُ من الله، ونَقول: لا يُمكِن لإنسان أَنْ يُجارِيَ الله تعالى في أَوْصافه؛ فالتَكبُّر والجَبروت والتَّعالي والتَّعاظُم بالنِّسبة لله كَمال، وبالنِّسبة لنا نَقْص، نَقْص وعَيْب وسبَب للبَلاء؛ وبهذا بطَلَت هذه القاعِدةُ التي لا أساسَ لها من الصِّحَّة، حتى إنَّ بعضهم وضَع حديثًا قال: تَخلَّقوا بأخلاقِ الله. أَعوذُ بالله،
تَخلَّقوا بأَخْلاق الله؟ ! . هل نُسمِّي أَوْصافَ الله أخلاقًا؟ ! أبَدًا لا نُسمِّيها، لأنَّ كلِمة أخلاق قد تَدُلُّ على خَلْق كَسْبي، والأخلاق نَوْعان: غَريزي وكَسْبي، لا إشكالَ في هذا.
ولهذا لمَّا قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ قال: "إِنَّ فِيكَ لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا الله؛ الحِلْمُ وَالْأَنَاةُ" قال: يا رسولَ الله، أَخُلُقان تَخلَّقتُ بهما، أَمْ جَبَلَني الله عليهما؟ قال:"بَلْ جَبَلَكَ الله عَلَيْهِمَا"
(1)
قال: الحمدُ لله الذي جبَلَني على ما يُحِبُّ أو كلِمة نحوها.
فالأخلاقُ كَسْبيٌّ وغَريزيٌّ، ولا يُمكِن أن نُسمِّيَ أوصاف الله تعالى أخلاقًا له، بل نَقول: أَوْصاف وصِفات وما أَشبَه ذلك، على أنَّ من العُلَماء مَن أَنكَر أن تَقول: لله صِفة، مِثل ابنِ حَزْم رحمه الله قال: إيَّاك أن تَقول: لله صِفة. الله ليس له صِفة. ولا بأس بالأسماء. لكنه محَجوج بقول الرجُلِ الذي كان يَقرَأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قال: "إنها صِفة الرَّحْمن، وأُحِبُّ أن أَقرَأَها"
(2)
.
ونحن نَقول: إن هذه الآيةَ تَدُلُّ دَلالة واضِحة على كَذِب هذه القاعِدةِ التي قعَّدها مَن قعَّدها من الناس، ونحن نَقول لكل مُؤمِن: تَخلَّق بأخلاق النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأن نَبيَّنا صلى الله عليه وسلم لنا أُسْوَة.
قال المفَسِّر رحمه الله: [بتَنوين القَلْب ودونَه، ومتى تَكبَّر القَلْب تَكبَّر صاحِبُه
(1)
أخرجه أبو داود: كتاب الأدب، باب في قبلة الرِّجل، رقم (5225)، من حديث زارع رضي الله عنه وكان في وفد عبد القيس.
(2)
أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى، رقم (7375)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، رقم (813)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
وبالعَكْس]، متى تَكبَّر القَلْب تَكبَّر صاحِبه، وقوله: وبالعَكْس فيها نظَر؛ لأنه يَقتَضي أن يَتكَبَّر صاحِب القَلْب قبل القَلْب؛ لأنك إذا عكَسْت العِبارة متى تَكبَّر القلب تَكبَّر صاحِبه، متى تَكبَّر صاحِب القَلْب تَكبَّر قَلْبه، فهذا ليس بصحيح، لكن مُراده رحمه الله أن تَكبُّر القَلْب وتَكبّر النَّفْس مُتَلازِمان، إن تَكبَّر القَلْب تَكبَّرت النَّفْس؛ وإن تَكبَّرَت النَّفْس كان ذلك دليلًا على أنَّ القَلْب مُتكبِّر.
قال المفَسِّر رحمه الله: [و {كُلِّ} على القِراءَتَيْن لعُموم الضَّلال لجميع القَلْب لا لعُموم القُلوب].
قوله: [لعُموم القُلوب، يَعُمُّ جميع أجزاء القَلْب، أي: جميع أَجزائه، أي: لم يَبقَ فيه محَلٌّ يَقبَل الاهتِداء. وقولُه: لا لعُموم القُلوب أي: لا لعُموم أفراد القُلوب، وهذا الصَّنيعُ إخراجٌ لها عن مَوْضوعها من أنها إذا دخَلَت على نكِرة مُطلَقة أو على مَعرِفة مجَموعة تَكون لعُموم الأفراد، وإذا دخَلَت على مَعرِفة مُفرَدة تَكون لعُموم الأجزاء، وهنا قد دخَلَت على النَّكرة، فكان حَقُّها أَنْ تكون لعُموم الأفراد لا لعُموم الأجزاء؛ كما سلَكَه المفَسِّر فلْيُتَأمَّلْ.
