الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيتان (72، 74)
* قَالَ اللهُ عز وجل: {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} غافر: 73 - 74].
هناك عَذاب قَلبيٌّ بيَّنه في قوله رحمه الله: [{ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ} تَبكيتًا {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} معه وهي الأَصْنام]، والاستِفْهام هنا لا شكَّ أنه للتَّوْبيخ والتَّنْديم والتَّعْجيز، كلُّها يَتضَمَّنها هذا الاستِفْهامُ وهذا ألَمٌ قَلبيٌّ؛ لأن الإنسان يَندَم أشَدَّ الندَم إذا كانت هذه الأصنامُ التي كان يَعبُدها لتُقرِّبه إلى الله عز وجل كما يَدَّعي، ثُم تَضِلّ عنها الآنَ ولا تُوجَد، كما لو أَمسَكْت عبدًا الآنَ وعذَّبْته وقلت: أين سيِّدُك الذي تَدَّعي أنه يَحميك؟ هذا يَكون أشَدَّ ندَمًا له.
إِذَنْ: هَؤلاء يَندَمون هذا التَّنديمَ فيُقال: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: مع الله وهي الأصنامُ، وحينَئذٍ يَتحَسَّرون حسرةً ليس فوقَها حَسْرة؛ ولهذا يَقولون إقرارًا، إقرار المُكرَه في الواقِع:[{قَالُوا ضَلُّوا} غابوا {عَنَّا} فلا نَراهُم]، إِذَنْ عرَفوا أنها لن تَنفَعهم وأنها غابت عنهم في أشَدِّ ما يَحتاجون إليها فيه، بل قالوا:{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} سُبحانَ الله! يَعنِي: أَنكَروا أن يَكونوا أَشرَكوا؛ كما قال تعالى في آيةٍ أُخرى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 23 - 24].
فالحاصِلُ: أنهم يَندَمون هذا الندَمَ العَظيم ثُم يُنكِرون يَقول عز وجل: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} {نَدْعُو} بمَعنى نَعبُد؛ لأن الدُّعاء يَنقَسِم إلى قِسْمَين: دُعاء مَسألة، ودُعاء عِبادة، وكِلاهما مُتلازِمان فدُعاء المَسأَلة عِبادة، كما جاء في الحديث:"الدُّعَاءُ عِبَادَةٌ"
(1)
ودُعاءُ العِبادة دُعاء مَسأَلة؛ لأنك لو سأَلْت العابِد لماذا عبَدْت الله؟ لقال: رجاءَ ثَوابِه وخوفَ عِقابه. فهو داعٍ بلِسان الحال؛ ولذلك صار الدُّعاء بمَعنَى العِبادة، والعِبادة بمَعنى الدُّعاء، وانظُرْ إلى ذلك في قوله سبحانه وتعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60].
لكن دُعاء المَسأَلة دُعاء صَريح في السُّؤال يَقول القائِل: ربِّ اغفِرْ لي وارْحَمْني .. إلى آخِره، ودُعاء العِبادة دُعاء باللَّازِم؛ لأن الإنسان إنما يَعبُد الله خوفًا من عِقابه ورجاءً لثَوابه.
ودُعاء المَسأَلة عِبادة باللَّازِم؛ لأن السائِل مُتذَلِّل للمَسؤول، فهو مُتعَبِّد له.
قال المفَسِّر رحمه الله: [{بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} أَنكَروا عِبادتهم إيَّاها ثُم أُحضِرت، فقال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}؛ أي: وَقودها].
وتمَام الآية: {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} [الأنبياء: 99]، فهَؤلاءِ أَنكَروا، كذَبوا على أَنفُسهم، ظَنُّوا أن
(1)
أخرجه الإمام أحمد (4/ 267)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب الدعاء، رقم (1479)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة، رقم (2969)، وابن ماجه: كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، رقم (3828)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.