الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فقوله: "التابِعُ المَقصود بالحُكْم بلا واسِطة" هذا البدَلُ.
إِذَنْ: فالمَقصود بالحُكْم المَقْصود بقوله: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} هو قوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ؛ وإذا وَجَدْت في القرآن أصحاب النار فالمُراد بها أصحابها المُخلَّدون؛ لأن الصُّحْبة تَقتَضي المُلازَمة، ولا يُمكِن أن تَكُون أصحاب النار لمَن تُوعِّدوا بدُخول النار، ثُم يُخرَجون منها، إنما تَكُون لمَن هم أَهْل النار الذين هم أَهْلها وأَصحابُها.
من فوائدِ الآيةِ الكريمةِ:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: إثبات تَقدير الله عز وجل الأَشياءَ، أي: إثبات أن الأشياء قد كُتِبَت من قبلُ؛ لقوله: {حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} ، وهذا لا يُنافِي إرسال الرُّسُل، ولا يُنافِي الأمر بما أَمَر به، ولا النَّهيَ عمَّا نَهَى الله عنه؛ لأن الله تعالى أَعطَى الإنسان عَقْلًا ورُشْدًا وبَصيرةً يَعرِف كيف يَتصرَّف، فإذا أُرسِلت الرُّسُل مع الفِطْرة الأُولى ثُم عانَد فقَدْ قامت عليه الحُجَّة.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: إثبات الكَلام لله عز وجل؛ لقوله: {كَلِمَتُ رَبِّكَ} ، ومن عَقيدة أهل السُّنَّة والجَماعة: أن الله تعالى يَتكَلَّم بكلام مَسموع وبحَرْف، يَعنِي أنه يُسمَع ويُفهَم بحُروف مُرتَّبة، فقوله جَلَّ وَعَلَا:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]، نَعلَم أن الهَمْزة قبل اللَّام، واللَّام قبل الحاء، والحاء قبل الميم، والميم قبل الدال، وهكذا، حُروف مُرتَّبة لم تَأتِ جُملة واحِدة، وإذا كانت مُرتَّبة لزِمَ من ذلك حُدوث الكلِمات؛ لأن ما بعد الأوَّل واقِع بعده فيَكون بهذا دَليلًا على حُدوث كلام الله عز وجل، وليس المُراد أصلَ الصِّفة؛ لأن أصل الصِّفة أزَليٌّ لم يمُن حادِثة من قبلُ، فإن الله سبحانه وتعالى لم يَزَل بصِفاته، لم يَزَل عليمًا، لم يَزَل مُتكلِّمًا، لم يَزَل سميعًا، لم يَزَل قَديرًا، لكن الصِّفة قد تَحدُث شيئًا فشيئًا باعتِبار آحادها وأفرادها.
أمَّا ما كانت صِفة مَعنَويَّة فالحُدوث ليس لها، ولكن لمُتعَلَّقها، فسَمْعُ الله عز وجل لا نَقول: إنه حادِث، لأنه لم يَزَل، لكن الذي يَحدُث هو المَسموع، الكلام يَحدُث لأنه نَوْع من الفِعْل.
وعلى هذا فنَقول: في الآية إثبات الكلام لله تعالى، ومَذهَب أهل السُّنَّة والجماعة أن الله يَتكَلَّم بحَرْف مُرتَّب وصوت مَسموع.
فإذا قال قائِل: لو قلت: إنه بحَرْف مُرتَّب لزِمَ أن يَكون كلامُه مُشابِهًا لكلام المَخلوقين؟
فالجَوابُ: لا يَلزَم؛ لأن الكلام لا يُمكِن أن يَكون كلامًا إلَّا بهذا، لكن صوت الرَّبِّ عز وجل الذي يُسمَع ليس كأصوات المَخلوقين؛ لأن الصوت هو صِفته، لكن الحُروف صِفة الكلام الذي تَكلَّم به، وهي لا يُمكِن أن تَكون كلامًا إلَّا بتَرتيب بعضُه بعد بعض.
فإن قال قائِل: لماذا لا يَكفُر مَن يَقول: إن القرآن محُدَث؟
فالجوابُ: لا يَكون كُفْرًا لأن لهم تَأويلًا، يَقو لون: محُدَث إِنزالُه، ليس الذِّكْر المُحدَث بل إنزاله، ولا شَكَّ أن هذا إقحام لكلِمة إنزال في غير دليل، مثل قوله:{وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] قالوا: المَعنى: وجاء أَمْر رَبِّك، فأَقحَموا أَمْر، فنظَرًا لهذا التَّأويلِ لا نَحكُم بكُفْرهم.
فإن قال قائِل: لا يُنافِي هذا كِتابته في اللَّوْح المَحفوظ؟
فالجَوابُ: لا يُنافِي ذلك؛ لأنه ليس هناك دَليل قَطعيٌّ يَطمَئِن الإنسان إليه بأن القُرآن كُتِب أوَّلًا في اللَّوح المَحفوظ.
وأمَّا قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4]، فإنَّه يُمكِن أن يَكون المُراد به ذِكْر هذا الكِتاب، كما قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، ومَعلوم أن زُبُر الأوَّلين ليس فيها القُرآن، وإنما فيها التَّحدُّث عنه وذِكْره، فليس هناك دَليل قَطعيٌّ يَطمَئِن الإنسان إليه بأن القُرآن كُتِب في اللَّوح المَحفوظ، وإذا ثبَت هذا فلا يُنافِي أن يَكون كلام الله تعالى به محُدَثًا بمعنى أنه يَتكَلَّم به ليُلْقيَه على جِبريلَ، وإن كان مَكتوبًا من قبلُ في اللَّوح المَحفوظ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: عِناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم، وجهُه قوله:{رَبِّكَ} ، حيث أَضاف إليه الرُّبوبية، وهذه الرُّبوبيةُ خاصَّة؛ لأنَّ رُبوبية الله عز وجل نَوْعان: عامَّة وخاصَّة، فالعامَّة الشامِلة لكل شيء، والخاصَّة المُختَصَّة بما أُضيفَت له، استَمِع إلى قوله تعالى:{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122]، في هذه رُبوبية عامَّة ورُبوبية خاصَّة، العامَّة {بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والخاصَّة {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} .
وقوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، الأوَّل:{رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} يَعنِي: مكَّة الذي حرَّمها، رُبوبية خاصَّة، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} هو هذه عامَّة.
إِذَنْ: قوله: {رَبِّكَ} من باب الرُّبوبية الخاصَّة، ولا شَكَّ أن أخصَّ رُبوبية تَكون للمَربوبين هي رُبوبية الرُّسُل، ولا سِيَّما أُولِي العَزْم منهم، وهم خمسة: محُمَّد، إبراهيمُ، مُوسى، عِيسى، نُوح، عَلَيْهِم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: خُلود الذين كفَروا في النار؛ لقوله: {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} ،
وهذا الخلودُ أبَديٌّ، جاء ذلك في آيات ثلاث في القرآن في سورة النِّساء، وفي سورة الأحزاب، وفي سورة الجِنِّ.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: التَّحذير ممَّا يُوجِب غضَب الله وسخَطه؛ لئَلَّا يَكون الرجُل قد حقَّت عليه كلِمة الله عز وجل؛ لأن قوله: {وَكَذَلِكَ} هو أي: مثل ذلك الذي حصَل لهؤلاءِ المُكذِّبين يُحِقُّ كلمة الله عز وجل.
* * *