والمفَسِّر يَقول: إن الكُلِّيَّة هنا تَعود على الفَرْد لا على الأفراد، {عَلَى كُلِّ قَلْبِ} يَعنِي: على كل القُلْب، لا بعضِه؛ وليسَت لعُموم القُلوب، يَعنِي: ليسَت لعُموم كل قَلْب على حِدَة، ولكن ما ذهَبَ إليه ليس بصَواب، بل نَقول: على كل القُلوب، والعُموم مُستَفاد من كلِمة يَطْبَع على القَلْب لا على بعضه؛ فإذا قُلنا: إنها لعُموم القُلوب شمِلَت عُموم القَلْب، ولا عكسَ.
ثُم إنَّ ظاهِر السِّياق على كل قَلْبٍ مُتكبِّر، أو على كل قلبِ مُتكبِّر. إذا نظَرْنا إلى السِّياق ماذا نَفهَم؟ هل نَفهَم أنَّ جميع القُلوب المُتكَبِّرة يُطبَع عليها؟ أو نَفهَم أنَّ
القَلْب الواحِد يُطبَع على جميعه لا على بَعْضه؟
الجواب: الأوَّل لا شَكَّ، هذا ظاهِرُ السياق، وهذا كما أنه ظاهِر السِّياق فهو أَشمَلُ في المَعنَى؛ لأنه إذا قيل: كذلك يَطبَع الله على كل القُلوب المُتكَبِّرة الجَبَّارة، والطَّبعْ على القلب يَشمَل الطَّبْع على جميعه، ما لم يُوجَدْ دليل على أن المُراد الطبع على بعضِه؛ وحينَئِذٍ يَكون الصواب عَكسَ ما قال المفَسِّر، فالصواب: أنَّ هذا لعُموم القُلوب وليس لعُموم القَلْب.
فإذا قُلنا: إنها لعُموم القَلْب صار المَعنَى: أنَّ الله يَطبَع على القَلْب كلِّه، يَعنِي: أنَّ معنى الآية أنَّ الله يَطبَع على القَلْب كلِّه لا على جميع القُلوب، فيَخرُج بذلك بعضُ القَلْب، لا يَطبَع على بعض، يَطبَع على القَلْب كلِّه؛ لكنه مثَلًا على قَلْب فُلان من الناس.
أمَّا إذا قُلْنا: إنها لعُموم القُلوب، صار مَعنَى الآية: أنَّ الله يَطبَع على جميع القلوب المُتكبِّرة في أيِّ واحِد من الناس.
وإذا قُلْنا: لعُموم القَلْب صارت عامَّة للقَلْب الواحِد؛ يَعنِي: والقُلوب الأخرى مَسكوت عنها. هذا وَجْه الفرق، القُلوب الأُخرى مَسكوت عنها، ولكن نَقول: الصَّواب أن مَعنَى قوله: {عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} يَعنِي: من جميع الناس، وإذا قال: طَبَع على القَلْب، فالمَعنَى أنه على جَميع القَلْب، ما لم يَنُصَّ على أنَّ المُراد بعضُ القَلْب.
فإن قال قائِل: لكن لماذا يَقول: على جميع القَلْب؟
فالجَوابُ: هذا مَعناه: لا على بعضِه؛ ولذلك كَلام المفَسِّر فيه نظَر من عِدَّة
وجوه؛ كلَّما تَأمَّلت عرَفْت أن هناك خَطَأ، والمُحَشِّي -الذي هو الجَمل- يَقول: فيه تَأمُّل. أو قال: فلْيُتأمَّل. وتَأمَّلْناه فوجَدْناه غيرَ صحيح.
فإن قال قائِل: بالنِّسبة لقول الشارِح: [لعُموم القُلوب] لِمَ لَمْ يَقُل: لعُموم القَلْب، والقَلْب هذا كلُّ مَن وُصِف بالتَكبُّر والجَبروت داخِلٌ؟
فالجَوابُ: ليس هذا مُرادَه، إنما مُرادُه من القَلْب زيد وعَمرو وبَكْر وخالد هذه القُلوب؛ لكن إذا قُلْنا: عُموم القَلْب. صار مَعناه: قَلْب زَيْد فقَطِ، الطَّبْع عامٌّ له.
فإن قال قائِلٌ: وهل كُلُّ مَن وُصِف بهذا الوَصفِ التَكبُّر مَطبوع عليه؟
فالجَوابُ: نعَمْ، لكن لا نَقولُ: لعُموم القَلْب. نَقول: لعُموم القُلوب؛ هذا عامٌّ في كل قَلْب مُتكبِّر، ففَرْق بين أن تَقول: الكُلِّية هذه للأَجزاء أو للأَفراد. إذا قُلنا: لعُموم الأجزاء. صار لعُموم القَلْب، وإن قُلنا: لعُموم الأَفراد. صار جميع القُلوب، كلُّ القَلْب مُتَّصِف، لو كان مِئات الملايين مُتَّصِفًا بهذا فهو مَطبوع عليه، ولا شَكَّ أن كلام المفَسِّر رحمه الله ليس له وجه إطلاقًا، ولكن سُبحانَ الله! .